الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية: 179
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية: 179
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ الْوَجِيزِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَعْنَاهُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقِصَاصَ إِذَا أُقِيمَ وَتَحَقَّقَ الْحُكْمُ فِيهِ ازْدُجِرَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَ آخَرَ، مَخَافَةَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَحَيِيَا بِذَلِكَ مَعًا. و وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ الْآخَرُ حَمِيَ قَبِيلَاهُمَا وَتَقَاتَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى قَتْلِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، فَلَمَّا شَرَعَ اللَّهُ الْقِصَاصَ قَنَعَ الْكُلُّ بِهِ وَتَرَكُوا الِاقْتِتَالَ، فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ.
واتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَحَدٍ حَقَّهُ دُونَ السُّلْطَانِ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَقْتَصَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِسُلْطَانٍ أَوْ مَنْ نَصَّبَهُ السُّلْطَانُ لِذَلِكَ، وإلا اختلط الحابل بالنابل وفشى الثأر ودبت الفوضى . وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ السُّلْطَانَ لِيَقْبِضَ أَيْدِيَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ بأَنْ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ إِنْ تَعَدَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ، إِذْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا لَهُ مَزِيَّةُ النَّظَرِ لَهُمْ كَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَامَّةِ فَرْقٌ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى"، وَقد ثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ شَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلًا قَطَعَ يَدَهُ: (لَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَأُقِيدَنَّكُ مِنْهُ).
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ شَيْئًا إِذْ أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ، فَصَاحَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعَالَ فَاسْتَقِدْ)) . قَالَ: بَلْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ أَبِي فِرَاسٍ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَلَا مَنْ ظَلَمَهُ أَمِيرُهُ فَلْيَرْفَعْ ذَلِكَ إِلَيَّ أُقِيدُهُ مِنْهُ . فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَئِنْ أَدَّبَ رَجُلٌ مِنَّا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ رَعِيَّتِهِ لَتَقُصَّنَّهُ مِنْهُ؟ قَالَ: كَيْفَ لَا أَقُصُّهُ مِنْهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ مِنْ نَفْسِهِ! . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، فَمَنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ فَلْيَرْفَعْهُ إِلَيَّ أَقُصُّهُ مِنْهُ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا تَتَّقُونَ الْقَتْلَ فَتَسْلَمُونَ مِنَ الْقِصَاصِ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِأَنْوَاعِ التَّقْوَى فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ بِالطَّاعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ.
قوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} يجوزُ أنْ يَكُونَ "لكم" الخبر وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه "لكم"، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من "حياةٌ"، لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً، ويجوزُ أن يكونَ "في القصاص" هو الخبرَ و"لكم" متعلقٌ بالاستقرارِ المتضمِّن له، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قولِهِ: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} البقرة: 36، وهناك أشياءُ لا تَجِيءُ هنا .
وقرأ أبو الجوزاء "في القَصَص" والمرادُ به القرآنُ . ويَحتمل أن يكون مصدراً كالقِصاص، أي إنّه إذا قُصّ أثرُ القاتِلِ قَصَصَاً قُتِلَ كما قَتَل" .
والقِصاصُ مصدرُ قَصَّ أي: تَتَبَّع، وهذا أصلُ المادة، فمعنى
القِصاص تتَبُّعُ الدم بالقَوَد، ومنه "القصيص" لما يُتَتَبَّعُ من الكلأ بعد رَعْيِهِ، والقَصَصُ تَتَبُّع الأخبار ومثله القَصُّ، والقَصُّ أيضاً الجِصُّ، ومنه الحديث: ((نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبورِ)) أي تَجْصيصِها .
ونظيرُ هذا الكلامِ قولُ العرب: "القتلُ أَوْفَى للقتل" ويُرْوى أَنْفَى للقتل، ويُرْوَى: أَكفُّ للقتَل . وهذا وإنْ كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العلماءُ بينه وبين الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغةِ وُجِدَتْ في الآية الكريمة دونَه، منها: أنَّ في قولِهم تكرار الاسم في جملةٍ واحدةٍ . ومنها: أنه لا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ لأنَّ "أَنْفَى" و"أَوْفَى" و"أكفُّ" أفعلُ تفضيلٍ فلا بدَّ من تقديرِ المفضَّل عليه، أي: أنفى للقتل مِنْ ترك القتل. ومنها: أنَّ القِصاصَ أَمُّ إذ يوجدُ في النفس وفي الطَّرَف . والقتلُ لا يكونُ إلّا في النفس . ومنها: أنَّ ظاهرَ قولِهم كونُ وجودِ الشيء سبباً في انتفاء نفسِه . ومنها: أنَّ في الآية نوعاً من البديع يُسَمَّى الطباق وهو مقابلةُ الشيء بضده فهو يُشْبِهُ قوله تعالى: {أَضْحَكَ وأبكى} النجم: 43 .
قوله: {ياأولي الألباب} منادى مضافٍ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ . وهو اسمُ جمعٍ لأنَّ واحدَه وهو "ذو" من غير لفظِه . ويَجْرِي مَجْرَى جمعِ المذكرِ السالم فِي رفعِهِ بالواوِ ونصبِه وجرِّه بالياء المكسورِ ما قبلها، وحكمهُ في لزوم الإِضافة إلى اسمِ جنسٍ حكمُ مفردِه . وقد تقدَّم في قولِه: {ذَوِي القربى} البقرة: 177 ويقابِلُه في المؤنث: أُولات: وكُتِبا في المصحفِ بواوٍ بعد الهمزةِ قالوا: لِيُفَرِّقوا بين "أُولي" كذا "في النصبِ والجر وبين" إلى "التي هي حرفُ جر، ثم حُمِل باقي الباب عليه، وهذا كما تقدَّم في الفرقِ بين "أولئك" اسمَ إشارةٍ و"إليك" جاراً ومجروراً وقد تقدَّم . وإذا سَمَّيْتَ بأولي من أُولي كذا قلت: جاء أُلون ورأيت إلين، بردِّ النونِ لأنها كالمقدَّرة حالة الإِضافةِ فهو نظيرُ: ضارِبُو زيدٍ وضاربي زيدٍ .
و"الألبابُ" جمعُ "لُبٍّ" وهو العقلُ الخالي من الهَوي، سُمِّيَ بذلك لأحدِ وجهين: إمَّا لبنائِه من لَبَّ بالمكانِ أقامَ به، وإمَّا من اللُّباب وهو الخالِصُ، يقال: لبُبْتُ بالمكان ولبِبْتُ بِضمِّ العينِ وكسرِها، ومجيءُ المضاعَفِ على فَعْل بضمِّ العينِ شاذ، استَغْنَوا عنه بِفَعَل مفتوح العين، وذلك في ألفاظ محصورة نحو: عَزُزْتُ وسَرُرْتُ ولَبُبت ودَمُمْتُ ومَلُلْتُ، فهذه بالضمِّ وبالفتح، إلّا لَبُبْت فبالضمِّ والكسرِ كما تقدَّم .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ الْوَجِيزِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَعْنَاهُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، رَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقِصَاصَ إِذَا أُقِيمَ وَتَحَقَّقَ الْحُكْمُ فِيهِ ازْدُجِرَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَ آخَرَ، مَخَافَةَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَحَيِيَا بِذَلِكَ مَعًا. و وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ الْآخَرُ حَمِيَ قَبِيلَاهُمَا وَتَقَاتَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى قَتْلِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، فَلَمَّا شَرَعَ اللَّهُ الْقِصَاصَ قَنَعَ الْكُلُّ بِهِ وَتَرَكُوا الِاقْتِتَالَ، فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ.
واتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ أَحَدٍ حَقَّهُ دُونَ السُّلْطَانِ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يَقْتَصَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِسُلْطَانٍ أَوْ مَنْ نَصَّبَهُ السُّلْطَانُ لِذَلِكَ، وإلا اختلط الحابل بالنابل وفشى الثأر ودبت الفوضى . وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ السُّلْطَانَ لِيَقْبِضَ أَيْدِيَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ بأَنْ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ نَفْسِهِ إِنْ تَعَدَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ، إِذْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا لَهُ مَزِيَّةُ النَّظَرِ لَهُمْ كَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَامَّةِ فَرْقٌ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى"، وَقد ثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ شَكَا إِلَيْهِ أَنَّ عَامِلًا قَطَعَ يَدَهُ: (لَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا لَأُقِيدَنَّكُ مِنْهُ).
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ شَيْئًا إِذْ أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَطَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُرْجُونٍ كَانَ مَعَهُ، فَصَاحَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَعَالَ فَاسْتَقِدْ)) . قَالَ: بَلْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ أَبِي فِرَاسٍ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَلَا مَنْ ظَلَمَهُ أَمِيرُهُ فَلْيَرْفَعْ ذَلِكَ إِلَيَّ أُقِيدُهُ مِنْهُ . فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَئِنْ أَدَّبَ رَجُلٌ مِنَّا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ رَعِيَّتِهِ لَتَقُصَّنَّهُ مِنْهُ؟ قَالَ: كَيْفَ لَا أَقُصُّهُ مِنْهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ مِنْ نَفْسِهِ! . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ عُمَّالِي لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ، فَمَنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ فَلْيَرْفَعْهُ إِلَيَّ أَقُصُّهُ مِنْهُ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَالْمُرَادُ هُنَا تَتَّقُونَ الْقَتْلَ فَتَسْلَمُونَ مِنَ الْقِصَاصِ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِأَنْوَاعِ التَّقْوَى فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ بِالطَّاعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ.
قوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} يجوزُ أنْ يَكُونَ "لكم" الخبر وفي القصاص يتعلق بالاستقرار الذي تضمنه "لكم"، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من "حياةٌ"، لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً، ويجوزُ أن يكونَ "في القصاص" هو الخبرَ و"لكم" متعلقٌ بالاستقرارِ المتضمِّن له، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قولِهِ: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} البقرة: 36، وهناك أشياءُ لا تَجِيءُ هنا .
وقرأ أبو الجوزاء "في القَصَص" والمرادُ به القرآنُ . ويَحتمل أن يكون مصدراً كالقِصاص، أي إنّه إذا قُصّ أثرُ القاتِلِ قَصَصَاً قُتِلَ كما قَتَل" .
والقِصاصُ مصدرُ قَصَّ أي: تَتَبَّع، وهذا أصلُ المادة، فمعنى
القِصاص تتَبُّعُ الدم بالقَوَد، ومنه "القصيص" لما يُتَتَبَّعُ من الكلأ بعد رَعْيِهِ، والقَصَصُ تَتَبُّع الأخبار ومثله القَصُّ، والقَصُّ أيضاً الجِصُّ، ومنه الحديث: ((نهى عليه الصلاة والسلام عن تقصيص القبورِ)) أي تَجْصيصِها .
ونظيرُ هذا الكلامِ قولُ العرب: "القتلُ أَوْفَى للقتل" ويُرْوى أَنْفَى للقتل، ويُرْوَى: أَكفُّ للقتَل . وهذا وإنْ كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العلماءُ بينه وبين الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغةِ وُجِدَتْ في الآية الكريمة دونَه، منها: أنَّ في قولِهم تكرار الاسم في جملةٍ واحدةٍ . ومنها: أنه لا بُدَّ من تقديرِ حذفٍ لأنَّ "أَنْفَى" و"أَوْفَى" و"أكفُّ" أفعلُ تفضيلٍ فلا بدَّ من تقديرِ المفضَّل عليه، أي: أنفى للقتل مِنْ ترك القتل. ومنها: أنَّ القِصاصَ أَمُّ إذ يوجدُ في النفس وفي الطَّرَف . والقتلُ لا يكونُ إلّا في النفس . ومنها: أنَّ ظاهرَ قولِهم كونُ وجودِ الشيء سبباً في انتفاء نفسِه . ومنها: أنَّ في الآية نوعاً من البديع يُسَمَّى الطباق وهو مقابلةُ الشيء بضده فهو يُشْبِهُ قوله تعالى: {أَضْحَكَ وأبكى} النجم: 43 .
قوله: {ياأولي الألباب} منادى مضافٍ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ . وهو اسمُ جمعٍ لأنَّ واحدَه وهو "ذو" من غير لفظِه . ويَجْرِي مَجْرَى جمعِ المذكرِ السالم فِي رفعِهِ بالواوِ ونصبِه وجرِّه بالياء المكسورِ ما قبلها، وحكمهُ في لزوم الإِضافة إلى اسمِ جنسٍ حكمُ مفردِه . وقد تقدَّم في قولِه: {ذَوِي القربى} البقرة: 177 ويقابِلُه في المؤنث: أُولات: وكُتِبا في المصحفِ بواوٍ بعد الهمزةِ قالوا: لِيُفَرِّقوا بين "أُولي" كذا "في النصبِ والجر وبين" إلى "التي هي حرفُ جر، ثم حُمِل باقي الباب عليه، وهذا كما تقدَّم في الفرقِ بين "أولئك" اسمَ إشارةٍ و"إليك" جاراً ومجروراً وقد تقدَّم . وإذا سَمَّيْتَ بأولي من أُولي كذا قلت: جاء أُلون ورأيت إلين، بردِّ النونِ لأنها كالمقدَّرة حالة الإِضافةِ فهو نظيرُ: ضارِبُو زيدٍ وضاربي زيدٍ .
و"الألبابُ" جمعُ "لُبٍّ" وهو العقلُ الخالي من الهَوي، سُمِّيَ بذلك لأحدِ وجهين: إمَّا لبنائِه من لَبَّ بالمكانِ أقامَ به، وإمَّا من اللُّباب وهو الخالِصُ، يقال: لبُبْتُ بالمكان ولبِبْتُ بِضمِّ العينِ وكسرِها، ومجيءُ المضاعَفِ على فَعْل بضمِّ العينِ شاذ، استَغْنَوا عنه بِفَعَل مفتوح العين، وذلك في ألفاظ محصورة نحو: عَزُزْتُ وسَرُرْتُ ولَبُبت ودَمُمْتُ ومَلُلْتُ، فهذه بالضمِّ وبالفتح، إلّا لَبُبْت فبالضمِّ والكسرِ كما تقدَّم .
مواضيع مماثلة
» الدر النظيم ... ( الآية 36 من سورة البقرة )
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 51
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :132
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية: 186
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :143
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 51
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :132
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية: 186
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :143
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود