منتدى مدينة أرمناز العام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 58 ـ 65

اذهب الى الأسفل

الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 58 ـ 65 Empty الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 58 ـ 65

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود الأحد أبريل 29, 2012 6:17 pm

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

هم بنو إسرائيل دائماً على تضييع ما كانوا يُؤْمَرون به : قالةٌ أُوصُوا بحفظها بَدّلوها ، وحالةٌ من السجود أُمروا بأن يدخلوا عليها حوّلوها ، وعَرَّضوا أنفسَهم لِسهام الغيب . فلم يُطيقوا الإصابة بقَرْعِها، وتعرّضوا للعقوبة فلم يثبتوا عند صدمات وَقْعِها .
{هذه القرية} هذه: منصوبةٌ الظرفيّة أو على المفعولِ به ، وذاك أنَّ كلَّ ظَرْفِ مكانٍ مختصٍّ لا يتَعَدَّى إليه الفعلُ إلا بـ " في" تقول : صَلَّيْتُ في البيتِ ، ولا تقولُ : صَلَّيْتُ البيتَ ؛ إلا ما اسْتُثْني . ومِنْ جملةِ ما اسْتُثْنِي "دَخَلَ" مع كلِّ مكانٍ مختصٍّ ، نحو: دَخَلْتُ البيتَ والسوقَ ، وهو مذهبُ سيبويهِ . وقال الأخفشُ : الواقعُ بعد "دَخَلْتُ" مفعولٌ به كالواقعِ بعد هَدَمْتُ في قولِك : هَدَمْتُ البيتَ فلو جاء " دَخَلَ " مع غيرِ الظرفِ تَعَدَّى بفي ، نحو : دَخَلْتُ في الأمر، ولا تقولُ: دَخَلْتُ الأمرَ ، وكذا لو جاءَ الظرفُ المختصُّ مع غيرِ "دَخَلَ " تَعَدَّى بـ " في " إلا ما شَذَّ كقولِه :
جَزَى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِه .......... رفيقَيْن قالا خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ
و" القريةَ " نعتٌ لـ " هذه " ، أو عطفُ بيانٍ ، والقريةُ مشتقةٌ من قَرَيْتُ أي : جَمَعْتُ ، تقولُ : قَرَيْتُ الماءَ في الحوضِ أي : جَمَعْتُه ، واسمُ ذلك الماء : قِرَىً بكسر القاف . والمِقْراةُ : الجَفْنَةُ العظيمةُ ، وجمعُها مَقارٍ ، قال الشاعر :
عِظام المَقاري ضَيْفُهُمْ لا يُفَزَّعُ ... . . . . . . . .. . . . . . . . . .
والقَرْيان : اسمٌ لمُجْتَمَعِ الماءِ ، والقريةُ في الأصلِ اسمٌ للمكانِ الذي يَجْتمع فيه القومُ ، وقد يُطْلَقُ عليهم مجازاً ، وقوله تعالى : "واسألِ القريةَ " يَحْتَمِلُ الوَجْهين . فهي اسمٌ للموضعِ وللناسِ جميعاً ، ويُسْتعملَ في كلِّ واحدٍ منهما . فقد سميت قرية لأنها تجمع أهلها ، وسمي الحوض مِقراة لاجتماع الماء فيه ، والقرية المقصودة هي أريحاء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : وهي قرية الجبّارين كان فيها قوم
من بقيّةِ عاد يقال لهم العمالقة .
{الباب سُجَّداً} سُجَّدا : حالٌ من فاعلِ " ادْخُلوا" ، وهو جمع ساجدِ . وهو أَبْلَغُ من السجود فجَمْعَه على فُعَّل فيهِ من المبالغةِ ما ليسَ في جَمْعِهِ على فُعُول . وأصلُ " باب " : بَوَب لقولهم أَبْواب ، وقد يُجْمَعُ على أَبْوِبة لازدواجِ الكلامِ ، قال الشاعر :
هَتَّاكُ أَخْبِيَةٍ ولاَّجُ أبوبةٍ .................. يَخْلِطُ بالبِرِّ منه الجِدَّ والِّلْينا
قوله تعالى : " حِطَّة " قُرِئ بالرفع والنصب ، فالرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف ، أي : مسألتُنا حِطَّةٌ أو أمرُك حِطَّةٌ ، والأصلُ النصبُ، بمعنى حُطَّ عنا ذنوبَنا حِطَّةً ، وإنما رُفِعَتْ لتعطِيَ معنى الثباتِ، كقول الشاعر :
شَكا إليَّ جَمَلي طُولَ السُّرَى ................ صَبْرٌ جميلٌ فكِلانا مُبْتَلَى
والأصلُ : صَبْراً عليَّ ، اصبرْ صبراً ، فَجَعَلَه من بابِ { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } الرعد : 24 ، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، وقيل : أُمِروا أنْ يقولوها مرفوعةً على هذا اللفظِ يعني على الحكايةِ، فعلى هذا تكونُ هي وحدَها من غيرِ تقديرِ شيءٍ مَعَها في مَحلِّ نصبٍ بالقول، وإنما مَنَعَ النصبَ حركةُ الحكايةِ . وقيل أُمِروا أن يقولوا لا إله إلا اللهُ ، لتُحَطَّ بها ذنوبهُم ، فعلى هذه الأقوالِ تقتضي النصبَ ، يعني أنّه إذا كان المعنى على أنَّ المأمورَ به لا يتعيَّنُ أن يكونَ بهذا اللفظِ الخاصِّ ، بل بأيِّ شيء يقتضي حَطَّ الخطيئةِ فكان ينبغي أن ينتصبَ ما بعد القول مفعولاً به نحو: قُلْ لزيد خيراً ، المعنى : قل له ما هو من جنس الخُيور .
وقيل الرفعُ أَوْلى لِما حُكي عن العرب في معنى بَدَّل ، فيقال : بَدَّلْتُهُ أي غَيَّرْتُهُ ولم أُزِلْ عينَه ، وأَبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينَه وشخصَه كقوله :
عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ ...
وقال تعالى: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ} يونس: 15ولحديث ابن مسعود " قالوا حِنْطة " تفسيرٌ على الرفع يعني أنَّ الله تعالى قال : "فبدَّل " الذي يقتضي التغييرَ لا زوالَ العَيْنِ ، وهذا المعنى يَقْتضي الرفعَ لا النصبَ .
وقرأ ابنُ أبي عبلة " حِطَّةً " بالنصب ، وفيها وجهان : أحدُهما : أنها مصدرٌ نائبٌ عن الفعلِ ، نحو : ضَرْباً زيداً ، والثاني : أن تكونَ منصوبةً بالقولِ أي: قولوا هذا اللفظَ بعينِه ، كما تقدَّم في وجهِ الرفعِ ، فهي على الأوَّلِ منصوبةٌ بالفعلِ المقدِّرِ ، وذلك الفعلُ المقدَّرُ ومنصوبُه في محلِّ نصبٍ بالقولِ .
والحِطَّةُ : اسمٌ للهيئةِ من الحَطِّ كالجِلْسَةِ والقِعْدَة ، وقيل : هي لفظةٌ أُمِروا بها ولا ندري مَعْناها ، وقيل : هي التوبةُ ، وأنشد :
فاز بالحِطَّة التي جَعَلَ اللـ ................ ـهُ بها ذنبَ عبدهِ مَغْفُورا
قوله : " نَغْفِرْ " هو مجزومٌ في جوابِ الأمر ، وقد تقدَّم الخلافُ : هل الجازمُ نفسُ الجملةِ أو شرطٌ مقدَّرٌ ؟ أي : إنْ يقولوا نَغْفِرْ . وقُرئ " نَغْفِرْ " بالنون وهو جارٍ على ما قبله من قولِه " وإذ قلنا " و" تُغْفَرْ " مبنياً للمفعول بالتاءِ والياء . و" خَطاياكم " مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعِلُه ، فالتاءُ لتأنيثِ الخَطايا،والياءُ لأن تأنيثَها غيرُ حقيقي، وللفصلِ أيضاً بـ "لكم" .
وقُرئ " يَغْفِرْ " مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، وهي في معنى القراءةِ الأولى ، إلا أنَّ فيه التفاتاً . و" لكم " متعلق بـ " نَغْفِرْ " . وأدغم أبو عمرو الراءَ في اللام ، والنحاةُ يَسْتَضْعِفُونها ، قالوا : لأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فهي أقوى من اللامِ ، والقاعدةُ أنَّ الأضعفَ يُدْغَمُ في الأقوى من غيرِ عَكْسٍ .
"خَطَايَاكُمْ " : إمّا منصوبٌ بالفعل قبلَه ، أو مرفوعٌ حَسْبما تقدَّم من القراءاتِ ، وفيها أربعةُ أقوال ، أحدُها : وهو قولُ الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ رحمه الله ـ أن أصلَها : خطايِئٌ ، بياء بعد الألف ثم همزةٍ ، لأنها جمعُ خطيئة مثل : صحيفة وصحايف ، فلو تُرِكت على حالِها لوجَبَ قلبُ الياءِ همزةً لأنَّ مَدَّةَ فعايل يُفْعَلُ بها كذا، على ما تقرَّر في علمِ التصريف ، فَفَرَّ من ذلك لئلا يَجْتَمع همزتان بأنْ قَلَبَ فَقَدَّم اللامَ وأَخَّر عنها المَدَّة فصارت : خَطائِي ، فاسْتُثْقِلَتْ على حرفٍ ثقيلٍ في نفسِه وبعده ياءٌ من جِنْسِ الكسرةِ ، فَقَلبوا الكسرةَ فتحةً ، فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألفاً ، فصارتْ : خطاءَا ، بهمزةٍ بين ألفين ، فاسْتُثْقِل ذلك فإنَّ الهمزةَ تشبه الألفَ ، فكأنه اجتمع ثلاثُ ألفاتٍ ، فقلبوا الهمزةَ ياءً ، لأنها واقعةٌ موقِعَها قبل القلبِ ، فصارَتْ خطايا على وزن فَعَالَى ، ففيها أربعةُ أعمالٍ ، قلبٌ ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً ، وقلبُ الياءِ ألفاً ، وإبدالُ الهمزةِ ياءً ، هكذا ذكر التصريفيّون ، وهو مذهبُ الخليلِ .
الثاني : إنه خطائِئ بهمزتين الأولى منهما مكسورةٌ وهي المنقلبةُ عن الياءِ الزائدةِ في خطيئة ، فهو مثل صحيفة وصَحائف فاسْتُثْقِل الجمعُ بين الهمزتين ، فَنَقلوا الهمزةَ الأولى إلى موضع الثانية فصار وزنُه: فعالِئ ، وإنما فعلوا ذلك لتصيرَ المكسورةُ طرفاً ، فتنقلبَ ياءً فتصيرَ فَعالِئ، ثم أَبْدَلوا من كسرةِ الهمزةِ الأولى فتحةً ، فانقلبتِ الياءُ بعدها ألفاً كما قالوا : يا لَهَفى ويا أسفى ، فصارت الهمزةُ بين ألفين ، فأُبْدل منها ياءٌ لأنّ الهمزةَ قريبةٌ من الألفِ ، فاستكرهوا اجتماعَ ثلاثة ألفاتٍ.
فعلى هذا فيها خمسةُ تغييراتٍ : تقديمُ اللامِ ، وإبدالُ الكسرةِ فتحةً ، وإبدال الهمزةِ الأخيرة ياءً ، ثم إبدالُها ألفاً ، ثم إبدالُ الهمزةِ التي هي لامٌ ياءً . والقولُ الأولُ أَوْلَى لقلةِ العملِ ، فيكون للخليلِ في المسألةِ قولان .
الثالث : قولُ سيبويهِ ، وهو أنَّ أصلَهَا عنده خطايئ كما تقدم ، فَأَبْدَلَ الياءَ الزائدةَ همزةً ، فاجتمع همزتان ، فَأَبْدَلَ الثانيةَ منهما ياءً لزوماً ، ثم عَمِلَ العملَ المتقدِّم ، ووزنُها عنده فعائل ، مثل صحائِف ، وفيها على قوله خمسةُ تغييراتٍ ، إبدالُ الياءِ المزيدةِ همزةً ، وإبدالُ الهمزةِ الأصليةِ ياءً ، وقَلْبُ الكسرةِ فتحةً ، وقلبُ الياءِ الأصليةِ ألفاً ، وقَلْبُ الهمزةِ المزيدةِ ياءً .
الرابع:قولُ الفرَّاء،وهو أنَّ خَطايا عنده ليس جَمْعاً لخطيئة بالهمزةِ وإنما هو جمعٌ لخَِطِيَّة كهدِيَّة وهَدايا ، ورَكِيَّة ورَكايا، قال الفراء : "ولو جُمِعَت خطيئة مهموزةً لقلت خطاءَا " ، يعني فلم تُقْلَبِ الهمزةِ ياءً بل بَقَّوها على حالِها ، ولم يُعُتَدَّ باجتماعِ ثلاثِ ألفاتٍ ، ولكنه لم يَقُله العربُ، فَدَلَّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز . وقال الكسائي: ولو جُمِعَت مهموزةً أُدْغِمَتِ الهمزةُ في الهمزةِ مثل: دَوابّ .
وقُرئ"يَغْفِرْ لكم خطيئَاتكم"و"خطيئَتكم"بالجَمْعِ والتوحيدِ وبالياءِ والتاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه و"خَطَأْيَاكم"بهمزِ الألفِ الأولى دونَ الثانيةِ، وبالعكسِ. والكلامُ في هذه القراءاتِ واضحٌ مِمَّا تقدَّم .
والغَفْرُ: السِّتْرُ، ومنه: المِغْفَرُ لسُتْرَةِ الرأس، وغُفْرانُ الذنوب لأنها تُغَطِّيها . وقد تقدَّم الفرقُ بينه وبين العفو . والغِفار خِرْقَةٌ تَسْتُر الخِمار أن يَمَسَّه دُهْنُ الرأسِ . والخطيئة من الخَطَأ ، وأصلُه العُدولُ عن الجهةِ، وهو أنواعٌ ، أحدُها إرادَةُ غيرِ ما يُحْسِنُ إرادَته فيفعلُه ، وهذا هو الخطأُ التامُّ يقال منه : خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً وخَطْأَةً . والثاني : أن يريدَ ما يُحْسِنُ فِعْلَه ولكن يقع بخلافِه ، يُقال منه : أَخْطَأ خَطَأً فهو مُخْطِئٌ ، وجملةٌ الأمرِ أنَّ مَنْ أَرادَ شيئاً ووقع منه غيرُهُ يُقال : أخْطَأَ ، وإن وقع كما أراد يُقال : أصاب ، وقد يُقال لِمَنْ فَعَل فِعْلاً لا يَحْسُنُ أو أرادَ إرادةً لا تَجْمُلُ : إنه أَخْطأ ، ولهذا يقال أصابَ الخطأَ وأخطأَ الصوابَ وأصابَ الصوابَ وأخطأَ الخطأَ .

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

{ فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } لا بُدَّ في هذا الكلام من تأويلٍ ، إذ الذَمُّ إنما يتوجَّهُ عليهم إذا بَدَّلوا القولَ الذي قيل لهم ، لا إذَا بَدَّلوا قولاً غيره ، فقيل: تقديرُه: فبدَّل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غيرَ الذي قِيل لهم فـ " بَدَّلَ " يتعدَّى لمفعولٍ واحدٍ بنفسِه وإلى آخر بالباءِ ، والمجرورُ بها هو المتروكُ والمنصوبُ هو الموجودُ كقولِ أبي النجم :
وبُدِّلَتْ والدهرُ ذو تَبَدُّلِ ................ هَيْفاً دَبُوراً بالصَّبا والشَّمْأَلِ
فالمقطوعُ عنها الصَّبا والحاصلُ لها الهَيْفُ ، ويجوز أن يكونَ بَدَّل مَحْمولاً على المعنى والتقدير: فقال الذين ظلموا قولاً غيرَ الذي قيلَ لهم ، لأنَّ تبديلَ القولِ بقولٍ فنصْبُ " غير " في هذين القولَيْن على النعت لـ " قولاً " وقيل تقديرُه : فَبَدَّل الذينَ ظلموا قولاً بغيرٍ الذي ، فَحَذَفَ حرفَ الجرّ " الباء " فانتصَبَ بنزع الخافض ، ومعنى التبديلِ التغييرُ كأنه قيل : فغيَّروا قولاً بغيره ، أي جاؤوا بقولٍ آخرَ مكانَ القولِ الذي أُمِروا به ، كما يُرْوى في القصة أنَّهم قالوا بَدَلَ " حِطَّة " حِنْطة في شُعَيْرة .
والإِبدالُ والاستبدالُ والتبديلُ جَعْلُ الشيءِ مكانَ آخَرَ ، وقد يُقال التبديل : التغييرُ وإنْ لم يَأْتِ بِبَدَلِهِ ، وقد تقدَّم الفرقُ بينَ بَدَّل وأَبْدَلَ ، وهو أنَّ بَدَّلَ بمعنى غيَّر مِنْ غير إزالةِ العَيْن ، وأَبْدَلَ تقتضي إزالة العين ، إلا أنه قُرئ: { عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا } القلم: 32 {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} الكهف: 81 . بالوجهين ، وهذا يَقْتضي اتِّحادَهما معنىً لا اختلافَهما ، والبديلُ ، والبدل بمعنى واحدٍ ، وبَدَّله غيرُه . ويُقال : بِدْل وبَدَل كشِبْه وشَبَه ومِثْل ومَثَل ونِكْل ونَكَل ، ولم يُسْمع في فِعْل وفَعَل غيرُ هذه الأحرفِ .
{مِّنَ السماء} يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ متعلِّقاً بأَنْزلنا ، و" مِنْ " لابتداءِ الغايةِ ، أيْ : من جهةِ السماء ، وهذا الوجهُ هو الظاهرُ . والثاني أن يكونَ صفةً لـ "رِجْزاً" فيتعلَّقَ بمحذوفٍ و"مِنْ" أيضاً لابتداءِ الغايةِ .
وقوله تعالى: { عَلَى الذين ظَلَمُواْ } فأعادَهم بذِكْرِهم أولاً ، ولم يَقُلْ "عليهم" تنبيهاً على أنَّ ظُلْمَهُم سببٌ في عقابِهم .
وجاء في سورة الأعراف {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} الأعراف:133 فجاء هنا بلفظ الإِرسالِ ، وذلك أنّه تعالى عَدَّد عليهم في هذه السورة نِعَماً جَسيمةً كثيرةً فكانَ توجيهُ الذمِّ عليهم وتوبيخُهم بكُفرانِها أَبَلَغَ ، حيث إنه لم يُعَدِّدْ عليهم هناك ما عَدَّد هنا ، ولفظُ الإِنزالِ للعذابِ أبلغُ من لفظِ الإِرسالِ .
والرِّجْزُ : العَذَابُ ، وفيه لغةٌ أخرى وهي ضَمُّ الراءِ ، وقُرِئ بهما وقيل : المضمومُ اسمُ صَنَمٍ ، ومنه : { والرجز فاهجر} المدثر:5 وذلك لأنَه سببُ العذابِ . وقيل: الرِّجْزُ والرِّجْسُ بالزاي والسين بمعنَىً ، والصحيحُ أن الرِّجْزَ : القَذَرُ ، والرَّجَزُ داءٌ يُصيبُ الإِبلِ فترتعشُ منه ، ومنه بَحْر الرَّجَز في الشعر .
قوله: "بما كانوا يفسُقُون" متعلِّق بـ {أَنزَلْنَا}والباءُ للسببية و"ما" يجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، وهو الظاهرُ أي : بسببِ فِسْقِهم ، ويجوز أن تكونَ موصولةً اسميّةً،والعائدُ محذوفٌ،والأصلُ يَفْسُقُونَه،وقرأ ابن وثَّاب { يَفْسِقُونَ } بكسر السين ، وهما لغتان .

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

{استسقى موسى لِقَوْمِهِ} في الآية تذكير لنعمة عظيمة كفروا بها وكان ذلك في التيه لما عطشوا ، ففي بعض الآثار أنهم قالوا : مَن لنا بحر الشمس؟ فظلّل عليهم الغمام ، وقالوا : مَن لنا بالطعام؟ فأنزل الله تعالى عليهم المَنَّ والسَلوى وقالوا : مَن لنا بالماء فأُمِرَ موسى بضرب الحجر .
والسينُ في "استسقى" للطلبِ على وَجْهِ الدُّعَاءِ أي: سَأَل لهم السُّقيا ، وألفُ استسقى منقلبةُ عن ياءٍ لأنه من السَّقْيِ . ويقال: سَقَيْتُه وأَسْقَيْتُه بمعنى وأنشد :
سَقَى قومي بني بكر وأَسْقَى ................. نُمَيْراً والقبائلَ من هِلالِ
وقيل : سَقَيْتُه : أَعْطَيْتُه ، ما يَشْرَبُ ، وأَسْقَيْته جَعَلْتُ ذلك له يتناولُه كيف شاء ، وعلى ذلك يكون الإِسقاءُ أَبْلَغَ من السقي ، وقيل: أَسْقَيْته دَلَلْتُه على الماءِ .
" لقومِه " متعلِّقٌ بالفعلِ واللامُ للعلَّة ، أي : لأجلِ ، أو تكونُ للبيان لَمَّا كانَ المرادُ به الدعاءَ كالتي في قولِهِم " سُقْياً لك " فتتعلَّقُ
بمحذوفٍ كنظيرتِها .
{اضرب بِّعَصَاكَ} الإِدغام ـ هنا ـ واجبٌ ؛ لأنه متى اجتمع مِثْلان في كلمتين أو كلمةٍ أَوَّلُهما ساكنٌ وَجَبَ الإِدغامُ . وألفُ "عصاك" منقلبةٌ عن واوٍ لقولِهم في النسبة إليها : عَصَوِيّ ، وفي التثنية عَصَوانِ ، والجمع: عِصِيّ وعُصِيّ بضمِّ العَيْنِ وكَسْرِها إتباعاً ، وأَعْصٍ، مثل: زَمَن وأَزْمُن ، والأصل : عُصُوو ، وأَعْصُو ، فَأُعِلَّ . وعَصَوْتُه إذا ضربته بالعَصا ، وعَصَيْتُه بالسيفِ ، إذا ضربته بأجمعه لا بحدّه ، و" ألقى عصاه " يُعَبَّر به عن بُلوغ المنزلِ أو القصد ، قال الشاعر :
فَأَلْقَتْ عَصاها واستقرَّ بها النَّوى ......... كما قرَّ عَيْناً بالإِيابِ المسافِرُ
وانشقَّت العصا بين القومِ أي وقع الخلافُ بينهم ، قال الشاعر :
إذا كانتِ الهيجاءُ وانشَقَّتِ العَصا ... فَحَسْبُك والضحاكُ سيفٌ مُهَنَّدُ
قال الفراء: أولُ لَحْنٍ سُمِع بالعراقِ هذه عصاتي " يعني بالتاء ، وكان عليه أن يقول عصاي " .
{ الحَجَرَ } مفعولٌ و" ألـ " للعهدِ ، وقيل : للجنسِ .
{ فانفجرت } الفاءُ : عاطفةٌ على محذوفٍ لا بُدَّ منه ، تقديرُه : فَضَرَبَ فانفجَرَت ، حُذِفَتْ الفاءُ وما عَطَفَتْه قبلها . وقد جَعَلَها الزمخشريّ جوابَ شرطٍ مقدَّرٍ ، والتقدير : فإن ضَرَبْتَ فقد انفجرَتْ ، وهي على هذا فاءٌ فصيحةٌ لا تقع إلا في كلامٍ بليغ .
والانفجارُ : الانشقاقُ والتفتُّح ، ومنه الفَجْرُ لانشقاقِه بالضوءِ ، وفي الأعرافِ ، {فانبجست} الآية : 160، فقيل : هما بمعنى ، وقيل :
الانبِجاس أضيقُ ، لأنه يكونُ أولَ والانفجارُ ثانياً .
{اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} فاعل "انفجرت" ، والألفُ علامةُ الرفعِ لأنه مَحْمولٌ على المثنَّى ، وليس بمثنَّى حقيقةً إذ لا واحد له من لفظِه ، وكذلك مذكَّرهُ "اثنان" ولا يُضاف إلى تمييز لاستغنائِه بذكر المعدودِ مثنَّى ، تقول : رجلان وامرأتان ، ولا تقول: اثنا رجلٍ ولا اثنتا امرأةٍ ، إلا ما جاءَ نادراً فلا يُقاسُ عليه .
وثِنْتان مثل اثنتين ، وحكمُ اثنين واثنتين في العددِ المركب أن يُعْرَبا بخلافِ سائرِ أخواتهما ، لأنه حُذِفَ معهما ما يُحْذَفُ في المعرب عند الإِضافة وهي النونُ فأشبها المعربَ فأُعْرِبا كالمثنى بالألف رفعاً وبالياء نصباً وجرَّاً ، وأمَّا " عَشْرة " فمبنيٌّ لتنزُّلِه منزلَةَ تاءِ التأنيثِ . و"عَيْناً" تمييز .
وقُرئ: "عَشِرة" بكسر الشينِ وهي لغةُ تميمٍ ، ولغةَ الحجازِ عَشْرة بالسكون . وقرأ الأعمش : عَشَرة بالفتح . والعينُ اسم مشتركٌ بين عَيْنِ الإِنسانِ وعَيْن الماء وعَيْنِ السحابة وعَيْنِ الذهبِ وعَيْنِ المِيزان ، والعَيْنُ : المطر الدائم ستاً أو خمساً ، والعَيْنُ: الثُّقْب في المَزادَة ، وبلدٌ قليلٌ العَيْن أي: قليلُ الناس . {كُلُّ أُنَاسٍ } أصلُ الناس . وقيل إنّه اسمُ جَمْعٍ .
{مَّشْرَبَهُمْ } مفعولٌ لـ "عَلِمَ" بمعنى عَرَف ، والمَشْرَبُ هنا مَوْضِعُ الشُّرْبِ ؛ لأنُه روي أنه كان لكلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرةٍ
عيناً لا يَشْرَكُهُ فيها سِبْطُ غيرُه . وقيل : المشرب هو نفسُ المشروب . فيكون مصدراً واقعاً موقعَ المفعولِ به .
{كُلُواْ واشربوا } هاتان الجملتانِ في محلِّ نَصْبٍ بقولٍ مضمرٍ ، تقديرُه: وقُلْنَا لهم كُلوا واشْرَبُوا .
{مِن رِّزْقِ الله} هذه من باب الإِعمال لأنَّ كلَّ واحدٍ من الفعلين يَصِحُّ تسلُّطُه عليه ، وهو من باب إعمالِ الثاني للحذفِ من الأولِ ، والتقديرُ: وكُلوا منه .
و" مِنْ " يجوزُ أن تكونَ لابتداءِ الغايةِ وأن تكونَ للتبعيضِ ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولُ الأكلِ محذوفاً ، وكذلك مفعولُ الشُّرْب ، للدلالة عليهما ، والتقدير : كُلوا المَنَّ والسَّلْوى ، لتقدُّمِهما في قوله : { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } واشرَبوا ماءَ العيُونِ المتفجرةِ ، وعلى هذا فالجارُّ والمجرورُ يُحْتمل تعلُّقُه بالفعلِ قبله ، ويُحْتمل أن يكونَ حالاً من ذلك المفعولِ المحذوفِ ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ . وقيل : المرادُ بالرزق الماءُ وحدَه ، ونَسَب الأكلَ إليه لمَّا كانَ سبباً في نَماء ما يُؤكل وحياتِهِ فهو رزقٌ يُؤْكل منه ويُشْرَبُ ، والمرادُ بالرزقِ المَرْزُوقُ ، وهو يَحْتَمل أن يكونَ من باب "ذِبْح ورِعْي" ، وأن يكونَ من باب "درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ" .
{وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} أصلُ " تَعْثَوا " : تَعْثَيُوا ، فاستُثْقِلت الضمةُ على الياءِ فحُذِفَت فالتقى ساكنانِ فحُذِفَ الأولُ منهما وهو الياءُ،أو لَمَّا تحرَّكتِ الياءُ وانفتح ما قبلَها فُلِبَت ألفاً، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ وبقيتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها وهذا أَوْلى ، فوزنُه تَفْعُون .
والعِثِيُّ والعَيْثُ : أشدُّ الفسادِ وهما متقاربان . وقال بعضُهم : إلاَّ أنَّ العَيْثَ أكثرُ ما يُقال فيما يُدْرَك حِسَّاً ، والعِثِيُّ فيما يُدْرَكُ حُكْماً ، يقال : عَثَى يَعْثَى عِثِيَّاً وهي لغةُ القرآنِ ، وعثا يَعْثُوا عُثُوّاً وعاثَ يعيثُ عِثِيّاً ، وليس عاثَ مقلوباً من عثى كَجَبَذَ وجَذَبَ لتفاوتِ مَعنَيَيْهما ، ثم اختصَّ كلُّ واحدٍ بنوعٍ . ويُقال : عَثِيَ يعثى عِثِيّاً ومَعَاثاً ، وليس عَثِي أصلُه عَثِوَ ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها كَرَضِيَ من الرّضوان . وعَثَّ يَعُثُّ أي فسد ، ومنه : العُثَّةُ سُوسةٌ تُفْسِدُ الصوفَ.
"مُفْسدين" حالٌ من فاعل " تَعْثَوْا " وهي حالٌ مؤكِّدةٌ ، لأنَّ معناها قد فُهِم من عامِلها ، وحَسَّنَ ذلك اختلافُ اللفظين ، ومثله : {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } التوبة : 25، ويُحتمل أن تكونَ حالاً مبيِّنَةً ، لأنَّ الفسادَ أعمُّ والعِثِيِّ .
و{فِي الأرض} يَحْتمل أن يتعلَّق بـ " تَعْثَوْا " وهو الظاهرُ ، وأن يَتَعلَّقَ بمفسدين .

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

واذكروا ، إذ قلتم لموسى ، على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } ناصبٌ ومنصوبٌ ، والجملةُ في محلَّ نصبٍ بالقولِ ، وإنما قال { عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } وهما اثنان لأن العرب تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد كما يعبر عن الواحد بلفظ الاثنين ، كقوله تعالى " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " الرحمن ـ 22 وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الماء المالح دون العذب وقيل: كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فكانا كطعاماً واحداً ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يعجنون المن بالسلوى فيصيران واحداً ، وقيل إن تكرار نزول المنّ والسلوى كلّ يومٍ جعلَ الطعامَ لوناً واحداً ، وقيل لأنَّ المرادَ بالواحدِ ما لا يَخْتَلِفُ ولا يتبدَّل ، فأُريد نفيُ التبدُّلِ والاختلافِ ، أو لأنهما ضَرْبٌ واحدُ لأنهما من طعامِ أهلِ التلذُّذِ والترف ، ونحن أهلُ زراعاتٍ ، لا نريد إلا ما أَلِفْنَاه من الأشياءِ المتفاوتةِ ، أو لأنهم كانوا يأكلونَ أحدَهما بالآخرِ أو لأنهما كانا يُؤْكلان في وقتٍ واحدٍ ، وقيل : كَنَوْا بذلك عن الغِنَى ، فكأنهم قالوا : لن نرضَى أن نكونَ كلُّنا مشتركين في شيءٍ واحدٍ فلا يَخْدُمَ بعضُنا بعضاً وكذلك كانوا ، وهم أوّلُ مَنِ اتَّخَذَ الخَدَمَ والعبيدَ .
والطعامُ : اسمٌ لكل ما يُطْعَم من مأكولٍ ومشروبٍ ، ومنه {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ }" لماء النهر " البقرة : 249 وقد يختصُّ ببعضِ المأكولاتِ كاختصاصه بالبُرِّ والتمر ، وفي حديث الصدقة : " أو صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير" والطَّعْمُ بفتحِ الطاءِ المصدرُ أو ما يُشْتَهى من الطعام أو ما يُؤَدِّيه الذَّوْقُ ، تقول: طَعْمُه حُلْوٌ وطَعْمُه مُرٌّ ، و" طُعم " بالضمِّ ، الشيءُ المَطْعُوم كالأُكْلِ والأَكْل ، قال أبو خراش :
أَرُدُّ شُجاعَ البطنِ لو تَعْلَمِيْنَه .......... وأُوْثِرُ غيري من عيالِك بالطَّعْمِ
وأَغْتَبِقُ الماءَ القُراحَ فأنتهي ........... إذا الزادُ أمسى للمُزَلَّجِ ذا طَعْمِ
أراد بالأولِ المطعومُ وبالثاني ما يُشْتهى منه ، وقد يُعَبَّر به عن الإِعطاءِ ، قال عليه السلام : " إذا اسْتَطْعَمَكم الإِمامُ فأطْعِموه " أي : إذا استفتح فافتحُوا عليه ، وفلانٌ ما يَطْعَمُ النومَ إلا قائماً ، قال :
نَعاماً بوَجْرَةَ صُفْرَ الخُدو .................. دِ ما تَطْعَمُ النَّومَ إلا صِياما
{فادع } بضم العينِ مِنْ دَعَا يدعُو هي اللغةُ الفصيحةُ ، ولغة بني عامر : فادْعِ بكسر العين ، لالتقاءِ الساكنين ، يُجْرُون المعتلَّ مُجْرى الصحيحِ ، ولا يُراعونَ المحذوفَ يعني أنَّ العينَ ساكنةٌ لأجل الأمرِ ، والدالُ قبلَها ساكنةٌ ، فكُسِرت العينُ . والدعاءُ هنا السؤالُ ، ويكونُ بمعنى التسمية كقول الشاعر :
دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ . .
و{ لنا } اللام حرف جرٍّ للعلة ونا مجرور به والجارو المجرور متعلِّقان بـ " ادعُ " .
{يُخْرِجْ} مجزومٌ واقع في جوابِ الأمر.وقوله{مِمَّا تُنْبِتُ الأرض} مفعولُ " يُخْرِجْ " محذوفٌ عند سيبويهِ تقديرُه : مأكولاً أو شيئاً مِمَّا تُنبت الأرضُ ، والجارُّ يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه ، وتكونُ " مِنْ " لابتداءِ الغاية ، وأنْ يكونَ صفةً لذلك المفعولِ المحذوفِ ، فيتعلَّقَ بمضمرٍ أي : مأكولاً كائناً ممَّا تُنْبِتْهُ الأرضُ و " مِنْ " للتبعيضِ ، ومذهبُ الأخفش أنَّ " مِنْ " زائدةٌ في المفعول ، والتقديرُ: يُخْرِجْ ما تُنْبِتُه الأرضُ ، لأنه لا يَشْتَرِط في زيادتِها شيئاً .
و" ما " يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً والعَائدُ محذوفٌ ، أي: مِن الذي تُنْبِتُه أو من شيءٍ تُنبته .
وقوله { مِن بَقْلِهَا } يجوزُ فيه وجهان أحدُهما: أن يكونَ بَدلاً من "ما" بإعادةِ العامل و " مِنْ " معناها بيانُ الجنس ، والثاني : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المحذوفِ العائدِ على "ما" أي: مما تُنْبته الأرضُ في حالِ كَوْنه مِنْ بقلها و" مِنْ " أيضاً للبيان . والبَقْلُ كلُّ ما تُنْبِتهُ الأرضُ مِمَّا لا ساقَ له ، وجمعُه: بُقول . والقِثَّاء معروف ، الواحدُ : قِثَّاءة ، فهو من باب قَمْح وقمحة ، وفيها لغتان : المشهورةُ كَسْرُ القافِ ، وقُرئ بضمِّها ، والهمزةُ أصلٌ بنفسِها في قولهم : أَقْثَأَتِ الأرضُ أي : كَثُر قِثَّاؤها ووزنُها فِعَّال ، ويُقال في جَمْعها قَثَائي مثل عِلْباء وعَلاَبي .
قوله: { أَدْنى } فيه ثلاثةُ أقوال ، أحدُها وهو الظاهرُ ، أنَّ أصلَه: أَدْنَوُ من الدُّنُوِّ وهو القُرْب ، فَقُلِبتَ الواوُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلها ، ومعنى الدنوِّ في ذلك وجهان : أحدُهما : أنه أقربُ لقلةِ قيمته وخَساسته . والثاني : أنه أقربُ لكم لأنه في الدنيا بخلافِ الذي هو خيرٌ، فإنه بالصبرِ عليه يَحْصُلُ نفعُهُ في الآخرةِ ، والثاني: أنَّ أصلَه أَدْنَأُ مهموزاً من دَنَأَ يَدْنَأُ دَناءة ، وهو الشيء الخسيس، إلا أنه خُفِّفَ همزهُ ، وقرئ "أَدْنَأُ" بالهمز. الثالث: أنَّ أصلَه أَدْوَنُ من الشيء الدُّوْن أي الرديء ، فَقُلِب بأَنْ أُخِّرتِ العينُ إلى موضعِ اللامِ فصارِ : أَدْنَوَ فأُعِلَّ ووزنُهُ أَفْلَع ، وقد تقدَّم معنى الاستبدالِ، وأدْنَى خبرٌ عن "هو" والجملة صلةٌ وعائدٌ ، وكذلك "هو خير" أيضاً صلةٌ وعائد .
{ مِصْراً } قرأه الجمهورُ منوناً ، وهو خَطُّ المصحف ، فقيل: إنهم أُمِروا بهبوطِ مصرٍ من الأمصار فلذلك صُرِف ، وقيل : أُمِرُوا بمصرَ بعينه وإنما صُرِف لخفَّته ، لسكونِ وسطِه كهنْد ودَعْد ، وأنشد :
لم تَتَلَفَّعْ فَضْلِ مِئْزَرِها ................... دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ
فَجَمع بين الأمرين، أو صَرَفه ذهاباً به إلى المكان،وقرئ"مصرَ" وكذلك هي في بعضِ مصاحفِ عثمان ومصحفِ أُبَيّ ، كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه . وقال الزمخشري : إنه مُعَرَّبٌ من لسان العجم ، فإن أصله مِصْرائيم ، وعلى هذا إذا قيل بأنه عَلَمٌ لمكانٍ بعينه فلا ينبغي أن يُصْرف البتةَ لانضمامِ العُجْمِة إليه ، فهو نظيرُ " حِمْص " ولذلك أجمعَ الجمهورُ على منعِه من الصرف في قولِه:{ادخلوا مِصْرَ} يوسف :99.
والمِصْرُ في أصل اللغةِ : الحدُّ الفاصلُ بين الشيئين ، وحُكِي أنهم إذا كَتَبوا بَيْعَ دارٍ قالوا : اشترى فلانٌ الدارَ بمُصُورِها أي : حدودِها ، وأنشد :
وجاعِلُ الشمسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بهِ ..... بين النهارِ وبينَ الليلِ قد فَصَلا
{ مَّا سَأَلْتُمْ } ما: في محلِّ نصبٍ اسماً لإِنَّ ، والخبرُ في الجارِّ قبله "لكم" ، و"ما" بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ ، أي: الذي سألتموه .
وقُرئ "سِلْتُم" مثل بِعْتُم ، وهي مأخوذةٌ مِنْ سالَ بالألف ، قالَ حسان رضي الله عنه :
سَالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشَةً ..... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سَالَتْ ولم تُصِبِ
قولُه: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة }ضُرِبت: مبنيٌّ للمفعولِ " الذِّلَّةُ " قائمٌ مَقَامَ الفاعلِ ، ومعنى " ضُرِبَتْ " أي : أُلْزِموها وقُضِيَ عليهم بها ، من ضَرْب القِباب ، قال الفرزدقُ لجرير :
ضَرَبَتْ عليك العنكبوتُ بِنَسْجِها ..... وَقَضى عليكَ به الكتابُ المُنَزَّلُ
والذِّلَّةُ : الصِّغارُ ، والذُّل بالضم ما كان عن قَهْر ، وبالكسر ما كانَ بعد شِماس من غير قهر. والمَسْكَنَةُ : مَفْعَلةٌ من السكون ، لأن المِسْكينَ قليلُ الحركةِ والنهوضِ ، لِما به من الفَقْر ، والمِسْكينُ مِفْعيل منه إلاّ أنَّ هذه الميمَ قد ثَبَتَتْ في اشتقاقِ هذهِ الكلمةِ ، قالوا : تَمَسْكَنَ يَتَمَسْكَنُ فهو مُتَمَسْكِنٌ ، وذلك كما تَثْبُتُ ميم تَمَنْدَلَ وتَمَدْرَعَ من النَّدْل والدَّرْع ، وذلك لا يَدُلُّ على أصالتها ، لأن الاشتقاق قَضَى عليها بالزيادَةِ .
{وباؤُوا} ألفُ "باءَ بِكذا" منقلبةٌ عن واو لقولهم:"باء يَبُوء" مثل: قال يقول ، قال عليه الصلاة والسلام: (( أبُوْءُ بنعمتِك عليّ )) أي أُقِرُّ بِها وأُلْزِمُها نفسي ، قال الشاعر: أَنْكَرْتُ باطِلَها وبُؤْتُ بحقِّها . . . .
والمصدرُ البَواء، وباءَ: رَجَعَ أيضاً،والبَواء: الرجوعُ بالقَوَدِ ، وهم
في هذا الأمر بَواء أي: سَواء ، قال الشاعر:
ألا تَنْتَهي عنَّا مُلُوكٌ وتَتَّقي ................. محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَّمِ
أي:لا يرْجِعُ الدم بالدم في القَوَد، وقوله"وباؤُوا بغضبٍ"أي حَلُّوا مَبْوَأً ومعه غضبٌ،واستعمال "باء" تنبيهٌ على أنَّ مكانه الموافقَ يَلْزَمُه فيه غضبُ اللهِ فكيف بغيره من الأمكنَةِ ، وذلك نحو{فَبَشِّرْهم بعذاب} آل عمران: 21.
{بغضب} في موضعِ الحالِ من فاعِل "باؤوا" أي: رَجَعوا مغضوباً عليهم ، وليس مفعولاً به كمررتُ بزيدٍ . وهو من قولك : باء فلانٌ بفلان إذا كانَ حقيقاًَ بأنْ يُقْتَلَ به لمساواتِه له ومكافَأَته ، أي: صاروا أحِقَّاءَ بغضبِه ، وهذا التفسيرُ ينفي كونَ الباءِ لِلحال .
قوله: {مِن الله} الظاهرُ أنَّه في محلِّ جرٍّ صفةً لغضَب ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : بغضبٍ كائنٍ من اللهِ . و"مِنْ " لابتداءِ الغايةِ مجازاً .
قوله تعالى :{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } "ذلك" مبتدأٌ أُشير به إلى ما تَقَدَّم من ضَرْب الذِّلَّة والمَسْكَنة والخلافةِ بالغضب ، و"بأنهم" جملة " أنَّ " خبر المبتدأ " ذلك " والباءُ: للسببية ، أي : ذلك مستحقٌّ بسببِ كفرِهم .
و{يكفرون} في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وكانَ وما في حَيِّزها في
محلِّ رفعٍ خبراً لأنَّ ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جرٍّ بالباء . والباءُ وما
في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأِ كما تقدَّم .
{بآيات الله} متعلِّقٌ بيكفرون،والباءُ للتعدية . {ويقتُلون} في محلِّ
نصبٍ عطفاً على خبرِ كان،وقرئ{تَقْتُلون} بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب
الأولِ بعد الغَيْبة ، و قرئ أيضاً {يُقَتِّلونَ } بالتشديدِ للتكثيرِ .
{الأنبياءَ} جمع نبيّ، مفعولٌ به ، والقُرَّاء على تَرْك الهمز في النُّبُوَّة وما تَصَرَّف منها ، ونافعٌ على الهمزِ في الجميع إلا موضعين : في سورةِ الأحزابِ " للنبيِّ إن أراد " و" لا تَدْخُلوا بيوتَ النبيِّ إلاَّ.." .
فأمّا مَن هَمَز فإنه جَعَله مشتقّاً من النبأ وهو الخبر ، فالنبيُّ فعيل بمعنى فاعل ، أي: مُنَبِّئٌ عن الله برسالته ، ويجوزُ أن يكونَ بمعنى مَفْعول أي: إنه مُنَبَّأ مِن الله بأوامِره ونواهِيه ، واستدلُّوا على ذلك بجَمْعِهِ على نُبَآء ، كظريف وظُرَفاء ، قال العباس بن مرداس :
يا خاتَم النُّبَآء إنَّك مُرْسَلٌ ........... بالخيرِ ، كلُّ هدى السبيلِ هُداكا
فظهورُ الهمزتين يَدُلُّ على كونِهِ من النبأ ، واستضعف بعضُ النحويين هذه القراءةَ لأن الغالبَ التخفيفُ والجمهورُ الأعظمُ من القُرَّاء والعوام على إسقاط الهمز من النبيّ والأنبياء ، وكذلك أكثرُ العرب ، فإنهم يُبْدِلون الهمزَ في أربعةِ أحرف : النبي والبريَّة والخابية والذريّة وأصلهنَّ الهمزُ . ولكن ينبغي أن لا تُرَدَّ قراءة هذا الإِمامِ الكبير . لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمَّا أَنْشده العباس: يا خاتم النُّبآء لم يُنْكِر عليه .
وأمَّا مَنْ لم يَهْمِزْ فإنَّه يَحْتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه من المهموزِ ولكِنْ خُفِّفَ ، وهذا أَوْلى ليوافِقَ القراءتين ولظهورِ الهمزِ في قولِهم : تَنَبَّأ مُسَيلَمَةُ ، وقولِه : يا خاتَم النُّبآء . والثاني : أنه أصلٌ آخرُ بنفسِه مشتقٌ من نَبا ينبو إذا ظَهَرَ وارتفع ، ولا شكّ أنّ رتبة النبيِّ مرتفعةٌ ومنزلتَه ظاهرةٌ بخلاف غيره من الخَلْق ، والأصلُ : نَبِيْوٌ وأَنْبِواء ، فاجتمع الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهُما بالسكون ، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِم ، كميِّت في مَيْوِت ، وانكسر ما قبلَ الواوِ في الجمعِ فقُلبت ياءً، فصار أنبِياء . والواوُ في النبوَّة بدلٌ من الهمزِ على الأولِ وأصلٌ بنفسِها على الثاني ، فهو فَعِيلٌ بمعنى فاعِل أي : ظاهرٌ مرتفعٌ ، أو بمعنى مفعول أي : رَفَعه الله على خَلْقه ، أو يكونُ مأخوذاً من النبيّ الذي هو الطريق ، وذلك أن النبيَّ طريقُ اللهِ إلى خَلْقِه ، به يتوصَّلُون إلى معرفةِ خالِقِهم ، وقال الشاعر :
لمَّا وَرَدْنَ نُبَيَّاً واسْتَتَبَّ بِنا ......... مُسْحَنْفِرٌ كخُطوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ
أي : طريقاً ، وقال :
لأَصْبَحَ رَتْماً دُقاقُ الحَصَى ................... مكانَ النَّبِيِّ من الكاثِبِ
الرَّتْمُ بالتاء المثنَّاة والمثلثةِ جميعاً : الكَسْر ، والكاثبُ بالمثلثة اسمُ جبلٍ ، وقالوا في تحقير نُبُوَّة مُسَيْلَمَةَ : نُبَيِّئَة . وقالوا : جمعُه على أَنْبياء قياس مطَّرد في فَعيل المعتلِّ نحو : وَلِيَّ وأَوْلياء وصَفِيّ وأَصْفِياء .
قوله{ بِغَيْرِ الحق } في محلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعلِ " يَقْتُلون " تقديرُه : يقتُلونهم مُبْطِلين ، ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره: قَتْلاً كائناً بغيرِ الحق ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ . وقتلُ الأنبياءِ لا يكون إلا بغير الحقِّ ، فما فائدةُ ذِكْرِه؟ والجوابَ بأنَّ معناه أنهم قَتَلوهم بغيرِ الحق عندَهم لأنهم لم يَقْتُلُوا ولا أَفْسَدوا في الأرض حتى يُقْتَلوا ، فلو سُئِلوا وأَنْصَفُوا مِنْ أنفسِهم لم يَذْكُروا وجهاً يَسْتَحِقُّونَ به القتلَ عندهم .
وقيل: إنما خَرَجَ وصفُهم بذلك مَخْرَجَ الصفةِ لقَتْلِهم بأنه ظلمٌ في حقهم لاحقٌ ، وهو أبلغُ في الشَّناعة والتعظيم لذنوبهم .
قوله: { ذلك بِمَا عَصَواْ } مثلُ ما تقدَّم . وفي تكريرِ اسم الإِشارة قولان ، أحدهما : أنه مُشارٌ به إلى ما أَشِير بالأول إليه على سبيل التأكيد . والثاني أَنْ يشَار به إلى الكفرِ وقَتْلِ الأنبياء ، على معنى أنَّ ذلك بسببِ عِصْيانهم واعتدائِهم لأنَّهم انهمكوا فيهما . و" ما " مصدريةٌ والباءُ للسببيَّة ، أي بسبب عِصْيانهم ، ولا محلَّ لجملة "عَصَوا" لوقوعِها صلةً ، وأصلُ عَصَوْا عَصَيُوا ، تحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلَها ، فقُلبت ألفاً، فالتقى ساكنان هي والواوُ، فحُذِفَت لكونها أوَّلَ الساكنين وبَقيَتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها فوزنه فَعَوْا .
{ وكانوا يعتدُون } في محلِّ نصبٍ خبراً لـ " كان " ، وكانَ وما بعدها عطفٌ على صلةِ " ما " المصدرية .
وأصلُ العِصيان : الشِّدَّةُ ، اعتصَتِ النَّواةُ ، اشتدَّت ، والاعتداءُ من عدا يعدُو ، فهو افتعالٌ منه ، ولم يَذْكُرْ متعلَّقَ العِصيان والاعتداءِ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُعْصَى ويُعتدى فيه .
وأصلُ " يَعْتَدُون " يَعْتَدِيُونَ ، ففُعِل به ما فُعِل بـ { يتَّقون } من الحَذْفِ والإِعلال وقد تقدَّم ، فوزنُه يَفْتَعُون ،راجع البقرة : 21.
والواوُ من"عَصَوْا"واجبةُ الإِدغام في الواوِ بعدَها لانفتاحِ ما قبلَها، فليسَ فيها مَدٌّ يمنعُ مِن الإِدغامِ ، ومثلُه{فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ} آل عمران:20وهذا بخلافِ ما إذا انضمَّ ما قبل الواوِ ، فإنَّ المدَّ يقومُ مَقامَ الحاجز بين المِثْلَيْن فيجبُ الإِظهارُ،نحو{آمَنُواْ وَعَمِلُواْ} البقرة:25 .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
بعد أن تحدث الحق ـ سبحانه وتعالى ـ عن بني إسرائيل وكيف كفروا بنعمه ، أراد أن يعرض لنا حساب الأمم التي سبقت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، ولقد وردت هذه الآية في سورة المائدة ولكن بخلاف يسير من التقديم والتأخير ، ففي الآية 69 من سورة المائدة يقول تبارك وتعالى: { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى } أي أنه في سورة المائدة تقدمت الصابئون على النصارى ، واختلف الإعْراب ففي البقرة و"الصابئين" ، وفي المائدة و"الصابئون " ووردت آية أخرى في سورة الحج: { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } الحج : 17 .
تبدو الآيات الثلاث متشابهة ، إلا أنَّ هناك خلافات كثيرة فيما بينها فما هو سبب التكرار الموجود في الآيات ، وتقديم الصابئين مرة وتأخيرها ، ومع تقديمها رفعت وتغير الإعراب ، وفي الآيتين الأوليين (البقرة والمائدة ) تأتي : { مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .
أما في الآية التي في سورة الحج فقد زاد فيها: { المجوس والذين
أشركوا } واختلف فيها الخبر فقال الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } .
عندما خلق الله آدم وأنزله ليعمر الأرض أنزل معه الهدى ، واقرأ قوله تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } طه:123، فمن المفروض أن يكون آدم بلغ المنهج لأولاده، وهؤلاء بلغوه لأولادهم وهكذا . وتشغل الناس الحياة وتطرأ عليهم الغفلة ، ويصيبهم طمع الدنيا وجشعها ويتبعون شهواتهم ، فكان لابد من رحمة الله لخلقه أن يأتي الرسل ليذكروا وينذروا ويبشروا .
الآية الكريمة تقول:{إِنَّ الذين آمَنُواْ} أي إيمان الفطرة الذي نزل مع آدم إلى الأرض . والذين هادوا هم أتباع موسى عليه السلام، أما الصابئة فقد اختلف العلماء فيهم قال بعضهم هم أتباع نوح ولكنهم غيروا بعده وعبدوا الشمس والقمر والكواكب ، أو هم الذين انتقلوا من دين آبائهم إلى الدين الذي كان في عصرهم فصبئوا فسموا صابئة، أو هم جماعة من العقلاء قالوا ما عليه قومنا لا يقنع العقل كيف نعبد هذه الأصنام ونحن نصنعها ونصلحها؟ فامتنعوا عن عبادة أصنام العرب فقالوا عنهم إنهم صبئوا ، أي تركوا .
وقال مجاهد: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى، ليس لهم دين . ولسعيد بن جبير وعطاء فيهم قول قريب من هذا .
أما أبو العالية والربيع بن أنس، والسدي، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والضحاك وإسحاق بن راهويه فالصابئون عندهم فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور . ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق : لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم .
وذكر الحسن البصري الصابئين، فقال: هم قوم يعبدون الملائكة.
ونلاحظ أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جاء بكلمة "الصابئين " في سورة البقرة متأخرة ومنصوبة ، وفي سورة المائدة متقدمةً ومرفوعةً ، تقول الآية { إِنَّ الذين آمَنُواْ } إِنَّ : تنصب الاسم وترفع الخبر ، الذين اسم موصول في محل نصب اسم لـ "إن " { والذين هَادُواْ } معطوف على {الذين آمنوا} فهو منصوب أيضاً، والنصارى معطوف أيضا على إسم إن ،والصابئين معطوف أيضاً ومنصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم.
نأتي إلى قوله تعالى: { مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} هذه مستقيمة في سورة البقرة إعرابا وترتيباً ، والصابئين تأخرت عن النصارى لأنهم فرقة قليلة ، لا تمثّل جمهرة كثيرة كالنصارى ، ولكن في آية المائدة تقدّمت " الصابئون " وبالرفع في قوله تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ } الذين آمنوا إسم إنّ والذين هادوا معطوف عليه و "الصابئون" كان القياس أن يقال والصابئين . . وبعدها النصارى معطوفة على الذين آمنوا ولكن كلمة "الصابئون " توسطت بين اليهود وبين النصارى ، وجاء إعرابها بشكل لا يقتضيه الظاهر ، وللعرب إذن مرهفةٌ ، فلا بد للعربي من إن يلتفت ليعرف السبب .
حين تولى أبا جعفر المنصور الخلافة ، وقف على المنبر ولحن ، أي
أخطأ في نطق كلمة ، وكان هناك إعرابي يجلس فآذت أُذنيه ، وأخطأ
المنصور ثانية. وفي المرة الثالثة قام الإعرابي وقال: أشهد أنك وليت هذا الأمر بقضاء وقدر، أي أنك لا تستحقه .
وهنا جاء لفظٌ مرفوعاً والمفروض أن يكون منصوباً، إذاً لا بدّ من أن يجعل ذلك العربي يتنبه إلى أن لله حكمة فما هي؟ الذين آمنوا أمرهم مفهوم والذين هادوا أمرهم مفهوم والنصارى أمرهم مفهوم ، أما الصابئون فهؤلاء لم يكونوا تابعين لدين إنما سلكوا طريقاً مخالفاً ، فجاءت هذه الآية لتلفتنا إلى هذا فقدمت هذه الكلمة ورفعتها لتلفت إليها الآذان بقوة .
{مَنْ آمَنَ بالله} مَنْ:يجوز فيها وجهان، أحدُهما: أن تكونَ شرطيّةً في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ و"آمَن" مجزومٌ بها تقديراً وهو الخبرُ على الصحيحِ وقوله "فلهم" جوابُ الشرط ، وهذه الجملة الشرطية في محل رفعٍ خبراً لـ"إنَّ"في قوله "إنَّ الذين آمنُوا"والعائدُ محذوفٌ تقديرُه:مَنْ آمن منهم، كما صَرَّح به في موضعٍ آخَر. والثاني : أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي ومَحَلُّها حينئذٍ النصبُ على البدلِ مِنْ اسمِ " إنَّ " وهو " الذين " بدلِ بعضٍ من كلٍّ ، والعائدُ أيضاً محذوفٌ كما تقدْم ، و"آمن" صلتُها ، فلا محلَّ له حينئذ .
{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبرُ " إنَّ الذين " ، ودخلتِ الفاءُ لأن الموصولَ يُشْبه الشرطَ .
{ عِندَ رَبِّهِمْ } عند: ظرفُ مكانٍ لازمُ الإِضافةِ لفظاً ومعنىً ، والعاملُ فيه " لهم " ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من
"أجرُهم " فيتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديرُه: فلهم أجرُهم ثابتاً عند ربهم .
والعِنْديَّة مجازٌ لتعالِيه، سبحانه ، عن الجهةِ ، وقد تَخْرُجُ إلى ظرفِ الزمان إذا كانَ مظروفُها معنىً، ومنه قولُه عليه الصلاة والسلام: (( إنما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأولى))والمشهورُ كسرُ عَيْنِها،وقد تُفْتَحُ وقد تُضَمُّ.
والذين هادُوا هم اليهودُ ، وهادُوا في أَلِفه قولان: أحدُهما أنه من واو، والأصلُ: هاد يهودُ، وقيل: هو من التَّهْويد وهو النطق في سكون ووقار، وأنشدوا :
وخُودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحى ....... قَريضَ الرُّدافَى بالغِناءِ المُهَوَّد
وقيل: هو من الهَوادة وهي الخضوعُ.والثاني:انها من ياء،والأصلُ: هاد يَهِيد، أي: تحرَّك ومنه سُمِّي اليهودُ لتحرُّكهم في دراستِهم . وقيل: سُمُّوا يهودَ نسبةً ليهوذا بالذال المعجمة وهو ابنُ يعقوب عليه السلام ، فغيَّرتْه العربُ من الذال المعجمة إلى المهملة جَرْياً على عادتها في التلاعُب بالأسماء الأعجمية .
والنَّصارى جمعٌ،واحدُه نَصْران ونَصْرَانة كَنْدمان ونَدْمانة وندامى، وأنشد:
فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها ........ كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ
وأنشد الطبري على نَصْران قوله :
يَظَلُّ إذا دارَ العِشَا مُتَحَنِّفاً ......... ويُضْحي لَدَيْه وهو نَصرْانُ شامِسُ
إلاَّ أنَّه لم يُسْتَعْمَلْ في الكلام إلا بياءِ النسبة " نصرانيّ " وقيل إنّ واحدُ
النصارى نَصْرِيّ كمَهْرِيّ ومهارى ، ونصارى نكرةٌ ، ولذل
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 76
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى