منتدى مدينة أرمناز العام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

البحر في الأدب العربي /3 / ( عبد القادر الأسود)

اذهب الى الأسفل

البحر في الأدب العربي /3 / ( عبد القادر الأسود) Empty البحر في الأدب العربي /3 / ( عبد القادر الأسود)

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود السبت سبتمبر 18, 2010 9:54 pm

باب
البحرُ في الشعر الجاهلي والإسلامي

رأينا أنه من المناسب أن نجمع بين العصرين الجاهلي والإسلامي فيما يخص ذكر البحر في الشعر العربي نظراً لعدم حصول تطور كبير في نظرة الشعراء إلى البحر خلال هذه الحقبة من الزمن والتي امتدت حتى ما بعد نهاية العصر العباسي ، اللهم إلاّ عند شعراء الأندلس ولذلك
سنخصّهم بفصل مستقل لأنه كانت لهم تجارب غنيّة مع البحر فتميّز شعرهم عن شعر إخوانهم في المشرق العربي فيما يخص البحر نظراً لعمق هذه التجارب .
فمن المعلومِ أنّ حياةَ الصحراءِ بما فيها مِن إبِلٍ وخيولٍ وأغنام ، وما في الصحراءِ من واحاتٍ وسرابٍ ومَفاوزَ وكُثبانٍ ، كانت الطاغيةَ على تفكيرِ أهلِها وشعرِهم ، هذا بالإضافةِ إلى ما تتطلَّبُه هذه الحياةُ البدويَّـةُ ــ في الغالبِ ــ من خِيَمٍ وأعمدةٍ وأثافيَّ ، وما في هذه الحياةِ من تنقُّلٍ وتَرْحالٍ ، طلباً للمَرعى ، ثمّ إنّ الجَدْبَ والقَحْطَ دفعـا بالعربيِّ إلى الغَزوِ للسيطرةِ على المراعي وسلبِ مـالِ الآخرين ، فنشأتْ حياةٌ غلَب عليهـا الحزنُ ولوعــةُ الفراقِ ، وقــد ظهر ذلك كلُّه في شعرِهم وأدبِهم ، أمّا البحرُ فلم تَكن لهم معَه تجاربُ غنيّةٌ لأنّه كان استثنـاءً في حياتهم ، لذلك فإنّ المطّلعَ على الأدبِ العربيِّ بعامَّةٍ والشعرِ منه خاصةً ، لا يَكاد يسمعُ إلاّ وصفَ مفرداتِ هذه الحياةِ وتداعياتها ، من وَداعٍ وفراقٍ ووقوفٍ على الأطلالِ ، من أثافيَّ وأمكِنةِ الخيامِ وبقايا كان العربيُّ يقفُ عليها ليَبكيَ حِبّاً له ، كان قد أقامَ عليها مُـدّةً من الزمنِ ، ثم ما لَبِثَ أنْ تَرَكَها طَلَباً للكَلأِ ليَرعى ماشيتَه ، وربّما جَدَّ في إثْرِهم مُقْتَفِياً آثارَ إبِلِهم وأَغنامِهم .
أمّا البحرُ فلم يَذكُرْه العربيُّ إلاّ لِماماً ، حتى الذين ساكَنوا البحرَ كطَرَفَةَ ابنِ العبدِ ، فإنّ البحرَ لم يحظَ مِن شعرِه إلاّ بالنَّذرِ اليسيرِ ، ذلك لأنَّ حياةَ البداوةِ كانت الغالبةُ على العربيِّ ، فكانت مُفرداتُها هي الطاغيةَ في ثَقافتِه ، أمّا البحرُ ومفرداتُه فقد غابت عن كتاباتِه ، أو كادت ، الأمرُ الذي حملَ الشاعرَ مُصْعَبَ بنَ محمدٍ الزُّبيْريِّ الملقبَ بأبي العَرَبِ على الحُكْمِ بأنّ البَرَّ للعربِ والبحرَ للرومِ يقول:

لا تَعْجَبَنَّ لِرأسي كيف شــــابَ أَسىً
واعْجَبْ لأَسْوَدِ عيني كيف لم يَشِبِ
البحرُ للرّومِ لا تَجْري السفينُ به
إلاّ على غُــــــرَرٍ ، والبَـرُّ للعَرَبِ (1)
وقد اقترن البحر ــ عند من ذكره ــ بالرعب والخوف والغموض والظلام والإبهام ، يقول امرؤ القيس في معلَّقتــه الشهيرة :

وليلٍ كمَوجِ البحرِ أرخى سُدولَـهُ
عليَّ بأنــــــــواع الهُمُوم ليبتلي (2)
إذاً فالبحر مَجْلَبَةٌ للهمّ والغَمِّ والحزنِ والرعبِ والتتابُعِ اللاّمتناهي كالليلِ الذي تتوالى طوائفُه مضيِّقةً الخِناقَ على الشاعرِ ، فقد شبهه بالليلَ في ظلمته الطاغية التي تحول بين البصر ورؤية الأشياء،فتحُولُ ــ بالتالي ــ بين المرء وبين ما حوله فتُثير في نفسه الرعب والخوف والهلع لأنّ الإنسان ــ بطبيعته ــ يخاف المجهول الغامض ، تماماً كما هو حال البحر في اتساعه وفي موجه الطاغي الذي يثير في نفس الإنسان المخاوف ويعرّضه للمهالك . والملاحَظُ أنّه لــم يخصّ البحرَ مِن مُعلَّقتِهِ الطويلةِ إلاّ ببيتٍ واحدٍ ، فقط.كما جاء في الأمالي لأبي علي القالي الأبيات الآتية :

ألا هل للهمومِ من انْفِـراجِ وهل لي من ركوبِ البحر ناجِ

أكُـلَّ عشيّـةٍ زوراءُ تَهـــوي بنــــا في مُظلم الغمــرات ســاج

كأنَّ قـواذفَ التيــــار منهـا نِعَـــاجٌ تَرْتَمينَ إلى نِعــــــــــاجِ
يشُــقُّ المــاءَ كَلْكَلُهـا مُلِحّاً علَى سَحٍّ من المِلْحِ الأُجاجِ(3)
فالشاعر هنا يقرن الهموم التي تُلمّ بالمرء فلا تفارقه أبداً حتى يصلَ إلى حافّة اليأس فيظن أنْ لا انفراج لها ، ويشبهها بأخطار البحر المحدقة براكبه ، حتى إنّه ليستسلم إلى قدره ويوقن بدنوّ حتفه ، ويجزم الشاعر أن لا نجاة لراكب البحر ، مستخدماً أسلوب الاستفهام الإنكاري ((وهل لي من ركوب البحر ناج))؟
ثم يقول بأن هذه الهموم تأتيه كلَّ ليلة فكأنما سفينة زوراء تلقي به في لُجَّة بحر مظلم مخيفٍ عاتي الموج ، ويشبّه هذا الموج الذي تقذف به السفينة يمنة ويسرة أثناء سيرها بأفواج النعاج التي يرتمي بعضها فوق بعض، وهو تشبيه في غاية الدقّة والروعة ما أظن أنَّ أحداً سبقه إليه أبدا.
وقيل لبحّار: ما أعجب ما رأيت من عجائب البحر؟ قال: سلامتي منه. حتّى إنَّ شاعراً ساكَنَ البحرَ وعايَشَه ، كطرفة بن العبد ، فإن رؤيته للبحر كانت محدودة جداً ، لم تتعد وصف السفينة وصفاً خارجياً سطحياً ، حيث شبه الراحلة التي مضت بمن يحب تنهب الأرض ويتطاير من حولها الرمل لشدَّةِ سُرعتها شبهها بالسفينة التي تشق عباب البحر بحيزومها ، فيتطاير الزبد من حولها ومن خلفها ، فتقسم البحر كما يقسم المُفايلُ الرملَ أو الترابَ بيـــده ليرى فيما إذا كان الأمرُ الذي سوف يُقدم عليه خيراً أو شراً ، يقول طرفة :

كأنَّ حُـــدوجَ المالكيّـة غُــــــدوةً خلايا سفين بالنواصف من دَدِ
عَدوليَّة أو من سفينِ ابنِ يامنٍ يجور بها المَلاَّحُ طوراً ويهتـدي
يشقُّ حَبابَ الماءِ حيزومُها بها كمَــــا قسَّم التُرْبَ المُفايلُ باليَدِ
وأتلَع نهّـاضٌ إذا صَعَّدتْ بــــه كسُكّــان بُوصيِّ بدجلةَ مُصْعِدِ
(4)
فالشاعرُ ، هنا ، ألِفَ البحرَ ووعى حركةَ السفن فيه ، وأجاد المقارنة بينه وبين الصحراء ، لكن البحر لم يحظَ منه بكبير اهتمام , وإنّما بقي استثناء في حياته حيث لم نرَه ينفذ إلى أعماق البحر ، ولم يحـاول أن يكتشف كنهَهُ وأسراره وما أودع الله فيـــه من عجائب ، كما أنه لم يحاول أن يستلهم البحر كما رأينا عند الرافعي أو كما سنرى عند غيره فيما سيأتي وبنــاء على ذلك ، فإننا لا نستطيع اعتبار هذه المتفرقــات ((أدب بحر بحق)) لأنّ حياةَ العرب آنـــذاك ما كانت لتسمَحَ بنشوء مثل هكذا أدب ، حيث لا يمكن لشاعر ألِفَ حياةَ الصحراء وتَشَرَّبها ، أن يكتب قصيدةً بَحريّة ، وهذا شـاعرٌ كبير من شعراء العرب في الجاهلية ، وهو عمرو بن كلثوم لا يذكر البحر إلاّ ببيت واحد أيضاً في معرض هجائه الملك عَمْرو بن هنـد وتهديدِه ، مُفــــاخراً بشجاعـــةِ قومِــــه ووَفْــرَةِ عددِهم حيث يقول :

ألا لا يجهلنْ أَحَـــدٌ علينــــا فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
مَــلأْنا البَرَّ حتّى ضـاق عنّـــا وظهرَ البحرِ نَمْلَؤُهُ سفينــــا (5)
وقد شاع في هذا العصر تشبيه بعض الشعراء ممدوحيهم بالبحر في سخاء أيديهم وسعة صدورهم وأحلامهم ، من ذلك قول الشاعر العبّاسي الكبير ابن الرومي :

هُو البحر إلا أنَّ في جَنباته رُغاء المَطايا لا نقيق العَلاجمُ (6)

فإن ممدوحه وإن كان يشبه البحر في جوده إلاّ أنه يمتاز عنه بأنّ حماه كثير رغاء المطايا {الإبل} التي تحمل قاصديه ممن يلتمسون رفده، بينما يكثر حول البحر نقيق الضفادع {العلاجم}فقد صيّره بحراً على صفةٍ يُعدَمُها البحرُ لأنّ المطايا لا تَحُطُّ على البحار، فدلَّ على كرَمِ مَنْ حُطَّ إليه المطايا، إذ كان مقصوداً مرجوّاً لخيْر. وللمتنبي في كافور الإقشيدي قوله :

قواصدَ كافورٍ تَـوارِكَ غيره ومن قَصَدَ البحرَ اسْتَقَلَّ السَواقيا (7)
فالناس إنما يقصدون كافوراً فقط لما عنده من خير وفير ، ويزهدون فيما سواه ، لأن كافوراً هو البحر الذي يعطي الكثير ، بينما غيره قليل الوفر شحيح العطاء كالساقية ، وكيف يترك الناس البحر ويقصدون الساقية ؟! أمّا نجم الدين أفندي الأنصاري فإن ممدوحه من صنف آخر من الرجال صنف العلماء والعاملين والأولياء الصالحين ، ومع ذلك فهو في نظر الشاعر بحر إنما بحر علم وتقوى وليس بحر مالٍ وجدوى . يقول في مدح رسالة للبديعي كتبها عن ابن الحسين المتنبي ، فكانت عنده بمنزلة الدرّ من البحر ، فإذا قرأتها واطّلعتَ على مباحث هذا العالم العلاّمة ، ووقفتَ على سَعَةِ مداه وعظيم علمه ، علمت لماذا يشبَّه البحرُ بالعلماء . يقول :

رســالــةُ مَولانا البـديعـيّ رَوْضــــــــــــةٌ
تَنَزَّه فيهـــــــا السَّمْعُ والطَّرْفُ والفكرُ
أبانتْ مزايا ابنِ الحسـين التي بهـــــــــا
على شعراء الدّهر قَـدَّمَـــــــــهُ الشعْـرُ
وأسْـكَـرَتِ الأَلبـــــــــــــابَ حتّى كـأَنّـمـــــا
أَحاديثُهــــــــا المُستَحْسَنـاتُ بهـا خَسْرُ
ولا بِــــدْعَ أَنْ أَبْــــــــــدَى البَـديعي دُرَّهُ
إذ البحرُ منـــــــــــهُ دائمــاً يُخْرُجُ الدُرُّ
فكيف ومَن صِيغَتْ لَهُ العَــــــــلَمُ الذي
على مــــا بـــــــه الدهرُ الضنينُ سَخا الدَّهْرُ
أتاهــــــا ولَيْــــلُ الظُلْمُ مُــلْقٍ رواقــــــــَهُ
فلمّـــــا رأتْــــــهُ مُقبِــــــلا سَطَــعَ الفجْــرُ
إمـــــامٌ كَسَـا الشهبــــــاءَ ساطـعُ عدلِـــه
بَهـاءً علَى مَرِّ الـزَّمــــــــان لــــه الذكْـرُ
بمــــــــاذا يُجادُ القولُ في مــَدْحِ عـــالِم
بــــكل فــمٍ في كُــلِّ أرضٍ لَــــهْ شُـكْـــرُ
جَــــــــوادُ إذا ضَــنّ الجـواد بما لِـــــــــهِ
ولو لم يجُدْ أغنــــاكَ عن بَذْلهِ البِشْـرُ
إذا مـــــــا تصَــدَّى للعـلـــوم مُبَــاحِثـــــا
عَلِمْـتَ لمــــاذَا يشبــهُ العــــــالِـــمَ البحْـرُ
فيا واحـدَ الدُّنيـــا الذي جُمِعَت لـــه الْــ
ــمعـــالي كمــــا الأيامُ يَجمعُها الشهْرُ
ويا بــــنَ الحُســـــــــــــــــامِ والَّـــــذي بــــــه
بشَهْبائنــــا،مُذ حَلَّهـا ، حَصَـلَ الفخْـرُ
(Cool
وقد رأينا أنّه عندما شبّه الرسالة بالروضة أتى بما يستتبع ذلك من متعة البصر بالنظر إلى جمال خضرتها وألوان أزهارها ، ومتعة السمع بأصوات الأطيار ومتعة الفكر بالتفكر بجمال خلق الله وعظيم قدرته وبديع صنعه ، ولما شبه العالم بالبحر أتى بما يستتبع ذلك من درر ، فبحر الماء يخرج هذه الأحجار الكريمة والعالم البحر يخرج المباحث والعلوم .
وجاء الإسلام ، فشجع أتباعه على ركوب البحر جهاداً في سبيل الله وإعلاءً لكلمته ــ كما سبق أن بينا في الباب السابق عندما تكلّمنا عن البحر في الحديث الشريف ــ كما حثّهم على استِكْناهِ عالم البحار ، للوقوف على عظمة الله في خلقه ، وللانتفاع بما أودع الله في البحر من نعم ،قال تعالى : (( .. وسخّر لكـــم الفُلك لتجريَ في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار)) . (9) وقال سبحانه: (( ربُّكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيمَــاً )). (10)
وقد كانت للعربي ، بعد ذلك ، تجارب كثيرة مع البحار ، فقد ركبها فاتحاً مُجاهداً في سبيل الله ، ناشراً دين المحبة والسلام والعدالة والمساواة، كما حمل عليها بضائعه شرقاً وغرباً متاجراً ناشراً لدين الله بحسن أخلاقه وصدق معاملته ، حتى كان من دخلوا في الإسلام ، على أيدي التجار من المسلمين ، أضعــاف مـن آمنوا على أيدي الفاتحين ، لا سيّما في جنوب شرق آسيا ، تلك التي لم يطأها فاتح أبداً. وقد بدأت بواكير هذه العلاقة في عهد الخليفة الراشد الثاني ، عمر بن الخطاب عندما أمر بنفي الصحابي اللشاعر الفارس أبي مِحْجَنٍ الثقفيُّ {رضي الله عنهما} إلى جزيرةِ في البحر ، يُقال لها حَضَوْضَى ،لمّا كَثُرَ شربُه الخمرَ ، وأقام عمرُ بنُ الخطاب عليه الحَدَّ مِراراً وهو لا ينتهي وبعثَ معَه حَرَسِيّاً يُقالُ له ابنَ جَهْراءَ ، يعاونه عليه رجلٌ آخر ، وحذّره من أن يصلَ إلى يَدِ أبي مِحجنٍ أيُّ سلاحٍ ، لأنَّ أميرَ المؤمنين يَعلمُ بأنَّه لا قِبَلَ لابنِ جهراءَ بأبي مِحْجَنٍ فقد كان {رضي اللهُ عنه} من شعراءِ العربيّةِ وفرسانِ العربِ المعدودين ، لكنّ أبا محجنٍ كان قد احتاط لنفسِهِ وخبّأ سيفاً في كيس الدقيق فلمّا وصلوا إلى ساحل البحر أخرج أبو محجنٍ سيفَه ، فهَرَبَ الحارسان ، ولَحِقَ بقومه من بني ثقيف الذين كانوا يحاربون الفُرسَ تحت راية القائد الفذ الصحابيِّ الجليل سَعْدٍ بنِ أبي وقَّاصَ {رضي الله عنه} على جبهة العراق ، وكتب سعد إلى أمير المؤمنين يعلمه بوصول أبي محجنٍ إليه ، فأمره أميرُ المؤمنين بحبسه ، فلمّا احتدم القتال في القادسية حتى وصلوا الليلَ بالنهار ، وتعالت الأصوات ، بكى أبو محجنٍ فرقت له زوجُ سعد ، وحلّت وثاقه بعد أن أعطاها موثقاً من الله أن يعود إلى قيده إن هو لم يقتل في سبيل الله ، وأعطته فرس سعد ، فركبها وانطلق كالسهم إلى المعركة ، ورأته إحدى النسوة ، فظنّتْهُ قد هَرَبَ من المعركة ، فقالت :

مَنْ فارسٌ كَرِهَ النِزالَ يُعـيرُني سيفً إذا نَـزَلوا بمَـرجِ الصُفَّرِ
فأجابها :
إنَّ الرجالَ على الجِيادِ مَبيتُهم فَدَعي السُيوفَ لأهلِها وتعطَّري
واقتحم مقدّمةَ جيش العدوِّ حتى خرج من المؤخَّرةِ ، والتفَّ على الميمنةِ حتّى خرجَ من الميسَرَةِ فزعزع صفوفَ العدوِّ ودبت فيها الفوضى وانتشر الهَلَعُ، وكان الفجر قد بشَّر فعاد إلى قيده ، وكانت ليلةً قَمْراءَ ، كان فيها القائدُ سعدٌ يُراقبُ المعركةَ من بُرجٍ له بسببِ وعْكةٍ صِحيّةٍ ألمّتْ به يومها ، فقال : الطعنُ طعنُ أبي محجنٍ والضَبْرُ ضَبْرُ البَلْقاءِ {اسم فرس سعد} ولولا أنّي تركتُ أبا محجنٍ في القيدِ والبلقاءَ في الاسطبلِ لقلتُ : هي البلقاءُ وهو أبو محجنٍ ، وانجلى غبارُ المعركةِ بنصرِ المسلمين ، وعاد سعدٌ إلى مَرجِ الصفّر {المكان الذي كان جيش المسلمين يعسكرُ فيه} فوجد البلقاءَ أمام معلفها ، ووجدَ أبا محجن في قيدِهِ ، وحدّث زوجَه في أمر ذلك الفارس المجهول الذي غيّر مجرى المعركةِ ، فأنبأته ما كان من أمر أبي محجنٍ ، ففك قيدَه وأطلق سراحَه قائلاً : لك علينا ألاّ نجلدَك عليها {الخمرة} بعد اليوم فقال أبو محجنٍ : وأنت لك عليَّ ألاّ أذوقَها بعد اليوم .
لقد كان هذا استطراداً مفيداً {في رأينا} أمّا ما يخصّ ذكر البحر في شعر أبي محجن في هذه القصة فقد جاء من خلال حديثه عن هَرَبِهِ منِ ابنِ جَهْراءَ الذي كان أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب {رضي الله عنه} قد أوكل إليه أمر اصطحاب أبي محجن إلى جزيرة في البحر وحبسه فيها ، يقول أبو محجن {رضي الله عنه}:

الحَمْــدُ للهِ نَجّـــاني وخَلّصني
من ابن جَهْراءَ والبُوصِيُّ قد حُبِسَا
من يَجشَمِ البَحْرَ والبُوصِيُّ مَرْكبُــــه
إلى حَضَوْضَى فبئْس المَرْكبُ الْتَمســـــا
أبلـــغْ لَـــدَيْـك أبا حَفْصٍ مُغَلْغَلــــــــــةً
عبدَ الإِله إذا مــا غــــارَ أو جَلَسَـــــــــا
أغشَى الهِيــــاجَ وتَغْشاني مُضـاعَفـــــةٌ
من الحَدِيد إذا مـا بعضُهـم خَنَسَــــا
أَنِّي أَكُـــرُّ على الأُولى إذا فَــزِعــــــــوا
يوماً وأَحبِسُ تحتَ الرّايةِ الفَرَسَـــــــا
(11)
وفي هذه القصيدة يحمد الشاعرُ اللهَ أن نجّاه من أسرِ ابنِ جهراء ومن المركب الذي كان سيذهب به إلى الجزيرة التي أمر الخليفة بحبسه فيها ، ويذكّر أميرَ المؤمنين ببلائه في المعارك ، ملمّحاً إلى أنّ حبسَ فارسٍ مثله ، وإقصاؤه عن نصرة جيش المسلمين كان من الخطأ .
ثم كان للعرب بعد ذلك بعض من تجارب في خلافة سيدنا : عثمان بن عفّان {رضي الله عنه} حين وجه بغزو الروم والاستعداد لملاقاتهم في البحر وتم ذلك انطلاقاً من بلاد الشام على يد واليها الصحابيِّ الجليل:معاوية بن سفيان {رضي الله عنه} بمعركة ذات السواري بين العرب المسلمين والروم في البحر المتوسط فكان النصر حليف المسلمين وتشتت جيش الروم في البحر وانهزم كما انهزم في البر ، وكان الصدى الأول للعلاقة مع البحر في الشعر العربي ، فقد كان معاوية يُغزي اليمن في البحرِ وتميماً في البرِّ فقال النجاشي وهو شاعرُ اليمن :

ألا أيّها النـــــــــــــاسُ الذيـن تجمّعوا
بـ {ـعكّـا}أُناسٌ أنتُــــــــــــمُ أم أَباعِرُ
أيَترُكَ قيْسـاً آمنين بدارِهـــــــــــــــــم
ونَركَــبُ ظَهرَ البحرِ والبحرُ زاخرُ
فــو اللّــهِ مـا أَدري وإنّي لَســـــــــائلٌ
أهمدان تحمي ضيمَهـــــا أم يُحابِر
أم الشرف الأعلى من أولاد حمْيرٍ
بَنـو مــالكٍ أنْ تُسْتَمَــرَّ المَــرائــــــــــرُ
فرَجَعَ القومُ جميعاً عن وجهِهم ، فبلغ ذلك معاويةَ فسكَّن منهم وقال: أنا أُغزيكم في البحرِ لأنّه أرفَقُ من الخيلِ وأَقَلُّ مَؤنَةً ، وأنا أُعاقبُكم في البَرَّ والبَحرِ ففعلَ ذلك . (12)
وغزا بعضُ الأعراب البحر من ناحية صُور وكان الوالي الذي أغزاه هو الأسود بن بلال بن أبي بُردة ، فلما رأى أهوالَ البحر كاد عَقلُه أن يزول ثمَّ تماسك وقال:

أقولُ وقد ولَّى السَّفينُ مُلجِّجاً
وقد بَعُدتْ بَعْدَ التَّقرُّبِ صُــــورُ
وقد عصفتْ ريحٌ وللمَوج هِزَّةٌ
وللبحر من تحت السَّفين هديرُ
ألا ليـت أجري والعطاءَ معاً لهم
وحظِّي قُتودٌ في الزّمــام وكُورُ
فللّهِ رأيٌ قادني لسفينـــــــــــــــةٍ
وأخضَرَ مَوَّارِ السَّـــرابِ يَمورُ
ترَى متنَه سهلاً إذا الرِّيحُ أقلعتْ
وإنْ عصفتْ فالسَّهلُ منه وعورُ
فيا بنَ بلالٍ للضَّــــلال دعوتَني
وما كانَ مثلي في الضَّـلالِ يســيرُ
لئنْ وقعتْ رِجلايَ في الأرضِ مرَّةً
وكانَ بأصحــــاب السَّفــين كرورُ
وسُــلّمـت مـن موجٍ كأن مُتـونَه
حِراءٌ بدت أركانُــــــهُ وثَبـــــيرُ
ليعترضنَّ اسمي لدى العَرضِ خِلفةً
وذلك إنْ كانَ الإيابُ يســــيرُ
(13)
وهكذا نرى أن العربي قد ركب البحر على مضضٍ ، لأنه ما زال يخشاه، وإنّ تلك الصورة المخيفة التي استولت على لب العربي وتغلغلت في ثنايا ثقافته منذ نشأته لم تتغيّر بعد مع توقه الشديد إلى الجهاد في سيبل الله إعلاءً لكلمته ونصرة لدينه ، ومع حبه القوي للشهادة في سبيل الله .
وكما برع الشاعر العربي في وصف البحر وأهواله ، كذلك برع في وصف السفن التي رآها أو ركبها ، وفيما يأتي استعراض سريع لأحسن ما قاله شعراء هذه الحقبة من شعر في وصف السفن والمراكب ، يقول المَرْيَمِىِّ:

لمْ نزَلْ مُشفِقِين مُذْ قِيلَ سارتْ بك دُهْــمٌ قَلِيلَـــةُ الأَوْضــــاحِ
كلُّ مَبْطُوحَـةٍ خَلَتْ مِن شَـوًى عَبْلٍ ومِن حافرٍ أَقَبَّ وقَاحِ
أَصْلُها البَرُّ وهي ساكنةٌ في البَحْــــــــــــــــــــرِ سُــكْنَى إقَامـــــةٍ لا بَرَاحِ
هيَ في المَاءِ وهْـي صِفْرٌ من الما ءِ سِوى نَضْحِ مَوْجِهَا النَضَّاحِ
وإذا أُوقِــرَتْ فَــــــــــذاتُ وَقَارٍ وإذا أُخْلِيَتْ فَـذَاتُ مَـــــــراح
وإذا ما انْثنـتْ ولم يَسمَحِ الها دِي ثَنَاهُ الحادِي إلى الإِجماحِ
وتَرَاهـا في اللُّــجِّ ذاتَ جنَـــاحَيْــــــــــــــنِ وإنْ لــم تَكـنْ بـذَات جَنَــاحِ
مِـن مَطَــايَا لا يَغْتَـديـن ولا يَسْــــــــــــــأَمْـنَ كَــدَّ البُكُـورِ بَعْدَ الرَّوَاحِ
مُنْشَآتٍ من الجَوَارِي اللَّـوَاتي لَسْنَ في صَنْعةِ الجَوَارِي المِلاَحِ
تالِـــداتٍ مُـــولَّـــدَاتٍ بـــلا حِـــــــــــــــــلّ نِكــاحٍ ولا حَـــرَامِ سِفَـــــاحِ
لا مِنَ البِيضِ بلْ مِن السُّودِ ألْوَا ناً ذَوَاتِ الأَلْــــــــــواحِ لا الأَرْوَاحِ
جــارِيَاتٍ مع الـرِّياح وطَوْراً كـاسِرَاتٍ بالجَرْيِ حَدّ الـرِّيَـاحِ
ســــارياتٍ لا يَشتكـين سُرَى اللَّيــــــــــلِ ولا يـرتَقِبْـنَ ضَـوْءَ الصّبــاحِ
ســــاكِنَاتٍ لا خُضُوعَ سُـكُونٍ جامحـاتٍ لا اعْـــترامَ جِمَـــاحِ
سابِحَاتٍ في كُلِّ طامٍ عَمِيقٍ يتَّقِيـــــــهِ مُقَحَّمُوا السُّبّـــــــــاحِ
لا يَخَفْنَ الغِمَارَ يُقْذَفْنَ فيها ويَخَفْـنَ المُـــرُورَ بالضَحْضــاحِ
إنْ صَدَمْنَ الحَصَى عَطِبْن ولا يَعْـــــطَبْـنَ إمَّـا صَدَمْنَ حَدَّ الرِّمَاحِ
ما رأى الناسُ من قُصُورٍ على الما ءِ سِـــــــواهَا تَمُـرُّ مَـــرَّ القِدَاحِ
يَتَسَبْسَبْـنَ كالأَســاوِدِ في الخِــــــــــــــــــــــــفَّــةِ لا في مَقَادِرِ الأَشبــاحِ
وإذَا مــا تَقَــابَلَـــتْ قُلـــتَ سُـودٌ مِـن كِبَــاشٍ تَقَــابلَـتْ للِنِّطـاحِ
شُرْعُها البِيضُ كالغَمَامَاتِ في الصَّيْـف ضِحَاحاً منهـا وغيرُ ضِحَاحِ
كــم مُــدِلٍّ بالمـــالِ والنَّفْسِ حَيْـــرانَ فقـيرٍ فيها إلى المَـــــــــــــــلاّحِ
هـــو فَسْــلٌ وربّمــا كافَــحَ الفَسْــــــــــــــــلُ وُجُوهَ الرَّدَى أشدَّ كِفَاحِ
قائِــــــدٌ جُنْــــدُهُ لَهُـــــــــمْ أَدَواتٌ نَفْعُهَا ثَمَّ فَوْقَ نَفْـــعِ السِلاحِ
فإذا البَحْــرُ صــالَ صــالُـوا عليــه بمَوَاضٍ تَمْضيِ بغَيْرِ جِرَاحِ
يُكْثِـرُون الصِّيـاحَ حتى كأنَّ السُّفْنَ تَجْرِى مِن خَوْفِ ذَاك الصِّيَاحِ
(14)
فقد أشفق الشاعر من اعتلاء صهوة هذه الخيول الدهم التي ليس لها قوائم ممتلئة ولا حوافر صلبة ، وهذه الخيول أو المراكب مقيمة في البحر لا تبرحه وإن كان أصلها من البر وهي خالية من الماء بالرغم من وجودها الدائم فيه ، وقورة هادئة إذا حملت الأثقال ، مرحة كثيرة الحركة إذا كانت خفيفة الحمولة ، إذا حاول هاديها (صدرها) الرجوع حمله الحادي (الربان) يتابع سيره إلى الأمام ، إذا أبصرتها في البحر حسبتها طائراً ذا جناحين وهي ليست كذلك إذ لا جناح لها ، وهذا المطايا لا تغتدي (تنطلق في الغداة) لأنها متواصلة السير تصل الرواح بالغدو ، وهذه الجواري في البحر ليست من صنع الجواري الحسان من النساء ولم تولد من زواج حلال ولا من زنى حرام ، وإن أمهاتها ليست من البيض الحسان الحرائر وإنما من السود الإمـاء الجواري ، قوامها الألواح لا الأرواح ــ وفي هذه القصيدة الكثير من البديع والزخارف اللفظية من جناس وطباق وغير ذلك ــ وهذه السفن تراها تجري مع الرياح حيناً وتسبقها حيناً آخر وهي في جريها جادة السُرى لا تتعب من سير الليل ، ولا تنتظر طلوع الفجر لتستريح كما هي عادة السُراة في الليل ، وإذا سكنت فليس سكوناًً تاماً ، وإذا جمحت فجماحها ليس شديداً فهي معتدلة إذا جمحت ، متحركة حركة خفيفة إذا وقفت ، وتسبح فلا تخشى الأعماق ولا تتجنبها ، لكنها تخاف الماء القليل الضحضاح وتتجنبه بخلاف السابحين المهرة الأشداء الذين يخشون الأعماق ويتجنبونها ويفضلون الأماكن قليلة العمق ، وهذه السفن عجيب أمرها إذ إن تتحمل الرماح ولا تتأثر إذا اصطدمت بها ، وتتأثر إذا اصطدمت بالحصى بالغ الأثر فتعطب ، وعجيب أمرها أيضاً إذ تسير بسرعة السهم بالرغم من كونها ضخمة كالقصور ، وتسير سيراً ليناً كالأسود الرشيقة بالرغم من ضخامة جسمها ، فإذا تقابلت هذه السفن بدت وكأنها كباش ضمة سوداء اللون برزت إلى الساح في معركة نطاح ، و أشرعتها البيضاء تبدو وكأنها غمامات الصيف سواء أكانت متأنية (ضاحية) أو مسرعة (غير ضاحية) لأن غمام الصيف إنما يكون أبيض اللون لأنه غير ماطر بينما يكون في الشتاء داكناً لأنه مثقل بقطرات المطر، والركب في هذه السفن مهما كان قوياً ذا جاه ومال وسطوة لا بد من أن يكون لين الجانب سهل العريكة تجاه الملاح قد وضع مصيره في يد الملاح وملكه أمره عندما ركب السفينة ، وهذا الملاح ضعيف عاجزٌ {فَسْلٌ ، أو سافل} لكنه هنا قائد همام ، وقد يقاوم الضعيف العاجز أشدّ المقاومة ويكافح أيما كفاح إذا ما دهم الخطرُ وعربد الموج ، وإن جنود هذا القائد بيدهم أدوات بسيطة لكنها هنا أنفع من السلاح وأجدى ، فإذا زمجر البحر وهاجمتهم أمواجه قابلوه بأسلحتهم الماضية فصارعوه وغالبوه ، فانتصروا عليه دون أن تترك أسلحتهم فيه أثراً من دم أو جراح وتراهم يصيحون ويصرخون فتسرع السفن في سيرها وكأنها تأتمر بأمرهم وتخاف صياحهم فتخضع مخافة هذا الصياح .
وقصيدة المريمي هذه من أحسن القصائد وهي أجودها على في هذا الباب ، ألا ترى إلى بديع صورها وعميق معانيها ومتين سبكها ؟ فهي لوحة بديعة ، لا ترقى إليها أنفس اللوحات الفنيّة وما أظن {الجوكندا} بقادرة على منافستها بجمالها وعمق أحاسيسها ودقة تعابيرها.
وهذه قصيدة بديعة أيضاً لعليّ بن جبلة في وصف السفينة وإن كانت دون قصيدة المريمي من الناجية الفنية ، يقول :

ومُغْلَولِبِ الآذىّ يَسْمُو لمـــــــــــدِّه غَوَارِبُ فيها المَوتُ بالمَوْتِ يَرْتَمِى
كأنَّ اعتلاجَ الماءِ في حَجَراتِهــــــا تَرَاطُنُ عُجْــــمٍ رَجَّعتْ بالتَّطَمَطُمِ
مَطَوْنَا على أَقْرَابِهِ جَرْمَقِيَّــــــــــةً بَعِيدَاتِ قُرْبَى مِن جَدِيلٍ وشَدْقَمِ
من الدُّهْـــــــم لم تُنتَجْ لأُمٍّ ولا أبٍ ولا تَشتِكي أَيْنَ السُّرَى والتَّجَشُّـــمِ
مُوَكَّدةُ الأَسْماعِ لا يَستحِثُّهَــــــــــا بزَجْرٍ ولا يَرْتَاحُهـــــــــــا بالتَّرنُّمِ
إذَا ما المطَايَا قُوِّمتْ مِن رُؤُوسهـا فأَذْنَابُهَا منها هُـــــــــــدىً للِتَّقَوُّمِ
تَسِير إذَاسَارَت بأرْوَاحِ غيرِهــــــــا مُركَّبَــــةً في غَيْر لحْــــمٍ ولا دَمِ
يُسَابِق لَحْظَ العَيْنِ أفْتَرُ سَيْرِهَـــا ولا تُقْتَفَى آثَارُهَـــــــا بالتَّرَسُّــــم
نَوَاجٍ إذاكَفْكَفْنَ ذَرْعَ بَطِيحــــــةٍ رَدَدْنَ شَبَــا آذِيِّهَـــــــــا المُتَعجّمِ
بأجْنِحَةٍ قَدْ رُكِّبتْ في رُؤوسِهَــــا مُرَنَّقَــةٍ كالمَضْرَحِىِّ المُــــــدَوِّمِ
يَمُرُّ هُوِىَّ الرِّيح تَحْسبَ شَقَّهــــا بحَيْزُومِهَا في الماءِ مُنْسَابَ أرْقَمِ
تَرَامى بها الأمواجُ وهي تَصُكُّهـــا برَأْسٍ يُفَرِّى هامَةَ المَوْج صِـلْدِمِ
كأنَّا وقدْ دَارَتء بنا الرّيحُ تَحتَها مَتَايِيــهُ في دَاجٍ مـن اللّيلِ مُظلِم
(15)
يقول الشاعر إنّ هذا البحر الهائج الصاخب يتصدى له في اندفاعه ومده سفن سوداء كأنها الغربان {غوارب} تضرب الموت بالموت فإذا ضربها الموج سمعت له صوتاً مبهماً كأنه رطم الأعاجم ، وهذه القارب هي {جرمقية، نسبة إلى الجرامقة} وليست قريبة من جَديلٍ وشَدقَم {وهما فرسان للملك النعمان بن المنذر} وهي دهم ليس لها أب ولا أمّ وليست بذات إحساس فهي لا تشكو التعب ولا طول السفر ، ولا يؤثر فيها الزجر فتسرع ولا تطرب لجميل صوت فتهدأ ، وهذه السفن {المطايا} تقاد بأرسان في أذنابها بينما غيرها من المطايا تقاد بأرسان في رقابها ورؤوسها ، إذا سارت فإنّما تسير بأرواح غيرها لا بروحها ، لأنها ليست من لحم ودم وأبطأ سيرها يسبق البصر فكيف بها إذا أسرعت ؟ ولا تستطيع العين أن تقتفي آثارها بالرسوم كما هي العادة باقتفاء الآثار فإذا هاج البحر وأرغى وأزبد تكون النجاة بكفكفة أشرعتها تلك التي تنبسط في أعاليها كأجنحة النسر طويل الجناحين {المُضرحيّ} حين يحلق {يُدوِّم} صافاً {مرنّقاً} جناحيه في الفضاء ، يندفع هذا المركب في البحر بسرعة كما تهوي الريح فيشق بحيزومه (مقدمته) الماء فيبدو كما لو أنّ ثعباناً {أرقما} يتلوى في سيره ، ويتقاذفها الموج فتلطم رأسه برأس صلب {صلدم} فتهشمه ، فإذا عصفت بها الريح من تحتها تدور بنا فكأنما ضللنا في ليل مظلم، وهكذا نرى الإنسان قديماً في معارك مستمرة مع البحر وحرب سجال لا انتهاء لها ، حتى يستطيع الإنسان بمخترعاته أن يروض البحر ويؤنسنه فتختلف نظرته إليه ويختلف الخطاب ويعذب الشعر كما رأينا في نثر المنفلوطي وكما سنرى في الشعر الحديث إن شاء الله .
ولأبي نواس،الحسن بن هانئٍ في وصف السفين نصيب حيث يقول :

بُنِيَتْ علَى قَدْرٍ ولاَءَمَ بينَها طَبَقـان مـن قِـيرٍ ومـن ألْــواحِ
فكأنَّهَا والماءُ يَنْطَـحُ صَـدْرَها والخَيْـزُرانـــــــةُ في يَـدِ المَـلاّحِ
جَونٌ من العِقْبَانِ تَبْتدِرُ الدُّجَا تَهْوِى بصَوْتٍ واصْطفاقِ جَنَاحِ
(16)
يقول أبو نواس في وصف السفينة أنها قد بنيت بدقة وحسب مخطط مرسوم وهي عبارة عن ألواح من الخشب مطلية بالقطران ليمنع تسرب الماء إليها ، فإذا نظرت إليها حين يضرب صدرها الموج ويمسك الملاح بالمجداف ليوجهها ويسير بها حسبتها عقاباً أسود اللون {جَون} يطير في الليل وينقض رافعاً صوته مصفقاً بجناحيه . أما قيس بن الجهم فيقول :

أُجالِـــدُ صَفَّهم ولقد أرَاني على زَوْرَاءَ تَســــجُدُ للرّياحِ
إذا قَطعَتْ برَاكِبها خَلِيجاً تّذكَّرَ ما عليه مـــن جُنَـــاح
ونَحْنُ على جوانِبِهَا قُعُودٌ نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإبلِ القِمَاحِ
(17)
يقول: أنا اليوم أُجالِدُ صَفَّهم، ولقد كنت على حالٍ غير هذه. حيث ركبت زوراء تسجد للرّياح يعنى السفينة تطيع الرِّيح حيث مالت بها ، فإذا سارت تذكّر راكبها ذنوبه خوفاً أن يدركه الغرق. ويصف الراكبين على متنها بالخوف مشبهاً لهم بالإبل التي تقف رافعة رؤوسها {قامحة} خافضة طرفها {ذليلة} . وقال أبو الشيص يصف سفينة ركبها قاطعاً على ظهرها البحر :

وبحر يحار الطرف فيه قطعتـــــــهُ
بمهنوءةٍ في غير عَرٍّ ولا حَـــــــرَبْ
مُقيلةٍ لا تشتكي الأيـــــــــن والوجــا
ولا تشتكي عضَّ النُسوع ولا الدَأَبْ
يشقُّ حبابَ الماء سُرعةُ جريهــــــــا
إذا ما تفرّى عن مناكبهــــــا الحبَبْ
إذا اعتلجت والريح في بطن لجــــةٍ
رأيت عجاج الموت من خوفها يثبْ
ترامى بها الخُلجانُ من كل جانبٍ
إلى متن مُغبرِّ المسافة مُنجَذِبْ (18)
يقول أبو الشيص أنه قطع بحراً عظيماً واسعاً مترامي الأطراف على ظهر سفينة مطلية بالقطران ، في غير ضيق ولا عداوة ، ولم تكن هذه السفينة لتشتكي من ألم في حوافرها لطول السير أو من جروح في جسدها من تأثير الحبال ، كغيرها من المطايا رغم مواصلتها السير ، وهي في سيرها هذا تشق الماء لسرعتها ، وترى الموج يثب من حولها عند اشتداد الريح خوفاً منها ، وهي مديمة السير الإبحار لاتكاد ترسو في خليج حتى يقذف بها إلى غيره على ظهر بحر واسع لا ترك سواحله . وقال أحمد بن أبي طاهر يصف السفينة التي أقلته في رحلته إلى ممدوحه :

إلى أبي أحمـــــدٍ أعملتُ راحـــــــلتي
لا تشتكي الأين من حلٍّ ولا رَحَـلِ
تسري بمُلتطم الأمـــواج تحسَبُــــــــــــه
من هولــــه جبـلاً يعلو علَى جبــــلِ
كأن راكبها إذْ جــــــــــــــدَّ مُرْتحـــــــلاً
بالســـــير منها مقيمٌ غــــــــــيرُ مرتحلِ
لجامُهـــــــا في يـــــــــد النوتيِّ من دُبُرٍ
مُقـــــــــوّمٌ زَيْغَهــــا والميْـــلَ من قُبـــلِ
ما زال سائقهــــــــــا يجري علَى مهلٍ
جرياً يفوتُ اجتهــــــادَ الخيل والإبلِ
حتَّى تناهت إلى حيثُ انتهى شرف
الدُّنيا وأشرفَ باغيها علَى الأمل(19)
فالسفينة {الراحلة} التي ركبها الشاعر إلى ممدوحه {أبي أحمد} سلسة مطيعة صبور تتوجه حيث وجهت وتتوقف حيث أوقفت ، وتمضي غير عابئة بالموج المعالي من حولها كالجبال ، والركب فيها المبحر بها في غاية الراحة والاستقرار وكأنه مقيم في بيته ، وهذه الراحلة ذات مقود إنما في ذيلها ، وهذا المقود في يد قائدها {النوتي} يوجه مقدمتها حيث شاء ، فيضبط وجهتها ويردها إلى طريقها إذا ما ضلّت الطريق ، وبالرغم من سيرها الوئيد الهادئ فهي أسرع من الخيل والإبل، وما فتئ يسير حتى بلغ شرف الدنيا بوصوله إلى الممدوح {أبي أحمد} فأشرف على أمله واقترب من تحقيقه وبلوغ مراده. وله أيضاً :

مخضرمة الجنبين صادقــــة السُّرى
يُراقب فيها الركب من لا يراقبُـــــــهْ
تكادُ نفوسُ القوم تجري بجريهـــــــا
إذا غالبت من موجهــــا ما تغالبُــــه
تصفُّ حُبابَ الماءِ عن جنباتهــــــــــا
إذا البحر جاشت بالسفين غواربـــه
(20)
أ ما ابن الرومي فقد قال يصف السفينة ركبها قاصداً ممدوحه أيضاً :

أ1ــ إليك ركبْنـا بطنَ جوفاءَ جَـوْنـــــــةٍ
تَخايَلُ في دِرْعٍ من القـــــــــــــــــــارِ فاحِــمِ
ب1ــ تُـواهِقُ أشبـاهـــــــــــــــاً لهــــــــا ونَظـائراً
مُلَمَّعــــةً بالرَدْعِ سُفْـعَ المـــــــــــــــــــــــــــــــَلاطِـمِ
ج1ــ إذا هي قيست بالنُسورِ تشــابهت
بأجنحــــــةٍ خفّـــــاقــــــةٍ وخـــــــــــــــراطِمِ
د1ــ تَطـير عـلى أقفـائهـــا وظهــورهـا
بمصطخب التيّــارِ جَــمِّ الزَمـــــــــــــــازِمِ
هـ1ــ إذا أعْجَلَتْ لم يُسْتَرَثْ طـيرانُهــــا
وإن أَمْهَلَتْ زُفَّـتْ زفيفَ النَعـــــائــــمِ
و1ــ وإن أيقنتْ أن سوف تقطعُ زاخراً
إلى زاخـــرٍ بالغـــارقـــــــــــات التوائــم
ز1ــ هـــو البحرُ لا ينفــــــكُّ في جنباتِــــهِ
رُغــاءُ المطايا لا نَئيــمُ العَـــــــــلاجِــمِ
(21)
فهو قد ركب إلى ممدوحه سفينةً واسعة البطن سوداء اللون {جونة} تتباها وتختال بدرع من القار {الإسفلت} الأسود ، الذي ترتديه، وتسير متبخترة ، مباهية لِداتها وقد برزن جميعاً بخدود سوداء اللون {سُفع الملاطم} ملطخات بالطيب ، هي تشبه النسر، فشراعها كجناحيه، ومقدَّمتُها كمنقاره ، وهي كالنسر الذي يتقلب في السماء فيطير على ظهره أحياناً ، فهي تجري مسرعةً تميل أحياناً وتعتدل أحياناً أخرى في نهرٍ غزير المياه مزمجر التيار مختلط الأصوات ، إن أسرعت تكادُ تطير ، وإن تمهلت تهادت في مشيتها كالنعامة ، وهي في جميع الأحوال متيقنةً بأنها سوف تقطع نهراً زاخراً بالخيرات والكنوز إلى مثله غنى وجوداً ، لكنّ جنبات هذا النهر {الذي يسميه الشاعر بحراً ربما لغزارة مياهه} تعجّ بنقيق الضفادع {نئيم العلاجم} بينما جنبات البحر الآخر {ممدوحه} تعجُّ بالمطايا التي يمتطيها قاصدو بِرِّه ونواله .
وللبُحتريِّ في وصف مركبٍ لأحمدَ ابنِ دينارَ بن عبد الله ، والي البحر ــ وقد غزا على مركبه الروم ــ قصيدة من عيون الشعر العربي ، وكيف لا وهو المشتَهَرُ بالوصف ، يقول :
أ2ــ ولمّـــا تولّى البحرَ ، والجودُ صِنْوُهُ
غـدا البحرُ من أخـــــــــلاقـــــه بـين أبحُـرِ
ب2ــ غدونَ على الميمون صُبْحاً،وإنَّمـــا
غـدا المركبُ المــــــــــأمـونُ تحـت المُظفَّـرِ
ج2ــ إذا زمجرَ النُوتيُّ فوق عَـــــــــلاتِهِ
رأيتَ خطيبــــــــــــــــــــــاً في ذُؤابــةِ مِنْبَرِ

د 2ــ يُغْضونَ دون الإشتيــــامِ عُيونَهــم
وقوفَ السِمَـــــــــــــــــــاطِ للعظيمِ المُؤَمَّرِ
هـ2ــ إذا عَصَفت فيه الجنوبُ اعتلى له
جَنـاحــا عُقابٍ في السَمَـــــــــاءِ مُهَجِّرِ
و2ــ إذا مـا انْكَفـا في هَبْـوةِ المــــاء خِلْتَــهُ
تلَفَّـــــع في أثنــــــــــــــــاءِ بُـرْدٍ مُحَبَّرِ
ز2 ــ كأنَّ ضجيجَ المـــاء بين رمــــاحِهم
إذا اختلفتْ تَرْجيعُ عَوْدٍ مُجَرْجِرِ (22)
يصف البحتريُّ المركبَ الذي امتطاه ممدوحُه وغزا عليه الرومَ وصفاً دقيقاً رائعاً ، إذ يشبِّهُ رُبّانَ السفينةِ بالخطيب يعتلي المنبرَ لتنتظم أمامَهُ الصفوفُ مقـدِّمةً آيات الطاعة ، والاحترام منصتةً إليه ، فإذا هبّت عليها ريحُ الجنوب رفعَ شراعه فبدا عُقاباً يبسط جناحُيه في السمَـاءِ وقت الظهيرةِ، مذكّراً لنا بصريع الغواني وابن الرومي ، حيث شبَّهَ كلٌّ منهما السفينة بالطير الجارح {النسر أو العُقاب} كما يشبه زَبَدَ الماءِ بالبُرْدِ المزيّن المطرَّزِ تتلفّع به كصبيّةٍ ساحرة الجمال ، ويشبِّه صوت الموج بصوت الجمل المُسِنِّ {العَوْد}.
ونلحظ في القصائد السالفة الذكر قوَّةَ ارتباط الشاعر العربي ببيئته الصحراوية ، يظهر ذلك من المفردات التي استعملها في الحديث عن البحر والسفن ، وتشبهها بأشياء ومخلوقات اعتاد أن يراها في بيئته ومحيطه ، ((الجمل، العَوْدُ ، القَرْهَبُ ، القنّة ، النسر ، العُقاب ، الوعثاء، المدبّ ،النعائم ، العلاجم ... الخ )) وهي جميعُها من مفردات الحياة الصحراوية التي ألفها العربي طويلاً، وما زالت موجودة في موروثهِ الثقافي، فقد ظلَّ العربيُّ ، حتى أواخرِ العصرِ العباسيِّ ، قليلَ الاهتمامِ بالبحرِ، ولم يتغلغلْ البحرُ في أعمــاقِ نفسِه ليَظهرَ أثرُ ذلك في شعرِه ونثرِه ، اللهمَّ إلاّ عَـرَبَ الأندلسِ الذين عَبَروا إلى البَرِّ الأندلسيِّ عَبْرَ البحرِ ، وكانت علاقتُهم به وتَجاربُهم معه أَغنى من إخوانِهم المَشرقيّينَ ، كما سنرى ذلك مفصّلاً عند دراستِنا أدبَهم فيما يأتي . وقول المَرْيَمِيِّ: أحسنُ ما قيل في السُّفُن والمَراكِب ، إلا إن مفردات الحياة الصحراوية، بقي لها حضورها القوي ، حيث زاوج الشعراء المسلمون بينها وبين البحر عند تناولهم وصف البحر والسفن ، بيد أنهم لم يتجاوزوا الصورة والشكل، ولم ينفذوا إلى أعماق مكنوناته ليكتشفوا أسراره ، من ذلك قول الشاعر العباسي مسلم بن الوليد الخزرجي واصفاً البحر والسفن :

1 ــ ومُلتَطِمِ الأمواجِ يَرْمي عُبابُهُ
بِجَرْجَــــرَةِ الآذيِّ للعِبْرِ فالعِبْرِ
2 ــ مُطَعَّمَـــةٌ حِيتـانُهُ ما يُغِبُّها
مآ كِلُ زادٍ من غريقٍ ومن كَسْرِ
3 ــ إذا اعْتَنَقتْ فيه الجنوبُ تكفّأتْ
جواريهِ أو أقامت مع الريحِ لا تجري
4 ــ كـأنَّ مَدَبَّ الموجِ في جَنَبــاتِها
مَدَبَّ الصَّبا بين الوِعاثِ من العُفْرِ
5 ــ أَطَلَّتْ بمِجْدَافَيْـن يَعْتَوِرَانِها
وقَوَّمَها كَبْـحُ اللِّجَـــــامِ منَ الدُّبْـرِ
6 ــ كشفت أَهاويلُ الدُّجاعن مَهولةٍ
بجاريةٍ محْمُولةٍ حــــــــاملٍ بِكْـرِ
7 ــ لَطَمَت بخديْها الحَبابَ فأصبحتْ
مَوْقوفةَ الدَأْياتِ مَرْقومةَ النَحْرِ
8 ــ إذا أَقْبلت راعتْ بِقُنَّـــــةِ قرْهَبٍ
وإنْ أَدْبَرتْ راقتْ بقادِمَتَيْ نَسْــرِ
9 ــ كَأَنَّ الصَّبَا تَحْكِى بها حِينَ واجَهَـتْ
نَسِيمَ الصَّبَا،مَشْىَ العَرُوسِ إِلى الخِدْرِ
10 ــ تَجـافى بهـا النُـوتيُّ حتى كأنَّمــــــا
يَسـيرُ من الإشفـاقِ في جَبَــــلٍ وَعْـــرِ
11 ــ فحـامَـتْ قليـلاً ثُمَّ مرَّتْ كأنَّهــــــا
عُقـــــابٌ تَـدَلّتْ من هــواءٍ على وَكْـرِ
12 ــ ركبْنـا إليــــهِ البحرَ في مُؤْخَراتِهِ
فأَوْفَـتْ بِنــا من بعـدِ بحــرٍ إلى بحـرِ
(23)
لقد اكتفينا بهذا القدر من قصيد صريع الغواني ((مسلم بن الوليد )) خشية الإطالة ، سيّمَا وأن معظم عباراتها بحاجة إلى شرح ، فهي مما قلَ استعماله في الوقت الحاضر ، وإن كانت تشتمل على وصـفٍ دقيقٍ للسفنِ وأحوال البحر، وغالب الظنِّ أنَّـه كان إنّمـا يَصف النهرَ ، نهرَ الفرات، أو دجلة ، لا البحرَ ، لسببين أولهما بُعدُه عن البحر وقربُهُ من هذين النهرين ، ثانيهما ذكرُهُ {العِبْـرَ} وهي حافّة النهر ، لكن الأمر يختلط علينا فلا نعرف أيهما يقصد ، النهر أم البحر ؟ فالعِبرُ ضفّةُ النهر ، كما تقدّم ، لكنّ هذا النهرَ متلاطمُ الأمواجٍ {الآذي} ولموجه {جرجرة} صوت قويٌ يبعث في النفس الرهبة ، ثمّ هو كثير الركاب كثير الغرقى إذ تجد حيتانه فيها رزقاً وفيراً ، حيث تهبُّ عليه ريحٌ جنوبيّة عاتية فتقلب بعض الجواري على ظهره، وبعضها الآخر يلزم السكون ويتوقف عن الإبحار إيثاراً للسلامة ، أمّا إذا هبت {الصَبا} الشرقيّة اللطيفة فإنّها تترك سطحه جَعداً مثنّى وكأنّه سهلٌ رمليٌ واسعٌ أحمر الرملُ ، إذا هبت الريحُ تركت عليه ثنياتٍ لطيفة ، وتجاعيدَ بديعة المنظر ، وكأنه ثوبٌ من القطيفة .
ثمّ يعود بنا إلى منظرٍ مخيفٍ ، يثير في النفسِ الرهبة والرعبَ فيفجؤنا بـ {الأهاويل} جمع هول و {مهولة} عظيمة ليصف لنا تلك السفينة العظيمة التي تمخضت عنها أهوال الليل وهذه السفينة التي حملها هذا النهرُ{أو البحر} منتفخة البطن {حامل} لكثرة ما فيها من ركاب وبضائع بالرغم من كونها بكر لم تتزوج بعدُ .
وتجري هذه السفينة مسرعة فتلطم زبد الماء فيختلط البياض بالسواد على أضلاعها ، أو فِقارِ عنقها {دأياتها} فتصبح {موقوفة} ويبدو رقمها واضحاً على عنقها {نحرها} فهي مخيفة وهي مقبلة لأنها عظيمةُ المقدَّمة تبدو لمن رآها كرأس ثور كبير عظيم الرأس {قُنّةُ قرهب} لكن منظرها رائع وهي مدبرة، فإذا نظرت إليها مدبرة حسبتها نَسراً يطير بجناحيه ، وجناحا السفينة هما الشراعان أو المجدافان .
ثمَّ يصف قيادة الربان {النوتيّ} لها بأنّها شاقة ، وقائدها يقظ حذر في سيره بها كمن يسير في شعب وعر المسلك ، وهي حين يميل بها الربان إلى المرفأ تشبه الطير الجارح الذي يهوي على وكره من كبد السماء بسرعة خاطفة كلُّ ذلك ليصل إلى غرضه في مدح ممدوحه ، البحر الثاني في خطره وثمين كنوزه ووفرة عطائه .
وهذه بُلغة فيما جاء في الشعر من صفات المراكب والبحار، ولم نَمِلْ في
ذلك إلى الإطالة لئلاّ يَضيقُ البابُ عمّا يُحتاج إليه وإلى ذِكرِهِ من صفاتِ المَفاوزِ ، لأنَّ شِعرَ العربِ بصفاتِ البوادي والقِفارِ أحذقَ منهم بوَصْفِ البحارِ والسَفائن إذْ بالفَلَواتِ يُولَدون ، وفي طُرُقِها يَسلُكون .
أما الشعرُ الصوفيُّ فلا نَرى فيه عظيم فائدةً لإغناء بحثنا هذا، لأنهم لم يذكروهُ إلاّ لماماً، وإذا وَرَدَ ذكره في شِعرِهم كان رَمْزاً ، ليس إلاّ فهو عند {السُهْرَورديِّ} مثلاً مَجْمَعُ دموعهم، يُبحِرون فيه على مَتْنِ سُفُنِهم، وشوقُهم هو الرُّبّانُ والملاّحُ ، أمّا هدفهم ووِجهةُ سفرِهم فهي الحضرة الإلهيَّةُ يقول:
ركبوا على سُفُـنِ الوفا ودُموعُهم بحـرٌ وشِـــدَّةُ شوقِهـم مَلاّحُ
هي خمرة الحبِّ القديم ومنتهى غرض النديم فنعم ذاك الراح
وكذاك نوحٌ في السفينة أَسكرت وله بذلك رنّـــــــــــــــــةٌ ونياحُ *

* النياح شدة العظم وصلابته (24)

أمّا الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه اللهُ ، فإنّ البحرَ عنده هو الحضرةُ الإلهيةُ التي يحبُّ ، وإنَّه لا يفتر يتحدَّثُ عنها ، فهو طوراً يذكر ذاتها {الماء} موحّداً مسبّحاً ممجِّداً وطوراً يتغزلُ بمجاليها ومظاهرِها في الوجود {
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 76
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى