فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 75
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 75
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.
(75)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أَيْ إنَّ الْمَسِيحُ وَإِنْ ظَهَرَتِ الْآيَاتُ عَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِهَا كَمَا جَاءَ بِهَا غيرُه من الرُّسُلُ، فَإِنْ كَانَ ظهورُ هذه المعجزات على يديْه يَجعلُه إِلَهًا فَكُلُّ رَسُولٍ ينبغي أنْ يَكونَ إِلهًا كذلك، وهو استئنافٌ مَسوقٌ لِبيانِ الحقَّ الذي لا مَحيدَ عنه، وبيانِ حقيقةِ حالِهِ وحالِ أُمِّهِ ـ عليهما السلامُ ـ بالإشارة إلى ما امْتازا بِه مِنْ نُعوتِ الكَمالِ حتَّى صارا مِنْ أَكْمَلِ أَفرادِ الجِنْسِ البَشريِّ أوَّلًا، وآخِرًا إلى الوصفِ المُشتَركِ بينَهُما وبيْنَ أَفرادِ البَشَرِ، بَلْ أفرادِ الحَيَوانات، وهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ، ولقد بَالَغَ فِي الْحُجَّةِ حينَ قَالَ: "وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ" أَيْ أَنَّهُ مَوْلُودٌ من أمٍّ ومَرْبُوبٌ فكيف يكون المربوبُ ربًّا؟!، وَمَنْ وَلَدَتْهُ النِّسَاءُ وَكَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ، أَمَّا قَوْلُهُمْ: كَانَ يَأْكُلُ بِنَاسُوتِهِ لَا بِلَاهُوتِهِ فَهَذَا يَعني الِاخْتِلَاطِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَاطُ إِلَهٍ بِغَيْرِ إِلَهٍ، وَلَوْ جَازَ اخْتِلَاطُ الْقَدِيمِ بِالْمُحْدَثِ لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ الْقَدِيمُ مُحْدَثًا، وَلَوْ صَحَّ هَذَا فِي حَقِّ عِيسَى لَصَحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ: اللَّاهُوتُ مُخَالِطٌ لِكُلِّ مُحْدَثٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: "كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ" إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ. وقد اختيرتْ هذه الصفةُ لهُما مِنْ بيْن صفاتٍ كثيرةٍ كالمَشْرَبِ والمَلْبَسِ. لأنَّها صفةٌ واضحةٌ ظاهرةٌ للناس، ودالَّةٌ على احْتِياجِهِما لغيرِهِما في مطلب حياتِهما، ومَنْ يَحتاج إلى غيرِهِ لا يكونُ إلهًا أبدًا. فمن احتاج إلى الاغْتِذاءِ بالطعامِ وما يَتْبَعُهُ مِنَ الهَضْمِ والنَّفْضِ، لم يَكُنْ إلَّا جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنْ عَظْمٍ ولَحْمٍ وأعصابٍ وأَخْلاطٍ وأَمْزِجةٍ مَعَ شهوةٍ. وَفِي هذا دَلالةٌ عَلَى أَنَّهُمَا بَشَرَانِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَرْيَمَ ـ عَلَيْهَا السَّلَامُ ـ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ". وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِدِّيقَةً مَعَ كَوْنِهَا نَبِيَّةً. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا صِدِّيقَةٌ لِكَثْرَةِ تَصْدِيقِهَا بِآيَاتِ رَبِّهَا وَتَصْدِيقِهَا وَلَدَهَا فِيمَا أَخْبَرَهَا بِهِ. وقيلَ: صِدْقِها في براءتِها ممَّا رَمَتْها بِهِ اليَهودُ، والمُرادُ بالتَصديقِ تَصديقُها بِما حَكى اللهُ تعالى عنها بقولِه: {وَصَدَّقَتْ بكلماتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ} التحريم: 12. وقال ابنُ كثيرٍ: دلَّتِ الآيةُ على أنَّ مريمَ لَيْستْ بِنَبِيَّةٍ ـ كما زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ وغيرُه ممَّنْ ذَهَبَ إلى نُبُوَّةِ سارةَ أمِّ إسحاقَ ونُبوَّةِ أُمِّ عيسى ونُبُوَّةِ أُمِّ موسى ـ اسْتِدْلالًا منهم بِخِطابِ المَلائكةِ لِسارةَ ومريمَ وبقولِه: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} والذي عليه الجُمهورُ أنَّ اللهَ لمْ يَبْعَثْ نَبيًّا إلَّا مِنَ الرِّجالِ، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى}.
قَوْلُهُ: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ} الخِطابُ إمَّا لِسَيِّدِ المُخاطَبين ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ أوْ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ ذلك، وفيه تَعجيبٌ مِنْ حالِ الذين يَدَّعون لَهما الرُّبوبيَّةَ ولا يَرْعَوونَ عنْ ذلك بعدما بيَّنَ لهمْ حقيقةَ الحالِ بيانًا لا يَحومُ حولَهُ شائبةُ رَيْبٍ، و"الآياتُ" هنا تَعني الدَّلَالَاتِ الواضحاتِ البَيِّناتِ، أيْ فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدٌ كَيْفَ نُوَضِّحُ لَهُمُ الآيَاتِ وَنُظْهِرُهَا.
قولُه: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ، وبَعْدَ ذَلِكَ التَّوْضِيحِ، وأيْنَ يَذْهَبُونَ، وَبأيِّ قَوْلٍ يَتَمَسَّكُونَ، وتَكريرُ الأَمْرِ بالنَّظِرِ للمبالغة في التَعجيبِ.
قوله تعالى : {ما المسيحُ ابنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ} جملة مستأنفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ على قَصْرِ مَوْصوفٍ على صِفَةٍ، وهو قَصْرٌ إضافيٌّ، أيْ أنَّ المَسيحَ مَقصورٌ على صِفَةِ الرِسالةِ لا يَتَجاوَزُها إلى غيرِها وهيَ الأُلوهيَّةُ فالقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ لِرَدِّ اعتقادِ النَّصارى ألوهيَّةَ عيسى ـ عليه السلامُ ـ أوْ أنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللهِ أوْ أنَّه أَحَدُ آلهةٍ ثلاثةٍ.
وقولُه:{قد خَلَتْ} صفةٌ لـ "رسولٌ" وهو عيسى، أُريدَ بِها بَيانُ أنَّه مُساوٍ للرُسُلِ الكِرامِ الذينَ سَبَقوهُ في تَبليغِ رِسالةِ اللهِ إلى النَّاسِ؛ وأنَّه ليسَ بِدْعًا في هذا الوَصْفِ.
وقولُه: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} جملةٌ من مُبتَدَءٍ وخَبَرٍ، مَعطوفةٌ على قولِهِ: "مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ" والقَصْدُ مِنْ وصفِ مريمَ بذلك مدحُها والثناءُ عليها، ولا مَحَلَّ لِهذه الجُملةِ مِنَ الإِعراب. و"صِدِّيقَةٌ" تأنيثُ "صِدِّيق" وهو بناءُ مُبالغةٍ ك "فَعّال" و"فَعُول" إلَّا أنَّه لا يَعمَلُ عملَ أَمْثِلَةِ المُبالغةِ، فلا يُقالُ: زيدٌ شِرِّيبٌ العسلَ، كما يُقالُ: شَرَّابٌ العَسلَ. وإنْ كان القياسُ إعمالَه، والقياسُ كذلك يَقتَضي أنْ يكونَ مِنْ "صَدَق" الثلاثيِّ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تَطَّرِدُ مِنَ الثُلاثيِّ دونَ الرباعي، فإنَّه لَمْ يَجيءْ مِنْه إلَّا القليلُ. وقيل إنَّه مِنَ التَصديق، أي الرباعي "صدَّق" المُضَعَّفِ، وهذا واضحٌ لقولِه:
{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا} فقد صَرَّح بالفعلِ المُسْنَدِ إليْها مُضْعَفًا.
وقوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} لا مَحَلَّ لَهُ لأنَّهُ اسْتِئنافٌ وبَيانٌ لكونِهما كَسائرِ البشرِ في احتياجِهما إلى مايَحْتاج إليْه كلُّ جِسْمٍ مُولَدٍ.
قولُه: {كيفَ نُبَيِّن} كيفَ: منصوبٌ بـ "نُبَيِّن"، وتقدَّمَ ما فيه في قولِه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} البقرة: 28، ولا يَجوزُ أنْ يَكونَ معمولًا لِما قبلَه لأنَّ لَهُ صدرَ الكلام، وهذه الجملةُ الاسْتِفهاميَّةُ في مَحلِّ نَصْبٍ لأنَّها مُعلِّقةٌ للفِعْلِ قبلَها.
وقوله: {ثُمَّ انْظُرْ أنَّى يُؤْفَكُونَ} كالجملةِ قبلَها، و"أَنَّى" بمعنى كيفَ، و"يُؤْفكون" بمعنى يُصْرَفُون، وهو ناصبٌ لـ "أنَّى".
(75)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أَيْ إنَّ الْمَسِيحُ وَإِنْ ظَهَرَتِ الْآيَاتُ عَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِهَا كَمَا جَاءَ بِهَا غيرُه من الرُّسُلُ، فَإِنْ كَانَ ظهورُ هذه المعجزات على يديْه يَجعلُه إِلَهًا فَكُلُّ رَسُولٍ ينبغي أنْ يَكونَ إِلهًا كذلك، وهو استئنافٌ مَسوقٌ لِبيانِ الحقَّ الذي لا مَحيدَ عنه، وبيانِ حقيقةِ حالِهِ وحالِ أُمِّهِ ـ عليهما السلامُ ـ بالإشارة إلى ما امْتازا بِه مِنْ نُعوتِ الكَمالِ حتَّى صارا مِنْ أَكْمَلِ أَفرادِ الجِنْسِ البَشريِّ أوَّلًا، وآخِرًا إلى الوصفِ المُشتَركِ بينَهُما وبيْنَ أَفرادِ البَشَرِ، بَلْ أفرادِ الحَيَوانات، وهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ، ولقد بَالَغَ فِي الْحُجَّةِ حينَ قَالَ: "وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ" أَيْ أَنَّهُ مَوْلُودٌ من أمٍّ ومَرْبُوبٌ فكيف يكون المربوبُ ربًّا؟!، وَمَنْ وَلَدَتْهُ النِّسَاءُ وَكَانَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ كَسَائِرِ الْمَخْلُوقِينَ، أَمَّا قَوْلُهُمْ: كَانَ يَأْكُلُ بِنَاسُوتِهِ لَا بِلَاهُوتِهِ فَهَذَا يَعني الِاخْتِلَاطِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَاطُ إِلَهٍ بِغَيْرِ إِلَهٍ، وَلَوْ جَازَ اخْتِلَاطُ الْقَدِيمِ بِالْمُحْدَثِ لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ الْقَدِيمُ مُحْدَثًا، وَلَوْ صَحَّ هَذَا فِي حَقِّ عِيسَى لَصَحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ: اللَّاهُوتُ مُخَالِطٌ لِكُلِّ مُحْدَثٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: "كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ" إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ. وقد اختيرتْ هذه الصفةُ لهُما مِنْ بيْن صفاتٍ كثيرةٍ كالمَشْرَبِ والمَلْبَسِ. لأنَّها صفةٌ واضحةٌ ظاهرةٌ للناس، ودالَّةٌ على احْتِياجِهِما لغيرِهِما في مطلب حياتِهما، ومَنْ يَحتاج إلى غيرِهِ لا يكونُ إلهًا أبدًا. فمن احتاج إلى الاغْتِذاءِ بالطعامِ وما يَتْبَعُهُ مِنَ الهَضْمِ والنَّفْضِ، لم يَكُنْ إلَّا جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنْ عَظْمٍ ولَحْمٍ وأعصابٍ وأَخْلاطٍ وأَمْزِجةٍ مَعَ شهوةٍ. وَفِي هذا دَلالةٌ عَلَى أَنَّهُمَا بَشَرَانِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَرْيَمَ ـ عَلَيْهَا السَّلَامُ ـ لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ". وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِدِّيقَةً مَعَ كَوْنِهَا نَبِيَّةً. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا صِدِّيقَةٌ لِكَثْرَةِ تَصْدِيقِهَا بِآيَاتِ رَبِّهَا وَتَصْدِيقِهَا وَلَدَهَا فِيمَا أَخْبَرَهَا بِهِ. وقيلَ: صِدْقِها في براءتِها ممَّا رَمَتْها بِهِ اليَهودُ، والمُرادُ بالتَصديقِ تَصديقُها بِما حَكى اللهُ تعالى عنها بقولِه: {وَصَدَّقَتْ بكلماتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ} التحريم: 12. وقال ابنُ كثيرٍ: دلَّتِ الآيةُ على أنَّ مريمَ لَيْستْ بِنَبِيَّةٍ ـ كما زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ وغيرُه ممَّنْ ذَهَبَ إلى نُبُوَّةِ سارةَ أمِّ إسحاقَ ونُبوَّةِ أُمِّ عيسى ونُبُوَّةِ أُمِّ موسى ـ اسْتِدْلالًا منهم بِخِطابِ المَلائكةِ لِسارةَ ومريمَ وبقولِه: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} والذي عليه الجُمهورُ أنَّ اللهَ لمْ يَبْعَثْ نَبيًّا إلَّا مِنَ الرِّجالِ، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى}.
قَوْلُهُ: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ} الخِطابُ إمَّا لِسَيِّدِ المُخاطَبين ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ أوْ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ ذلك، وفيه تَعجيبٌ مِنْ حالِ الذين يَدَّعون لَهما الرُّبوبيَّةَ ولا يَرْعَوونَ عنْ ذلك بعدما بيَّنَ لهمْ حقيقةَ الحالِ بيانًا لا يَحومُ حولَهُ شائبةُ رَيْبٍ، و"الآياتُ" هنا تَعني الدَّلَالَاتِ الواضحاتِ البَيِّناتِ، أيْ فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدٌ كَيْفَ نُوَضِّحُ لَهُمُ الآيَاتِ وَنُظْهِرُهَا.
قولُه: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أَيْ كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ، وبَعْدَ ذَلِكَ التَّوْضِيحِ، وأيْنَ يَذْهَبُونَ، وَبأيِّ قَوْلٍ يَتَمَسَّكُونَ، وتَكريرُ الأَمْرِ بالنَّظِرِ للمبالغة في التَعجيبِ.
قوله تعالى : {ما المسيحُ ابنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ} جملة مستأنفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ على قَصْرِ مَوْصوفٍ على صِفَةٍ، وهو قَصْرٌ إضافيٌّ، أيْ أنَّ المَسيحَ مَقصورٌ على صِفَةِ الرِسالةِ لا يَتَجاوَزُها إلى غيرِها وهيَ الأُلوهيَّةُ فالقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ لِرَدِّ اعتقادِ النَّصارى ألوهيَّةَ عيسى ـ عليه السلامُ ـ أوْ أنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللهِ أوْ أنَّه أَحَدُ آلهةٍ ثلاثةٍ.
وقولُه:{قد خَلَتْ} صفةٌ لـ "رسولٌ" وهو عيسى، أُريدَ بِها بَيانُ أنَّه مُساوٍ للرُسُلِ الكِرامِ الذينَ سَبَقوهُ في تَبليغِ رِسالةِ اللهِ إلى النَّاسِ؛ وأنَّه ليسَ بِدْعًا في هذا الوَصْفِ.
وقولُه: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} جملةٌ من مُبتَدَءٍ وخَبَرٍ، مَعطوفةٌ على قولِهِ: "مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ" والقَصْدُ مِنْ وصفِ مريمَ بذلك مدحُها والثناءُ عليها، ولا مَحَلَّ لِهذه الجُملةِ مِنَ الإِعراب. و"صِدِّيقَةٌ" تأنيثُ "صِدِّيق" وهو بناءُ مُبالغةٍ ك "فَعّال" و"فَعُول" إلَّا أنَّه لا يَعمَلُ عملَ أَمْثِلَةِ المُبالغةِ، فلا يُقالُ: زيدٌ شِرِّيبٌ العسلَ، كما يُقالُ: شَرَّابٌ العَسلَ. وإنْ كان القياسُ إعمالَه، والقياسُ كذلك يَقتَضي أنْ يكونَ مِنْ "صَدَق" الثلاثيِّ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تَطَّرِدُ مِنَ الثُلاثيِّ دونَ الرباعي، فإنَّه لَمْ يَجيءْ مِنْه إلَّا القليلُ. وقيل إنَّه مِنَ التَصديق، أي الرباعي "صدَّق" المُضَعَّفِ، وهذا واضحٌ لقولِه:
{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا} فقد صَرَّح بالفعلِ المُسْنَدِ إليْها مُضْعَفًا.
وقوله: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} لا مَحَلَّ لَهُ لأنَّهُ اسْتِئنافٌ وبَيانٌ لكونِهما كَسائرِ البشرِ في احتياجِهما إلى مايَحْتاج إليْه كلُّ جِسْمٍ مُولَدٍ.
قولُه: {كيفَ نُبَيِّن} كيفَ: منصوبٌ بـ "نُبَيِّن"، وتقدَّمَ ما فيه في قولِه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} البقرة: 28، ولا يَجوزُ أنْ يَكونَ معمولًا لِما قبلَه لأنَّ لَهُ صدرَ الكلام، وهذه الجملةُ الاسْتِفهاميَّةُ في مَحلِّ نَصْبٍ لأنَّها مُعلِّقةٌ للفِعْلِ قبلَها.
وقوله: {ثُمَّ انْظُرْ أنَّى يُؤْفَكُونَ} كالجملةِ قبلَها، و"أَنَّى" بمعنى كيفَ، و"يُؤْفكون" بمعنى يُصْرَفُون، وهو ناصبٌ لـ "أنَّى".
مواضيع مماثلة
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 82
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 83
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 84
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 88
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 87
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 83
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 84
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 88
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 87
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود