منتدى مدينة أرمناز العام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 37

اذهب الى الأسفل

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 37 Empty فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 37

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود الثلاثاء سبتمبر 18, 2012 5:27 pm

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(37)
قولُه تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات} تَلَقَّى قِيلَ مَعْنَاهُ: فَهِمَ وَفَطِنَ. وَقِيلَ: قَبِلَ وَأَخَذَ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ أَيْ يَسْتَقْبِلُهُ وَيَأْخُذُهُ وَيَتَلَقَّفُهُ تَقُولُ: خَرَجْنَا نَتَلَقَّى الْحَجِيجَ أَيْ نَسْتَقْبِلُهُمْ، فهو مُستَعارٌ منِ اسْتِقْبالِ النّاسِ بعضَ الأَحِبَّةِ إذا قَدِمَ بَعدَ طولِ الغيبةِ لأِنّهم لا يَدَعونَ شيئًا مِنَ الإكْرامِ إلّا فعلوه، وإكْرامُ الكَلِمات الواردةِ مِن الحَضرةِ الإلهيَّةِ الأخذُ والقَبُولُ والعملُ بها، وفي التعبيرِ بالتَلَقّي إيماءٌ إلى أنَّ آدمَ عليه السلامُ كان في ذلك الوقتِ في مَقامِ البُعد.
وَقِيلَ: مَعْنَى تَلَقَّى تَلَقَّنَ. وهذا فِي الْمَعْنَى صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّلَقِّي مِنَ التَّلَقُّنِ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ أَحَدَ الْحَرْفَيْنِ إِنَّمَا يُقْلَبُ يَاءً إِذَا تَجَانَسَا مِثْلَ تَظَنَّى مِنْ تَظَنَّنَ وَتَقَصَّى مِنْ تَقَصَّصَ وَمِثْلُهُ تَسَرَّيْتُ مِنْ تَسَرَّرْتُ وَأَمْلَيْتُ مِنْ أَمْلَلْتُ وَشَبَهُ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ: تَقَبَّى مِنْ تَقَبَّلَ وَلَا تَلَقَّى مِنْ تَلَقَّنَ فَاعْلَمْ وَحَكَى مَكِّيٌّ أَنَّهُ أُلْهِمَهَا فَانْتَفَعَ بِهَا وَقَالَ الْحَسَنُ: قَبُولُهَا تَعَلُّمُهُ لَهَا وَعَمَلُهُ بِهَاالمُرادُ بـتلقي الكلماتِ اسْتِقْبالُها بالأخذِ والقَبولِ والعملِ بها، و"من رَّبّهِ" حالٌ مِنَ "كلماتٍ" مُقَدَّمٌ عليها، وقَرَأَ ابنُ كثيرٍ بِنَصْبِ "ءادَمَ" ورفعِ "كلماتٌ" على معنى استقبلَتْه فكأنّها مُكَرِّمةٌ لَه لكونِها سببَ العَفْوِ عنه، وقد يُجعَلُ الاسْتِقْبالُ مَجازاً عن البلوغِ بعلاقةِ السَببيَّةِ. والمَرْوِيُّ عنِ ابْنِ عبّاسٍ رضيَ اللهُ تعالى عنهما، أنَّ هذه الكلماتِ هي: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} الآية، وعن ابنِ مَسعودٍ أنّها: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمُك، وتعالى جَدُّك، لا إلهَ إلّا أنت، ظَلَمْتُ نَفسي فاغفر لي، فإنّه لا يغفِرُ الذنوبَ إلّا أنتَ). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّ الْكَلِمَاتِ" سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ هِيَ قَوْلُهُ" لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" وَقِيلَ: الْكَلِمَاتُ قَوْلُهُ حِينَ عَطَسَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ". وَالْكَلِمَاتُ جَمْعُ كَلِمَةٍ وَالْكَلِمَةُ تَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ الْبُكَاءُ وَالْحَيَاءُ وَالدُّعَاءُ. وَقِيلَ النَّدَمُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَالْحُزْنُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ آدم ـ عليه السلام ـ لم يقل شيئًا إلّا الاسْتِغفارَ المعهودَ. وسئلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ الْمُذْنِبُ فَقَالَ: يَقُولُ مَا قَالَهُ أَبَوَاهُ: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} الْآيَةَ وَقَالَ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}. القصص: 16. وَقَالَ يُونُسُ: {لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. الأنبياء: 87..وقيل: رأى مكتوباً على ساقِ العرشِ، محمَّدٌ رسولُ اللهِ فَتَشَفَّعَ به. فقد أَخرَجَ الطَبَرانيُّ في المُعجَمِ الصَغيرِ والحاكِمُ وأبو نُعَيْمٍ والبَيْهَقِيُّ في الدّلائلِ وابنُ عَساكِرَ عن عُمَرَ بنِ الخَطّابِ قال: قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لمّا أَذنَبَ آدمُ بالذَّنْبِ الذي أَذْنَبَه رَفَعَ رأسَه إلى السّماءِ فقال: أَسألُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إلّا غَفَرتَ لي؟ فأوْحى اللهُ إليه: ومَنْ مُحَمَّدٌ؟ فقال: تَبارَكَ اسْمُكَ لمّا خَلَقْتَني رَفَعْتُ رأسي إلى عَرْشِك فإذا فيه مَكتوبٌ "لا إلهَ إلّا اللهُ مُحَمَّدٌ رسولُ اللهِ" فعلمتُ أنّه ليس أحدٌ أعظمَ عندَك قَدْرًا ممّن جَعَلْتَ اسْمَهُ معَ اسْمِكَ، فأوْحى اللهُ إليه: "يا آدمُ إنّه آخرُ النّبيّينَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ ولولا هُو ما خَلَقْتُكَ".
وإذا أُطْلِقَتِ الكَلِمَةُ على عيسى عليه السلامُ، فلْتُطْلَقِ الكلماتُ على الروحِ الأَعْظَمِ، والحَبيبِ الأَكْرَمِ صلى الله عليه وسلَّم، فما عيسى، بل وما موسى، بل وما . . وما . . إلّا بعضٌ مِنْ ظُهورِ أَنْوارِهِ، وزَهْرَةٌ مِنْ رِياضِ نَوّارِه، ورُوِيَ غيرُ ذلك.
قولُه: {فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التوّابُ الرّحيمُ} أَيْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ، أَوْ وَفَّقَهُ لِلتَّوْبَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. وَتَابَ الْعَبْدُ: رَجَعَ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِ وَعَبْدٌ تَوَّابٌ: كَثِيرُ الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ وَأَصْلُ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ يُقَالُ: تَابَ وثاب وآب وأناب: رجع. والتوبةُ أصلُها الرّجوعُ، وإذا أُسْنِدتْ إلى العَبدِ كانتْ كما في إِحْياءِ عُلومِ الدّينِ لِلإمامِ الغَزاليِّ رضيَ اللهُ عنه، عِبارةً عن مَجموعِ أُمورٍ ثَلاثةٍ: عِلْمٌ وهو مَعرِفَةُ ضَرَرِ الذَنْبِ، وكونِهِ حِجابًا عن كلِّ مَحبوبٍ، وحالٌ يُثمِرُهُ ذلك العِلمُ، وهو تَأَلُّمُ القلبِ بِسبَبِ فَواتِ المَحبوبِ، ونُسَمِّيهِ نَدَماً، وعَمَلٌ يُثمِرُهُ الحالُ وهو التَرْكُ والتَدارُكُ والعَزْمُ على عَدَمِ العَوْدِ، وكثيراً ما تُطْلَقُ على النّدَمِ وحدِهِ لِكونِه لازِماً للعِلْمِ مُسْتَلْزِمًا للعَمَلِ. وفي الحديث: ((النَدَمُ تَوْبَةٌ)) وطريقُ تَحصيلِها تَكميلُ الإيمانِ بأحوالِ الآخِرةِ وضَرَرِ المَعاصي فيها، وإذا أُسْنِدَتْ إليْهِ سُبحانَهُ كانتْ عِبارةً عَنْ قَبولِ التوبةِ والعَفِوِ عن الذّنْبِ ونَحْوِهِ، أو التوفيقُ لَها والتَّيسيرُ لِأَسبابِها بِما يُظهِرُ للتائبين منْ آياتِه، ويُطلِعُهم عليهِ مِنْ تَخْويفاتِه، حتّى يَسْتَشْعِروا الخوفَ فيَرْجِعوا إليه، وتَرجِعُ في الآخِرةِ إلى مَعْنى التّفضلِ والعَطفِ، ولِهذا عُدِّيَتْ بـ "على" وأَتى ـ سبحانَه ـ بالفاءِ لأنَّ تَلَقِّيَ الكَلِماتِ عَيْنُ التوبةِ، أو مُسْتَلْزَمٌ لها، ولا شَكَّ أنَّ القَبولَ مُتَرَتِّبٌ عليه، فهي إذاً لِمُجَرَّدِ السّببِيَّةِ، وقد يُقالُ: إنَّ التوبَةَ لمّا دامَ عليها صَحَّ التعقيبُ باعتبارِ آخرِها إذْ لا فاصلَ حينئذٍ. رُوِي عن ابنِ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنهما ـ أنَّهما بَكَيا مِئتَيْ سَنَةٍ على ما فاتَهما.
إنْ قيل: لِمَ قال "عليه" ولَمْ يَقُلْ عَلَيْهِمَا وَحَوَّاءُ مُشَارِكَةٌ لَهُ فِي الذَّنْبِ بِإِجْمَاعٍ وَقَدْ قَالَ: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ}. البقرة: 35. و{قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} الأعراف: 23. فَالْجَوَابُ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خُوطِبَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ بِقَوْلِهِ: {اسْكُنْ} خَصَّهُ بِالذِّكْرِ فِي التَّلَقِّي فَلِذَلِكَ كُمِّلَتِ الْقِصَّةُ بِذِكْرِهِ وَحْدَهُ. وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ حُرْمَةٌ وَمَسْتُورَةٌ فَأَرَادَ اللَّهُ السَّتْرَ لَهَا وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْمَعْصِيَةِ في قوله: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى}. طه: 121. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَابِعَةً لِلرَّجُلِ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ لَمْ تُذْكَرْ كَمَا لَمْ يُذْكَرْ فَتَى مُوسَى مَعَ مُوسَى فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} الكهف: 75. وَقِيلَ: إِنَّهُ دَلَّ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَابَ عَلَيْهَا إِذْ أَمْرُهُمَا سَوَاءٌ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها}. الجمعة: 11. أَيِ التِّجَارَةَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَقْصُودَ الْقَوْمِ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَقُلْ إِلَيْهِمَا وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ أحمدُ بن عَمْرٍو الباهليُّ:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ........... بَرِيئًا وَمِنْ فَوْقِ الطَّوِيِّ رَمَانِي
الطَوِيُّ: البئرُ المطويّةُ بالحجارة. وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}. التوبة: 62. فحذف إيجازًا واختصارًا ولم يَقُلْ ـ جَلَّ شأنُه ـ فتاب عليهِما لأنَّ النِساءَ تَبَعٌ والتَبَعُ يُغني عنه ذِكْرُ المَتبوعِ، ولِذا طُوِيَ ذِكرُهُنَّ في كثيرٍ من الكتابِ والسُنَّةِ . وفي الجملة الاسميّة ما يقوي رجاء المذنبين ، ويجبر كسر قلوب الخاطئين حيث افتَتَحَها بأنْ وأتي بضمير الفصل وعرّف المسند وأتى به من صيغ المبالغة : "التواّب" إشارة إلى قَبولِ التوبةِ كلّما تاب العبدُ، ويُحتَمَلُ أنَّ ذلك لِكَثْرةِ مَنْ يَتوبُ عليهم، وجَمَعَ بين وَصْفَيّ كونِه توّاباً وكونِه رَحيمًا إشارةً إلى مَزيدِ الفَضلِ، وقدَّمَ التَوّابَ لظُهورِ مُناسَبَتِهِ لِما قَبلَه، وقيل في ذِكْرِ الرّحيمِ بَعْدَهُ إشارةٌ إلى أَنَّ قَبولَ التوبةِ ليس على سبيلِ الوُجوبِ كما زَعَمَتِ المُعْتَزِلَةُ بَلْ على سبيلِ التَرَحُّمِ والتَفَضُّلِ، وأَنَّه الذي سَبَقَتْ رحمتُه غَضَبَه، فيَرحَمُ عَبْدَه في عيْنِ غَضَبِهِ. كما جعلَ هُبوطَ آدمَ سَبَبَ ارْتِفاعِه، وبُعدَهُ سَبَبَ قُرْبِهِ فسُبحانَه مِنْ تَوَّابٍ ما أَكْرَمَهُ، ومِنْ رَحيمٍ ما أَعظَمَه. وقرأ نَوفَلُ {أَنَّهُ} بفتح الهمزة على تقديرِ لأَنَّه. وَتَكَرَّرَ وَصَفُه نَفْسَهُ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ـ بِأَنَّهُ التَّوَّابُ فِي الْقُرْآنِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا وَاسْمًا وَفِعْلًا. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَبْدِ أَيْضًا تَوَّابٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} البقرة: 222. وَلِلعُلَمَاء فِي وَصْفِ الرَّبِّ بِأَنَّهُ تَوَّابٌ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي حَقِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُدْعَى بِهِ كَمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يُتَأَوَّلُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ رُجُوعُهُ مِنْ حَالِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى حَالِ الطَّاعَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ تَوْبَةُ الله على العبد قبولُ تَوْبَتَهُ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: قَبِلْتُ تَوْبَتَكَ وَأَنْ يَرْجِعَ إِلَى خَلْقِهِ الْإِنَابَةَ وَالرُّجُوعَ فِي قَلْبِ الْمُسِيءِ وَإِجْرَاءِ الطاعات على جوارحِه الظاهرةِ. ولَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى: تَائِبٌ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ تَابَ يَتُوبُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ إِلَّا مَا أَطْلَقَهُ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أطلقَهُ عليه نَبِيُّهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ أَوْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ مُحْتَمَلًا جَائِزًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ}. التوبة: 117. وَقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} التوبة: 104. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: تَوَّابٌ لِمُبَالَغَةِ الْفِعْلِ وَكَثْرَةِ قَبُولِهِ تَوْبَةَ عِبَادِهِ لِكَثْرَةِ مَنْ يتوب إليه. واعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ قُدْرَةٌ عَلَى خَلْقِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ الْأَعْمَالِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ مَنْ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَقَدْ كَفَرَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِهَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ فِي الدِّينِ {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}. التوبة: 31. عَزَّ وجَلَّ وَجَعَلُوا لِمَنْ أَذْنَبَ أَنْ يَأْتِيَ الْحَبْرَ أَوِ الرَّاهِبَ فَيُعْطِيَهِ شَيْئًا وَيَحُطُّ عَنْهُ ذُنُوبَهُ {افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ}. الأنعام: 140.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}. وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِ "آدَمَ" وَنَصْبِ "كَلِمَاتٍ". وَالْقِرَاءَتَانِ تَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى لِأَنَّ آدَمَ إِذَا تَلَقَّى الْكَلِمَاتِ فَقَدْ تَلَقَّتْهُ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتِ الْكَلِمَاتُ هِيَ الْمُنْقِذَةُ لِآدَمَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى له لقبول إِيَّاهَا وَدُعَائِهِ بِهَا كَانَتِ الْكَلِمَاتُ فَاعِلَةً وَكَأَنَّ الْأَصْلَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ "فَتَلَقَّتْ آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ" وَلَكِنْ لَمَّا بَعُدَ مَا بَيْنَ الْمُؤَنَّثِ وَفِعْلِهِ حَسُنَ حَذْفُ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ. وَهَذَا أصل يجري في كلِّ القرآن والكلامُ إذا جَاءَ فِعْلُ الْمُؤَنَّثِ بِغَيْرِ عَلَامَةٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَضَرَ الْقَاضِيَ الْيَوْمَ امْرَأَةٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلِمَاتِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا حُمِلَ عَلَى مَعْنَى الْكَلِمِ فَذُكِّرَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: "آدَمْ مِنْ رَبِّهِ" مُدْغِمًا. وَقَرَأَ أَبُو نَوْفَلِ بْنِ أَبِي عَقْرَبٍ: "أَنَّهُ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى مَعْنَى لِأَنَّهُ وَكَسَرَ الْبَاقُونَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَأَدْغَمَ الْهَاءَ فِي الْهَاءِ أَبُو عَمْرٍو وَعِيسَى وَطَلْحَةُ فِيمَا حَكَى أبو حاتم عنهم. وقيل: لا يجوز لِأَنَّ بَيْنَهُمَا وَاوًا فِي اللَّفْظِ لَا فِي الْخَطِّ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَجَازَ سِيبَوَيْهِ أَنْ تُحْذَفَ هَذِهِ الْوَاوُ وَأَنْشَدَ للشمّاخِ:
لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّهُ صَوْتُ حَادٍ .................. إِذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أَوْ زَمِيرُ
يصفُ حمارَ وحشٍ هائجًا فيقول: إذا طلب وسيقتَه (أنثاه) صوَّت بها وكان صوتُه كصوت حادي الإبل أو صوت مِزمارٍ لما فيه من الحنين حسن الترجيع والتطريب ومن الزجل. وهو صوت فيه حنينٌ وتَرَنُّمٌ. فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الْإِدْغَامُ.
قولُه: {فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} الفاءُ عاطفةٌ لهذه الجملةِ على ما قبلَها، و"تلقَّى" تفعَّل بمعنى المُجرَّد، وله معانٍ أُخَرُ: مطاوعة فَعَّلَ نحو: كسَّرته فتكسَّرَ، والتجنُّب نحو: تجنَّب أي جانَبَ الجَنْبَ، والتكلُّف نحو: تحلَّم، والصيرورةُ نحو: تَأثَّم، والاتخاذُ نحو: تَبَنَّيْتُ الصبيَّ أي: اتخذتُه ابناً، ومواصلةُ العمل في مُهْلَة نحو: تَجَرَّع وتَفَهَّمَ، وموافقةُ استَفْعَل نحو: تكبَّر، والتوقُّع نحو: تَخَوَّف، والطلبُ نحو: تَنَجَّز حاجَته، والتكثير نحو: تَغَطَّيت بالثياب، والتلبُّس بالمُسَمَّى المشتقِّ منه نحو: تَقَمَّص، أو العملُ فيه نحو: تَسَحَّر، والخَتْلُ نحو: تَغَفَّلْتُه. وزعم بعضُهم أنَّ أصلَ تَلقَّى تلقَّن بالنون فأُبْدِلَتِ النونُ ألفاً، وهذا غَلَطٌ لأنَّ ذلك إنّما وَرَدَ في المُضعَّف نحوَ: قَصَّيْتُ أظفاري وَتَظَنَّيْتُ وأَمْلَيْتُ الكتابَ، في: قَصَصْتُ وتَظَنَّنْتُ وَأَمْلَلْتُ.
و{مِن رَّبِّهِ} متعلِّقٌ به، و"مِنْ" لابتداءِ الغايةِ مجازاً، ويجوز أنْ
يكونَ في الأصلِ صفةً لِكلماتٍ فلمَّا قُدِّم انتصَبَ حالاً، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، و"كلماتٍ" مفعول به.
وقرأ ابنُ كثيرٍ بنصْبِ "آدم" ورفعِ "كلمات"، وذلك أنَّ مَنْ تلقَّاك فقد تلقَّيْتَه، فتصِحُّ نسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ. وقيل: لمَّا كانَتِ الكلماتُ سبباً في توبته جُعِلَتْ فاعِلَةً. ولم يؤنَّثِ الفعلُ على هذه القراءةِ وإنْ كان الفاعلُ مؤنثاً لأنّه غيرُ حقيقي، وللفصلِ أيضاً، وهذا سبيلُ كلِّ فعلٍ فُصِلَ بينه وبين فاعِله المؤنَّثِ بشيءٍ، أو كان الفاعلُ مؤنثاً مجازياً.
قولُه تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} عَطْفٌ على ما قبلَه، ولا بُدَّ من تقديرِ جملةٍ قبلَها أي: فقالَها. والكلماتُ جمع كلمة، وهي اللفظُ الدالُّ على معنًى مفردٍ ويُطْلَقُ على الجمل المفيدةِ مجازاً تسميةً للكلِّ باسمِ الجُزِءِ كقوله تعالى: {تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ} آل عمران: 64. ثم فَسَّرها بقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} إلى آخره. وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ} المؤمنون: 100. يريدُ قولَه: {رَبِّ ارجعون} إلى آخرِه، وقال لبيد:
ألاَ كلُّ شيءٍ ما خَلاَ اللهَ باطلُ ............... وكلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ
فسمَّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلمةً، فقال: ((أصدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ)).
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} نظيرُ قولِه: {إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم}.البقرة: 32.والتَّوابُ الرحيمُ صفتا مبالغةٍ. وقُدِّم "التوابُ"على "الرحيم" لمُناسبةِ "فَتَاب عليه" ولأنّه موافقٌ لخَتْم الفواصلِ بالرحيم.
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 75
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى