منتدى مدينة أرمناز العام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، الآية: 235

اذهب الى الأسفل

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، الآية: 235 Empty فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، الآية: 235

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود الأحد أغسطس 19, 2012 9:25 pm

وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا جُناحَ} أَيْ لَا إِثْمَ، وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي الشَّرْعِ.
وَقَوْلُهُ: {عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ} الْمُخَاطَبَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِحُكْمِهَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي نَفْسِهِ تزوج معتدة لَا وِزْرَ عَلَيْكُمْ فِي التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ. وَالتَّعْرِيضُ: ضِدُّ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ إِفْهَامُ الْمَعْنَى بِالشَّيْءِ الْمُحْتَمَلِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ عُرْضِ الشَّيْءِ وَهُوَ جَانِبُهُ، كَأَنَّهُ يَحُومُ بِهِ عَلَى الشَّيْءِ وَلَا يُظْهِرُهُ. وَقِيلَ، هُوَ مِنْ قَوْلِكَ عَرَّضْتُ الرَّجُلَ، أَيْ أَهْدَيْتُ إِلَيْهِ تُحْفَةً، وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَكْبًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَرَّضُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بكر ثيابًا بيضًا، أَيْ أَهْدَوْا لَهُمَا. فَالْمُعَرِّضُ بِالْكَلَامِ يُوصِلُ إِلَى صَاحِبِهِ كَلَامًا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْمُعْتَدَّةِ بِمَا هُوَ
نَصٌّ فِي تَزَوُّجِهَا وَتَنْبِيهٌ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَعَهَا بِمَا هُوَ رَفَثٌ وَذِكْرُ جِمَاعٍ أَوْ تَحْرِيضٌ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ ما أشبهه، وجوز ما عدا ذلك. ومن أَعْظَمِهِ قُرْبًا إِلَى التَّصْرِيحِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: ((كُونِي عِنْدَ أُمِّ شَرِيكٍ وَلَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ)). وَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ لِخِطْبَةِ الرَّجْعِيَّةِ إِجْمَاعًا لِأَنَّهَا كَالزَّوْجَةِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ الْبَيْنُونَةِ فَالصَّحِيحُ جَوَازُ التَّعْرِيضِ لِخِطْبَتِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرُوِيَ فِي تَفْسِيرِ التَّعْرِيضِ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ جِمَاعُهَا يَرْجِعُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ- أَنْ يَذْكُرَهَا لِوَلِيِّهَا يَقُولُ لَهُ لَا تَسْبِقْنِي بِهَا. وَالثَّانِي- أَنْ يُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَيْهَا دُونَ وَاسِطَةٍ، فَيَقُولُ لَهَا: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، أَوْ إِنَّكِ لَجَمِيلَةٌ، إِنَّكِ لَصَالِحَةٌ، إِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا، إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْكِ! إِنَّكِ لَنَافِقَةٌ (كثير خطابك)، وَإِنَّك حَاجَتِي فِي النِّسَاءِ، وَإِنْ يُقَدِّرِ اللَّهُ أَمْرًا يَكُنْ. هَذَا هُوَ تَمْثِيلُ مَالِكٍ وَابْنُ شِهَابٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَقُومَ بِشُغْلِهَا فِي الْعِدَّةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ شَأْنِهِ، قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَمْدَحَ نَفْسَهُ وَيَذْكُرَ مَآثِرَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيضِ بِالزَّوَاجِ، وَقَدْ فَعَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قَالَتْ سُكَيْنَةُ بِنْتُ حَنْظَلَةَ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي مِنْ مَهْلِكِ زَوْجِي فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتِ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَابَتِي مِنْ عَلِيٍّ وَمَوْضِعِي فِي الْعَرَبِ. قُلْتُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ! إِنَّكَ رَجُلٌ يُؤْخَذُ عَنْكَ تَخْطُبُنِي فِي عِدَّتِي! قَالَ: إِنَّمَا أَخْبَرْتُكِ بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ عَلِيٍّ. وَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ مُتَأَيِّمَةٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ: ((لَقَدْ عَلِمْتِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَخِيَرَتُهُ وَمَوْضِعِي فِي قَوْمِي)). كَانَتْ تِلْكَ خِطْبَةً، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَالْهَدِيَّةُ إِلَى الْمُعْتَدَّةِ جَائِزَةٌ، وَهَي مِنَ التَّعْرِيضِ، قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَكَرِهَ مُجَاهِدٌ أَنْ يَقُولَ لَهَا: لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ وَرَآهُ مِنَ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا عِنْدِي عَلَى أَنْ يُتَأَوَّلَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ الرَّأْيِ لَهَا فِيمَنْ يَتَزَوَّجُهَا لَا أَنَّهُ أَرَادَهَا لِنَفْسِهِ وَإِلَّا فَهُوَ خِلَافٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ} الْخِطْبَةُ "بِكَسْرِ الْخَاءِ": فِعْلُ الْخَاطِبِ مِنْ كَلَامٍ وَقَصْدٍ وَاسْتِلْطَافٍ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ. يُقَالُ: خَطَبَهَا يَخْطُبُهَا خَطْبًا وَخِطْبَةً. وَرَجُلٌ خَطَّابٌ كَثِيرُ التَّصَرُّفِ فِي الْخِطْبَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} مَعْنَاهُ سَتَرْتُمْ وَأَضْمَرْتُمْ مِنَ التَّزَوُّجِ بِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. فَرَفَعَ اللَّهُ الْجُنَاحَ عَمَّنْ أَرَادَ تَزَوُّجَ الْمُعْتَدَّةِ مَعَ التَّعْرِيضِ وَمَعَ الْإِكْنَانِ، وَنَهَى عَنِ الْمُوَاعَدَةِ الَّتِي هِيَ تَصْرِيحٌ بِالتَّزْوِيجِ وَبِنَاءٌ عَلَيْهِ وَاتِّفَاقٌ عَلَى وَعْدٍ. وَرَخَّصَ لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِغَلَبَةِ النُّفُوسِ وَطَمَحِهَا وَضَعْفِ الْبَشَرِ عَنْ مِلْكِهَا.
اسْتَدَلَّ السادةُ الشَّافِعِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يَجِبُ فِيهِ حَدٌّ، وَقَالُوا: لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَجَ فِي التَّعْرِيضِ فِي النِّكَاحِ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلِ التَّعْرِيضَ فِي النِّكَاحِ مَقَامَ التَّصْرِيحِ. وهَذَا سَاقِطٌ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي التَّصْرِيحِ بِالنِّكَاحِ فِي الْخِطْبَةِ، وَأَذِنَ فِي التَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ النِّكَاحُ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ، وَالْأَعْرَاضُ يَجِبُ صِيَانَتُهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ حَدَّ الْمُعَرِّضِ، لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ الْفَسَقَةُ إِلَى أَخْذِ الْأَعْرَاضِ بِالتَّعْرِيضِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ بِالتَّصْرِيحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أَيْ إِمَّا سِرًّا وَإِمَّا إِعْلَانًا فِي نُفُوسِكُمْ وَبِأَلْسِنَتِكُمْ، فَرَخَّصَ فِي التَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا} أَيْ عَلَى سِرٍّ فَحُذِفَ الْحَرْفُ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا بِحَرْفِ جَرٍّ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "سِرًّا" فَقِيلَ، مَعْنَاهُ نِكَاحًا، أَيْ لَا يَقُلِ الرَّجُلُ لِهَذِهِ الْمُعْتَدَّةِ تَزَوَّجِينِي، بَلْ يُعَرِّضُ إِنْ أَرَادَ، وَلَا يَأْخُذُ مِيثَاقَهَا وَعَهْدَهَا أَلَّا تَنْكِحَ غَيْرَهُ فِي اسْتِسْرَارٍ وَخُفْيَةٍ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقِيلَ: السِّرُّ الزِّنَا، أَيْ لَا يَكُونَنَّ مِنْكُمْ مُوَاعَدَةٌ عَلَى الزِّنَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ التَّزَوُّجِ بَعْدَهَا. قَالَ مَعْنَاهُ جَابِر ابن زَيْدٍ وَأَبُو مِجْلَزٍ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ، وَأَنَّ السِّرَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الزِّنَا، أَيْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ زِنًا، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
فَلَا تَقْرَبَنَ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ............... عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحْنَ أَوْ تَأَبَّدَا
وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ:
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ............... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أَنْفَ الْقِصَاعِ
وَقِيلَ: السِّرُّ الْجِمَاعُ، أَيْ لَا تَصِفُوا أَنْفُسَكُمْ لَهُنَّ بِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ تَرْغِيبًا لَهُنَّ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ ذِكْرَ الْجِمَاعِ مَعَ غَيْرِ الزَّوْجِ فُحْشٌ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ......... كَبِرْتُ وَأَلَّا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي
وَقَدْ يَكُونُ السِّرُّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ، سِرًّا كَانَ أَوْ جَهْرًا، قَالَ الْأَعْشَى:
فَلَنْ يَطْلُبُوا سِرَّهَا لِلْغِنَى ...................... وَلَنْ يُسْلِمُوهَا لِإِزْهَادِهَا
وَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبُوا نِكَاحَهَا لِكَثْرَةِ مَالِهَا، وَلَنْ يُسْلِمُوهَا لِقِلَّةِ مَالِهَا.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْمُوَاعَدَةِ فِي الْعِدَّةِ لِلْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهَا، وَلِلْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَلِلسَّيِّدِ فِي أَمَتِهِ.
وقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ وَصَرَّحَتْ لَهُ بِالْإِجَابَةِ وَلَمْ يُعْقَدِ النِّكَاحُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَالتَّصْرِيحُ لها مَكْرُوهٌ، لِأَنَّ النِّكَاحَ حَادِثٌ بَعْدَ الْخِطْبَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ، كَقَوْلِهِ: "إِلَّا خَطَأً" أَيْ لَكِنْ خَطَأً. وَالْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ هُوَ مَا أُبِيحَ مِنَ التَّعْرِيضِ. وَقَدْ ذَكَرَ الضَّحَّاكُ أَنَّ مِنَ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُعْتَدَّةِ: احْبِسِي عَلَيَّ نَفْسَكِ فَإِنَّ لِي بِكِ رَغْبَةً، فَتَقُولُ هِيَ: وَأَنَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَهَذَا شِبْهُ الْمُوَاعَدَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا} الْمَعْنَى هُنَا: وَلَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ. وَمِنَ الْأَمْرِ الْبَيِّنِ أَنَّ الْقُرْآنَ أَفْصَحُ كَلَامٍ، فَمَا وَرَدَ فِيهِ فَلَا مُعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَلَا يُشَكُّ فِي صِحَّتِهِ وَفَصَاحَتِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ" وَقَالَ هُنَا: "وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ" وَالْمَعْنَى: لَا تَعْزِمُوا عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ فِي زَمَانِ الْعِدَّةِ ثُمَّ حُذِفَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون "ولا تَعْقِدُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ"، لِأَنَّ مَعْنَى" تَعْزِمُوا" وَتَعْقِدُوا وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} يُرِيدُ تَمَامَ الْعِدَّةِ. وَالْكِتَابُ هُنَا هُوَ الْحَدُّ الَّذِي جُعِلَ وَالْقَدْرُ الَّذِي رُسِمَ مِنَ الْمُدَّةِ، سَمَّاهَا كِتَابًا إِذْ قَدْ حَدَّهُ وَفَرَضَهُ كِتَابُ اللَّهِ كَمَا قَالَ: "كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ" وَكَمَا قَالَ: "إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً". فَالْكِتَابُ: الْفَرْضُ، أَيْ حَتَّى يَبْلُغَ الْفَرْضُ أَجَلَهُ، "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ" أي فرض. وقيل:
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيْ حَتَّى يَبْلُغَ فَرْضُ الْكِتَابِ أَجَلَهُ، فَالْكِتَابُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ. وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا حَذْفَ فَهُوَ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قوله تعالى: {مِنْ خِطْبَةِ النسآء} في محل نصبٍ على الحالِ وفي صاحبها وجهان، أحدُهما: الهاءُ المجرورةُ في "به"، والثاني: "ما" المجرورُة بـ "في"، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ، وقال أبو البقاء: حالٌ من الهاءِ المجرورةِ، فيكونُ العاملُ فيه "عَرَّضْتم". ويجوزُ أن يكونَ حالاً من "ما" فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ. وهذا على ظاهره ليس بجيد، لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ على ما تقرَّر، إلا أَنْ تريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ فقد يجوزُ له ذلك.
والخِطْبَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعول أي: من خِطْبَتِكم النساء، فَحُذِفَ الفاعلُ للعلم به. والخِطْبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْب، والخَطْب: الحاجة، ثم خُصَّت بالتماس النكاح لأنه بعضُ الحاجات، يقال: ما خطبُكَ؟ أي: ما حاجتُك. والخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب وهي من قولك: إنّه لَحَسَنُ الجِلْسَةِ والقِعْدَةِ أي: الجلوس والقعود، والخُطْبَةُ الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزجرِ، وكلاهما من الخَطْب الذي هو الكلام، وكانت سَجاحِ يُقال لها خِطْبٌ فتقول: نِكْحٌ.
قوله: {أَوْ أَكْنَنتُمْ} أو: هنا للإِباحةِ أو التخيير أو التفصيلِ أو الإِبهامِ على المخاطب، وأَكَنَّ في نفسِهِ شيئاً أي: أَخْفاه، وَكَنَّ الشيءَ بثوبٍ ونحوهِ: أي سَتَرَهُ به، فالهمزةُ في "أكنَّ" للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ كأشرَقَتْ وشَرَقَتْ. ومفعول "أَكَنَّ" محذوفٌ يعودُ على "ما" الموصولةِ.
في قوله: {فيما عَرَّضْتم} أي: أو أكننتموه. فـ {في أنفسكم} متعلِّقٌ بـ {أَكْنَنتم}، ويَضْعُفُ جَعْلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ.
قوله: {ولكن} هذا الاستدراكُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنّه استدراكٌ من الجملةِ قبلَه، وهي قولُهُ: {ستذكرونَهُنَّ}، فإنَّ الذِّكْرَ يقع على أنحاءٍ كثيرةٍ ووجوهٍ متعددةٍ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهٌ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصوص، ولو لم يُسْتَدْرَك لكانَ من الجائز، لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ. وهو نظيرُ: زيدٌ سيلقى خالداً ولكنْ لا يواجهُهُ بِشَرٍّ. لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً، من جملتها مواجهتُه بالشرِّ، استُدْرِكَت هذه الحالةُ من بينِها. والمُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل "لكنْ" تقديرُهُ: فاذكروهُنَّ، ولكن لا تواعِدُوهُنَّ سراً. وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدراكِ من الجملةِ قبلَه فلا حاجَةَ إلى حذفِ، وإنّما الذي يَحْتاجه ما بعدَ "لكن" وقوعُ ما قبلَها من حيثُ المعنى لا من حيثُ اللفظُ، لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشرِّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ.
قوله: {سِرّاً} فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ مفعولاً ثانياً لـ "تواعِدُوهُنَّ". والثاني أنه حالٌ من فاعلِ "تواعدوهُنَّ" أي: لا تواعدوهُنَّ مُسْتَخْفين بذلك. والثالث: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ أي: مواعدةً سراً. والرابعُ: أنه حالٌ من ذلكَ المصدرِ المُعَرَّفِ، أي: المواعدةَ مستخفيةً والخامس: أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ مجازاً أي: في سِرٍّ. وعلى الأقوالِ الأربعةِ فلا بُدَّ من حَذْفِ مفعولٍ تقديرُهُ: لا تواعدوهُنَّ نكاحاً. والسِّرُّ: ضدُّ الجَهْرِ
قوله: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ} في هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهما: أنّه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لا يندرجُ تحت "سِرّ" على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه، به، كأنّه قال: لكنْ قولوا قولاً معروفاً. والثاني: أنّه متّصلٌ وفيه تأويلان، فإنْ قلتَ بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناءِ؟ قلت: بـ "لا تواعِدُوهُنَّ"، أي: لا تواعِدُوهُنَّ مواعَدةً قطُّ إلّا مواعدةً معروفةً غيرَ مُنْكَرةٍ، أو لا تواعِدُوهُنَّ إلّا بِأَنْ تقولوا، أي: لا تواعدوهُنَّ إلاَّ بالتعريض، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من "سراً" لأدائِهِ إلى قولِكَ: لا تواعِدوهُنَّ إلّا التعريضَ. فَهُو استثناءٌ متصلٌ مفرغٌ على أحدِ تأويلين، الأولُ: أنّه مستثنى من المصدرِ، ولذلك قُدِّر: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قطُّ إلّا مواعدةً معروفةً. والثاني: أنّه من مجرورٍ محذوفٍ، ولذلك قُدِّر بـ "إلاَّ بأَنْ تقولوا"، لأنَّ التقديرَ: لا تواعِدُوهُنَّ بشيءٍ إلّا بِأَنْ تقولوا، فلمَّا حُذِفَتْ الباءُ من "أَنْ" وهي باءُ السببيةِ بقي في "أَنْ" الخلافُ المشهورُ بعدَ حَذْفِ حرفِ الجرِّ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جر؟.
لكنَّ الاستثناءَ المنقطعَ ليس مِنْ شرطِهِ صِحَّةُ تسلُّطِ العاملِ عليه بل هو على قسمين: قسمٍ يَصِحُّ فيه ذلك، وفيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً نحو: ما جاء أحدُ ألا حماراً، ولغةُ تميم إجراؤه مُجْرى المتصلِ فيُجْرون فيه النصبَ والبدليّة بشرطه، وقسم لا يَصِحُّ فيه ذلك نحو: ما زادَ إلا ما نَقَصَ، وما نفَعَ إلا ما ضَرَّ. وحكمُ هذا النصبُ عند العربِ قاطبةً، فالقسمان يشتركان في التقديرِ بلكن عند البصريين، إلاَّ أنَّ أحدَهما يَصِحُّ تسلُّط العاملِ عليه في قولك: ما جاء أَحدٌ إلّا حمار لو قلت: ما جاءَ إلّا حمارٌ صَحَّ بخلافِ القسمِ الثاني، فإنَّه لا يتوجَّه عليه العاملُ.
قوله: {عُقْدَةَ} في نصبهِ ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه مفعولٌ به على أنه ضَمَّنَ "عَزَم" معنى ما يتعدَّى بنفِسِه وهو: تَنْووا أو تباشِروا ونحوُ ذلك. والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرفِ الجر وهو "على، فإنَّ "عَزَم" يتعدَّى بها، قال:
عَزَمَتُ على إقامةِ ذي صباحٍ ................ لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وحذفها جائز كقول عنترة:
ولقد أبيتُ على الطَّوى وأظلُّه .............. حتى أنالَ به كريمَ المَطْعَمِ
أي: وأظلُّ عليه. الثالثُ: أنّه منصوبٌ على المصدرِ، فإنَّ المعنى: ولا تَعْقِدُوا عقدةَ، فكأنه مصدرٌ على غير الصدرِ، نحو: قَعَدْتُ جلوساً، والعُقْدَةُ مصدرٌ مضافٍ للمفعولِ والفاعلُ محذوفٌ، أي: عُقْدَتَكم النكاحَ.
قوله: {فاحذروه} الهاءُ تعودُ على اللَّهِ تعالى، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: فاحذَرُوا عقابَه. ويَحْتَمِلُ أَنْ تعودَ على "ما" في قوله: {مَا في أَنْفُسِكُمْ} بمعنى ما في أنفسكم من العَزْمِ على ما لا يجوزُ.
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 76
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى