الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 16 (1)
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 16 (1)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
قولُهُ ـ تَعَالَى جَدُّهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} تَفْرِيعٌ عَلَى قَولِهِ تَعَالى فِي الآيَةِ التي قَبْلَهَا {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} لِبَيانِ أَسْبَابِ حُلُولِ التَّعْذِيبِ بَعْدَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتَفْصِيلٌ لِلْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ أُدْمِجَ فِيهِ تَهْدِيدُ الْمُضِلِّينَ مِنْ قَادَةِ الْمُشْرِكِينَ، تَحْمِيلًا لهُمْ تَبِعَةَ ضَلَالِ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ.
وكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} لَكِنَّهُ عُطِفَ بِالْوَاوِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ الْحَالَةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَيَظْهَرُ مَعْنَى التَّفْرِيعِ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَلَامِ، فَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ هُنَا تَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ. لأَنَّ في هَذِهِ الْآيَةِ تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ـ كما تقدَّمَ، وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ ـ صلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليْهِ، تَتَضَمَّنُ أَمْرًا بِشَرْعٍ وَأَنَّ سَبَبَ إِهْلَاكِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ ـ بَعْدَ بَعْثِ الرَّسُولُ إِلَيْهِمُ، هُوَ عَدَمُ امْتِثَالِهِمْ لِمَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ.
وَمَعْنَى إِرَادَتِهِ ـ تَعَالى، إِهْلَاكَ قَرْيَةٍ التَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيُّ لِإِرَادَتِهِ. وَتِلْكَ الْإِرَادَةُ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُرَادِ عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ ـ سُبحانَهُ: "أَمَرْنا مُتْرَفِيها ففسَقوا فَيهَا فحقَّ عليها القولُ".
وَقد حُذِفَ مُتَعَلِّقُ "أَمَرْنا"، أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ، أَيْ: بَعَثْنَا إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ، وَأَمَرْنَاهُمْ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَسُولِ، فَعَصَوُا رَسُولَهم، فَفَسَقُوا، فَدمَّرناهُمْ.
وَقد أَوْجَبَ تَصْدِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِـ "إِذَا" اسْتِغْلَاقَ الْمَعْنَى فِي الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَةِ شَرْطِ "إِذَا" وَجُمْلَةِ جَوَابِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنَ "إِذَا" أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَتَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيِ الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيْ شرطِها وجوابهَا. فَاقْتَضَى مَوْقِعُها هذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "أَمَرْنا مُتْرَفِيها" هُوَ جَوَابُ "إِذَا" فَاقْتَضِى أَنَّ إِرَادَةَ اللهِ إِهْلَاكَهَا سَابِقَةٌ عَلَى حُصُولِ أَمْرِ الْمُتْرَفِينَ سَبْقَ الشَّرْطِ لِجَوَابِهِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَلَّقَ إِرَادَةُ اللهِ بِإِهْلَاكِ الْقَرْيَةِ ابْتِدَاءً، فَأَمَرَ اللهُ مُتْرَفِي أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَفْسَقُوا فِيهَا، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُ إِرَادَةِ اللهِ إِهْلَاكَ أَهْلِ تِلْكَ القَريَةِ، مَعَ أَنَّ الْعَقْلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِسْقُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَكُفْرُهُمْ سَبَبَ وُقُوعِ إِرَادَةِ اللهِ إِهْلَاكَهُمْ، وَأَنَّ اللهَ لَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِإِهْلَاكِ قَوْمٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ مَا تَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ، ولَيسَ الْعَكْسُ. وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ اللهِ أَنْ يُرِيدَ إِهْلَاكَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يُسَبِّبُهُ، وَلَا مِنِ الْحِكْمَةِ أَنْ يَسُوقَهُمْ إِلَى مَا يُفْضِي إِلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ لِيُحَقِّقَ سَبَبًا لِإِهْلَاكِهِمْ. وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ وَاضِحَةٌ فِي هَذَا، فَبِنَا أَنْ نَجْعَلَ الْوَاوَ عَاطِفَةً فِعْلَ "أَمَرْنا مُتْرَفِيها" عَلَى {نَبْعَثَ رَسُولًا} فَإِنَّ الْأَفْعَالَ يُعْطَفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ أَتَحَدَّتْ فِي اللَّوَازِمِ أَمِ اخْتَلَفَتْ، فَيَكُونُ أَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَنَأْمُرَ مُتْرَفِي قَرْيَةٍ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، فَيَفْسُقُوا عَنْ أَمْرِنَا، فَيَحِقَّ الْوَعِيدُ عَلَيْهِمْ، فَنُهْلِكُهُمْ، إِذَا أَرَدْنَا إِهْلَاكَهُمْ. فَكَانَ "وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً" شَرْيطًا لِحُصُولِ الْإِهْلَاكِ، أَيْ إِنَّما كانَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللهِ تعالى، وَلَا مُكْرِهَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا الكتابِ الكريمِ، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ آل عمرَان: {.. أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} الآيتانِ: (127 و 128)، وَكقَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَاف: {أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} الآية: 100، وَقَوْلِهِ في الآيةِ: 18، مِنْ هذِهِ السُورَةِ: {عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}، َوقَوْلِهِ في الآيةِ: 28، منْ سُورَةِ الْإِنْسَان: {وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا}. فَذَكَرَ شَرْطَ الْمَشِيئَةِ مَرَّتَيْنِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ الكريمةُ لِتَهْدِيدِ المُشْركينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنَّهُمْ مُعَرَّضُونَ لِمِثْلِ مَا حَلَّ بِأَهْلِ الْقُرَى قَبْلَهُمْ الذينَ كَذَّبَوا رُسُلَهُم.
قولُهُ: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} الْمَعْنَى: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِطَاعَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَتَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا جَاؤوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى. فَالمُرَادُ بِـ "أَمَرْنَا" هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ، وَمُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ. فَفَسَقُوا، أَيْ: خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَعَصَوْهُ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ. وَفِي تَأَويلِ الأَمْرِ وُجُوهٌ ذكرها علماءُ التَفْسِيرِ هِيَ:
أَوَّلُها: قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِطَاعَةِ مَوْلاهُمْ فَلَمْ يَفْعَلَوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْج، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" قَالَ: أُمِرُوا بِالطَّاعَةِ فَعَصوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعَتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: "وَإِذا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً" الْآيَةَ، قَالَ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" بِحَقٍّ فَخَالَفُوهُ فَحَقَّ عَلَيْهِم بِذَلِكَ التَدْمِيرِ. وعَليْهِ فالمَعْنَى: أَمَرْناهُمْ بِطاعَتِنا عَلَى لِسَانِ رَسُولِنَا فَفَسَقُوا، وهَذَا نَحْوَ قَوْلِكَ: أَمَرْتُكَ فَعَصَيْتَني، ومِنَ المَعُلومِ أَنَّ مُخَالَفَةَ الأَمْرِ مَعْصِيَةٌ، والفِسْقُ هُوَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، فَقَوْلُهُ: "أَمَرْنَا" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ بالطَّاعَةِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ؛ كَمَا لَوْ أَنَّكَ قُلْتَ: أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي؛ والمَعْنَى: أَمَرْتُهُ بِطاعَتِي فعَصَاني.
ثَانِيها: قَوْلُ مُجَاهِدٍ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ "أَمَرْنَا" هُوَ: أَكْثَرْنَا، فَيَكونُ قولُهُ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" مَعْنَاهُ أَكْثَرْنَا فُسَّاقَهَا، ونَحْوَهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أيْضًا. وَالعَرَبُ تَقُولُ: أَمِرَ القَوْمُ إِذَا كَثُرُوا، وأَمَرَهُمُ اللهُ وآمَرَهُمْ بالمَدِّ، أَيْ: كَثَّرَهُمْ. وهوَ أَيضًا مَا رَواهُ الجَرْمِيُّ عَنْ أَبي زَيْدٍ. ويَقولونَ: أَمَرَ اللهُ المُهْرَةَ؛ أَيْ كَثَّرَ وَلَدَهَا، وَأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((خَيْرُ مَالِ الْمَرْءِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ، أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ)). مُسْنَدُ أحمد: (3/468، رَقمْ: 15883)، قالَ الهَيْثَمِيُّ: (5/258): ورِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وأَخرجَهُ أَيضًا ابْنُ سَعْدٍ: (7/79)، وابْنُ قانع: (1/295)، والطَبَرانيُّ: (7/91، رقم: 6471)، والبَيْهَقِيُّ: (10/64، رقم: 19814). وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا: الحارِثُ، كَمَا في بُغْيَةِ الباحِثِ: (1/488، رقم: 422). و "الْمَأْمُورَةُ": الْكَثِيرَةُ النَّسْلِ، وَ "السِّكَّةُ": النَّخيلُ الْمُصْطَفُّ، و "المَأْبُورَةُ": المُلَقَّحَةُ. وَقالَ بَعْضُهم لا يَكُونُ "أَمَرَ" بِمَعْنَى أَكْثَرَ، وَإنَّمَا الذي يُفِيدُ التَكْثِيرَ هُوَ "أَمِرَ" القَوْمُ بكَسْرِ المِيمِ. وكَذَلِكَ "آمَرَهُمْ اللهُ"، أَيْ: كَثَّرَهُمْ، وتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ)) أَنَّهَ عَلَى الإِتْبَاعِ لِـ "مَأْبُورَة"؛ نَحْوَ: "الغَدايَا" و "العَشَايَا". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَرَأَ "آمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" بِمَدِّ الهمزةِ في أَوَّلِها، قَالَ: أَكْثَرْنَا فُسَّاقَها. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" قَالَ: أَكْثَرْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" قَالَ: أَكْثَرْنَا. وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَقُولُ للحَيِّ إِذا كَثُرُوا: قَدْ أَمَرَ بَنُو فُلَانٍ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا المَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى منْ سورةِ سَبَأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} الآيتَانِ: (34 و 35). فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ}، لَفْظٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُتْرَفِينَ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى، أَنَّ الرُّسُلَ أَمَرَتْهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَتَبَجَّحُوا بِكَثْرةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
الْقَوْلُ الثَّاني: أَنَّ "أَمَرْنَا" بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، أَيْ أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا: "آمَرْنَا" بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ، أَيْ أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتَهَا وَأُمَرَاءَهَا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "آمَرْتُهُ" (بِالْمَدِّ) وَ "أَمَرْتُهُ" لُغَتَانِ بِمَعْنَى أَكْثَرْتُهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَزِيزٍ: آمَرْنَا وَأَمَرْنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ أَكْثَرْنَا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: أَمَرْنَا ـ بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، عَلَى فِعْلِنَا، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَكْثَرْنَا، وَحَكَى نَحْوَهُ أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: لَا يُقَالُ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَّا آمَرْنَا بِالْمَدِّ، وَأَصْلُهَا أَأَمَرْنَا فَخَفَّفَ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَفِي الصِّحَاحِ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَمِرَ مَالُهُ (بِالْكَسْرِ) أَيْ كَثُرَ. وَأَمِرَ الْقَوْمُ: أَيْ كَثُرُوا، قَالَ الْأَعْشَى:
طَرِفُونَ وَلَادُّونَ كُلَّ مُبَارَكٍ ................ أَمِرُونَ لَا يَرِثُونَ سَهْمَ الْقُعْدُدِ
وَآمَرَ اللهُ مَالَهُ، بِالْمَدِّ. الثَّعْلَبِيُّ: وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْكَثِيرِ أَمْرٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَمَرَ الْقَوْمُ يَأْمُرُونَ أَمْرًا: إِذَا كَثُرُوا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا: أَمَرَ أَمْرٍ بَنِي فُلَانٍ، قَالَ لَبِيدٌ:
قولُهُ ـ تَعَالَى جَدُّهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} تَفْرِيعٌ عَلَى قَولِهِ تَعَالى فِي الآيَةِ التي قَبْلَهَا {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} لِبَيانِ أَسْبَابِ حُلُولِ التَّعْذِيبِ بَعْدَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتَفْصِيلٌ لِلْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ أُدْمِجَ فِيهِ تَهْدِيدُ الْمُضِلِّينَ مِنْ قَادَةِ الْمُشْرِكِينَ، تَحْمِيلًا لهُمْ تَبِعَةَ ضَلَالِ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ.
وكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} لَكِنَّهُ عُطِفَ بِالْوَاوِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ الْحَالَةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَيَظْهَرُ مَعْنَى التَّفْرِيعِ مِنْ طَبِيعَةِ الْكَلَامِ، فَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ هُنَا تَخْرِيجٌ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ. لأَنَّ في هَذِهِ الْآيَةِ تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ـ كما تقدَّمَ، وَتَعْلِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. وَالْمَعْنَى أَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ ـ صلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عليْهِ، تَتَضَمَّنُ أَمْرًا بِشَرْعٍ وَأَنَّ سَبَبَ إِهْلَاكِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ ـ بَعْدَ بَعْثِ الرَّسُولُ إِلَيْهِمُ، هُوَ عَدَمُ امْتِثَالِهِمْ لِمَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ.
وَمَعْنَى إِرَادَتِهِ ـ تَعَالى، إِهْلَاكَ قَرْيَةٍ التَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيُّ لِإِرَادَتِهِ. وَتِلْكَ الْإِرَادَةُ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُرَادِ عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهِ، وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ ـ سُبحانَهُ: "أَمَرْنا مُتْرَفِيها ففسَقوا فَيهَا فحقَّ عليها القولُ".
وَقد حُذِفَ مُتَعَلِّقُ "أَمَرْنا"، أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ، أَيْ: بَعَثْنَا إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ، وَأَمَرْنَاهُمْ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَسُولِ، فَعَصَوُا رَسُولَهم، فَفَسَقُوا، فَدمَّرناهُمْ.
وَقد أَوْجَبَ تَصْدِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِـ "إِذَا" اسْتِغْلَاقَ الْمَعْنَى فِي الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَةِ شَرْطِ "إِذَا" وَجُمْلَةِ جَوَابِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنَ "إِذَا" أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَتَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيِ الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيْ شرطِها وجوابهَا. فَاقْتَضَى مَوْقِعُها هذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "أَمَرْنا مُتْرَفِيها" هُوَ جَوَابُ "إِذَا" فَاقْتَضِى أَنَّ إِرَادَةَ اللهِ إِهْلَاكَهَا سَابِقَةٌ عَلَى حُصُولِ أَمْرِ الْمُتْرَفِينَ سَبْقَ الشَّرْطِ لِجَوَابِهِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَتَعَلَّقَ إِرَادَةُ اللهِ بِإِهْلَاكِ الْقَرْيَةِ ابْتِدَاءً، فَأَمَرَ اللهُ مُتْرَفِي أَهْلِ الْقَرْيَةِ فَفْسَقُوا فِيهَا، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ مَظْهَرُ إِرَادَةِ اللهِ إِهْلَاكَ أَهْلِ تِلْكَ القَريَةِ، مَعَ أَنَّ الْعَقْلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِسْقُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَكُفْرُهُمْ سَبَبَ وُقُوعِ إِرَادَةِ اللهِ إِهْلَاكَهُمْ، وَأَنَّ اللهَ لَا تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِإِهْلَاكِ قَوْمٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُمْ مَا تَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ، ولَيسَ الْعَكْسُ. وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ اللهِ أَنْ يُرِيدَ إِهْلَاكَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يُسَبِّبُهُ، وَلَا مِنِ الْحِكْمَةِ أَنْ يَسُوقَهُمْ إِلَى مَا يُفْضِي إِلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ لِيُحَقِّقَ سَبَبًا لِإِهْلَاكِهِمْ. وَقَرِينَةُ السِّيَاقِ وَاضِحَةٌ فِي هَذَا، فَبِنَا أَنْ نَجْعَلَ الْوَاوَ عَاطِفَةً فِعْلَ "أَمَرْنا مُتْرَفِيها" عَلَى {نَبْعَثَ رَسُولًا} فَإِنَّ الْأَفْعَالَ يُعْطَفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ أَتَحَدَّتْ فِي اللَّوَازِمِ أَمِ اخْتَلَفَتْ، فَيَكُونُ أَصْلُ نَظْمِ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَنَأْمُرَ مُتْرَفِي قَرْيَةٍ بِمَا نَأْمُرُهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، فَيَفْسُقُوا عَنْ أَمْرِنَا، فَيَحِقَّ الْوَعِيدُ عَلَيْهِمْ، فَنُهْلِكُهُمْ، إِذَا أَرَدْنَا إِهْلَاكَهُمْ. فَكَانَ "وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً" شَرْيطًا لِحُصُولِ الْإِهْلَاكِ، أَيْ إِنَّما كانَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللهِ تعالى، وَلَا مُكْرِهَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا الكتابِ الكريمِ، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ آل عمرَان: {.. أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} الآيتانِ: (127 و 128)، وَكقَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَاف: {أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} الآية: 100، وَقَوْلِهِ في الآيةِ: 18، مِنْ هذِهِ السُورَةِ: {عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}، َوقَوْلِهِ في الآيةِ: 28، منْ سُورَةِ الْإِنْسَان: {وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا}. فَذَكَرَ شَرْطَ الْمَشِيئَةِ مَرَّتَيْنِ. وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ إِلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَةُ الكريمةُ لِتَهْدِيدِ المُشْركينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنَّهُمْ مُعَرَّضُونَ لِمِثْلِ مَا حَلَّ بِأَهْلِ الْقُرَى قَبْلَهُمْ الذينَ كَذَّبَوا رُسُلَهُم.
قولُهُ: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} الْمَعْنَى: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِطَاعَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَتَوْحِيدِهِ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا جَاؤوا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى. فَالمُرَادُ بِـ "أَمَرْنَا" هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ، وَمُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ. فَفَسَقُوا، أَيْ: خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَعَصَوْهُ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ. وَفِي تَأَويلِ الأَمْرِ وُجُوهٌ ذكرها علماءُ التَفْسِيرِ هِيَ:
أَوَّلُها: قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِطَاعَةِ مَوْلاهُمْ فَلَمْ يَفْعَلَوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْج، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" قَالَ: أُمِرُوا بِالطَّاعَةِ فَعَصوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعَتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: "وَإِذا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً" الْآيَةَ، قَالَ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" بِحَقٍّ فَخَالَفُوهُ فَحَقَّ عَلَيْهِم بِذَلِكَ التَدْمِيرِ. وعَليْهِ فالمَعْنَى: أَمَرْناهُمْ بِطاعَتِنا عَلَى لِسَانِ رَسُولِنَا فَفَسَقُوا، وهَذَا نَحْوَ قَوْلِكَ: أَمَرْتُكَ فَعَصَيْتَني، ومِنَ المَعُلومِ أَنَّ مُخَالَفَةَ الأَمْرِ مَعْصِيَةٌ، والفِسْقُ هُوَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، فَقَوْلُهُ: "أَمَرْنَا" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ بالطَّاعَةِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ؛ كَمَا لَوْ أَنَّكَ قُلْتَ: أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي؛ والمَعْنَى: أَمَرْتُهُ بِطاعَتِي فعَصَاني.
ثَانِيها: قَوْلُ مُجَاهِدٍ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ "أَمَرْنَا" هُوَ: أَكْثَرْنَا، فَيَكونُ قولُهُ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" مَعْنَاهُ أَكْثَرْنَا فُسَّاقَهَا، ونَحْوَهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أيْضًا. وَالعَرَبُ تَقُولُ: أَمِرَ القَوْمُ إِذَا كَثُرُوا، وأَمَرَهُمُ اللهُ وآمَرَهُمْ بالمَدِّ، أَيْ: كَثَّرَهُمْ. وهوَ أَيضًا مَا رَواهُ الجَرْمِيُّ عَنْ أَبي زَيْدٍ. ويَقولونَ: أَمَرَ اللهُ المُهْرَةَ؛ أَيْ كَثَّرَ وَلَدَهَا، وَأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((خَيْرُ مَالِ الْمَرْءِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ، أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ)). مُسْنَدُ أحمد: (3/468، رَقمْ: 15883)، قالَ الهَيْثَمِيُّ: (5/258): ورِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وأَخرجَهُ أَيضًا ابْنُ سَعْدٍ: (7/79)، وابْنُ قانع: (1/295)، والطَبَرانيُّ: (7/91، رقم: 6471)، والبَيْهَقِيُّ: (10/64، رقم: 19814). وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا: الحارِثُ، كَمَا في بُغْيَةِ الباحِثِ: (1/488، رقم: 422). و "الْمَأْمُورَةُ": الْكَثِيرَةُ النَّسْلِ، وَ "السِّكَّةُ": النَّخيلُ الْمُصْطَفُّ، و "المَأْبُورَةُ": المُلَقَّحَةُ. وَقالَ بَعْضُهم لا يَكُونُ "أَمَرَ" بِمَعْنَى أَكْثَرَ، وَإنَّمَا الذي يُفِيدُ التَكْثِيرَ هُوَ "أَمِرَ" القَوْمُ بكَسْرِ المِيمِ. وكَذَلِكَ "آمَرَهُمْ اللهُ"، أَيْ: كَثَّرَهُمْ، وتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ)) أَنَّهَ عَلَى الإِتْبَاعِ لِـ "مَأْبُورَة"؛ نَحْوَ: "الغَدايَا" و "العَشَايَا". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَرَأَ "آمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" بِمَدِّ الهمزةِ في أَوَّلِها، قَالَ: أَكْثَرْنَا فُسَّاقَها. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" قَالَ: أَكْثَرْنَاهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" قَالَ: أَكْثَرْنَا. وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَقُولُ للحَيِّ إِذا كَثُرُوا: قَدْ أَمَرَ بَنُو فُلَانٍ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا المَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى منْ سورةِ سَبَأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} الآيتَانِ: (34 و 35). فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ}، لَفْظٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُتْرَفِينَ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى، أَنَّ الرُّسُلَ أَمَرَتْهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، وَتَبَجَّحُوا بِكَثْرةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
الْقَوْلُ الثَّاني: أَنَّ "أَمَرْنَا" بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، أَيْ أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ، وَيَعْقُوبُ، وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا: "آمَرْنَا" بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ، أَيْ أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتَهَا وَأُمَرَاءَهَا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "آمَرْتُهُ" (بِالْمَدِّ) وَ "أَمَرْتُهُ" لُغَتَانِ بِمَعْنَى أَكْثَرْتُهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَزِيزٍ: آمَرْنَا وَأَمَرْنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ أَكْثَرْنَا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: أَمَرْنَا ـ بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، عَلَى فِعْلِنَا، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَكْثَرْنَا، وَحَكَى نَحْوَهُ أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: لَا يُقَالُ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَّا آمَرْنَا بِالْمَدِّ، وَأَصْلُهَا أَأَمَرْنَا فَخَفَّفَ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَفِي الصِّحَاحِ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَمِرَ مَالُهُ (بِالْكَسْرِ) أَيْ كَثُرَ. وَأَمِرَ الْقَوْمُ: أَيْ كَثُرُوا، قَالَ الْأَعْشَى:
طَرِفُونَ وَلَادُّونَ كُلَّ مُبَارَكٍ ................ أَمِرُونَ لَا يَرِثُونَ سَهْمَ الْقُعْدُدِ
وَآمَرَ اللهُ مَالَهُ، بِالْمَدِّ. الثَّعْلَبِيُّ: وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْكَثِيرِ أَمْرٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَمَرَ الْقَوْمُ يَأْمُرُونَ أَمْرًا: إِذَا كَثُرُوا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا: أَمَرَ أَمْرٍ بَنِي فُلَانٍ، قَالَ لَبِيدٌ:
مواضيع مماثلة
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 1
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 15 (2)
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 29
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 41
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 57
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 15 (2)
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 29
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 41
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 57
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود