منتدى مدينة أرمناز العام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، الآية: 238

اذهب الى الأسفل

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، الآية: 238 Empty فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، الآية: 238

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود الخميس أغسطس 23, 2012 8:32 am

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ
(238)
قوله تعالى: {حافِظُوا} خطاب لجمع الْأُمَّةِ، وَالْآيَةُ أَمْرٌ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وبِجَمِيعِ شُرُوطِهَا. وَالْمُحَافَظَةُ أي الْمُدَاوَمَةُ والمواظبة عليها. كما ثَبتَ في الصحيحينِ عن ابنِ مسعودٍ قال: سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أيُّ العملِ أفضلُ؟ قال: ((الصلاةُ على وقتِها)). قلتُ: ثمَّ أيّ؟ قال: ((الجهادُ في سبيل الله)). قلتُ: ثمّ أيّ؟ قال: ((بِرُّ الوالدين)). قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدتُه لزادني.
وروى الإمامُ أحمدٍ أنَّ أمَّ فَرْوَة ـ وكانت ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الأعمال، فقال: ((إنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى اللهِ تعجيلُ الصلاةِ لأوَّلِ وقتِها)).
والمحافظةُ على الصلاةِ ـ أيضاً ـ أن يَدخُلَها العبدُ بالهيبة، ويخرجَ بالتعظيمِ، ويَستديمَ الشُهودَ بنعتِ الأَدَبِ.
ولعلَّ الأمرَ بها عُقيبَ الحضِّ على العفوِ، والنهيِ عن تركِ الفضل
لأنّها تُهيّئُ النفسَ لفواضِلِ المَلَكاتِ لكونِها الناهية عن الفحشاء والمنكر، أو ليجمع بين التعظيم لأمرِ اللهِ تعالى والشفقةِ عل خلقِه.
وقيل: أمرَ بها في خلال بيانِ ما تعلّقَ بالأزواج والأولادِ من الأحكام الشرعية المتشابكة إيذاناً بأنها حقيقةٌ بكمال الاعتناء بشأنِها والمثابرةِ عليها من غير اشتغال عنها بشأن أولئك فكأنّه قيل: لا يَشْغَلَنَّكم التَعَلُّقُ بالنساءِ وأحوالِهِنَّ وتَوَجَّهوا إلى مولاكم بالمحافظةِ على ما هو عمادُ الدين ومعراجُ المؤمنين.
وَالْوُسْطَى تَأْنِيثُ الْأَوْسَطِ. وَوَسَطُ الشَّيْءِ خَيْرُهُ وَأَعْدَلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}. وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَمْدَحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرًّا فِي مَفَاخِرِهِمْ ............ وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وَوَسَطَ فُلَانٌ الْقَوْمَ يَسِطهُمْ أَيْ صَارَ فِي وَسَطِهِمْ. وَأَفْرَدَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ وَقَدْ دَخَلَتْ قَبْلُ فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ تَشْرِيفًا لَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ}، وَقَوْلِهِ: {فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الظُّهْرُ، لِأَنَّهَا وَسَطَ النَّهَارِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ النَّهَارَ أَوَّلُهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا بَدَأْنَا بِالظُّهْرِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ فِي الْإِسْلَامِ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا الْوُسْطَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وُسْطَى مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ رضي الله عنهما حِينَ أَمْلَتَا: "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" بِالْوَاوِ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ أَشَقَّ عَلَى المسلمين، لأنها كانت تجئ فِي الْهَاجِرَةِ وَهُمْ قَدْ نَفَّهَتْهُمْ أَعْمَالُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ تَكُنْ تُصَلَّى صَلَاةٌ أَشَدُّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، فَنَزَلَتْ: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى}. وَقَالَ: إِنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْنِ وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الظُّهْرِ، زَادَ الطَّيَالِسِيُّ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصليها بالهجير.
الثَّانِي: أَنَّهَا الْعَصْرُ، لِأَنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْ نَهَارٍ وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْ لَيْلٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَأَجْوَدُ مِنْ هَذَا الِاحْتِجَاجِ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا قِيلَ لَهَا وُسْطَى لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَوَّلُ مَا فُرِضَ وَالْأُخْرَى الثَّانِيَةُ مِمَّا فُرِضَ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا وُسْطَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَثَرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجُمْهُورُ مِنَ النَّاسِ. وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، منهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ)) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الثَّالِثُ: إِنَّهَا الْمَغْرِبُ، قَالَهُ قَبِيصَةُ بْنُ أَبِي ذُؤَيْبٍ فِي جَمَاعَةٍ.
وَالْحُجَّةُ لَهُمْ أَنَّهَا مُتَوَسِّطَةٌ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ لَيْسَتْ بِأَقَلِّهَا وَلَا أَكْثَرِهَا وَلَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ، وَإِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا وَلَمْ يُعَجِّلْهَا، وَبَعْدَهَا صَلَاتَا جَهْرٍ وَقَبْلَهَا صَلَاتَا سِرٍّ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ اللَّهِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ لَمْ يُحِطَّهَا عَنْ مُسَافِرٍ وَلَا مُقِيمٍ فَتَحَ اللَّهُ بِهَا صَلَاةَ اللَّيْلِ وَخَتَمَ بِهَا صَلَاةَ النَّهَارِ فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ صَلَّى بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَ عِشْرِينَ سَنَةً ـ أَوْ قَالَ: أَرْبَعِينَ سَنَةً)).
الرَّابِعُ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ لَا تُقْصَرَانِ، وَتَجِيءُ فِي وَقْتِ نَوْمٍ وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا وَذَلِكَ شَاقٌّ فَوَقَعَ التَّأْكِيدُ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا.
الْخَامِسُ: إِنَّهَا الصُّبْحُ، لِأَنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْ لَيْلٍ يُجْهَرُ فِيهِمَا وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْ نَهَارٍ يُسَرُّ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهَا شَاقٌّ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَفِي زَمَنِ الصَّيْفِ لِقِصَرِ اللَّيْلِ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا وُسْطَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، أخرجه مالك في الْمُوَطَّأُ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ تَعْلِيقًا، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَالصَّحِيحُ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَرُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ مَعْرُوفٍ صَحِيحٍ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا الصُّبْحُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ} يَعْنِي فِيهَا، وَلَا صَلَاةَ مَكْتُوبَةً فِيهَا قُنُوتٌ إِلَّا الصُّبْحَ.
قَالَ أَبُو رَجَاءٍ: صَلَّى بِنَا ابْنُ عَبَّاسٍ صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِالْبَصْرَةِ فَقَنَتَ فِيهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: هَذِهِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُومَ فِيهَا قَانِتِينَ. وَقَالَ أَنَسٌ: قَنَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ الرُّكُوعِ.
السَّادِسُ: صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّهَا خُصَّتْ بِالْجَمْعِ لَهَا وَالْخُطْبَةِ فِيهَا وَجُعِلَتْ عِيدًا، ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَمَكِّيٌّ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ: ((لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَحْرِقْ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ)).
السَّابِعُ: إِنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ مَعًا. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ)). الْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ. وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: ((أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا)). يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ: ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها". قال الإمام النووي: "تضامون" بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شدّدها فتح التاء، ومن خفّفها ضمّ التاء، ومعنى المشدّد أنّكم لا تتضامّون وتتلطفون في التوصل إلى رؤيته، ومعنى المخفّف أنّه لا يلحقكم ضيمٌ، وهو المشقّة والتعب. وفي رواية: لا تَضارّون.
وروى عمارة بن رويبة قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)). يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ. وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ)). كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَسُمِّيَتَا الْبَرْدَيْنِ لِأَنَّهُمَا يُفْعَلَانِ فِي وَقْتَيِ الْبَرْدِ.
الثَّامِنُ: إِنَّهَا الْعَتَمَةُ وَالصُّبْحُ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: اسْمَعُوا وَبَلِّغُوا مَنْ خَلْفَكُمْ حَافِظُوا عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ ـ يَعْنِي فِي جَمَاعَةٍ ـ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى مَرَافِقِكُمْ وَرُكَبِكُمْ، قَالَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ. وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ـ وَقَالَ ـ إِنَّهُمَا أَشَدُّ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ)). وَجَعَلَ لِمُصَلِّي الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ قِيَامَ لَيْلَةٍ وَالْعَتَمَةِ نِصْفَ لَيْلَةٍ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ مَوْقُوفًا عَلَى عُثْمَانَ وَرَفَعَهُ مُسْلِمٌ، وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ قِيَامُ نِصْفِ لَيْلَةٍ وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ)). وَهَذَا خِلَافُ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ.
التَّاسِعُ: أنها الصلوات الخمس بجملتها، قال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، لِأَنَّ
قَوْلَهُ تَعَالَى: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ} يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، ثُمَّ خُصَّ الْفَرْضُ بِالذِّكْرِ.
الْعَاشِرُ: إِنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، قَالَهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خثيم، فَخَبَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّلَوَاتِ كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ، وَكَمَا خَبَّأَ سَاعَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ الْمُسْتَجَابِ فِيهَا الدُّعَاءُ لِيَقُومُوا بِاللَّيْلِ فِي الظُّلُمَاتِ لِمُنَاجَاةِ عَالِمِ الْخَفِيَّاتِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَنَّهَا مُبْهَمَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ: "حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى". فَقَالَ رَجُلٌ: هِيَ إِذًا صَلَاةُ الْعَصْرِ؟ قَالَ الْبَرَاءُ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَزِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهَا بَعْدَ أَنْ عُيِّنَتْ نُسِخَ تَعْيِينُهَا وَأُبْهِمَتْ فَارْتَفَعَ التَّعْيِينُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا اخْتِيَارُ مُسْلِمٍ، لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِهَا وَأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَنْ أَثْبَتَ "وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها حِينَ أَمَرَتْهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا قُرْآنًا. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَالتَّفْسِيرِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عمرو ابن رَافِعٍ قَالَ: أَمَرَتْنِي أمُّ المؤمنين رضي الله عنها أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَأَمْلَتْ عَلَيَّ "حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ـ وَهِيَ الْعَصْرُ ـ وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" وَقَالَتْ: هَكَذَا سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرءوها. فَقَوْلُهَا:"وَهِيَ الْعَصْرُ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ هُوَ: "وَهِيَ الْعَصْرُ". وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ حَفْصَةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها "وَصَلَاةِ الْعَصْرِ"، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَعَنْ حَفْصَةَ أَيْضًا "صَلَاةِ الْعَصْرِ" بِغَيْرِ وَاوٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَهَذَا الْخِلَافُ فِي هَذَا اللَّفْظِ الْمَزِيدِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ وَصِحَّةِ مَا فِي الْإِمَامِ مُصْحَفِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَيْهِ حُجَّةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ: وَالصَّلَاةُ الْوُسْطَى وَصَلَاةُ الْعَصْرِ جَعَلَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى غَيْرَ الْعَصْرِ، وَفِي هَذَا دَفْعٌ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: شَغَلَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى ملأ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا "الحديث.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطى} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ أَنَّهَا تَنْقُصُ عَنْ سَبْعَةٍ وَتَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ فَرْدٌ إِلَّا الْخَمْسَةُ، وَالْأَزْوَاجُ لَا وَسَطَ لَهَا فَثَبَتَ أَنَّهَا خَمْسَةٌ. وَفِي حَدِيثِ
الْإِسْرَاءِ "هِيَ خَمْسٌ وَهُنَّ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ} مَعْنَاهُ فِي صَلَاتِكُمْ. وقوله: "قانِتِينَ" طائعين. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ قُنُوتٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّمَا يُعْنَى بِهِ الطَّاعَةُ. وَقَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّ أَهْلَ كُلِّ دِينٍ فَهُمُ الْيَوْمَ يَقُومُونَ عَاصِينَ، فَقِيلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَقُومُوا لِلَّهِ طَائِعِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى قَانِتِينَ خَاشِعِينَ. وَالْقُنُوتُ طُولُ الرُّكُوعِ وَالْخُشُوعِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجُنَاحِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: الْقُنُوتُ طُولُ الْقِيَامِ، وَقَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَقَرَأَ: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً". وَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ)) خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَانِتًا لِلَّهِ يَدْعُو رَبَّهُ ...................... وَعَلَى عَمْدٍ مِنَ النَّاسِ اعْتَزَلْ
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "قانِتِينَ" دَاعِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ. قَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ دَعَا، وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ طَوَّلَ قِيَامَهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: "قانِتِينَ" سَاكِتِينَ، دَلِيلُهُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وغيره عن عبد الله ابن مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: ((إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا)). وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: "وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ" فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ طُرًّا أَنَّ الْكَلَامَ عَامِدًا فِي الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي إِصْلَاحِ صَلَاتِهِ أَنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، إِلَّا مَا روى عن الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَكَلَّمَ لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْجِسَامِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي النَّظَرِ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ". وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ اللَّهَ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَلَّا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ)). وَلَيْسَ الْحَادِثُ الْجَسِيمُ الَّذِي يَجِبُ لَهُ قَطْعُ الصَّلَاةِ وَمِنْ أَجْلِهِ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ، فَمَنْ قَطَعَ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَاهُ مِنَ الْفَضْلِ فِي إِحْيَاءِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ مَا كَانَ بِسَبِيلِ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ صَلَاتَهُ وَلَمْ يَبْنِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَلَامِ سَاهِيًا فِيهَا، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا سَاهِيًا لَا يُفْسِدُهَا.
وأمّا ديث "ذو اليدين" السالف الذكر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجابه ولم يقطع صلاتَه، فقد قالوا إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ عَرَفَ النَّاسُ صَلَاتَهُمْ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهَا أَعَادَهَا، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ: أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ يُفْسِدُهَا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا لِصَلَاةٍ كَانَ أو لغير ذلك، وهو قوله إبراهيم النخعي وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَقَتَادَةَ. وَزَعَمَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: مَنْ تَعَمَّدَ الْكَلَامَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ وَأَنَّهُ فِيهَا أَفْسَدَ صَلَاتَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا أَوْ تَكَلَّمَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَهَا عِنْدَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَبْنِي. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي صَلَاتِهِ لِإِصْلَاحِهَا لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَسَدَتْ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْمَشْهُورُ. وَذَكَرَ الْخِرَقِيُّ عنه ـ هو شيخ الحبابلة ـ أَنَّ مَذْهَبَهُ فِيمَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، إِلَّا الْإِمَامَ خَاصَّةً فَإِنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ لِمَصْلَحَةِ صَلَاتِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ.
وإذا سها الإمام في صلاته فقَدْ قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ).
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُومِ الصَّحِيحِ يُصَلِّي قَاعِدًا خَلْفَ إِمَامٍ مَرِيضٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ، فَأَجَازَتْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ جُمْهُورُهُمْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِمَامِ: ((وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ)). وَقَدْ أَجَازَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ صَلَاةَ الْقَائِمِ خَلْفَ الْإِمَامِ الْمَرِيضِ لِأَنَّ كُلًّا يُؤَدِّي فَرْضَهُ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ صَلَّى فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ قَائِمًا يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَالنَّاسُ قِيَامٌ خَلْفَهُ، وَلَمْ يُشِرْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَا إِلَيْهِمْ بِالْجُلُوسِ، وَأَكْمَلَ صَلَاتَهُ بِهِمْ جَالِسًا وَهُمْ قِيَامٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ بَعْدَ سُقُوطِهِ عَنْ فَرَسِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْآخِرَ مِنْ فِعْلِهِ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّهَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ الْقُيَّامَ أَحَدٌ جالسًا، فَإِنْ أَمَّهُمْ قَاعِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي قَاعِدًا)). قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَلِيلًا تَمَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَفَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ. قَالَ: وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ أَعَادَ الصَّلَاةَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ الْمَرِيضُ جَالِسًا بِقَوْمٍ أصحاء ومرضى جُلُوسًا فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ، وَصَلَاةُ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ مِمَّنْ حُكْمُهُ الْقِيَامُ بَاطِلَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ. وَقَالُوا: لَوْ صَلَّى وَهُوَ يُومِئُ بِقَوْمٍ وَهُمْ يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ لَمْ تُجْزِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَأَجْزَأَتِ الإمامَ صلاتُه. وكان زفر يقول: تجزيهم صَلَاتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى فَرْضِهِمْ وَصَلَّى إِمَامُهُمْ عَلَى فَرْضِهِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَصِحَّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ الصَّحِيحِ قَاعِدًا خَلْفَ الْإِمَامِ الْمَرِيضِ جَائِزَةٌ، فَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ لَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: ((أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))؟ قَالُوا: بَلَى، نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ! قَالَ: ((أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمِنْ طَاعَةِ اللَّهِ طَاعَتِي))؟ قَالُوا: بَلَى، نَشْهَدُ أَنَّهُ مَنْ أَطَاعَكَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمِنْ طَاعَةِ اللَّهِ طَاعَتُكَ. قَالَ: ((فَإِنَّ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَنْ تُطِيعُونِي وَمِنْ طَاعَتِي أَنْ تُطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ فَإِنْ صَلَّوْا قُعُودًا فَصَلُّوا قُعُودًا)). وفِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ قُعُودًا إِذَا صَلَّى إِمَامُهُمْ قَاعِدًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَى إِجَازَتِهِ، لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةً أَفْتَوْا بِهِ: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا هُبُوطَ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ وَأُعِيذُوا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ خِلَافٌ لِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، لَا بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ وَلَا مُنْقَطِعٍ، فَكَأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا صَلَّى قَاعِدًا كَانَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا قُعُودًا. وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وإسحاق ابن إِبْرَاهِيمَ وَأَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ. وَهَذِهِ السُّنَّةُ رَوَاهَا عَنِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ. وَأَوَّلُ مَنْ أَبْطَلَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ قَاعِدًا إِذَا صَلَّى إِمَامُهُ جَالِسًا الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ صَاحِبُ النَّخَعِيِّ وَأَخَذَ عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ حَمَّادٍ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ مَنْ بَعْدَهُ من أصحابه. وأعلى شيءٍ احتجوا به فيه شيءٌ رَوَاهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا)). وَهَذَا لَوْ صَحَّ إِسْنَادُهُ لَكَانَ مُرْسَلًا، وَالْمُرْسَلُ مِنَ الْخَبَرِ وَمَا لَمْ يُرْوَ سِيَّانِ فِي الْحُكْمِ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ فِيمَنْ لَقِيتُ أَفْضَلَ مِنْ عَطَاءٍ، وَلَا فِيمَنْ لَقِيتُ أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، وَمَا أَتَيْتُهُ بِشَيْءٍ قَطُّ مِنْ رَأْيٍ إِلَّا جَاءَنِي فِيهِ بِحَدِيثٍ، وَزَعَمَ أَنَّ عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا، فَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يُجَرِّحُ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ وَيُكَذِّبُهُ ضِدَّ قَوْلِ مَنِ انْتَحَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَذْهَبَهُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَأَمَّا صلاة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ فَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ فِيهَا مُجْمَلَةً وَمُخْتَصَرَةً، وَبَعْضُهَا مُفَصَّلَةٌ مُبَيَّنَةٌ، فَفِي بَعْضِهَا: فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَأْتَمُّونَ بِأَبِي بَكْرٍ. وَفِي بَعْضِهَا: فَجَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا مُفَسَّرٌ. وَفِيهِ: فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَاعِدًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَأَمَّا إِجْمَالُ هَذَا الْخَبَرِ فَإِنَّ عَائِشَةَ حَكَتْ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى هذا الموضع، وآخر القصة عند جابر ابن عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ عِنْدَ سُقُوطِهِ عَنْ فَرَسِهِ فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: ((كِدْتُمْ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلَ فارس والروم يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلَا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا)). قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فَفِي هَذَا الْخَبَرِ الْمُفَسَّرِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَعَدَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ وَتَحَوَّلَ أَبُو بَكْرٍ مَأْمُومًا يَقْتَدِي بِصَلَاتِهِ وَيُكَبِّرُ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ لِيَقْتَدُوا بِصَلَاتِهِ، أَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ بِالْقُعُودِ حِينَ رَآهُمْ قِيَامًا، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَمَرَهُمْ أَيْضًا بِالْقُعُودِ إِذَا صَلَّى إِمَامُهُمْ قَاعِدًا. وَقَدْ شَهِدَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَاتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ(أي انخدش)، وَكَانَ سُقُوطُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ آخِرِ سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَشَهِدَ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي عِلَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ هَذَا التَّارِيخِ فَأَدَّى كُلَّ خَبَرٍ بِلَفْظِهِ، أَلَا تَرَاهُ يَذْكُرُ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ: رَفَعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ، وَتِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ عِنْدَ سُقُوطِهِ عَنْ فَرَسِهِ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ لِيُسْمِعَ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ عَلَى صِغَرِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ رَفْعُهُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلَّتِهِ، فَلَمَّا صَحَّ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَلَ بَعْضَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ نَاسِخًا لِبَعْضٍ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ كَانَ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَكَانَ فِيهَا إِمَامًا وَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا آخِرَ عُمُرِهِ فَكَانَ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا بَيْنَ بَرِيرَةَ وَثَوْبَةَ، وَكَانَ فِيهَا مَأْمُومًا، وَصَلَّى قَاعِدًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ. رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْقَوْمِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ قَاعِدًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَاتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً لَا صَلَاةً وَاحِدَةً. وَإِنَّ فِي خبر عبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ. يُرِيدُ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسَ وَالْآخَرُ عَلِيًّا. وَفِي خَبَرِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ: ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ بَرِيرَةَ وَثَوْبَةَ، إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى نَعْلَيْهِ تَخُطَّانِ فِي الْحَصَى وَأَنْظُرُ إِلَى بُطُونِ قَدَمَيْهِ، الْحَدِيثَ. فَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّهُمَا كَانَتَا صَلَاتَيْنِ لَا صَلَاةً وَاحِدَةً. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا محمد ابن إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى بِالنَّاسِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّفِّ خَلْفَهُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: خَالَفَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ فِي مَتْنِ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ فَجَعَلَ شُعْبَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُومًا حَيْثُ صَلَّى قَاعِدًا وَالْقَوْمُ قِيَامٌ، وَجَعَلَ زَائِدَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمَامًا حَيْثُ صَلَّى قَاعِدًا وَالْقَوْمُ قِيَامٌ، وَهُمَا مُتْقِنَانِ حَافِظَانِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَضَادَّتَا فِي الظَّاهِرِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ نَاسِخًا لِأَمْرٍ مُطْلَقٍ مُتَقَدِّمٍ! فَمَنْ جَعَلَ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ الْآخَرَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ثَبَتَ لَهُ عَلَى صِحَّتِهِ، سَوَّغَ لِخَصْمِهِ أَخْذَ مَا تَرَكَ مِنَ الْخَبَرَيْنِ وَتَرْكَ مَا أَخَذَ مِنْهُمَا.
قوله تعالى: {حَافِظُواْ} لمَّا ضَمَّن المحافظةَ معنى المواظبةِ عَدَّاها بـ "على" وفي "حافِظوا" معنىً لا يوجَدُ في "احفظوا".
قوله: {والصلاة الوسطى} ذَكَر الخاصَّ بعد العامَّ، والوُسْطى: فُعْلَى معناها التفضيلُ، فإنها مؤنثةٌ للأوسط، وهي من الوسطِ الذي هو الخِيارُ وليست من الوَسَطِ الذي معناه : متوسطٌ بين شيئين، لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل إلّا ما يَقْبل الزيادةَ والنقصَ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسطِ بين الشيئين فإنه لا يَقْبَلُهما فلا يُبْنى منه أفعلُ التفضيل.
وقرأ عليرضي الله عنه: "وعلى الصلاة" بإعادةِ حرفِ الجَرِّ توكيداً، وقَرَأَتْ عائشةُ رضي الله عنها: "والصلاةَ" بالنصبِ، وفيها وجهان، أحدُهما على الاختصاصِ، والثاني على موضعِ المجرورِ، مثلُه نحو: مررتُ بزيدٍ وعَمْراً.
قوله: {قَانِتِينَ} حالٌ من فاعلِ "قوموا". و"لله" يجوزُ أَنْ تتعلَّقَ اللامُ بـ "قوموا"، ويجوزُ أنَ تتعلَّق بـ "قانتين"، ويدلُّ على لثاني قولُه تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} البقرة: 116. ومعنى اللامِ التعليلُ.
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 76
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى