أرمناز التراث الفني (2) تمهيد

(2)
كنت أتمنى لو كان بإمكاني تدوين فنّ السماح الذي اندثر أو كاد ، وما نشاهده اليوم بين الحين والحين على شاشة التلفاز ليس السماح الأصيل ، لأنّه في الأصلِ حركةٌ في حلقات الذكر وضعها الولي الكبير الشيخ عقيل المنبجي ، شيخ الطريقة العُمَريّة العقيلية ، المدفون في منبج ، وينتهي نسبُه وسند طريقته إلى أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وهي حركات متّزنةٌ فيها وقار يلائم الخشوع في حِلَقِ الذكر ، لكنّ المرحوم عمر البطش ، فنّان حلب في القرن الماضي ، وكان من أقران أبي رمزي عندنا ، غير في هذه الحركات وأعطاها شيئاً من الليونة والتثنّي بحيث تلائم الإناث، عندما كُلِّفَ بتدريب فرقةِ أميّة ، وكان معظمُها من الإناث ، لذلك حرصت هذه الفرقة على أخذ هذا الفنّ عن الأرمنازيين يوم رأوا أصالة هذه الحركات ، وقد سلف الحديث عن ذلك في الفصل الأول ، لكن هذا السماح لا يمكننا تدوينه على هذه الصفحات ، إذا فلْنقدم الموشحات والأغاني ، التي هي ــ في معظمها مما يؤدى في الأفراح وحلق الذكر أيضاً ــ خاصة وأن أرمناز كانت تشتهر بحلق الذكر فيها أيضاً بسبب وجود عائلة الدسوقي والطريقة الدسوقية ، وهي من العائلات المتصلة نسباً بأهل بيت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ذكر ذلك أبو الهدى الصيادي في كتاب له عن أنساب السادة الأشراف ، علماً بأنّ هذه الموشحات قد ضاع معظمها، فقد حدّثنا المرحوم أبو رمزي أكثر من مرّة بأنّه لم يستطع أن يأخذ عن أستاذه محمود زريق إلاّ القليل القليل ، وكان يقول بأنّ دورة العريس أو حلقة الذكر كانت تتوقف لوقت قصير في بعض الأحيان ، بسبب تلكؤ محمود زريق ، فسئل عن سبب ذلك فقال : إذا انتهى الموشّح تسابق إلى لساني أكثر من ثلاثين موشّحاً كلٌّ منها يصلُح لأن يكون غطاءً للموشّح السابق فأتأخر بعض الشيء ريثما أختار أحدها .
وهنا ثمّة نقطتان هامّتان يحسن بنا أن نقف عندهما ملياً ، أمّا الأولى فهي غزارةُ علمه وكثرةُ محفوظاته ، إذ يحفظ أكثر من ثلاثين موشحاً من إيقاع واحد ومقام واحد ، حيث من المعلوم عند أهل هذا الفن أن تبدأ الوصلة بإيقاع ثقيل ثم الأخفَّ فالأخفّ وهكذا .
أما النقطة الأهمّ فهي التربية والأخلاق واحترام الأستاذ وتوقيرُه ، فهم لا يبادرون بحضور أستاذهم ولا يتقدّمون عليه بالرغم من أن كلاً منهم كان بإمكانه أن يبدأ موشّحاً مناسباً ، لكن تربيتهم كانت تأبى عليهم ذلك ، وقد كانت هذه أخلاق أسلافنا رحمهم الله ، وأذكر أنني كنت إذا غنّيتُ مع أبي رمزي ، رحمه الله ، تبعته وخفّضت من صوتي حتى يظهر صوتُه ، لأنّه كان قد تجاوز التسعين وأنا في الثلاثين وأين صوت ابن التسعين من صوت ابن الثلاثين ، وهذا شأن الذي يريد التعلم ، لكنّنا اليوم إذا غنّينا وغنّى معنا بعض الشباب، تراهم يسابقوننا رغم قلّة معرفتهم وعدم رسوخ قدمهم في الفنّ بل ربّما كان صوته أحدهم نشازاً ، فإذا أردت أن تتصرّف بما يُضيف إلى اللحن حلاوة وطلاوة ، لم يتركوا لك مجالاً لذلك .
وسنبدأ بنغمة الصبا وهي إحدى المقامات السبعة المجموعة في (صُنِعَ بِسَحَر):
[center]