منتدى مدينة أرمناز العام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، الآية : 217

اذهب الى الأسفل

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، الآية : 217 Empty فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، الآية : 217

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود الأحد أغسطس 05, 2012 12:12 pm

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الل عنهما قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً كُلُّهُنَّ في القرآن: "يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ"، "يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ"، "يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى"، ما كانوا يسألونك إِلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ. وَرَوَى أَبُو الْيَسَارِ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَهْطًا وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَوْ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْطَلِقَ بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَلَّا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: وَلَا تُكْرِهَنَّ أَصْحَابَكَ عَلَى الْمَسِيرِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَكَانَ قَرَأَ الْكِتَابَ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، قَالَ: فَرَجَعَ رَجُلَانِ وَمَضَى بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: "يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ" الْآيَةَ. وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نزولها أن رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي كِلَابٍ لَقِيَا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُمَا كَانَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ فَقَتَلَهُمَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَتَلَهُمَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ نُزُولَهَا فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ مَعَ تِسْعَةِ رَهْطٍ، وَقِيلَ ثَمَانِيَةٍ، فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَقِيلَ فِي رَجَبٍ. وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَلَبِ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ ـ وَتُعْرَفُ تِلْكَ الْخَرْجَةُ بِبَدْرٍ الْأُولَى ـ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَجَبٍ، وَبَعَثَ فِي رَجَبٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيَّ وَمَعَهُ ثَمَانِيَةُ رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَهُمْ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ الْفِهْرِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَخَالِدُ بْنُ بُكَيْرٍ اللَّيْثِيُّ. وَكَتَبَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَلَّا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِيهِ فَيَمْضِي لِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَلَا يَسْتَكْرِهُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ أَمِيرَهُمْ، فَفَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَلَمَّا فَتَحَ الْكِتَابَ وَقَرَأَهُ وَجَدَ فِيهِ: ((إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَتَرَصَّدْ بِهَا قُرَيْشًا، وَتَعَلَّمْ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ)). فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً، ثُمَّ أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَبِأَنَّهُ لَا يَسْتَكْرِهُ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ نَاهِضٌ لِوَجْهِهِ بِمَنْ أَطَاعَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُطِعْهُ أَحَدٌ مَضَى وَحْدَهُ، فَمَنْ أَحَبَّ الشَّهَادَةَ فَلْيَنْهَضْ، وَمَنْ كَرِهَ الْمَوْتَ فَلْيَرْجِعْ. فَقَالُوا: كُلُّنَا نَرْغَبُ فِيمَا تَرْغَبُ فِيهِ، وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ سَامِعٌ مُطِيعٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَضُوا مَعَهُ، فَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ، وَشَرَدَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ جَمَلٌ كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ فَتَخَلَّفَا فِي طَلَبِهِ، وَنَفَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ مَعَ سَائِرِهِمْ لِوَجْهِهِ حَتَّى نَزَلَ بِنَخْلَةٍ، فَمَرَّتْ بِهِمْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَتِجَارَةً فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ ـ وَاسْمُ الْحَضْرَمِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ مِنَ الصَّدَفِ، وَالصَّدَفُ بَطْنٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ ـ وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن المغيرة، وأخوه نوفل ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةَ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَتَشَاوَرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا: نَحْنُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَإِنْ نَحْنُ قَاتَلْنَاهُمْ هَتَكْنَا حُرْمَةَ الشَّهْرِ الحرام: وإن تَرَكْنَاهُمُ اللَّيْلَةَ دَخَلُوا الْحَرَمَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى لِقَائِهِمْ، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَهُ، وَأَسَرُوا عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ، وَأَفْلَتَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ قَدِمُوا بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ، وَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ: اعْزِلُوا مِمَّا غَنِمْنَا الْخُمُسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَعَلُوا، فَكَانَ أَوَّلَ خُمُسٍ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ: "وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ" فَأَقَرَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِعْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَرَضِيَهُ وَسَنَّهُ لِلْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ غَنِيمَةٍ غُنِمَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَوَّلُ أَمِيرٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ أَوَّلُ قَتِيلٍ. وَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَسَقَطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، فأنزل الله عز وجل: "يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ" إِلَى قَوْلِهِ: "هُمْ فِيها خالِدُونَ". وَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِدَاءَ فِي الْأَسِيرَيْنِ، فَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَمَاتَ بِمَكَّةَ كَافِرًا، وَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ وَأَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اسْتُشْهِدَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وَرَجَعَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ سَالِمَيْنِ. وَقِيلَ: إِنَّ انْطِلَاقَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِمَا كَانَ عَنْ إِذْنٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَإِنَّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا رَأَوْا أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَابُوهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ فَزِعُوا مِنْكُمْ، فَاحْلِقُوا رَأْسَ رَجُلٍ مِنْكُمْ فَلْيَتَعَرَّضْ لَهُمْ، فَإِذَا رَأَوْهُ مَحْلُوقًا أَمِنُوا وَقَالُوا: قَوْمٌ عُمَّارٌ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ، وَتَشَاوَرُوا فِي قِتَالِهِمُ، الْحَدِيثَ. وَتَفَاءَلَتِ الْيَهُودُ وَقَالُوا: وَاقِدٌ وَقَدَتِ الْحَرْبُ، وَعَمْرٌو عَمَرَتِ الْحَرْبُ، وَالْحَضْرَمِيُّ حَضَرَتِ الْحَرْبُ. وَبَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فَدَاءِ أَسِيرَيْهِمْ، فَقَالَ: لَا نَفْدِيهِمَا حَتَّى يَقْدَمَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدَمَا قَتَلْنَاهُمَا بِهِمَا، فَلَمَّا قَدِمَا فَادَاهُمَا، فَأَمَّا الْحَكَمُ فَأَسْلَمَ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا، وَأَمَّا نَوْفَلٌ فَضَرَبَ بَطْنَ فَرَسِهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِيَدْخُلَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَوَقَعَ فِي الْخَنْدَقِ مَعَ فَرَسِهِ فَتَحَطَّمَا جَمِيعًا فَقَتَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَطَلَبَ الْمُشْرِكُونَ جِيفَتَهُ بِالثَّمَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذُوهُ فَإِنَّهُ خَبِيثُ الْجِيفَةِ خَبِيثُ الدِّيَةِ" فَهَذَا سَبَبُ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ".
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى نَسْخِهَا، وَأَنَّ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مُبَاحٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي نَاسِخِهَا، فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: نَسَخَهَا "وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً". وَقِيلَ: نَسَخَهَا غَزْوُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيفًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَإِغْزَاؤُهُ أَبَا عَامِرٍ إِلَى أَوْطَاسٍ ـ واد في ديار هوازن، كانت فيه وقعة حنين ـ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَقِيلَ: نَسَخَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ عَلَى الْقِتَالِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ عُثْمَانَ بِمَكَّةَ وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى حَرْبِهِ بَايَعَ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمِينَ عَلَى دَفْعِهِمْ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ بِقِتَالِهِمْ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ في أثر قصة الحضرمي: فأنزل عز وجل" يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ" الْآيَةَ، قَالَ: فَحَدَّثَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَرَامٌ كَمَا كَانَ، وَأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ حِينَ يَسْجُنُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ وَيَحْبِسُونَهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَصَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِخْرَاجِهِمْ أَهْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُمْ سُكَّانُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِتْنَتِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الدِّينِ، فَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلَ ـ دفع ديته ـ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَحَرَّمَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ كَمَا كَانَ يُحَرِّمُهُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ، وَلَا يَجُوزُ الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خَاصٌّ وَالْعَامُّ لَا يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِاتِّفَاقٍ. وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقَاتِلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قِتالٍ فِيهِ} أَيْ يَسْأَلُكَ الْكُفَّارُ تَعَجُّبًا مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ، والْمَعْنَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أَيْ مُسْتَنْكَرٌ، َوكَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ قِوَامًا تَعْتَدِلُ عِنْدَهُ، فَكَانَتْ لَا تَسْفِكُ دَمًا، وَلَا تُغَيِّرُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَهِيَ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدُ فَرْدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} أَيْ أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، لِطُولِ مَنْعِ النَّاسِ عَنِ الْكَعْبَةِ أَنْ يُطَافَ بِهَا. "وَكُفْرٌ بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ، وَقِيلَ: أَيْ بِالْحَجِّ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. "وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ" أَيْ أَعْظَمُ عُقُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّكُمْ يَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ تَسْتَعْظِمُونَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ مِنَ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِمَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ، وَمِنْ كُفْرِكُمْ بِاللَّهِ وَإِخْرَاجِكُمْ أَهْلَ الْمَسْجِدِ مِنْهُ، كَمَا فَعَلْتُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَكْبَرُ جُرْمًا عِنْدَ اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً ........ وَأَعْظَمُ مِنْهُ لَوْ يَرَى الرُّشْدَ رَاشِدُ
صُدُودُكُمْ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ ................. وَكُفْرٌ بِهِ وَاللَّهُ رَاءٍ وَشَاهِدُ
وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللَّهِ أَهْلَهُ ....... لِئَلَّا يُرَى لِلَّهِ فِي الْبَيْتِ سَاجِدُ
فَإِنَّا وَإِنْ غَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلِهِ ................. وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِدُ
سَقَيْنَا مِنَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ رِمَاحَنَا ......... بِنَخْلَةٍ لَمَّا أَوْقَدَ الْحَرْبَ وَاقِدُ
دَمًا وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانُ بَيْنَنَا .............. يُنَازِعُهُ غُلٌّ مِنَ الْقِدِّ عَانِدُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الْفِتْنَةُ هُنَا الْكُفْرُ، أَيْ كُفْرُكُمْ أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِنَا أُولَئِكَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَعْنَى الْفِتْنَةِ هُنَا فِتْنَتُهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ حَتَّى يَهْلَكُوا، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ اجْتِرَامًا مِنْ قَتْلِكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يَزالُونَ يَرُدُّوكُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يعنى كفار قريش.
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَمَنْ يَرْتَدِدْ" أَيْ يَرْجِعُ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ {فَأُولئِكَ حَبِطَتْ} أَيْ بَطَلَتْ وَفَسَدَتْ، وَمِنْهُ الْحَبَطُ وَهُوَ فَسَادٌ يَلْحَقُ الْمَوَاشِيَ فِي بُطُونِهَا مِنْ كَثْرَةِ أَكْلِهَا الْكَلَأَ فَتَنْتَفِخُ أَجْوَافُهَا، وَرُبَّمَا تَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ، فَالْآيَةُ تَهْدِيدٌ للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرْتَدِّ هَلْ يُسْتَتَابُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ أَمْ لَا، إِلَّا عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ؟ وَهَلْ يُورَثُ أَمْ لَا؟ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى ـ قَالَتْ طَائِفَةٌ: يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَاعَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: يُسْتَتَابُ شَهْرًا. وَقَالَ آخَرُونَ: يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُسْتَتَابُ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ دُونَ اسْتِتَابَةٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ طَاوُسٍ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ. واحْتجَّ بعضهم بِحَدِيثِ مُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ: انْزِلْ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ وِسَادَةً، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السُّوءِ فَتَهَوَّدَ. قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ: اجْلِسْ. قَالَ: نَعَمْ لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ، إِلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُؤَجَّلَ، فَإِنْ طَلَبَ ذَلِكَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ. وَالزِّنْدِيقُ عِنْدَهُمْ وَالْمُرْتَدُّ سَوَاءٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَتُقْتَلُ الزَّنَادِقَةُ وَلَا يُسْتَتَابُونَ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ، فَقَالَ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ لَأُقِرَّ عَلَيْهِ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: ((مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)) وَلَمْ يَخُصَّ مُسْلِمًا مِنْ كَافِرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَعْنَى الْحَدِيثِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إِلَى كُفْرٍ فَلَمْ يُعْنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّ الْمُبَدِّلَ لدينه من أهل الذمة يلحقه الامام بِأَرْضِ الْحَرْبِ وَيُخْرِجُهُ مِنْ بَلَدِهِ وَيَسْتَحِلُّ مَالَهُ مَعَ أَمْوَالِ الْحَرْبِيِّينَ إِنْ غَلَبَ عَلَى الدَّارِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الذِّمَّةَ عَلَى الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي حِينِ عَقْدِ الْعَهْدِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرْتَدَّةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: تُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ سَوَاءٌ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". وَ"مَنْ" يَصْلُحُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)) ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَقْتُلِ الْمُرْتَدَّةَ، وَمَنْ رَوَى حَدِيثًا كَانَ أَعْلَمَ بِتَأْوِيلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ. وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ..)) فَعَمَّ كُلَّ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِه.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ مَنِ ارْتَدَّ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَحْبَطْ عَمَلُهُ وَلَا حَجُّهُ الَّذِي فَرَغَ مِنْهُ، بَلْ إِنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ فَحِينَئِذٍ تَحْبَطُ أَعْمَالُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَحْبَطُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ، وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الْمُسْلِمِ إِذَا حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَبِطَ بِالرِّدَّةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عَمَلَهُ بَاقٍ. وَاحتُجّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ". قَالُوا: وَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: بَلْ هُوَ خِطَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَبَيَانٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ لَوْ أَشْرَكَ لَحَبِطَ عَمَلُهُ، فَكَيْفَ أَنْتُمْ! لَكِنَّهُ لَا يُشْرِكُ لِفَضْلِ مَرْتَبَتِهِ، كَمَا قَالَ: "يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ" وَذَلِكَ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ، وَإِلَّا فلا يتصور إتيان مِنْهُنَّ صِيَانَةً لِزَوْجِهِنَّ الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ. وَمَا خُوطِبَ بِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ فَهُوَ لِأُمَّتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ اخْتِصَاصُهُ، وَمَا وَرَدَ فِي أَزْوَاجِهِ فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكَانِ أَحَدُهُمَا لِحُرْمَةِ الدِّينِ، وَالثَّانِي لِحُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِكُلِّ هَتْكِ حُرْمَةٍ عِقَابٌ، وَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ عَصَى فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، يُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْعَذَابُ بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنَ الْحُرُمَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
واخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ، فَقَالَ عَلَيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَاللَّيْثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: مِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: مِيرَاثُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقَالَ غيرهم: مَا اكْتَسَبَهُ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَا اكْتَسَبَهُ الْمُرْتَدُّ فِي حال الردّة فهو فيء، وَمَا كَانَ مُكْتَسَبًا فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَمُطْلَقُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: ((لَا وِرَاثَةَ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتَيْنِ)) يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قولهم. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ وَرَثَتَهُ مِنَ الْكُفَّارِ لَا يَرِثُونَهُ، سِوَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَإِنَّهُ قَالَ: يَرِثُونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا} الآية. قال جندب ابن عَبْدِ اللَّهِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُمَا: لَمَّا قَتَلَ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ تَوَقَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَخْذِ خُمُسِهِ الَّذِي وُفِّقَ فِي فَرْضِهِ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَفِي الْأَسِيرَيْنِ، فَعَنَّفَ الْمُسْلِمُونَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَأَصْحَابَهُ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَتَلَافَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفَرَّجَ عَنْهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ لَهُمْ ثَوَابَ مَنْ هَاجَرَ وَغَزَا، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا" ثُمَّ هِيَ بَاقِيَةٌ فِي كُلِّ مَنْ فَعَلَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَصَابُوا وِزْرًا فَلَيْسَ لَهُمْ أَجْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَالْهِجْرَةُ مَعْنَاهَا الِانْتِقَالُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَقَصْدُ تَرْكِ الْأَوَّلِ إِيثَارًا لِلثَّانِي. وَالْهَجْرُ ضِدَّ الْوَصْلِ. وَقَدْ هَجَرَهُ هَجْرًا وَهِجْرَانًا، وَالِاسْمُ الْهِجْرَةُ. وَالْمُهَاجَرَةُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ تَرْكُ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ. وَالتَّهَاجُرُ التَّقَاطُعُ. وَمَنْ قَالَ: الْمُهَاجَرَةُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْبَادِيَةِ إِلَى الْحَاضِرَةِ فَقَدْ أَوْهَمَ، بِسَبَبِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ الْأَغْلَبَ فِي الْعَرَبِ، وَلَيْسَ أَهْلُ مَكَّةَ مهاجرين على قوله: "وَجاهَدُوا" الِاجْتِهَادُ وَالتَّجَاهُدُ: بَذْلُ الْوُسْعِ وَالْمَجْهُودِ. وَالْجَهَادُ بالفتح: الأرض الصلبة. "وَيَرْجُونَ" مَعْنَاهُ يَطْمَعُونَ وَيَسْتَقْرِبُونَ. وَإِنَّمَا قَالَ "يَرْجُونَ" وَقَدْ مَدَحَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَنَّهُ صَائِرٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَلَوْ بَلَغَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كُلَّ مَبْلَغٍ، لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا يَدْرِي بِمَا يُخْتَمُ لَهُ. وَالثَّانِي: لِئَلَّا يَتَّكِلَ عَلَى عَمَلِهِ.
قوله تعالى: {قِتَالٍ فِيهِ} قراءةُ الجمهور: "قتالٍ" بالجرّ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أنه خفضٌ على البدلِ من "الشهر" بدلِ الاشتمال؛ إذ القتالُ واقعٌ فيه فهو مشتملٌ عليه. والثاني: أنّه خفضٌ على التكرير، التقديرَ: عن قتالٍ فيه. فهو مخفوضٌ بـ "عَنْ" مضمرةً. وهذا ضعيفٌ جداً، لأنَّ حرفَ الجر لا يبقى عملُه بعد حذفِه. الثالث: أنّه خفضٌ على الجِوار. والأول هو الأصح.
وقرأ ابن عباس والأعمش: "عن قتالٍ" بإظهارِ "عن" وهي في مصحفِ عبد الله كذلك ، وقرأ عكرمة: "قَتْلٍ فيه، قل قتلٌ فيه" بغير ألف.
وقُرىء شاذاً: "قتالٌ فيه" بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ، وسَوَّغ الابتداء به وهو نكرةٌ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهامِ، تقديرُه: أقتالٌ فيه. والثاني: أنه مرفوعٌ باسم فاعل تقديرُه: أجائزٌ قتالٌ فيه، فهو فاعلٌ به. ويمكن أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، فجاء رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ وإمَّا خبرُ مبتدأٍ.
قالوا: ويَظْهَرُ هذا من حيث إنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا، وإنما كان سؤالُهم: هل يجوزُ القتالُ فيه أولا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين فهذه الجملةُ المُسْتَفْهَمُ عنها في محلِّ جرٍ بدلاً من الشهرِ الحرامِ، لأنّ "سأل" قد أخَذَ مفعولَيْه فلا تكونُ هي المفعولَ وإن كانت مَحَطَّ السؤالِ.
وقوله: {فِيهِ} على قراءةِ خفضٍ "قتالٍ" فيه وجهان، أحدُهما: أنّه في محلِّ خفضٍ لأنه صفةٌ لـ "قتال". والثاني: أنّه في محلِّ نصبٍ لتعلُّقه بقتال لكونه مصدراً. والضميرُ في "يسألونك" قيل للمشركين، وقيل للمؤمنين. والألفُ واللامُ في "الشهر" قيل: للعهدِ وهو رجب، وقيل: للجنسِ فَيَعُمُّ جميعَ الأشهرِ الحُرُمِ.
قوله: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، مَحلُّها النصبُ بقُلْ، وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ: إمَّا الوصفُ، إذا جَعَلْنَا قولَه "فيه" صفةً له وإمَّا التخصيصُ بالعملِ إذا جَعَلْناه متعلقاً بقتال. فإنْ قيل: قد تقدَّم لفظُ نكرة وأُعيدت من غيرِ دخول ألفٍ ولامٍ عليها وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} المزمل: 15-16والألف واللامَ في الاسمِ المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً، بل إنّما تفيدُ العهد في الاسمِ السابقِ. وأَحْسَنُ منه قَولُ بعضِهم: إنَّ الثاني غيرُ الأولِ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبدِ الله بن جحش، وكان لنصرةِ الإِسلامِ. وخُذْلانِ الكفرِ فليس من الكبائرِ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غيرُ هذا، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ ونصرةُ الكفرِ، فاختير التنكيرُ في هذين اللفظين لهذه الدقيقةِ، ولو جِيء بهما معرفتين أو بأَحدِهما مُعَرَّفاً لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ.
قوله: {وَصَدٌّ} فيه وجهان، أحدُهما مبتدأٌ وما بعده عطفٌ عليه، و"أكبرُ" خبرٌ عن الجميعِ. وجاز الابتداءُ بصدّ لأحدِ ثلاثةِ أوجهٍ: إمَّا لتخصيصِه بالوصفِ بقولِه: {عَن سَبِيلِ الله} وإمَّا لتعلُّقِه به، وإمَّا لكونِه معطوفاً، والعطفُ من المسوِّغات. والثاني: أنه عطفٌ على "كبيرٌ" أي: قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ. وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعولُه؛ إذ التقديرُ: وصَدُّكم ـ يا كفارُ ـ المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ.
و"كفرٌ" فيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على "صَدّ" على قولنا بأن "صدّاً" مبتدأٌ لا على قولنا بأنه خبرٌ ثان عن "قتال"، لأنه يلزَمُ منه أن يكونَ القتالُ في الشهرِ الحرامِ كفراً وليس كذلك، إلّا أَنْ يرادَ بقتالِ الثاني ما فيه هَدْمُ الإِسلامِ وتقويةُ الكفرِ كما تقدَّم ذلك عن بعضِهم، فيكونُ كفراً، فَيَصِحُّ عطفُه عليه مطلقاً، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط: أي: وكُفْرُكم. والثاني: أن يكونَ مبتدأً كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه. والضميرُ في "به" فيه وجهان، أحدُهما: أنّه يعودُ على "سبيل" لأنّه المحدَّثُ عنه. والثاني أنه يعودُ على الله، والأولُ أظهرُ. و"به" فيه الوجهان، أعني كونَه صفةً لكفر، أو متعلقاً به، كما تقدَّم في "فيه".
قوله: {والمسجد الحرام} الجمهورُ على قراءته مجروراً. وقرىء شاذاً مرفوعاً. فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ، أحدها: أنه عطفٌ على "سبيلِ الله" أي: وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجد. وهذا مردودٌ بأنه يؤدِّي إلى الفصلِ بين أبعاضِ الصلةِ بأجنبي تقريرُه أنَّ "صداً" مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ والفعلِ و"أَنْ" موصولٌ،وقد جعلتم "والمسجدِ" عطفاً على "سبيلِ" فهو من تمام صلته، وفُصِل بينهما بأجنبي وهو "وكفرٌ به". ومعنى كونِه أجنبياً أنه لا تعلُّق له بالصلةِ. فإن قيل: يُتَوَسَّعُ في الظرفِ وحرفِ الجر ما لم يُتَّسَعْ في غيرِهما. قيل: إنّما قيل بذلك في التقديمِ لا في الفصلِ. الثاني: أنه عطفٌ على الهاءِ في "به" أي: وكفرٌ به وبالمسجِد، وهذا يتخرَّج على قول الكوفيين. وأمَّا البصريون فيشترطون في العطفِ على الضميرِ المجرورِ إعادةَ الخافض إلا في ضرورة، فهذا التخريجُ عندهم فاسدٌ. واختلف النحاةُ في العطفِ على الضمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهبَ: أحدُها ـ وهو مذهبُ الجمهور من البصريين ـ: وجوبُ إعادةِ الجار إلا في ضرورةٍ. الثاني: أنه يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مطلقاً، وهو مذهبُ الكوفيين. والثالث: التفصيلُ، وهو إنْ أُكِّد الضميرُ جاز العطفُ من غيرِ إعادةِ الخافِض نحو: مررت بك نفسِك وزيدٍ، وإلّا فلا يجوزُ إلّا ضرورةً، وهو قولُ الجَرْميّ. والذي ينبغي أنه يجوزُ مطلقاً لكثرةِ السماعِ الوارد به، وضَعْفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس.
أما السَّماعُ: ففي النثرِ كقولِهم: ما فيها غيرُه وفرسه بجرِّ "فرسه" عطفاً على الهاء في "غيره". وقوله: {تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} في قراءة جماعةٍ كثيرة، منهم حمزةُ، وستأتي هذه الآيةُ إن شاء الله، ومنه: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} الحجر: 20 ف "مَنْ" عطف على "لكم" في قولِه تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} وقولُه: {مَا يتلى عَلَيْكُمْ} النساء: 127 عطف على "فيهِنّ" وفيما يُتْلى عليكم. وفي النظم وهو كثيرٌ جداً، فمنه قولُ العباس بن مرداس:
أَكُرُّ على الكتيبةِ لا أُبالي ................. أفيها كان حَتْفي أم سواها
ف "سواها" عطفٌ على "فيها"، وقولُ الآخر:
تُعَلَّقُ في مثلِ السَّوارِي سيوفُنا ........ وما بينها والأرضِ غَوْطٌ نَفانِفٌ
وقول الآخر :
هَلاَّ سَأَلْتَ بذي الجماجم عنهمُ ....... وأبي نُعَيْم ذي اللِّواء المُحْرِقِ
وقول الآخر :
بنا أبداً لا غيرِنا تُدْرَكُ المُنَى ....... وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخطوبِ الفَوادِحِ
وقول الآخر :
لو كانَ لي وزهيرٍ ثالثٌ وَرَدَتْ ........... من الحِمامِ عِدانا شَرَّ مَوْرودِ
وقال آخر :
إذا أَوْقدوا ناراً لحربِ عَدُوِّهمْ ...... فَقَدْ خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها
وقال آخر :
إذا بنا بل أُنَيْسانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ ............... ظَلَّتْ مُؤَمَنَّةً مِمَّنْ يُعادِيها
وقال آخر :
آبَكَ أيِّهْ بيَ أو مُصَدَّرِ .................. من حُمُرِ الجِلَّةِ جَأْبٍ حَشُوَرِ
وأنشد سيبويه :
فاليومَ قَرَّبْتَ تهجُونا وَتشْتِمُنا ...... فاذهبْ فما بك والأيام مِنْ عَجَبِ
فكثرةُ ورودِ هذا وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ، فجاؤوا تارة بالواو، وأخرى ب "لا"، وأخرى ب "أم"، وأخرى ب "بل" دليلٌ على جوازِه. وأمّا ضَعْفُ الدليل: فهو أنهم منعوا ذلك لأنَّ الضميرَ كالتنوين، فكما لا يُعْطف على التنوين لا يُعْطَفُ عليه إلا بإعادة الجار. ووجهُ ضعفه أنه كان بمقتضى هذه العلةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضمير مطلقاً، أعني سواءً كان مرفوعَ الموضعِ أو منصوبَه أو مجرورَه، وسواءً أُعيد معه الخافِضُ أم لا كالتنوين.
وأمَّا القياسُ فلأنه تابعٌ من التوابعِ الخمسةِ فكما يُؤَكَّدُ الضميرُ المجرورُ ويُبْدَلُ منه فكذلك يُعْطَفُ عليه.
الثالث: أن يكونَ معطوفاً على "الشهر الحرام" أي: يسألونَك عن الشهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام. وعن القتالُ في المسجد الحرام، لأنهم لم يَسْأَلوا عن ذات الشهر ولا عن ذاتِ المسجدِ، إنّما سألوا عن القتالِ فيهما، فَأُجيبوا بأنَّ القتالَ في الشهرِ الحرامِ كبيرٌ وصَدُّ عن سبيلَ الله تعالى، فأَخْبر عن "قتال" بأنه كبيرٌ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله، ولكنَّ القتالَ في المسجد الحرامِ وإخراجَ أهلِه منه أكبرُ من القتالِ فيه. وفي الجملةِ فَعَطْفُه على الشهرِ الحرامِ متكلَّفٌ جداً يَبْعُدُ عنه نَظمُ القرآنِ والتركيبُ الفصيحُ.
الرابع: أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديرُه: ويَصُدُّون عن المسجدِ، كما قال تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} الفتح: 25. وهذا غيرُ جيد لأنه يَلْزَمُ منه حذفُ حرفِ الجرِ وإبقاءُ عملهِ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها، ونصَّ النحويون على أنَّه ضرورةٌ كقوله:
إذا قيل: أيُّ الناسِ شَرُّ قبيلةٍ ......... أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
أي: إلى كليب فهذه أربعة أوجه، أجودها الثاني.
وأمَّا رفعُه فوجهُه أنَه عَطْفٌ على "وكفرٌ به" على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: "وكفرٌّ بالمسجدِ" فَحُذِفَتْ الباءُ وأُضيف "كفرٌ" إلى المسجدِ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ولا يَخْفَى ما فيه من التكلُّفِ، إلّا أنّه لا تُخَرَّجُ هذه القراءةُ الشاذةُ بأكثرُ مِنْ ذلك.
قوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} عَطْفٌ على "كفرٌ" أو"صدٌ" على حَسَبِ الخلافِ المتقدَّمِ، وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه، وأُضيف إلى مفعولُه، تقديرُه: "وإخراجُكم أهلَه". والضميرُ في "أهله" و"مِنه" عائدٌ على المسجدِ وقيل: الضميرُ في "منه" عائدٌ على سبيلِ الله، والأول أظهرُ و"منه" متعلِّقٌ بالمصدرِ.
قوله: {أَكْبَرُ} فيه وجهان، أحدُهما: أنّه خبرٌ عن الثلاثةِ، أعني: صدّاً وكفراً وإخراجاً كما تقدَّم، وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ خبراً عن المجموعِ، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونَ خبراً عنها باعتبارِ كلِّ واحدٍ، كما تقول: زيدٌ وبكرٌ وعمرٌ أفضلُ من خالدٍ أي: كلُّ واحِدٍ منهم على انفرادِه أفضلُ من خالدٍ. وهذا هو الظاهرُ. وإنما أُفْرِد الخبرُ لأنه أفضلُ من تقديرِه: أكبر من القتال في الشهرِ الحرامِ. وإنِّما حُذِفَ
لدلالةِ المعنى.
الثاني من الوجهين في "أكبر": أن يكونَ خبراً عن الأخير، ويكون خبر "وصدّ" و"كفر" محذوفاً لدلالة خبر الثالث عليه تقديرُه: وصد وكفر أكبر. ويجب أن يكونَ المحذوفُ على هذا "أكبر" "لا" "كبير" كما قدَّره بعضهم؛ لأن ذلك يوجب أن يكون إخراج أهل المسجد منه حُذِفَ خبر "وصدّ" و"كفر" لدلالة خبر "قتال" عليه أي: القتال في الشهر الحرام كبير، والصد والكفر كبيران أيضاً، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشهر الحرام.
ولا يلزم من ذلك أن يكونَ أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتى يلزمَ ما قاله من المحذور.
قوله: {عِندَ الله} متعلِّق بـ "أكبر"، والعنديةُ هنا مجازٌ لِما عُرف. وصرح هنا بالمفضول في قوله: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل}؛ لأنّه لا دلالة عليه لو حُذِفَ، بخلاف الذي قبله حيث حُذِفَ.
قوله: {حتى يَرُدُّوكم} حتى حرف جرّ، ومعناها يَحتمل وجهين: أحدهما: الغاية، والثاني: التعليل بمعنى كي، والتعليلُ أحسنُ لأنّ فيه ذِكْرَ الحامل لهم على الفعل، والغاية ليس فيها ذلك، أي: "يقاتلونكم كي يردُّكم".
و{يزالون} مضارع "زال" الناقصةِ التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرطِ أَنْ يتقدَّمها نفيٌ أو نهي أو دعاء، وقد يُحْذف النافي بإطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جوابِ قسم وإلاَّ فسماعاً، وأحكامُها في كتب النحو، ووزنُها فَعِل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائي في مضارعها: يَزيل، وإن كان الأكثر يَزال، فأمَّا زال التامة فوزنها فَعَل بالفتح، وهي من ذوات الواو لقولِهم في مضارعها يَزُول، ومعناها التحول. و"عن دينكم" متعلق "بيردوكم".
وقوله: "إن استطاعوا" شرطٌ جوابُه محذوفٌ للدلالة عليه أي: إن استطاعوا ذلك فلا يزالون يقاتلونكم، ومَنْ رأى جوازَ تقديمِ الجواب جعل "لا يزالون" جواباً مقدَّماً.
قوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ} مَنْ: شرطيةٌ في محلِّ رفع بالابتداءِ، ولم يَقْرأ هنا أحدٌ بالإِدغام. وَيَرْتَدِدُ يَفْتَعِلُ من الردِّ وهو الرجوعُ كقولِه: {فارتدّا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} الكهف: 64. وقد عَدَّها بعضُهم فيما يتعدَّى إلى اثنين إذ كانت عنده بمعنى صَيَّر، ومن ذلك قولَه: {فارتد بَصِيراً} يوسف: 96، أي: رَجَع.
و"منكم" متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنّه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في "يَرْتَدِدْ"، و"من" للتبعيض، تقديرُه: ومَنْ يَرْتَدِدْ في حالِ كونِه كائناً منكم، أي: بعضكم. و"عن دينه" متعلِّقٌ بيرتددْ. و"فَيَمُتْ" عطفٌ على الشرط والفاءُ مُؤْذِنَةٌ بالتعقيب.
{وَهُوَ كَافِرٌ} جملةٌ حاليةٌ من ضميرِ "يَمُتْ"، وكأنّها حالٌ مؤكِّدَةٌ لأنها لو حُذِفَتْ لفُهِم معناها، لأنَّ ما قبلَها يُشْعِرُ بالتعقيبِ للارتداد، وجيء بالحالِ هنا جملةً، مبالغةً في التأكيدِ من حيث تكرُّرُ الضميرِ
بخلافِ ما لو جِيء بها اسماً مفرداً.
وقوله: {فأولائك} جوابُ الشرطِ. و"مَنْ" في موضعِ مبتدأ، والخبرُ هو جملةُ "فأولئك حَبِطَتْ".
و"حَبِط" فيه لغتان: كسرُ العينِ ـ وهي المشهورةُ ـ وفَتْحُها، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميعِ القرآنِ، والحسن أيضاً. والحُبوط: أصلُه الفسادُ ومنه: "حَبِطَ بطنُه" أي: انتفخ، ومنه "رَجلٌ حَبَنْطَى" أي: منتفخُ البطنِ.
وحُمِل أولاً على لفظِ "مَنْ" فَأَفْرَدَ في قوله: "يَرْتَدِدْ ، فيمتْ وهو كافرٌ" وعلى معناها ثانياً في قولِه: "فأولئك" إلى آخره، فَجَمَع، ومثلَ هذا التركيبِ أحسنُ الاستعمالَيْنِ: أعني الحَمْلَ أولاً على اللفظِ ثم على المعنى. وقولُه: "في الدنيا" متعلِّقٌ بـ "حَبِطَتْ".
وقوله: {وأولائك أَصْحَابُ النار} إلى آخرِهِ تقدَّم إعرابُ نظيرتِها. واختلفوا في هذه الجملةِ: هل هي استئنافيةٌ، أي: لمجرَّدِ الإخبارِ بأنهم أصحابُ النارِ، فلا تكونُ داخلةٍ في جزاء الشرطِ، بل تكونُ معطوفةً على جملةِ الشرطِ، أو هيَ معطوفةً على الجوابِ فيكونُ محلُّها الجزم؟ قولان، رُجِّع الأولُ بالاستقلالِ وعدمِ التقييدِ، والثاني بأنَّ عطفَها على الجزاءِ أقربُ من عطفِها على جملةِ الشرطِ، والقربُ مُرَجِّحٌ.
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 76
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى