الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 36
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 36
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا
(36)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ: لَا تَكُنْ فِي اتِّباعِ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْل ٍكَمَنْ يَسْلُكُ طريقًا لا يَدْري إِنْ كانَ سَيُوصِلُهُ إِلى مَقْصِدِهِ أَمْ لَا.
والْقَفْوُ: الِاتِّبَاعُ، يُقَالُ: قَفَاهُ، يَقْفُوهُ، إِذَا اتَّبَعَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْقَفَا، وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْعُنُقِ. وَقد اسْتُعِيرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِلْعَمَلِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَصْلُ الْقَفْوِ الْبَهْتُ، وَالْقَذْفُ بِالْبَاطِلِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الشَّريفُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أّنَّهُ قالَ: ((نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، في مُسْنَدِهِ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الكِنْدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي وَفْدٍ لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنِّي أَفْضَلُهُمْ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّكُمْ مِنَّا. قَالَ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: ((نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقْفُو أُمَّنَا، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا)). قَالَ: فَكَانَ الْأَشْعَثُ يَقُولُ: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَفَى قُرَيْشًا مِنْ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ. أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ: الطَيَالِسِيُّ: (ص: 141، رقم: 1049)، وأَحمَدُ: (5/211، رقم: 21888)، وابْنُ مَاجَهْ: (2/871، رقم: 2612)، قالَ البُوصِيرِيُّ: (3/118): هَذَا إِسْنَادٌ صَحيحٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وأَخرَجَهُ عَنْهُ أَيضًا ابْنُ سَعْدٍ: (1/23)، وابْنُ قانِعٍ: (1/60)، والطَبَرانيُّ: (1/235، رقم: 645)، والضِيَاءُ المَقدِسِيُّ: (4/303، رقم: 1487). وأَخرَجَهُ الطبَرانِيُّ أيْضًا، وأَبو نُعَيْمٍ، والضِيَاءُ المقدسيُّ عَنْ الْجُفْشِيشِ بْنِ النُّعْمَانِ الْكِنْدِيُّ، ويُكْنَى أَبَا الْخَيْرِ، وَالْجُفْشِيشُ لَقَبُهُ، وَاسْمُهُ مَعْدَانُ، وقد جاءَ في وَفْدِ الأَشْعَثِ الكنديِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، لِمُبايَعَةِ النَّبِيِّ، صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عَليْهِ. وأَخْرَجَهُ أَيْضًا البَيْهَقِيُّ في دَلائلِ النُبُوَّةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَقَوْلُهُ ـ صَلَواتُ اللهُ تَعَالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((لَا نَقْفُو أُمَّنَا)). أَيْ: لَا نَقْذِفُ أُمَّنَا وَلا نَسُبُّهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:
وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ .......... بِهِنَّ الْحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
ومنهُ أَيْضًا قَوْلُ الْكُمَيْتِ الأَسَدِيِّ:
فَلَا أَرْمِي الْبَرِيءَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ............... وَلَا أَقْفُو الْحَوَاصِنَ إِنْ قُفِينَا
وَالظاهِرُ أَنَّ أَصْلَ الْقَفْوِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الِاتِّبَاعُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ اتِّبَاعُ الْمَسَاوِي، كَمَا ذَكَرَهُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ هُوَ الْقَذْفُ وَالْبُهْتُ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تقْفُ" قَالَ: لَا تَقُلْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" قَالَ: لَا تَقُلْ: سَمِعْتُ، وَلَمْ تَسْمَعْ. وَلَا تَقُلْ: رَأَيْتُ، وَلَمْ تَرَ. فَإِنَّ اللهَ ـ تَعاَلَى، سَائِلُكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، قالَ: يَقُولُ: لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ أَيْضًا، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ ابْنِ عليِّ بْنِ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، قَالَ: هَذَا فِي الْفِرْيَةِ.
وَالْمُرَادُ بِـ "مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" الْخَاطِرُ النَّفْسَانِيُّ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا غَلَبَةَ ظَنٍّ بِهِ. وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا خَلَّةٌ مِنْ خِلَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ الطَّعْنُ فِي أَنْسَابِ النَّاسِ، فَقد كَانُوا يَرْمُونَ النِّسَاءَ بِرِجَالٍ لَيْسُوا بِأَزْوَاجِهِنَّ، وَيَلِيطُونَ بَعْضَ الْأَوْلَادِ بِغَيْرِ آبَائِهِمْ بُهْتَانًا وزُورًا، أَوْ عنْ سُوءِ ظَنٍّ مِنْهم، وذلكَ إِذَا رَأَوْا بُعْدًا فِي الشَّبَهِ بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ، أَوْ رَأَوْا شَبَهَهُ بِرَجُلٍ آخَرَ مِنَ الْحَيِّ، أَوْ رَأَوْا لَوْنًا مُخَالِفًا لِلَوْنِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، كلُّ ذَلِكَ تَخَرُّصًا مِنْهُمْ، وَجَهْلًا بِأَسْبَابِ التَّشَكُّلِ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَنْزِعُ فِي الشَّبَهِ، وَفِي اللَّوْنِ، إِلَى أُصُولٍ مِنْ سِلْسِلَةِ الْآبَاءِ، أَوِ الْأُمَّهَاتِ الْأَدْنَيْنَ، أَوِ الْأَبْعَدِينَ، وَجَهْلًا بِالشَّبَهِ النَّاشِئِ عَنِ الوَحْمِ.
رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ، (يُرِيدُ أَنْ يَنْتَفِيَ مِنْهُ). فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: ((هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟)). قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ((مَا أَلْوَانُهُنَّ؟)). قَالَ: وُرْقٌ. قَالَ: ((وَهَلْ فِيهَا مِنْ جَمَلٍ أَسْوَدَ؟)) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟)). قَالَ: لَعَلَّهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ. فَقَالَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَلَعَلَّ ابْنَكَ نَزَعَهُ عِرْقٌ))، وَنَهَاهُ عَنِ الِانْتِفَاءِ مِنْهُ. وكانَ هَذَا شَائِعًا فِي مُجْتَمَعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَهَى اللهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْهَا الْقَذْفُ بِالزِّنَى، وَغَيْرهُ مِنَ الْمَسَاوِئِ بِدُونِ مُشَاهَدَةٍ. وَرُبَّمَا رَمَوُا الْجِيرَةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُهُمْ إِذَا غَابَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ. لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ يُلْصِقُوا بِهَا تُهْمَةً بِبَعْضِ جِيرَتِهَا. وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ إِذَا تَزَوَّجَ مِنْهُمْ شَيْخٌ مُسِنٌّ امْرَأَةً شَابَّةً، فَوَلَدَتْ لَهُ مولودًا، أَلْصَقُوا الْوَلَدَ بِبَعْضِ الْجِيرَةِ.
وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا: ((سَلُونِي)). أَكْثَرَ الْحَاضِرُونَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: مَنْ أَبِي؟ فَيَقُولُ لهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أَبُوكَ فُلَانٌ.
وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، لِأَنَّ أُسَامَةَ كَانَ أَسْوَدَ اللَّوْنِ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبُوهُ أَبْيَضَ أَزْهَرَ، وَقَدْ أَثْبَتَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ أُسَامَةَ هوَ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. فَهَذَا خُلُقٌ بَاطِلٌ كَانَ مُتَفَشِّيًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَهَى اللهُ ـ تَعَالى، الْمُسْلِمِينَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ عَنْ سُوءِ أَثَرِهِ.
وَمِنْهَا تَجَنُّبُ الْكَذِبِ. وَقَدْ تقَدَّمَ قَوْلُ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ مَعنى: "لَا تَقْفُ": لَا تَقُلْ رَأَيْتُ، وَأَنْتَ لَمْ تَرَ، وَلَا سَمِعْتُ، وَأَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ، وَلا عَلِمْتُ، وَأَنْتَ لَمْ تَعْلَمْ.
وَمِنْهَا شَهَادَةُ الزُّورِ، وَقد شَمِلَهَا هَذَا النَّهْيُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ جَمَاعَةٌ منْهمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةَ، ابْنُ عليِّ ابْنِ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، وَجَمَاعَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا في الحَديثِ غَيْرَ بَعِيدٍ. وَمَا يَشْهَدُ لِإِرَادَةِ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِجُمْلَةِ "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا"، فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ تَعْلِيلٍ، أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ سَتُسْأَلُ عَمَّا تُسْنِدُهُ إِلَى سَمْعِكَ وَبَصَرِكَ وَعَقْلِكَ، بِأَنَّ مَرَاجِعَ الْقَفْوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَى نِسْبَةٍ لِسَمْعٍ، أَوْ بَصَرٍ، أَوْ عَقْلٍ، فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ.
وَهَذَا أَدَبٌ خُلُقِيٌّ عَظِيمٌ، وَهُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ عَقْلِيٌّ جَلِيلٌ، يُعَلِّمُ الْأُمَّةَ الإسلامِيَّةَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْخَوَاطِرِ الْعَقْلِيَّةِ، بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ عِنْدَهَا الْمَعْلُومُ وَالْمَظْنُونُ وَالْمَوْهُومُ. ثُمَّ هُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ اجْتِمَاعِيٌّ جَلِيلٌ يُجَنِّبُ الْأُمَّةَ الْوُقُوعَ فِي الْمَهَالِكِ الْأَضْرَارِ، وَالْإِيقَاعَ فيها جَرَّاءَ الِاسْتِنَادِ إِلَى أَدِلَّةٍ مَوْهُومَةٍ.
وقدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ مَنَعَ اتِّبَاعَ الظَنِّ، وجَوَابُهُ أَنَّ المُرادَ بِالعِلْمِ هوَ الاعْتِقادُ الرَّاجِحُ المُسْتَفَادُ مِنْ سَنَدٍ ـ قَطْعيًّا كانَ أَوْ ظَنِّيًّا، واسْتِعْمالُهُ بِهَذا المَعْنَى، مِمَّا لَا يُنْكَرُ شُيُوعُهُ.
وَقِيلَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ بالعقائدِ، وَقِيلَ بِالرَّمِيِ بالبُهتانِ وشَهادَةِ الزُّورِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَفَا مُؤْمِنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ، حَبَسَهُ اللهُ تَعَالَى فِي رَدْغَةِ الخَبَالِ حَتَّى يَأْتيَ بالمَخْرَجِ)). فقدْ أَخْرَجَ الأَئمَّة الكِرامُ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعالى، منْ حَديثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنُهُما، أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ ضَادَّ اللهَ فِي أَمْرِهِ، وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَيْسَ بِالدِّينَارِ وَلَا بِالدِّرْهَمِ، وَلَكِنَّهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)). أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (2/70، برقم: 5385)، وأَبو داودَ: (3/305، برقم: 3597)، والطَبَرانِيُّ: (12/388، برقم: 13435)، والحاكِمُ في مُستدْرَكِهِ: (2/32، برقم: 2222)، وقالَ: صَحيحُ الإِسْنَادِ، والبَيْهَقِيُّ: (6/82، برقم: 11223).
ويَدْخُلُ فِي قولِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" كُلُّ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ، كقَوْلِ المَرْءِ: رَأَيْتُ، وَلَمْ يَرَ، وَسَمِعْتُ، وَلَمْ يَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ، وَلَمْ يَعْلَمْ. وَأَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُ. وَالْآيَاتُ فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ الظَّنِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ: 169، مِنْ سُورَةِ البقَرةِ: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وقولُهُ مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} الآية: 157، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ الأَعْراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية: 33، وقولُهُ مِنْ سُورَةِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} الآية: 59، وَقَوْلُهُ منْ سُورةِ الحُجُرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} الْآيَةَ: 12، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} الآيةَ: 28. وَأَيضًا فَقدْ نَهَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ اتِّباعِ الظَنِّ وَعَدَّهُ أَكْذَبَ الحَديثِ، قَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، لَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا)). أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: (بِرَقَم: 20228). والإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبَلٍ: (2/312، بِرقم: 8103). والبُخَاريُّ: (برقم: 6064). وغيرُهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبي ذَرٍّ الغِفارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّمَا رَجُلٍ شَاعَ عَلى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ، وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ كَانَ حَقًا عَلَى اللهِ أَنْ يُذيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، حَتَّى يَأْتِي بِنَفَاذِ مَا قَالَ)). وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدُ، وَابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي الصَّمْتِ، عَنْ معَاذِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قالَ: ((مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ، بَعَثَ اللهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَفَا مُؤْمِنًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ، حَبَسَهُ اللهُ عَلى جِسْرِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)). وفي روايةٍ: ((وليسَ بِخارجٍ)).
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" دَلَّ عَلَى جَوَازِ مَا لَنَا بِهِ عِلْمٌ، فَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْإِنْسَانُ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ. وَبِهَذَا احْتَجَجْنَا عَلَى إِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ وَالْخَرْصِ، لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَقَدْ يُسَمَّى عِلْمًا اتِّسَاعًا، فَالْقَائِفُ يُلْحِقُ الْوَلَدَ بِأَبِيهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، كَمَا يُلْحِقُ الْفَقِيهُ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ عَنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ السيِّدةِ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: ((أَلَمْ تَرَيْ أَنْ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ، قَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ)) وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ: وَكَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا. أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ الكرامُ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى: البُخَارِيُّ: (برقم: 3362)، و (3525)، و (6388، 6389)، ومُسْلِمٌ: (برقم: 1459/38 ــ 40)، وأَبو داوُدَ: (برقم: 2267، 2268)، والنَّسائيُّ: (برقم: 3493، 3494)، والتِرْمِذِيُّ: (برقم: 2129)، وابْنُ مَاجَهْ: (برقم: 2349).
ومَعْلُومٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا بِقِصَّةِ الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي لَاعَنَتْ زَوْجَهَا، وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ شَبِيهٍ جِدًّا بِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الشَّبَهَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَحْكُمْ بِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ زِنًى، وَلَمْ يَجْلِدِ الْمَرْأَةَ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الشَّبَهُ تَثْبُتُ بِهِ الْأَنْسَابُ لَأَثْبَتَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، فَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ إِقَامَةُ الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ الْوَلَدَ ابْنُ زِنًى، وَلَمْ يَفْعَلِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِهِمْ ـ رحمَهُمُ اللهُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْوَلَدِ، مُحْتَجِّينَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ السيِّدةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُرَّ بِقَوْلِ مُجَزِّزِ بْنِ الْأَعْوَرِ الْمُدْلِجِيِّ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى بَرَقَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ مِنَ السُّرُورِ ـ وقدْ تقدَّمَ. قَالُوا: وَمَا كَانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُسَرَّ بِالْبَاطِلِ وَلَا يُعْجِبَهُ، بَلْ سُرُورُهُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَقِّ لَا مِنَ الْبَاطِلِ، لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي مَشْرُوعِيَّةِ مَا قَرَّرَ عَلَيْهِ، وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ زَادَ السُّرُورُ بِالْأَمْرِ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ.
هَذا وَقَدِ اخْتَلَفَ القَائلُونَ بِاعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَوْلَادِ الْإِمَاءِ دُونَ أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ. والتَّحْقِيقُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، لِأَنَّ سُرُورَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَعَ فِي وَلَدِ حُرَّةٍ، وَصُورَةُ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْحَقُّ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، القَائِلِ بِأَنَّ صُورَةَ السَّبَبِ ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ. ولَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُ الْقَافَةِ فِي شَبَهِ مَوْلُودٍ بِرَجُلٍ إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ فِرَاشًا لِرَجُلٍ آخَرَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَى شِدَّةَ شَبَهِ الْوَلَدِ الَّذِي اخْتَصَمَ فِيهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ عِنْدَهُ هَذَا الشَّبَهُ فِي النَّسَبِ، لِكَوْنِ أُمِّ الْوَلَدِ فِرَاشًا لِزَمْعَةَ، فَقَالَ ـ عَلَيْهِ صَلَّ اللهُ وَسَلامُهُ: ((الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ)). وَلَكِنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اعْتَبَرَ هَذَا الشَّبَهَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ النَّسَبِ، فَقَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ((احْتَجِبِي عَنْهُ)). مَعَ أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِأَبِيهَا، فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ.
فَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ وغَيْرُهُ، والنَّصُّ للبُخَاريِّ في صَحيحِهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنْ خالَتِهِ أُمِّ المُؤْمِنينَ السيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي، فَاقْبِضْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ، أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَالَ ابْنُ أَخِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ))، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ)). ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجِهِ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ: ((احْتَجِبِي مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَصْلٌ عِنْدَ السادةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ.
قولُهُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} قَال الْجُمْهُورُ، المعنى: يُسْأَلُ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ أَفْعَالِ جَوَارِحِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: لِمَ سَمِعْتَ مَا لَا يَحِلُّ لَكَ سَمَاعُهُ؟ وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهِ؟ وَلِمَ عَزَمْتَ عَلَى مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ؟. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الحِجْر: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآيَتانِ: (92 و 93)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيَةَ: 93، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقيلَ: إِنَّ الْجَوَارِحَ هِيَ الَّتِي تُسْأَلُ عَنْ أَفْعَالِ صَاحِبِهَا، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ بِمَا فَعَلَ. وَهَوَ أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ تَكْذِيبُهُ مِنْ جَوَارِحِهِ، وَتِلْكَ غَايَةُ الْخِزْيِ، وهوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الآية: 65، وَقَالَ مِنْ سُورةِ فُصِّلتْ: {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآية: 20. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هوَ الأَظْهَرُ. وَيُفِيدُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا"، تَعْلِيلَ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، بِالسُّؤَالِ عَنِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ: أَنَّ "إِنَّ" الْمَكْسُورَةَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْمَعْنَى: انْتَهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، لِأَنَّ اللهَ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ لِتَشْكُرَهُ، وَهُوَ مُخْتَبِرُكَ بِذَلِكَ وَسَائِلُكَ عَنْهُ، فَلَا تَسْتَعْمِلْ نِعَمَهُ فِي مَعْصِيَةٍ، يَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيَةِ: 78، منْ سُورةِ النَّحْل: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ المُبَارَكاتِ.
قولُهُ: {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} هُوَ كَمَا تَقولُ: كَانَ مَسْؤُولًا زَيْدٌ. وَلَا ضَيْرَ فِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ فِي رُتْبَةِ نَائِبِ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُ نَائِبِ الْفَاعِلِ مَمْنُوعًا لِتَوَسُّعِ الْعَرَبِ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ، وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ نَائِبِ الْفَاعِلِ الصَّرِيحِ يُصَيِّرُهُ مُبْتَدَأً، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ مُبْتَدَأً، فَانْدَفَعَ مَانِعُ التَّقْدِيمِ.
وَالْمَعْنَى: كُلُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ والفؤادِ كَانَ مَسْؤُولًا عَنْ نَفْسِهِ، وَمَحْقُوقًا بِأَنْ يُبَيِّنَ مُسْتَنَدَ صَاحِبِهِ مِنْ حِسِّهِ. وَقَدْ صِيغَتْ جُمْلَةُ "كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا" عَلَى هَذَا النَّظْمِ بِتَقْدِيمِ "كلُّ" الدَّالَّة عَلَى الْإِحَاطَةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ بِأَنْ يُقَالَ: كُلُّهَا كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا، لِمَا فِي الْإِشَارَةِ مِنْ زِيَادَةِ التَّمْيِيزِ. وَأُقْحِمَ فِعْلُ "كَانَ" لِدَلَالَتِهِ عَلَى رُسُوخِ الْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالسُّؤَالُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالتَّقْصِيرِ، وَتَجَاوُزِ الْحَقِّ، كَقَوْلِ كَعْبٍ بْنِ زُهيرِ بْنِ أَبي سُلْمَى:
لَذاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ ............. وَقِيلَ إِنَّك مَنْسُوبٌ ومَسْؤُولُ
مِنْ خادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ ........ مِنْ بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
أَيْ مُؤَاخَذٌ بِمَا اقْتَرَفْتَ مِنْ هَجْوِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ فِي الْآيَةِ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَةٍ أُخْرَى عَنْ مُؤَاخَذَةِ صَاحِبِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ بِكَذِبِهِ عَلَى حَوَاسِّهِ. وَلَيْسَ هُوَ بِمَجَازٍ عَقْلِيٍّ لِمُنَافَاةِ اعْتِبَارِهِ هُنَا تَأْكِيدَ الْإِسْنَادِ بِـ "إِنَّ" وبـ "كُلُّ"، وَمُلَاحَظَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ "أُولئكَ"، وَ الفعلِ الناقصِ "كَانَ".
وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورةِ النُّورِ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} الآية: 24، أَيْ يُسْأَلُ السَّمْعُ: هَلْ سَمِعْتَ؟ فَيَقُولُ: لَمْ أَسْمَعْ، فَيُؤَاخَذُ صَاحِبُهُ بِأَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ إِيَّاهُ وَهَكَذَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَن عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا" يَقُول: سَمْعُهُ وبَصَرُهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولًا" قَالَ: يُقَالُ للأُذُنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ سَمِعْتِ؟ وَيُقَالُ للعَيْنِ: هَلْ رَأَيْتِ؟ وَيُقَال للفُؤادِ: مِثْلُ ذَلِكَ. وَأَخرَجَ الْفرْيَابِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ جَلَّ وعَلَا: "كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا"، قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَة يُقَالُ: أَكَذَاكَ كَانَ؟، أَمْ لَا؟.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "أُولَئِكَ" فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِشَارَةِ "أُولَئِكَ" لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ الْعَرْجِيِّ:
يَا مَا أُمَيْلَحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا ............. مِنْ هَاؤُلَيَّائِكُنَّ الضَّالِ وَالسَّمُرِ
وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ................. وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْتَ جَرِيرٍ لَا شَاهِدَ فِيهِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ (بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ)، وَاللهِ تَعَالَى أَعْلَمُ.
و "أُولئِكَ" يَعُودُ إِلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ، وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْغَالِبِ اسْتِعْمَالُهُ لِلْعَامِلِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ تَنْزِيلًا لِتِلْكَ الْحَوَاسِّ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِذَلِكَ إِذْ هِيَ طَرِيقُ الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ نَفْسُهُ. عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ "أُولَئِكَ" لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ اسْتِعْمَالٌ مَشْهُورٌ قِيلَ هُوَ اسْتِعْمَالٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْمَجَازَ غَلَبَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ، قَالَ تَعَالَى في الآية: 102، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ الكريمة: {مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ الشَّاعِرُ جَريرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
ذَمُّ الْمَنَازِلِ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ................. وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
وعَبَّرَ عَنِ السَّمْعِ والبَصَرِ والفُؤادِ بـ "أُولئكَ" لأَنَّها حَوَاسُّ لَهَا إِدْراكٌ، وجَعَلَها في هَذِهِ الآيَةِ مَسْؤُولَةً فَهِيَ حالَةُ مَنْ يَعْقِلُ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْها بِكِنَايَةِ مَنْ يَعْقِلُ، وَقَدْ قالَ سِيبَوَيْهِ ـ رَحِمَهُ اللهُ، في قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} الآية: 4، وإِنَّما قالَ "رأيتُهم" في النُجُومِ لأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَهَا بالسُّجُودِ ـ وهوَ فِعْلُ مَنْ يَعْقِلُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِكِنَايَةِ مَنْ يَعْقِلُ. وَحَكَى أَبُو إِسْحاقَ الزَّجَّاجُ أَنَّ العَرَبَ تُعَبِّر عَمَّن يَعْقِلُ وعَمَّن لا يَعْقِل بـ "أولئك"، وأَنْشَدَ هوَ وَالطَبَرِيُّ بَيْتَ جريرٍ المتقدِّمِ.
وَفِيه تَجْرِيد الْإِسْنَاد "مَسْؤُولًا" إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ سُؤَالُ أَصْحَابِهَا، وَهُوَ مِنْ نُكَتِ بَلاغَةِ الْقُرْآنِ الكريمِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الواوُ: للعَطْفِ، و "لا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَقْفُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لا" الناهِيَةِ، وَعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ، وهوَ الواوُ لأَنَّهُ مِنْ (قَفَا يَقْفُو)، كَ (عَدَا يَعْدُو) و (سَمَا يَسْمُو)، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازً تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى المُخَاطَبِ. و "ما" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ، في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعوليَّةِ، أَوْ نَكرةٌ مَوْصوفَةٌ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ في الآيَةِ: 29، السَّابِقَةِ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً}. و "لَيْسَ" فِعْلٌ نَاقِصٌ. و "لَكَ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "لَيْسَ" المقدَّرِ المُقَدَّمِ عَلى اسْمِها، وكافُ الخِطابِ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّق بِهِ لامُ "لَكَ" وَلَا تَتَعَلَّقُ بِـ "عِلْمٍ" إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَتَوَسَّعُ فِي الجَارِّ، لأَنَّه مَصْدَرٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. وَ "عِلْمٌ" اسْمُ لَيْسَ مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ بها، وجُمْلَةُ "لَيْسَ" صِلَةُ "ما" الموصولةِ فَلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، أَوْ هِي صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ إِنْ أُعْرِبَتْ "مَا" نَكِرَةً مَوْصُوفَةً.
قولُهُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، وَ "السَّمْعَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "والْبَصَرَ وَالْفُؤادَ" مَعْطُوفانِ عَلَيْهِ. و "كُلُّ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُضافٌ، و "أُولئِكَ" أُولاءِ: اسْمُ إِشارةٍ مَبْنيُّ عَلَى الكَسْرِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والكافُ للخطابِ. و "كانَ" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. واسْمُ "كانَ" ضَميرٌ مُستترٌ فيها جوازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "كلُّ" باعْتِبارِ لَفْظِها، وَكَذَا الضَمِيرُ في "عَنْهُ". أَوْ أَنَّ اسْمَها ضَميرٌ يَعُودُ عَلَى القافي، والضميرُ في "عنه" يَعُودُ عَلى "كلُّ" وهوَ مِنَ الالْتِفَاتِ؛ إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَقِيلَ: كُنْتَ عَنْهُ مَسْؤُولًا. وَقَالَ الزَمَخْشَرِيُّ: و "عنهُ" في مَوْضِعِ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ كانَ مَسْؤُولًا عَنْهُ، فـ "مَسْؤولًا" مُسْنَدٌ إِلَى الجَارِّ والمَجْرُورِ، كَ "المَغْضُوبِ" منْ قولِهِ تَعَالى في سورةِ الفاتحةِ: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} الآية: 7. وفِي تَسْمِيَةِ الزمَخْشَريِّ مَفْعُولَ مَا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ فاعِلًا خِلافُ الاصْطِلاحِ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الشيخُ أبو حيَّانٍ الأندلُسِيُّ قوَلَهُ: بِأَنَّ القائمَ مقَامَ الفاعِلِ حُكْمُهُ حُكْمُهُ، فَلَا يَتَقَدَّمَ عَلى رافِعِهِ، كَأَصْلِهِ. وَلَيْسَ لِقائلٍ أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ عَلَى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ، فإِنَّهمْ يُجِيزونَ تَقْديمَ الفاعِلِ؛ لأَنَّ النَحَّاسَ حَكَى الإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقديمِ القائمِ مقامَ الفاعِلِ إِذا كانَ جارًّا ومَجْرُورًا، فَلَيْسَ هوَ نَظيرَ قولِهِ تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم}، فَحِينَئِذٍ يَكونُ القائمُ مَقامَ الفاعلِ الضَميرَ المُسْتَكِنَّ العائدَ عَلَى "كلٌّ" أَوْ عَلَى القافِي. وَ "عَنْهُ" عنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجرِّ. و "مَسْؤُولًا" خَبَرُ "كانَ" مَنْصُوبٌ بِهَا، وجُمْلَةُ "كانَ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلِها فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {وَلاَ تَقْفُ} وَعَلَى هَذِهِ القِراءَةِ فَإِنَّ المَعْنَى: لا تَتَّبِعْ، وهو مِنْ قَفَاهُ يَقْفُوهُ، إِذَا تَتَبَّعَ أَثَرَهُ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "وَلَا تَقْفُو" بِإِثْباتِ الواوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِثْباتَ حَرْفِ العَلَّةِ جَزْمًا لُغَةُ قَوْمٍ، وضَرُورةٌ عِنْدَ غيرِهِمْ كَقَوْلِ الشاعِرِ فيما نَسَبَهُ بعضُهم لأبي عَمْرِو بْنِ العلاءِ التَمِيمِيِّ المَازِنِيِّ البَصْرِيِّ أَحَدِ القُرَّاءِ السَّبْعَةِ. وَاسْمُهُ (زَبَّانُ)، وقد رُوِيَ أَنَّ الفَرَزْدَقَ جاءَ إليهِ مُعْتَذِرًا مِنْ هَجْوٍ بَلَغَهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو:
هَجَوْتَ زبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِرًا ........ مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولمْ تَدَع
وقَرَأَ مُعَاذٌ القارِئُ: "وَلَا تَقُفْ" بِزِنَةِ "تَقُلْ"، وهوَ أيضًا مِنْ قافَ يَقُوفُ، أَيْ: تَتَبَّعَ، فهوَ مَقْلوبٌ مِنْ (قَفَا يَقْفُو)، وقيلَ: بِأَنَّهُ لُغَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ جَيِّدَةٌ ك "جَبَذَ" و "جَذَبَ"، لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمالَيْنِ، ومِثْلُهُ قولُهُمْ: (قَعَا) الفَحْلُ النَّاقَةَ وَ (قَاعَها).
قرَأَ العامةُ: {وَالفُؤَادَ} بضمِّ الفاءِ، وقَرَأَ الجَرَّاحُ العَقِيلِيُّ "والفَوَادَ" بِفَتْحِها وَوَاوٍ خَالِصَةٍ. وتَوْجِيهُها: أَنَّهُ أَبْدَلَ الهَمْزَةَ وَاوًا بَعْدَ الضَمَّةِ فِي القِراءَةِ المَشْهُورَةِ، ثُمَّ فَتَحَ فاءَ الكَلِمَةِ بَعَدَ البَدَلِ لأَنَّها لُغَةٌ فِي الفُؤَادِ، يُقالُ: "فُؤَادٌ" و "فَآدٌ"، وقد أَنْكَرَ هذِهِ القراءةَ أَبو حَاتِمٍ الرازيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
(36)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ: لَا تَكُنْ فِي اتِّباعِ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْل ٍكَمَنْ يَسْلُكُ طريقًا لا يَدْري إِنْ كانَ سَيُوصِلُهُ إِلى مَقْصِدِهِ أَمْ لَا.
والْقَفْوُ: الِاتِّبَاعُ، يُقَالُ: قَفَاهُ، يَقْفُوهُ، إِذَا اتَّبَعَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْقَفَا، وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْعُنُقِ. وَقد اسْتُعِيرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِلْعَمَلِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَصْلُ الْقَفْوِ الْبَهْتُ، وَالْقَذْفُ بِالْبَاطِلِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الشَّريفُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أّنَّهُ قالَ: ((نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، في مُسْنَدِهِ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الكِنْدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي وَفْدٍ لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنِّي أَفْضَلُهُمْ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّكُمْ مِنَّا. قَالَ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: ((نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقْفُو أُمَّنَا، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا)). قَالَ: فَكَانَ الْأَشْعَثُ يَقُولُ: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَفَى قُرَيْشًا مِنْ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ. أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ: الطَيَالِسِيُّ: (ص: 141، رقم: 1049)، وأَحمَدُ: (5/211، رقم: 21888)، وابْنُ مَاجَهْ: (2/871، رقم: 2612)، قالَ البُوصِيرِيُّ: (3/118): هَذَا إِسْنَادٌ صَحيحٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وأَخرَجَهُ عَنْهُ أَيضًا ابْنُ سَعْدٍ: (1/23)، وابْنُ قانِعٍ: (1/60)، والطَبَرانيُّ: (1/235، رقم: 645)، والضِيَاءُ المَقدِسِيُّ: (4/303، رقم: 1487). وأَخرَجَهُ الطبَرانِيُّ أيْضًا، وأَبو نُعَيْمٍ، والضِيَاءُ المقدسيُّ عَنْ الْجُفْشِيشِ بْنِ النُّعْمَانِ الْكِنْدِيُّ، ويُكْنَى أَبَا الْخَيْرِ، وَالْجُفْشِيشُ لَقَبُهُ، وَاسْمُهُ مَعْدَانُ، وقد جاءَ في وَفْدِ الأَشْعَثِ الكنديِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، لِمُبايَعَةِ النَّبِيِّ، صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عَليْهِ. وأَخْرَجَهُ أَيْضًا البَيْهَقِيُّ في دَلائلِ النُبُوَّةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَقَوْلُهُ ـ صَلَواتُ اللهُ تَعَالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((لَا نَقْفُو أُمَّنَا)). أَيْ: لَا نَقْذِفُ أُمَّنَا وَلا نَسُبُّهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:
وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ .......... بِهِنَّ الْحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
ومنهُ أَيْضًا قَوْلُ الْكُمَيْتِ الأَسَدِيِّ:
فَلَا أَرْمِي الْبَرِيءَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ............... وَلَا أَقْفُو الْحَوَاصِنَ إِنْ قُفِينَا
وَالظاهِرُ أَنَّ أَصْلَ الْقَفْوِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الِاتِّبَاعُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ اتِّبَاعُ الْمَسَاوِي، كَمَا ذَكَرَهُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ هُوَ الْقَذْفُ وَالْبُهْتُ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تقْفُ" قَالَ: لَا تَقُلْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" قَالَ: لَا تَقُلْ: سَمِعْتُ، وَلَمْ تَسْمَعْ. وَلَا تَقُلْ: رَأَيْتُ، وَلَمْ تَرَ. فَإِنَّ اللهَ ـ تَعاَلَى، سَائِلُكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، قالَ: يَقُولُ: لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ أَيْضًا، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ ابْنِ عليِّ بْنِ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، قَالَ: هَذَا فِي الْفِرْيَةِ.
وَالْمُرَادُ بِـ "مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" الْخَاطِرُ النَّفْسَانِيُّ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا غَلَبَةَ ظَنٍّ بِهِ. وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا خَلَّةٌ مِنْ خِلَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ الطَّعْنُ فِي أَنْسَابِ النَّاسِ، فَقد كَانُوا يَرْمُونَ النِّسَاءَ بِرِجَالٍ لَيْسُوا بِأَزْوَاجِهِنَّ، وَيَلِيطُونَ بَعْضَ الْأَوْلَادِ بِغَيْرِ آبَائِهِمْ بُهْتَانًا وزُورًا، أَوْ عنْ سُوءِ ظَنٍّ مِنْهم، وذلكَ إِذَا رَأَوْا بُعْدًا فِي الشَّبَهِ بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ، أَوْ رَأَوْا شَبَهَهُ بِرَجُلٍ آخَرَ مِنَ الْحَيِّ، أَوْ رَأَوْا لَوْنًا مُخَالِفًا لِلَوْنِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، كلُّ ذَلِكَ تَخَرُّصًا مِنْهُمْ، وَجَهْلًا بِأَسْبَابِ التَّشَكُّلِ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَنْزِعُ فِي الشَّبَهِ، وَفِي اللَّوْنِ، إِلَى أُصُولٍ مِنْ سِلْسِلَةِ الْآبَاءِ، أَوِ الْأُمَّهَاتِ الْأَدْنَيْنَ، أَوِ الْأَبْعَدِينَ، وَجَهْلًا بِالشَّبَهِ النَّاشِئِ عَنِ الوَحْمِ.
رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ، (يُرِيدُ أَنْ يَنْتَفِيَ مِنْهُ). فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: ((هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟)). قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ((مَا أَلْوَانُهُنَّ؟)). قَالَ: وُرْقٌ. قَالَ: ((وَهَلْ فِيهَا مِنْ جَمَلٍ أَسْوَدَ؟)) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟)). قَالَ: لَعَلَّهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ. فَقَالَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَلَعَلَّ ابْنَكَ نَزَعَهُ عِرْقٌ))، وَنَهَاهُ عَنِ الِانْتِفَاءِ مِنْهُ. وكانَ هَذَا شَائِعًا فِي مُجْتَمَعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَهَى اللهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْهَا الْقَذْفُ بِالزِّنَى، وَغَيْرهُ مِنَ الْمَسَاوِئِ بِدُونِ مُشَاهَدَةٍ. وَرُبَّمَا رَمَوُا الْجِيرَةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُهُمْ إِذَا غَابَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ. لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ يُلْصِقُوا بِهَا تُهْمَةً بِبَعْضِ جِيرَتِهَا. وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ إِذَا تَزَوَّجَ مِنْهُمْ شَيْخٌ مُسِنٌّ امْرَأَةً شَابَّةً، فَوَلَدَتْ لَهُ مولودًا، أَلْصَقُوا الْوَلَدَ بِبَعْضِ الْجِيرَةِ.
وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا: ((سَلُونِي)). أَكْثَرَ الْحَاضِرُونَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: مَنْ أَبِي؟ فَيَقُولُ لهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أَبُوكَ فُلَانٌ.
وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، لِأَنَّ أُسَامَةَ كَانَ أَسْوَدَ اللَّوْنِ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبُوهُ أَبْيَضَ أَزْهَرَ، وَقَدْ أَثْبَتَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ أُسَامَةَ هوَ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. فَهَذَا خُلُقٌ بَاطِلٌ كَانَ مُتَفَشِّيًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَهَى اللهُ ـ تَعَالى، الْمُسْلِمِينَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ عَنْ سُوءِ أَثَرِهِ.
وَمِنْهَا تَجَنُّبُ الْكَذِبِ. وَقَدْ تقَدَّمَ قَوْلُ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ مَعنى: "لَا تَقْفُ": لَا تَقُلْ رَأَيْتُ، وَأَنْتَ لَمْ تَرَ، وَلَا سَمِعْتُ، وَأَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ، وَلا عَلِمْتُ، وَأَنْتَ لَمْ تَعْلَمْ.
وَمِنْهَا شَهَادَةُ الزُّورِ، وَقد شَمِلَهَا هَذَا النَّهْيُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ جَمَاعَةٌ منْهمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةَ، ابْنُ عليِّ ابْنِ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، وَجَمَاعَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا في الحَديثِ غَيْرَ بَعِيدٍ. وَمَا يَشْهَدُ لِإِرَادَةِ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِجُمْلَةِ "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا"، فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ تَعْلِيلٍ، أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ سَتُسْأَلُ عَمَّا تُسْنِدُهُ إِلَى سَمْعِكَ وَبَصَرِكَ وَعَقْلِكَ، بِأَنَّ مَرَاجِعَ الْقَفْوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَى نِسْبَةٍ لِسَمْعٍ، أَوْ بَصَرٍ، أَوْ عَقْلٍ، فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ.
وَهَذَا أَدَبٌ خُلُقِيٌّ عَظِيمٌ، وَهُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ عَقْلِيٌّ جَلِيلٌ، يُعَلِّمُ الْأُمَّةَ الإسلامِيَّةَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْخَوَاطِرِ الْعَقْلِيَّةِ، بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ عِنْدَهَا الْمَعْلُومُ وَالْمَظْنُونُ وَالْمَوْهُومُ. ثُمَّ هُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ اجْتِمَاعِيٌّ جَلِيلٌ يُجَنِّبُ الْأُمَّةَ الْوُقُوعَ فِي الْمَهَالِكِ الْأَضْرَارِ، وَالْإِيقَاعَ فيها جَرَّاءَ الِاسْتِنَادِ إِلَى أَدِلَّةٍ مَوْهُومَةٍ.
وقدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ مَنَعَ اتِّبَاعَ الظَنِّ، وجَوَابُهُ أَنَّ المُرادَ بِالعِلْمِ هوَ الاعْتِقادُ الرَّاجِحُ المُسْتَفَادُ مِنْ سَنَدٍ ـ قَطْعيًّا كانَ أَوْ ظَنِّيًّا، واسْتِعْمالُهُ بِهَذا المَعْنَى، مِمَّا لَا يُنْكَرُ شُيُوعُهُ.
وَقِيلَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ بالعقائدِ، وَقِيلَ بِالرَّمِيِ بالبُهتانِ وشَهادَةِ الزُّورِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَفَا مُؤْمِنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ، حَبَسَهُ اللهُ تَعَالَى فِي رَدْغَةِ الخَبَالِ حَتَّى يَأْتيَ بالمَخْرَجِ)). فقدْ أَخْرَجَ الأَئمَّة الكِرامُ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعالى، منْ حَديثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنُهُما، أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ ضَادَّ اللهَ فِي أَمْرِهِ، وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَيْسَ بِالدِّينَارِ وَلَا بِالدِّرْهَمِ، وَلَكِنَّهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)). أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (2/70، برقم: 5385)، وأَبو داودَ: (3/305، برقم: 3597)، والطَبَرانِيُّ: (12/388، برقم: 13435)، والحاكِمُ في مُستدْرَكِهِ: (2/32، برقم: 2222)، وقالَ: صَحيحُ الإِسْنَادِ، والبَيْهَقِيُّ: (6/82، برقم: 11223).
ويَدْخُلُ فِي قولِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" كُلُّ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ، كقَوْلِ المَرْءِ: رَأَيْتُ، وَلَمْ يَرَ، وَسَمِعْتُ، وَلَمْ يَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ، وَلَمْ يَعْلَمْ. وَأَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُ. وَالْآيَاتُ فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ الظَّنِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ: 169، مِنْ سُورَةِ البقَرةِ: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وقولُهُ مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} الآية: 157، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ الأَعْراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية: 33، وقولُهُ مِنْ سُورَةِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} الآية: 59، وَقَوْلُهُ منْ سُورةِ الحُجُرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} الْآيَةَ: 12، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} الآيةَ: 28. وَأَيضًا فَقدْ نَهَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ اتِّباعِ الظَنِّ وَعَدَّهُ أَكْذَبَ الحَديثِ، قَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، لَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا)). أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: (بِرَقَم: 20228). والإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبَلٍ: (2/312، بِرقم: 8103). والبُخَاريُّ: (برقم: 6064). وغيرُهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبي ذَرٍّ الغِفارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّمَا رَجُلٍ شَاعَ عَلى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ، وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ كَانَ حَقًا عَلَى اللهِ أَنْ يُذيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، حَتَّى يَأْتِي بِنَفَاذِ مَا قَالَ)). وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدُ، وَابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي الصَّمْتِ، عَنْ معَاذِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قالَ: ((مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ، بَعَثَ اللهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَفَا مُؤْمِنًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ، حَبَسَهُ اللهُ عَلى جِسْرِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)). وفي روايةٍ: ((وليسَ بِخارجٍ)).
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" دَلَّ عَلَى جَوَازِ مَا لَنَا بِهِ عِلْمٌ، فَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْإِنْسَانُ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ. وَبِهَذَا احْتَجَجْنَا عَلَى إِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ وَالْخَرْصِ، لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَقَدْ يُسَمَّى عِلْمًا اتِّسَاعًا، فَالْقَائِفُ يُلْحِقُ الْوَلَدَ بِأَبِيهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، كَمَا يُلْحِقُ الْفَقِيهُ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ عَنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ السيِّدةِ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: ((أَلَمْ تَرَيْ أَنْ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ، قَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ)) وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ: وَكَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا. أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ الكرامُ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى: البُخَارِيُّ: (برقم: 3362)، و (3525)، و (6388، 6389)، ومُسْلِمٌ: (برقم: 1459/38 ــ 40)، وأَبو داوُدَ: (برقم: 2267، 2268)، والنَّسائيُّ: (برقم: 3493، 3494)، والتِرْمِذِيُّ: (برقم: 2129)، وابْنُ مَاجَهْ: (برقم: 2349).
ومَعْلُومٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا بِقِصَّةِ الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي لَاعَنَتْ زَوْجَهَا، وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ شَبِيهٍ جِدًّا بِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الشَّبَهَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَحْكُمْ بِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ زِنًى، وَلَمْ يَجْلِدِ الْمَرْأَةَ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الشَّبَهُ تَثْبُتُ بِهِ الْأَنْسَابُ لَأَثْبَتَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، فَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ إِقَامَةُ الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ الْوَلَدَ ابْنُ زِنًى، وَلَمْ يَفْعَلِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِهِمْ ـ رحمَهُمُ اللهُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْوَلَدِ، مُحْتَجِّينَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ السيِّدةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُرَّ بِقَوْلِ مُجَزِّزِ بْنِ الْأَعْوَرِ الْمُدْلِجِيِّ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى بَرَقَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ مِنَ السُّرُورِ ـ وقدْ تقدَّمَ. قَالُوا: وَمَا كَانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُسَرَّ بِالْبَاطِلِ وَلَا يُعْجِبَهُ، بَلْ سُرُورُهُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَقِّ لَا مِنَ الْبَاطِلِ، لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي مَشْرُوعِيَّةِ مَا قَرَّرَ عَلَيْهِ، وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ زَادَ السُّرُورُ بِالْأَمْرِ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ.
هَذا وَقَدِ اخْتَلَفَ القَائلُونَ بِاعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَوْلَادِ الْإِمَاءِ دُونَ أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ. والتَّحْقِيقُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي أَوْلَادِ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، لِأَنَّ سُرُورَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَعَ فِي وَلَدِ حُرَّةٍ، وَصُورَةُ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْحَقُّ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، القَائِلِ بِأَنَّ صُورَةَ السَّبَبِ ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ. ولَا تُعْتَبَرُ أَقْوَالُ الْقَافَةِ فِي شَبَهِ مَوْلُودٍ بِرَجُلٍ إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ فِرَاشًا لِرَجُلٍ آخَرَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَى شِدَّةَ شَبَهِ الْوَلَدِ الَّذِي اخْتَصَمَ فِيهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ عِنْدَهُ هَذَا الشَّبَهُ فِي النَّسَبِ، لِكَوْنِ أُمِّ الْوَلَدِ فِرَاشًا لِزَمْعَةَ، فَقَالَ ـ عَلَيْهِ صَلَّ اللهُ وَسَلامُهُ: ((الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ)). وَلَكِنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اعْتَبَرَ هَذَا الشَّبَهَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ النَّسَبِ، فَقَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ((احْتَجِبِي عَنْهُ)). مَعَ أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِأَبِيهَا، فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ.
فَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ وغَيْرُهُ، والنَّصُّ للبُخَاريِّ في صَحيحِهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنْ خالَتِهِ أُمِّ المُؤْمِنينَ السيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي، فَاقْبِضْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ، أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَالَ ابْنُ أَخِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ))، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ)). ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجِهِ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ: ((احْتَجِبِي مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَصْلٌ عِنْدَ السادةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ.
قولُهُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} قَال الْجُمْهُورُ، المعنى: يُسْأَلُ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ أَفْعَالِ جَوَارِحِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: لِمَ سَمِعْتَ مَا لَا يَحِلُّ لَكَ سَمَاعُهُ؟ وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهِ؟ وَلِمَ عَزَمْتَ عَلَى مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ؟. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الحِجْر: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآيَتانِ: (92 و 93)، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيَةَ: 93، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقيلَ: إِنَّ الْجَوَارِحَ هِيَ الَّتِي تُسْأَلُ عَنْ أَفْعَالِ صَاحِبِهَا، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ بِمَا فَعَلَ. وَهَوَ أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ تَكْذِيبُهُ مِنْ جَوَارِحِهِ، وَتِلْكَ غَايَةُ الْخِزْيِ، وهوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الآية: 65، وَقَالَ مِنْ سُورةِ فُصِّلتْ: {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآية: 20. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هوَ الأَظْهَرُ. وَيُفِيدُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا"، تَعْلِيلَ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، بِالسُّؤَالِ عَنِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ: أَنَّ "إِنَّ" الْمَكْسُورَةَ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ. وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ الْمَعْنَى: انْتَهِ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ، لِأَنَّ اللهَ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ لِتَشْكُرَهُ، وَهُوَ مُخْتَبِرُكَ بِذَلِكَ وَسَائِلُكَ عَنْهُ، فَلَا تَسْتَعْمِلْ نِعَمَهُ فِي مَعْصِيَةٍ، يَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيَةِ: 78، منْ سُورةِ النَّحْل: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وَنَحْوُهَا مِنَ الْآيَاتِ المُبَارَكاتِ.
قولُهُ: {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} هُوَ كَمَا تَقولُ: كَانَ مَسْؤُولًا زَيْدٌ. وَلَا ضَيْرَ فِي تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ فِي رُتْبَةِ نَائِبِ الْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ تَقْدِيمُ نَائِبِ الْفَاعِلِ مَمْنُوعًا لِتَوَسُّعِ الْعَرَبِ فِي الظُّرُوفِ وَالْمَجْرُورَاتِ، وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ نَائِبِ الْفَاعِلِ الصَّرِيحِ يُصَيِّرُهُ مُبْتَدَأً، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْرُورُ مُبْتَدَأً، فَانْدَفَعَ مَانِعُ التَّقْدِيمِ.
وَالْمَعْنَى: كُلُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ والفؤادِ كَانَ مَسْؤُولًا عَنْ نَفْسِهِ، وَمَحْقُوقًا بِأَنْ يُبَيِّنَ مُسْتَنَدَ صَاحِبِهِ مِنْ حِسِّهِ. وَقَدْ صِيغَتْ جُمْلَةُ "كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا" عَلَى هَذَا النَّظْمِ بِتَقْدِيمِ "كلُّ" الدَّالَّة عَلَى الْإِحَاطَةِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ. وَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ بِأَنْ يُقَالَ: كُلُّهَا كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا، لِمَا فِي الْإِشَارَةِ مِنْ زِيَادَةِ التَّمْيِيزِ. وَأُقْحِمَ فِعْلُ "كَانَ" لِدَلَالَتِهِ عَلَى رُسُوخِ الْخَبَرِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَالسُّؤَالُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالتَّقْصِيرِ، وَتَجَاوُزِ الْحَقِّ، كَقَوْلِ كَعْبٍ بْنِ زُهيرِ بْنِ أَبي سُلْمَى:
لَذاكَ أَهْيَبُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ ............. وَقِيلَ إِنَّك مَنْسُوبٌ ومَسْؤُولُ
مِنْ خادِرٍ مِنْ لُيُوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ ........ مِنْ بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
أَيْ مُؤَاخَذٌ بِمَا اقْتَرَفْتَ مِنْ هَجْوِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ فِي الْآيَةِ كِنَايَةٌ بِمَرْتَبَةٍ أُخْرَى عَنْ مُؤَاخَذَةِ صَاحِبِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ بِكَذِبِهِ عَلَى حَوَاسِّهِ. وَلَيْسَ هُوَ بِمَجَازٍ عَقْلِيٍّ لِمُنَافَاةِ اعْتِبَارِهِ هُنَا تَأْكِيدَ الْإِسْنَادِ بِـ "إِنَّ" وبـ "كُلُّ"، وَمُلَاحَظَةِ اسْمِ الْإِشَارَةِ "أُولئكَ"، وَ الفعلِ الناقصِ "كَانَ".
وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورةِ النُّورِ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} الآية: 24، أَيْ يُسْأَلُ السَّمْعُ: هَلْ سَمِعْتَ؟ فَيَقُولُ: لَمْ أَسْمَعْ، فَيُؤَاخَذُ صَاحِبُهُ بِأَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ إِيَّاهُ وَهَكَذَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَن عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا" يَقُول: سَمْعُهُ وبَصَرُهُ يَشْهَدُ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولًا" قَالَ: يُقَالُ للأُذُنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ سَمِعْتِ؟ وَيُقَالُ للعَيْنِ: هَلْ رَأَيْتِ؟ وَيُقَال للفُؤادِ: مِثْلُ ذَلِكَ. وَأَخرَجَ الْفرْيَابِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ جَلَّ وعَلَا: "كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا"، قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَة يُقَالُ: أَكَذَاكَ كَانَ؟، أَمْ لَا؟.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "أُولَئِكَ" فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِشَارَةِ "أُولَئِكَ" لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ الْعَرْجِيِّ:
يَا مَا أُمَيْلَحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا ............. مِنْ هَاؤُلَيَّائِكُنَّ الضَّالِ وَالسَّمُرِ
وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ................. وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْتَ جَرِيرٍ لَا شَاهِدَ فِيهِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ (بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ)، وَاللهِ تَعَالَى أَعْلَمُ.
و "أُولئِكَ" يَعُودُ إِلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ، وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْغَالِبِ اسْتِعْمَالُهُ لِلْعَامِلِ فِي غَيْرِ الْعَاقِلِ تَنْزِيلًا لِتِلْكَ الْحَوَاسِّ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ لِأَنَّهَا جَدِيرَةٌ بِذَلِكَ إِذْ هِيَ طَرِيقُ الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ نَفْسُهُ. عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ "أُولَئِكَ" لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ اسْتِعْمَالٌ مَشْهُورٌ قِيلَ هُوَ اسْتِعْمَالٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ لِأَنَّ هَذَا الْمَجَازَ غَلَبَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ، قَالَ تَعَالَى في الآية: 102، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ الكريمة: {مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وَقَالَ الشَّاعِرُ جَريرُ بْنُ عَطِيَّةَ:
ذَمُّ الْمَنَازِلِ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى ................. وَالْعَيْشُ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
وعَبَّرَ عَنِ السَّمْعِ والبَصَرِ والفُؤادِ بـ "أُولئكَ" لأَنَّها حَوَاسُّ لَهَا إِدْراكٌ، وجَعَلَها في هَذِهِ الآيَةِ مَسْؤُولَةً فَهِيَ حالَةُ مَنْ يَعْقِلُ، وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْها بِكِنَايَةِ مَنْ يَعْقِلُ، وَقَدْ قالَ سِيبَوَيْهِ ـ رَحِمَهُ اللهُ، في قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} الآية: 4، وإِنَّما قالَ "رأيتُهم" في النُجُومِ لأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَهَا بالسُّجُودِ ـ وهوَ فِعْلُ مَنْ يَعْقِلُ، عَبَّرَ عَنْهَا بِكِنَايَةِ مَنْ يَعْقِلُ. وَحَكَى أَبُو إِسْحاقَ الزَّجَّاجُ أَنَّ العَرَبَ تُعَبِّر عَمَّن يَعْقِلُ وعَمَّن لا يَعْقِل بـ "أولئك"، وأَنْشَدَ هوَ وَالطَبَرِيُّ بَيْتَ جريرٍ المتقدِّمِ.
وَفِيه تَجْرِيد الْإِسْنَاد "مَسْؤُولًا" إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ سُؤَالُ أَصْحَابِهَا، وَهُوَ مِنْ نُكَتِ بَلاغَةِ الْقُرْآنِ الكريمِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الواوُ: للعَطْفِ، و "لا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَقْفُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لا" الناهِيَةِ، وَعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ، وهوَ الواوُ لأَنَّهُ مِنْ (قَفَا يَقْفُو)، كَ (عَدَا يَعْدُو) و (سَمَا يَسْمُو)، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازً تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى المُخَاطَبِ. و "ما" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ، في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعوليَّةِ، أَوْ نَكرةٌ مَوْصوفَةٌ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ في الآيَةِ: 29، السَّابِقَةِ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً}. و "لَيْسَ" فِعْلٌ نَاقِصٌ. و "لَكَ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "لَيْسَ" المقدَّرِ المُقَدَّمِ عَلى اسْمِها، وكافُ الخِطابِ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّق بِهِ لامُ "لَكَ" وَلَا تَتَعَلَّقُ بِـ "عِلْمٍ" إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَتَوَسَّعُ فِي الجَارِّ، لأَنَّه مَصْدَرٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. وَ "عِلْمٌ" اسْمُ لَيْسَ مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ بها، وجُمْلَةُ "لَيْسَ" صِلَةُ "ما" الموصولةِ فَلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، أَوْ هِي صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ إِنْ أُعْرِبَتْ "مَا" نَكِرَةً مَوْصُوفَةً.
قولُهُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، وَ "السَّمْعَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "والْبَصَرَ وَالْفُؤادَ" مَعْطُوفانِ عَلَيْهِ. و "كُلُّ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُضافٌ، و "أُولئِكَ" أُولاءِ: اسْمُ إِشارةٍ مَبْنيُّ عَلَى الكَسْرِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والكافُ للخطابِ. و "كانَ" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. واسْمُ "كانَ" ضَميرٌ مُستترٌ فيها جوازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "كلُّ" باعْتِبارِ لَفْظِها، وَكَذَا الضَمِيرُ في "عَنْهُ". أَوْ أَنَّ اسْمَها ضَميرٌ يَعُودُ عَلَى القافي، والضميرُ في "عنه" يَعُودُ عَلى "كلُّ" وهوَ مِنَ الالْتِفَاتِ؛ إِذْ لَوْ جَرَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَقِيلَ: كُنْتَ عَنْهُ مَسْؤُولًا. وَقَالَ الزَمَخْشَرِيُّ: و "عنهُ" في مَوْضِعِ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ كانَ مَسْؤُولًا عَنْهُ، فـ "مَسْؤولًا" مُسْنَدٌ إِلَى الجَارِّ والمَجْرُورِ، كَ "المَغْضُوبِ" منْ قولِهِ تَعَالى في سورةِ الفاتحةِ: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} الآية: 7. وفِي تَسْمِيَةِ الزمَخْشَريِّ مَفْعُولَ مَا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ فاعِلًا خِلافُ الاصْطِلاحِ. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الشيخُ أبو حيَّانٍ الأندلُسِيُّ قوَلَهُ: بِأَنَّ القائمَ مقَامَ الفاعِلِ حُكْمُهُ حُكْمُهُ، فَلَا يَتَقَدَّمَ عَلى رافِعِهِ، كَأَصْلِهِ. وَلَيْسَ لِقائلٍ أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ عَلَى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ، فإِنَّهمْ يُجِيزونَ تَقْديمَ الفاعِلِ؛ لأَنَّ النَحَّاسَ حَكَى الإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقديمِ القائمِ مقامَ الفاعِلِ إِذا كانَ جارًّا ومَجْرُورًا، فَلَيْسَ هوَ نَظيرَ قولِهِ تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم}، فَحِينَئِذٍ يَكونُ القائمُ مَقامَ الفاعلِ الضَميرَ المُسْتَكِنَّ العائدَ عَلَى "كلٌّ" أَوْ عَلَى القافِي. وَ "عَنْهُ" عنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجرِّ. و "مَسْؤُولًا" خَبَرُ "كانَ" مَنْصُوبٌ بِهَا، وجُمْلَةُ "كانَ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلِها فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {وَلاَ تَقْفُ} وَعَلَى هَذِهِ القِراءَةِ فَإِنَّ المَعْنَى: لا تَتَّبِعْ، وهو مِنْ قَفَاهُ يَقْفُوهُ، إِذَا تَتَبَّعَ أَثَرَهُ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "وَلَا تَقْفُو" بِإِثْباتِ الواوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِثْباتَ حَرْفِ العَلَّةِ جَزْمًا لُغَةُ قَوْمٍ، وضَرُورةٌ عِنْدَ غيرِهِمْ كَقَوْلِ الشاعِرِ فيما نَسَبَهُ بعضُهم لأبي عَمْرِو بْنِ العلاءِ التَمِيمِيِّ المَازِنِيِّ البَصْرِيِّ أَحَدِ القُرَّاءِ السَّبْعَةِ. وَاسْمُهُ (زَبَّانُ)، وقد رُوِيَ أَنَّ الفَرَزْدَقَ جاءَ إليهِ مُعْتَذِرًا مِنْ هَجْوٍ بَلَغَهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو:
هَجَوْتَ زبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِرًا ........ مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولمْ تَدَع
وقَرَأَ مُعَاذٌ القارِئُ: "وَلَا تَقُفْ" بِزِنَةِ "تَقُلْ"، وهوَ أيضًا مِنْ قافَ يَقُوفُ، أَيْ: تَتَبَّعَ، فهوَ مَقْلوبٌ مِنْ (قَفَا يَقْفُو)، وقيلَ: بِأَنَّهُ لُغَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ جَيِّدَةٌ ك "جَبَذَ" و "جَذَبَ"، لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمالَيْنِ، ومِثْلُهُ قولُهُمْ: (قَعَا) الفَحْلُ النَّاقَةَ وَ (قَاعَها).
قرَأَ العامةُ: {وَالفُؤَادَ} بضمِّ الفاءِ، وقَرَأَ الجَرَّاحُ العَقِيلِيُّ "والفَوَادَ" بِفَتْحِها وَوَاوٍ خَالِصَةٍ. وتَوْجِيهُها: أَنَّهُ أَبْدَلَ الهَمْزَةَ وَاوًا بَعْدَ الضَمَّةِ فِي القِراءَةِ المَشْهُورَةِ، ثُمَّ فَتَحَ فاءَ الكَلِمَةِ بَعَدَ البَدَلِ لأَنَّها لُغَةٌ فِي الفُؤَادِ، يُقالُ: "فُؤَادٌ" و "فَآدٌ"، وقد أَنْكَرَ هذِهِ القراءةَ أَبو حَاتِمٍ الرازيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
مواضيع مماثلة
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 4
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 18
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 33 / 1
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 45
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 61
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 18
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 33 / 1
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 45
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 61
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود