منتدى مدينة أرمناز العام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 19

اذهب الى الأسفل

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 19 Empty فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 19

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود الجمعة سبتمبر 07, 2012 5:05 pm

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
قولُه تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} أو: فيها خمسةُ أقوالٍ، أظهرُها: أَنَّها للتفصيلِ بمعنى أنَّ الناظرينَ في حالِ هؤلاء منهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بحال المُسْتَوقِدِ الذي هذه صفتُهُ، ومنهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بأصحابِ صَيِّبٍ هذه صفتُه. الثاني: أنّها للإِبهامِ، أي: إنَّ اللهَ أَبْهَم على عبادِه تَشبيهَهم بهؤلاء أو بهؤلاء، الثالث: أنَّها للشَّكِّ، بمعنى أنَّ الناظِرَ يَشُكُّ في تَشبيهِهم. الرابع: أنّها للإِباحة. الخامسُ: أنَّها للتَخييرِ، أي: أُبيح للناسِ أنْ يُشبِّهوهم بِكذا أو بِكذا، وخُيِّروا في ذلك. وزاد الكوفيّون فيها معنيين آخرين، أحدُهما: كونُها بمعنى الواو وأنشدوا:
جاء الخلافةَ أو كانَتْ له قَدَراً ......... كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
والثاني: كونُها بمعنى بل، وأنْشَدوا:
بَدَتْ مثلَ قَرْن الشمسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى ...
... وصورتِها، أَوْ أَنْتَ في العينِ أَمْلَحُ
أي: بل أنتِ. و"كصيبٍ" معطوفٌ على "كَمَثَل"، فهو في محلِّ رفعٍ، ولا بُدَّ من حذف مضافَيْنِ، ليصِحَّ المعنى، التقدير: أو كمثل ذَوي صَيِّب، ولذلك رَجَعَ عليه ضميرُ الجمع في قولِه: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم} لأنَّ المعنى على تشبيهِهم بأصحابِ الصَيِّبِ لا بالصَيِّبِ نفسِه. و"الصيِّبُ": المَطَرُ، سُمِّي بذلك لنزولِهِ، يقال: صابَ يصُوبُ إذا نَزَلَ، قال الشاعر:
فلسْتُ لإِنسِيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ ............ تَنَزَّلَ من جوِّ السماءِ يَصُوبُ
وقال آخر:
فلا تَعْدِلي بيني وبينَ مُغَمَّرٍ........... سَقَتْكِ رَوايا المُزْنِ حيثُ تَصُوبُ
واختُلف في وزن صَيِّب: فمذهَبُ البَصْريين أنَّه "فَيْعِل"، والأصلُ صَيْوَبٍ فَأُدْغِمَ كَمَيِّتٍ وهَيِّنٍ، والأصلُ: مَيْوِت وهَيْوِن. وقال بعض الكوفيين: وزنُه فَعِيِلٍ ، والأصلُ "صَويبٍ بِزِنَةِ طَويلٍ، وهذا خطأٌ لأنّه كانَ ينبغي أن يَصِحَّ ولا يُعَلَّ كطويلٍ.
وإذا قيل بأنَّ الجُملَةَ مِن قولِه: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} استئنافيَّةٌ،
ومِنْ قولِه: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أنّها مِن وصفِ المنافقين كانتا جملتي
اعتراضٍ بين المتعاطفَيْن، أعني قولَه: "كمِثْلِ" و"كصيّبٍ".
قولُه: "مِن السماءِ" يَحْتمل وجهينِ، أحدُهما أَن يَكونَ مُتَعَلِّقاً بـ "صَيِّب" لأنّه يَعملُ عملَ الفعلِ، التقديرُ: كَمَطَرٍ يَصوبُ من السماءِ، و"مِنْ" لابتداءِ الغاية. والثاني: أن يكونَ في محلِّ جَرٍّ صفَةً لصَيِّبٍ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وتكونُ "مِنْ" للتبعيض، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذفِ مضافٍ، تقديرهُ: كصيِّب كائنٍ من أمطارِ السماءِ.
ثم ساق ـ سبحانَه ـ المثلَ الثاني فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ}.
وتستعمل "أو" للتسوية بين الشيئين وهي مفيدةٌ أنَّ التمثيلَ بأيِّهما أو بمجموعِهِما يؤدّي إلى المَقصود، فهي مانعةٌ أو مُجوِّزةٌ للجمعِ بينهما.
و"الصيّبُ" المطرُ، مِنَ الصَوْبِ وهو النزولُ. يقال: صابَ صَوْباً، إذا نَزَل أو انحدر، وسمّيَ به المطرُ لنزوله، وفي الجملة الكريمة إيجازٌ بحذف ما دَلَّ عليه المَقامُ دِلالةً واضحةً. والتقدير: أوْ كَمِثْلِ ذوي صيّبٍ. والمعنى أن قصّةَ هؤلاء المنافقين مشبَّهةٌ بقصّة الذي استوقد ناراً، أو بقصة ذوي صَيِّبٍ.
و"السماء": كلُّ ما علا من سقفٍ ونحوِه، والمراد بها السحاب. وكلُّ ما عَلاَك، من سقف ونحوه، سماء، وهي مشتقةٌ من السُّمُوِّ، وهو الارتفاعُ والأصل: سَماوٌ، وإنما قُلِبَتِ الواوُ هَمْزَةً لوقوعِها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ، وهو بدلٌ مطَّردٌ، نحو: كِساء ورِدَاء، بخلافِ نحو: سِقاية وشَقاوة، لعدم تطرُّفِ حرفِ العلَّة، ولذلك لَمَّا دَخلت عليها تاءُ التأنيث صَحَّتْ نحو: سَماوة.
ويُسَمّى الطينُ والكَلأُ أيضًا سماء، يُقال: ما زِلْنا نَطأُ السماءَ حتّى أتيناكم، يُريدون الكَلَأَ والطّينَ. ويُقالُ لِظَهْرِ الفرسِ أيضًا سماءٌ لِعُلُوِّهِ قال الشاعر:
وأحْمَرُ كالديباجِ أمّا سَمَاؤهُ ................... فَرَيّا وأمّا أرْضُهُ فَمُحُولُ
فالسَمَاءُ: ما عَلا والأرضُ: ما سَفُلَ على ما تقدم.
والسماءُ مؤنَّثٌ، وقد تُذَكَّر، ويُجْمع على سَماوات وأَسْمِيَة وسُمِيَّ، والأصل: فُعول، إلّا أنَّه أُعِلَّ إعلالَ عصيٍّ بقلب الواوين ياءين وهو قلبٌ مطَّرد في الجمع، ويَقِلُّ في المفرد نحو: عَتا عتِيَّا، كما شَذَّ التصحيحُ في الجمع، قالوا : "إنَّكم تَنظرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ"، وجُمِعَ أيضاً على سَمَاءٍ، ولكنَّ مُفرَدَه سَماوة، فيكونُ من باب تَمْرة وتمر.
قولهُ تعالَى: "فيه ظلماتٌ وَرَعْدٌ وبَرْقٌ" يَحْتمِل أربعةَ أوجه، أحدها: أَنْ يكونَ صفةً لـ "صَيِّب". الثاني: أن يكونَ حالاً منه، وإنْ كان نكِرَةً لتخصُّصِهِ: إِمَّا بالعملِ في الجارِّ بعدَه، أو بصفةٍ بالجارِّ بعده. الثالث: أنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المُسْتَكِنِّ في "مِن السماءِ" إذا قيل إنَّه صِفَةٌ لِصَيِّبٍ، فيتعلَّقُ في التقادير الثلاثةِ بمحذوفٍ، إلَّا أنَّه على القولِ الأولِ في محلِّ جَرٍّ لِكونِه صِفَةً لمَجرورٍ، وعلى القولين الأخيرين في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ.
و"ظلماتٌ" على جميع هذه الأقوالِ فاعلٌ بِه لأنَّ الجارَّ
والمجرورَ والظرفَ متى اعتمدا على موصوفٍ أو ذي حالٍ أو ذي خَبَرٍ أو على نَفْيٍ أو اسْتِفْهامٍ عمِلاَ عَمَلَ الفِعْلِ، والأخفشُ يُعْمِلُهما مُطلَقاً كالوصف.
ويمكن أن يكون: {فيه ظلماتٌ} ابتداء وخبر، و"ظلمات" بالجمعِ إشارةٌ إلى ظُلمَةِ الليلِ وظُلْمَةِ الدَّجْنِ وهو الغَيْمُ، ومن حيث تتراكب وتتزايد جُمعت.
الرابعُ: أنْ يَكونَ خَبَراً مُقَدَّماً و"ظلماتٌ" مبتدأ، والجملةُ تَحتَمِلُ وجهين: الجَرَّ على أنَّها صِفَةٌ لصيِّبٍ. والثاني: النصبَ على الحالِ، وصاحِبُ الحالِ يُحْتمل أن يَكونَ "كصيِّب" وإنْ كان نَكَرَةً لتخصيصهِ بما تقدَّمه، وأن يكونَ الضميرَ المستكنَّ في "مِنْ السماء" إذا جُعِلَ وصفاً لصيِّب، والضمير في "فيهِ" ضميرُ الصَيِّب.
وإنَّ جَعْلَ الجارَّ صفةً أو حالاً، ورفْعَ "ظلماتٌ" على الفاعلية به أَرْجَحُ مِنْ جَعْلِ "فيه ظلماتٌ" جملةً برأسِها في محلِّ صفةٍ أو حالٍ، لأنَّ الجارَّ أقربُ إلى المفردِ من الجملة، وأصلُ الصفةِ والحالِ أن يكونا مفرَدَيْنِ.
"وَرَعْدٌ وبَرْقٌ" معطوفانِ على "ظُلُماتٌ" بالاعتبارين المتقدمين، وهما في الأصلِ مصدران، تقول: رَعَدت السماءُ تَرْعُدُ رَعْداً وَبَرَقَتْ تبرُقُ بَرْقاً، وهما هنا على المصدريَّة، ويَجوزُ أنْ يَكونا بمعنى الراعِدِ والبارِق نحو: رجلٌ عَدْلٌ، والظاهِرُ أنّهما في الآيةِ ليس المُرادُ بهما المَصْدَرَ بل جُعِلاَ اسْمًا للهَزِّ واللَّمَعَانِ، وهو مقصودُ الآيةِ، ولا حاجةَ
حينئذٍ إلى جَعْلِهِمَا بمعنى اسمِ فاعلٍ.
وإيرادُ هذه الألفاظُ بصفةِ التَنكيرِ يُفيدُ التَهْويلَ، ويكون المعنى:
أو أنَّ مَثَلَ هؤلاء المنافقين كمَثَلِ قومٍ نَزَلَ بهِمُ المَطَرُ مِنَ السماءِ تَصحَبُهُ ظُلُماتٌ كأنَّها سَوادُ الليلِ، ورَعْدٌ يُصِمُّ الآذانَ، وبَرْقٌ يَخْطَفُ الأبصارَ؛ وصَواعِقٌ تُحْرِقُ ما تُصيبُهُ.
واختلف العلماء قديماً في الرعدِ ففي الترمذيِّ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: سألتِ اليهودُ النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم عن الرعدِ ما هو؟ قال: ((مَلَكٌ مِنَ المَلائكةِ مُوَكَّلٌ بالسّحابِ مَعَهُ مَخاريقَ من نارٍ يَسوقُ بها السّحابَ حيثُ شاءَ اللهُ)). فقالوا: فما هذا الصوتُ الذي نَسْمَعُ؟ قال: ((زجرُهُ بالسّحابِ إذا زَجَرَهُ حتّى يَنْتهي إلى حيثُ أمَرَ اللهُ)). قالوا: صدقتَ الحديث بطوله. وعلى هذا التفسير أكثرُ العُلَماءِ فالرَّعْدُ: اسمُ الصّوْتِ المَسموعِ. وقالَه عليٌّ رضي اللهُ عنه وهو المعلومُ في لُغةِ العَرَبِ وقد قالَ لبيدٌ في جاهليَّتِه:
فَجَعَني الرّعْدُ والصَواعِقُ بالـ ............ ـفارِس ـ يوم الكريهة ـ النّجْدِ
ورُوي عن ابنِ عباسٍ أنّه قال: الرعدُ ريحٌ تَخْتَنِقُ بينَ السّحابِ فتُصَوِّتُ ذلك الصوتَ. واختلَفوا في البَرْقِ فرُوِيَ عن عليٍّ وابنِ مَسعودٍ وابنِ عبّاسٍ رُضْوانُ اللهِ عليهم: البرْقُ مِخْراقُ حديدٍ بيدِ المَلَكِ يَسوقُ بِهِ السحابَ. قلتُ: وهو الظاهرُ من حديثِ الترمذيِّ. وعن ابنِ عباسٍ أيضًا: هو سَوْطٌ مِنْ نورٍ بيَدِ المَلَكِ يَزْجُرُ بِهِ السَّحابَ. وعنه أيضًا: البرْقُ مَلَكٌ يَتَراءى.
و"الرعد": في العلم الحديث الصوتُ الذي يُسمَعُ بسببِ اصْطِدامِ سَحابتيْن محمّلتين بشُحنتيْن كهربائيّتين إحداهُما مُوجِبَةٌ والأُخرى سالبةٌ.
و"البَرْقُ": كذلك هو الشَرارةُ الكَهرُبائيّةُ التي تَنْقَدَحُ نتيجةَ هذا الاصْطِدامِ والضوءُ الذي يَنبَعِثُ بسببٍ منها.
وقالت الفلاسفة: الرعدُ صوتُ اصْطِكاكِ أَجرامِ السّحابِ والبرْقِ ما يَنْقَدِحُ من اصطكاكِها وهذا مردودٌ لا يَصِحُّ بِهِ نَقْلٌ والله أعلم.
ويقالُ: أصلُ الرَّعْدِ مِن الحركَةِ ومنه الرِّعْديدُ للجَبانِ وارْتَعَدَ: اضطربَ ومنه الحديث: ((فَجِيءَ بهما تَرْعُدُ فَرائِصُهُما)). الحديث أخرجَه أبو داوودَ.
والبَرْقُ أصلُه من البَريقِ والضوءِ ومنه البُراق: دابَّةٌ رَكِبَها رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ ليلةَ أُسْرِيَ بِهِ، ورَكِبَها الأنْبياءُ عليهمُ السّلامُ قبلَه. ورَعَدت السماءُ مِن الرّعْدِ وبَرَقَت مِن البَرْقِ، ورَعَدَت المَرأةُ وبَرَقَت: تَحَسّنت وتَزَيَّنت، ورَعَدَ الرجلُ وبَرَقَ: تَهَدَّدَ وأَوْعَدَ. قال ابنُ أحمر:
يا جُلَّ ما بَعُدتْ عليكَ بِلادُنا .......... وطِلابُنا فابْرُقْ بأَرْضِكَ وارْعُدِ
وأَرْعَدَ القومُ وأَبْرَقوا: أصابَهم رَعْدٌ وبَرْقٌ. وحكى أبو عبيدةَ وأبو عَمْرٍو: أَرْعَدَتِ السَّماءُ وأَبْرَقَتْ، وأَرْعَدَ الرجلُ وأَبْرَقَ إذا تَهَدَّدَ وأَوْعَدَ. وأَنْكَرَهُ الأَصْمَعِيُّ واحتجَّ عليه بقولِ الكميت:
أَبْرِقْ وأَرْعِدْ يا يَزيـ .......................... ـدُ فَما وَعِيدُكَ لي بِضائِرْ
فقال: ليس الكميت بحجّة.
فائدة: روى ابن عبّاسٍ قال: كنّا معَ عمرَ بنِ الخَطّابِ في سَفْرَةٍ بين المدينةِ والشامِ ومَعَنا كَعْبُ الأَحْبارِ، قال: فأصابَتْنا ريحٌ وأصابَنا رَعْدٌ ومطرٌ شديدٌ وبَرَدٌ، وفَرِقَ الناسُ، قال: فقال لي كعب: إنّهُ مَنْ قال حين يَسمعُ الرعدَ: سبحان مَنْ يُسبِّحُ الرعدُ بحمدِهِ والمَلائِكةُ مِنْ خِيفَتِهِ عُوفِيَ ممّا يَكونُ في ذلكَ السّحابِ والبَرَدِ والصَواعِقِ، قال: فقلتُها أنا وكعب فلمّا أصبحْنا واجتمعَ الناسُ قلتُ لعمرَ: يا أميرَ المؤمنين كأنّا كنّا في غيرِ ما كان فيه الناسُ؟ قال: وما ذاك؟ قال: فحدّثتُهُ حديثَ كعب قال: سبحان الله! أَفَلا قلتم لنا فنقول كما قلتم! وعن ابنِ عمرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه و سلّم كان إذا سَمِعَ الرَّعْدَ والصَواعِقَ قال: ((اللهمَّ لا تَقْتُلْنا بِغَضَبِكَ ولا تُهْلِكْنا بِعَذابِكَ وعافِنا قبلَ ذلك)).
قوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} جَعْلُهم أصابِعَهم في آذانِهم لِئَلّا يَسمَعوا القرآنَ فيُؤْمِنوا بِه وبِمُحَمَّدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ وذلك عندهم كُفْرٌ والكُفْرُ مَوْتٌ.
قوله تعالى: {من الصواعق} أي مِنْ أَجلِ الصَّواعِقِ، والصَواعِقُ جمُعُ صاعقةٍ. قال ابن عبّاسٍ و مجاهدُ وغيرُهما: إذا اشتدَّ غضبُ الرعدِ الذي هو المَلَكُ طارَ النّارُ مِنْ فِيهِ وهيَ الصّواعِقُ، وكذا قال الخليل، قال: هي الواقعةُ الشديدةُ من صوتِ الرَّعْدِ يكونُ معها أحيانًا قطعةُ نارٍ تَحْرُقُ ما أَتَتْ عليه، وقال أبو زيدٍ: الصاعقةُ نارٌ تَسْقُطُ من السماءِ في رعدٍ شديدٍ.
ولا أرى تَعارضًا بين كلِّ ما تَقَدَّمَ من تفسيرٍ للرعد والبرقِ والصواعق في كلام الأقدمين، وما سبق أن ذكرناه من تفسيرِ العلم الحديثِ لهذه الظواهرِ، طالما آمنّا بأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى هو المتصرف في هذا الوجود، وإنما هي كلُّها مخلوقات يحركها اللهُ كيف شاء ويفعل بها ما يشاء، سواء أسميناها كهرباء أو مَلَكًا فالملكُ هو مخلوق مستترٌ عنّا نرى آثاره ولا نراه وكذلك الجانُّ والكهرباءُ، فكلها اسماء لمخلوقات نلمس أثرها ولا نلمسها ولا ندرك حقيقتها. وعقيدتنا أنّ الله هو المتصرف فيها وبها وكذلك جميع المخلوقات، وإن الخلاف في تسميتها غير ذي شأن.
قولُه تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم} هذه الجملةُ الظاهرُ أنَها اسْتِئنافيَّةٌ لا مَحَلَّ لها مِن الإعراب، وكأنَّه قيل: ما حالُهم؟ فقيل: يَجْعَلون .... إلخ.
وقيل: بل لها محلٌّ، ثمَّ اختُلِفَ فيه، فقيل: جَرٌّ لأنّها صِفَةٌ للمَجرورِ، أي: أصحابُ صيِّبٍ جاعلين، والضميرُ محذوفٌ، أو نابَتْ الألفُ واللامُ مَنابَه، تقديرُهُ: يَجْعَلُونَ أصابعَهم في آذانهم من الصواعق منه أو مِن صَواعِقِه.
وقيل: محلُّها نصبٌ على الحالِ مِن الضمير في "فيه". والكلامُ في العائدِ كما تَقَدَّم، والجَعْلُ هنا بمعنى الإِلقاء، ويكونُ بمعنى الخَلْق فيتعدَّى لواحِدٍ، ويكون بمعنى صيَّرَ أو سَمَّى فيتعدَّى لاثنين، ويكون
للشُروع فيَعملُ عَمَلَ عسى.
وقولُه: {أصابِعُهم في آذانهم} أصابعهم: جمعُ إصْبَع، وفيها عشرُ لغاتٍ، بتثليث الهمزة مع تثليث الباء، والعاشرة: أُصْبوعٌ بضمِّ الهمزة. و"آذانهم": جمعُ أُذُنٍ، وتُصَغَّرُ، فيقال: أُذَيْنَةٌ، ولو سَمَّيْتَ بها رجلًا ثمَّ صَغَّرْتَه قلتَ: أُذَيْن فلم تُؤنِّثْ لِزوالِ التأنيثِ عنْه بالنَّقلِ إلى المُذَكَّرِ. فأمّا قولُهم: أُذَيْنَةُ في الاسْمِ العَلَمِ فإنِّما سُمِّيَ بِه مُصَغَّرًا، والجَمْعُ آذانٌ، وتقول: أَذَنْتُهُ إذا ضَرَبْتَ أُذُنَهُ ورجلٌ أُذُنٌ: إذا كان يَسمَعُ كلامَ كلِّ أحَدٍ، يَستوي فيه الواحدُ والجَمْعُ وأَذانيٌّ: عظيمُ الأُذُنينِ، ونَعْجَةٌ أَذْناءُ وكبْشٌ آذَنُ. وأَذَنْتُ النّعلَ وغيرَه تَأْذينًا: إذا جعلتَ لها أُذُنًا، وأَذَنْتُ الصبيَّ: عَرَكْتُ أُذُنُهُ.
والواوُ في "يَجْعلون" تعودُ للمُضافِ المَحذوفِ كما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ. وإذا حُذِفَ المُضافُ جازَ فيه اعْتِباران، أحدُهما: أن يُلْتَفَتَ إليه، والثاني ألاَّ يُلْتَفَتَ إليه، وقد جُمِعَ الأمران في قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} التقدير: وكم من أهل قريةٍ فلم يُرَاعِه في قوله: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا} وراعاه في قوله: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}.
و{في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} كلاهما متعلِّقٌ بالجَعْلِ، و"مِنْ" معناها ُالتعليلُ، فالصَواعِقُ هي عِلَّةُ سَدِّهِم آذانَهم بأصابِعِهم، لأنَّها قد تُفضي بِصِوْتِها الهائلِ إلى الموت.
و"الصواعِقُ" جمعُ صاعقةٍ، وهي الصيحةُ الشديدَةُ من صوت
الرعْدِ يَكونُ معها القطعةُ منَ النارِ، ويقال: ساعِقةٌ بالسين، وصاقِعة
بتقديمِ القاف وأُنشد:
ألم تَرَ أنَّ المُجرمين أصابَهُمْ ........ صواقِعُ، لا بَلْ هُنَّ فوقَ الصَواقِعِ
ومثلُه قول الآخر:
يَحْكُمُونَ بالمَصْقُولَةِ القواطِعِ ................. تَشَقُّقَ اليدَيْنِ بِالصَّواقِعِ
وهي لغةُ تميمٍ وبعضِ بني ربيعةَ، وقد قرأ بها الحسنُ، فيُحْتَمَلُ أنْ تكونَ صاقِعَةٌ مقلوبةً من صاعِقَة، ويُحْتَمَل ألاَّ تكونَ، وهو الأظهرُ لثبوتِها لغةً مستقلَّةً كما تقدَّم. ويقال: صَعْقَةٌ أيْضاً، وقد قَرَأَ بها الكسائيُّ في الذاريات. يُقالُ: صُعِقَ زيدٌ، بالبناءِ للمجهولِ، وأَصْعَقَهُ غيرُه، قال:
تَرى النُّعَراتِ الزُرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ ........ أُحادَ وَمَثْنَى أصْعَقَتْهَا صَواهِلُهْ
والصاعقةُ أيضًا صيحةُ العذابِ. قال الله عزَّ وجَلَّ: {فأخذتهم صاعقةُ العذابِ الهُونِ} ويُقالُ: صَعِقَ الرجلُ صَعْقةً وتَصْعاقًا أي غُشِيَ عليه، ومنه قولُه تعالى: {وخَرَّ موسى صَعِقًا}.
وقوله تعالى: {فصَعِق من في السماوات ومن في الأرض} أي مات وشبه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر والرعد والبرق مثل لما يخوفون به وقيل : مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم والعمى هو الظلمات وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم هو البرق والصواعق مثل لما في القرآن من الدعاء الى القتال في العاجل والوعيد في الآجل وقيل: الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما.
قولُه تعالى: {حَذَرَ الموت} فيه وجهان، أظهرُهُما: أنّه مفعولٌ مِنْ
أجلِهِ ناصِبُهُ "يَجْعلون" ولا يَضُرُّ تعدُّدُ المفعولِ مِنْ أجْلِهِ، لأنَّ الفِعلَ يُعَلّلُ بعِلَلٍ. الثاني: أنّه منصوبٌ على المصدرِ وعامِلُهُ محذوفٌ تقديرُهُ: يَحْذَرُونَ حَذَراً مثلَ حَذَرِ الموتِ، والحَذَرُ والحِذارُ مَصدرانِ لِحَذِرِ أي: خافَ خوفاً شديداً.
والمَفعولُ مِنْ أجلِه بالنسبةِ إلى نَصْبِهِ وجَرِّهِ بالحرْفِ على ثلاثةِ أقسامٍ: قِسْمٌ يَكْثُرُ نَصْبُهُ وهو ما كان غَيْرَ مُعَرَّفٍ بـ "أل" مضافٍ نحو: جِئْتُ إكراماً لك، وقِسْمٌ عَكْسُهُ، وهو ما كان مُعَرَّفاً بـ "أل". ومِنْ مَجيئِهِ
منصوباً قولُ الشاعر:
لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عن الهَيْجَاءِ .................. ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ
وقسم يستوي فيه الأمران وهو المضافُ كالآيةِ الكريمة ، ويكونُ معرفةً ونكرةً ، وقد جَمَعَ حاتِم الطائيُّ الأمرينِ في قوله :
وَأَغْفِرُ عوراءَ الكريمِ ادِّخَارَهُ ............ وأُعْرِضُ عن شَتْمِ اللئيمِ تَكَرُّمَا
وقولُهُ: {حَذَرَ الموت} مصدرٌ مُضافٌ إلى المفعولِ، وفاعلُه محذوفٌ، وهو أحدُ المواضِعِ التي يجوزُ فيها حذفُ الفاعلِ وحدَه، والثاني: فِعْلُ ما لَمْ يُسَمَّ فاعلُهُ، والثالثُ: فاعلُ أَفْعَل في التعجُّبِ ـ على الصحيح ـ وما عدا هذه لا يَجوزُ فيه حَذْفُ الفاعلِ وحدَه. والموتُ ضدُّ الحياة يقال: مات يَموتُ ويَمَاتُ، قال الشاعر:
بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البناتِ ....................... عِيشي ولا يُؤْمَنُ أن تَماتي
وعلى هذه اللغة قُرِئَ: مِتْنَا ومِتُّ بكسرِ الميمِ كخِفْنَا وخِفْت، فوزنُ ماتَ على اللغةِ الأولى: فَعَل بفتْحِ العينِ، وعلى الثانية: فَعِلَ بكسرِها، والمُواتُ بالضَمِّ الموتُ أيضاً، وبالفتحِ: ما لا رُوحَ فيهِ، والمَوَتانُ بالتحريكِ ضِدُّ الحَيَوان، ومنه قولُهم "اشْتَرِ المَوَتان ولا تَشْتَرِ الحَيَوان"، أي: اشْتَرِ الأَرَضِين ولا تَشْتَرِ الرقيقَ فإنّه في مَعْرِضِ الهلاك. والمُوتانُ بضَمِّ الميم: وُقوعُ المَوتِ في الماشيةِ، ومُوِّتَ فلانٌ بالتَشديدِ للمُبالَغةِ، قال:
فَعُرْوَةُ مات موتاً مستريحاً ................... فها أنا ذا أُمَوَّتُ كلَّ يومِ
والمُسْتميتُ: الأمْرُ المُسْتَرْسِلُ، قال رؤبةُ:
وزَبَدُ البَحْرِ له كَتِيتُ .......،............. والليلُ فوق الماء مُسْتَمِيتُ
وقد بيّنَ بقولُه: {حَذَرَ الموتِ} أنَّهم لم يَموتوا مِن تلك المُفْزِعاتِ وهذه المُرَوِّعات. مَدًّا لهم في غَيِّهم ليَطولَ عذابُهم ونَكالُهم.
قولُه تعالى: {والله محيطٌ بالكافرين} جملةٌ مِنْ مُبتَدأٍ وخَبَرٍ، وأصلُ مُحِيطٌ: مُحْوِط، لأنّهُ مِنْ حاطَ يَحُوطُ فأُعِلَّ كإعْلالِ نَسْتعين. والإِحاطةُ: حَصْرُ الشيءِ مِنْ جميعِ جهاتِهِ، وهو هُنا عِبارةٌ عن كونِهِم تحتَ قَهْرِهِ، ولا يَفُوتونَه. وقيل: ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي عِقابُهُ محيطٌ بهم.
وإحاطتُه ـ سبحانَه ـ بالكافرين على معنى أنّهم لا مَهْرَبَ لهم منه،
فهو محيطٌ بهم إحاطةً تامَّةً وهو قادرٌ على النَكالِ بهم مَتى شاءَ وكيف شاء. ولم يَقُلْ مُحيطٌ بهم ـ مع تقدُّم مَرْجِعِ الضَميرِ، وهو أصحابُ الصّيِّبِ ـ ليبيِّنَ لنا بأنَّهم إنَّما اسْتَحَقّوا ذلك العذابَ بكُفرِهم.
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 76
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى