البحر في الأدب العربي /5 /
2 مشترك
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
البحر في الأدب العربي /5 /
البحر في الشعر العربي المعاصر
لقد تغيَّرت الحياةُ في العصرِ الحديثِ عمَّا كانت عليه في العُصورِ السَّابقةِ تغيُّراً كبيرا ً، وأصبح للبحرِ في حياةِ الناسِ أهميُّةٌ مُتنامِيَةٌ ، لا سيَّما في عصر التكنولوجيا ، والمُخترَعاتِ الحديثةِ التي صار الإنسانُ يَجوبُ بِها المُحيطاتِ والبحارَ ويسبِرُ بوِساطتِها القيعانَ والأغوارَ ، ويكتشفُ المَجاهِلَ والأسرارَ ، ويَستخرِجُ الكُنوزَ الدَّفينةَ واللؤلؤَ والمَحار ووصل إلى أبعــادٍ وأعمــاقٍ مــا تَيَسَّرَ له الوصولُ إليها من قبلُ ، وعَرَفَ ما كان من المستحيل عليه مَعرِفتُه لولا ما كان لهذه المُخترعاتِ من فضل ، فأنِس بالبحرِ وألِفَه، ولِما فيه مصلحةُ الإنسانَ سخَّرَه ووظَّـفـه ، وصـــار البحرُ مَلجـــأه ومُتَنَفَّـسَــهُ ، يَقصُــدُه للراحـــــةِ والاستجمَـام ، ويفيءُ إليه هَرَباً من الهمومِ والخُطوبِ الجِسام .
أمّا الأديبُ والشّاعرُ ، فإنه غالباً ما قَصَدَ البحرَ طَلَباً للوحيِ والإلهام .
فقـد تَلاشى ، أو كاد خــوفُ الإنسانِ من البحرِ ، واختفتْ ، أو كـــادت تلك النظرةُ السَلبيَّةُ التي غَلَبتْ على الأَدَبِ في الحِقَبِ الخوالي .
وقد اعتدتُ ، وأنا واحدٌ من أهلِ هذا العصرِ ، أنْ أقصُدَ البحرَ مُستَحِمّاً مُستَجِمّاً مُسْتَعصِماً مُستَلهِماً ، كلَّ ما انْتابني هَمٌّ ونَصَبٌ ، أو حَلَّ بي وَهْنٌ وتَعَبٌ ، فتُوسِعُ صَدري سَعَتُه ويَبْسُطُ نَفْسي انْبِساطُه .
وأذكرُ أَنّني هربتُ إليه يوماً شاكياً نُكْثَ الأصدقـاءِ وقِلَّةَ الوفاء ، وكان الوقـتُ أصيلاً ، الريحُ ساكنةٌ ، والبحرُ هادئٌ وادعٌ حتى ليُخيَّلُ إليك أنَّك تَنظُر إلى مِرآةٍ لِشِدَّةِ صَفائه، وبَدَأتِ الشمسُ رِحلةَ الغِيابِ بالغوصِ في البحرِ ، غاسلةً فيه ما علِق بها من غُبارِ ذلك النَّهارِ مُودِعةً فيه ما استُحْفِظَتْهُ من أسرارٍ ، نافـضــةً عنهــا وعَثـاءَ السفرِ مُرسلةً أَشِعَّتَها الذَّهبيَّةَ فوق سطحِهِ ، كصَبِيَّةٍ تتمطّى على سريرِهــا مُستلقيةً عند المساء بعد طول عَناءٍ فتركتُ القلمَ لأُمَتِّعَ ناظريَّ بهذا المشهدِ الجميلِ البديعِ ، مُغْتَنِماً فُرصَةً قَلَّ أنْ تَتكرَّرَ .
وإذا بامرأةٍ كانت جالسةً عـــلى الطاولةِ المُقابلةِ لطاولتي تَقـذِفُ بعُلبةٍ فارغةٍ إلى البحرِ بعد أنْ عَبَّتْ ما فيها، وراحت العُلبةُ تَطفو على سطحِ الماءِ ، مُشوِّهةً هذه اللوحةَ الجميلةَ التي لا تستطيعُ ريشةُ أَمهرِ الفنانين أنْ تَرسُمَها، وساءني ذلك كثيراً ، فصَرَفْتُ وجهي تجاه الشاطئ ، وإذْ بأُنبوبِ مياهِ الصَّرْفِ الصِّحيِّ ، فاغراً فاه ، يَتقيأ ما في جوفِه من أقذارٍ، قاذفاً بها إلى البحرِ ، فعَظُمَتْ دَهشتي وازداد استيائي من هــذا الإنسانِ الــذي يُقابـل الإحسانَ بالإســاءةِ والجُحود ، وسُرْعان ما قفزتْ إلى مُخَيِّلتي عبارةٌ طالما سمِعتُها من حُكَماءِ النّاسِ وكِبارِ الرِّجالِ : (( فلانٌ بحرٌ، أو فُلانٌ كالبحرِ )) عبارةٌ يُطلِقونَهــــا عـــلى العاقل الحليم واسع الأفُقِ سليم دواعي الصَّدْرِ ، أو العلاّمةِ الفهّامة الحَبْر .
وفَطِنْتُ إلى العَلاقةِ بينهما ، فالحليمُ هو الذي يَصبِرُ على أَذى الناسِ وجهلِهم ويُقابل ذلك منهم بالصَّفحِ والإحسانِ والعفوِ والمَغفرةِ ، والعالِمُ هو الذي ينطوي سِرُّهُ على كُنوزِ المَعرِفَةِ ، وكلاهمــا يُشبِــه البحرَ ، فهو يَستوعبُ ما يُلقي الإنســــانُ بساحلِه من أقـذارٍ ، ويُخرِجُ له الإسْفنجَ واللؤلؤَ والمَحار ، والسمَكَ الطَّرِيَّ ، ويَحمِله ويَحمِلُ بضائعَهُ ، وتذكَّرتُ قولَه تعالى : (( ولا تَستوي الحَسَنةُ ولا السَيِّئةُ ادْفَعْ بالّتي هي أَحْسَنُ فإذا الذي بينَك وبينَه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حَميم )) . صدق الله العظيم ( 1)
وتـذكّرتُ ، أيضـاً حديثَ رسولِ اللهِ ، صلى الله عليه وسلم، الذي وَصَفَ فيه البحرَ بأنّــــه (( الطَّهورُ مـاؤه الحِلَّـةُ مَيْتَـتُـه)).(2) فمزَّقتُ القصيدةَ التي كانت بين يديَّ في نعيِ الوفاءِ وذَمِّ الصداقةِ والأصدقاءِ ، وشَرَعْتُ في كتابةِ القصيدةِ الآتيةِ ، وهي بعنوان :
أنا مثلُكَ أيُّّها البحر
ثَرَّ الشواطئ والأعمــــاقِ نائيهــــــــا
يا واصلَ الأرضِ قاصيها بِـــدانيهــا
أنتَ الطَّهورُ وكـم يُلقى بِساحِلــهِ
من الخَـــلائِــــــقِ أدرانٌ فيُخْفيهـــــا
شأْني وشأْنُكَ أنْ نُغْضي بِــلا مَلَلٍ
عنِ الأَذِيَّــــــةِ مهمَـــا اشْتَطَّ مُؤذيهـــا
أين الإساءةُ والإحســـانُ ؟ ما اسْتَويا
عنــدَ الـكِرامِ لأنَّ الحُــلْـمَ ماحيهــــا
يا أبيضَ القلبِ لا حِقْـــــدٌ يُكَــدِّرُهُ
صـافي السَّريــرَةِ ، لا إثْـمٌ يُغَشِّيهــا
* * *
ما أجمـلَ البحرَ يَرســــو في مَوانِئِــهِ
مِـن كلِّ قُطْرٍ مِـن الأَقطـارِ ساعيهــا
يأتي ويَرْجِـعُ والخَيراتُ تَصْحَبُــــــهُ
أنَّى تَوَجَّــــــه ، لا عُجْبــاً ولا تِيهـــــا
يا خالقَ البحرِ كم في البحرِ مُدْهِشَةٌ
مِن العَجـائبِ جَــلَّ اللهُ باريهــا
يا خالقَ البحرِ كم في البحرِ مِن عِبَرٍ
يَبْلى الزَّمـــانُ ولا تَبْـلى مَعانيهــا
(3 )
فالبحرُ مُستَودَعُ أسرارِ الخلقِ ومَكْمَنُ كُنوزِ الحَقِّ ، فيه من الآياتِ الدَّالَّةِ على قُدْرَتِهِ ، سبحانه ، ما يَخْلِبُ اللُّبَّ ويُطَهِّرُ القلبَ مِن أوضارِ المادَّةِ ، ويَملؤُهُ بالإيمانِ .
والبحرُ عندي مَصدَرُ وحْيٍ وإلهامٍ ،اقرأْ إذا شِئتَ القصيدةَ الآتيةَ وهي بعُنوان:
وشْوشـاتُ المَـوْجِ
داعَبَ الأهـــــدابَ حُلْــمٌ وانْثَــــنَى
في الــــكَرى والرَّاحُ دارتْ بينَنـــــــا
وَشْوَشاتُ المـــوجِ ، قَـــلبي والـــدُّجــــا
وبقـــــايـــــا مِـــن صَبـــابــــــاتٍ لنــــــــا
يا عَــــروسَ البحـرَ غنِّي ، هَـــــلِّلي
واسْبَحي في النُّـــــورِ ، قَــرِّي أَعْيُنــــا
أنا والبحرُ وليـــلي هــــــــــاهُنـــــــــــــا
وعَــــــــذارى الشِّعْـرِ تَحْنــــــو بالمُــــــــنى
تَمْتَمــــــاتُ الوَحْـــيِ وهْمـــي مَـرْكَبــي
وشِـراعي ذِكـريـــــــاتٌ تُجْتَــــــــــــــــنى
* * *
إِيــــــهِ يا ســـــــاقي أَدِرْهـــــــا قَهْـــــــوةً
واسْــــقِنـــــا ثُـــــمَّ اسْــــقِنــــا ثُــمَّ اسْقِنا
أنا واللّيــــــلُ وقـــــــــــــلبي والهــــوى
وعَـــــروسُ البحــــرِ تَجْـــــلــــو كأسَنـــــا
قُــــــدسُــــنــــا خمـرٌ وحُـبٌّ ومُـــــــــنى
أيُّ قـــلبٍ مـــا تَشَهّى قُــــــدسَنا؟
(4)
فقد صار البحرُ إذاً مَصْدرَ وحْيٍ وسُرورٍ ، ومَكانُ قَصْفٍ وحُبورٍ لا ويلٍ وثُبورٍ ، كما كــان سائداً في العُصورِ السّابقـــةِ ، وقــــــــــد أصبــحَ البحرُ إنساناً عاشقاً ، يُحسُّ بالجمــــالِ فيحبُّــه ، ويبادلُـــه الشَّوقَ ، ويطارحُه الغرامَ ، أَقولُ في قصيدة ثالثة ، مخاطبـــــاً مدينـة اللاذقية بعنوان :
عروس البحر
تَـــــــلالا الـــــدرُّ وافْتَــرَّ الجُمـــــانُ
على خَـــدَّيْـــــكِ فابْتسَمَ الزَّمـانُ
فأنـتِ الـــلاذقيَّـــــةُ بحـرُ سِـحْــرٍ
تَضَـــاحَـــكُ في جَـوانِبِـــــهِ الجِنـانُ
شواطئُ تَرْقُصُ الأمــــواجُ فيهـــــا
وتَمْـــرَحُ في مَتــارِفِهــــا الحِســــانُ
وجُــنَّ المـــاءُ مِـن بَهْــرٍ ووَجْـــــــدٍ
فــــكــــم وافَـتْــــــهُ فاتِـنــــــــــةٌ رَزانُ
وراحتْ بـــيْن أَذْرُعِــــهِ تَــلَــوَّى
وحُــــورُ المـــاءِ خَـــــوْداتٌ لِـــــــــدانُ
(5)
إذاً فالبحرُ ـ كما نراه ــ فتىً يَعْشَقُ الأنْثى ويُلاعِبُها ، ويهيم بالجَمالِ ويُداعِبُ الحسناوات ، وتَتَمَلَّكُهُ نشوةٌ عارمةٌ بهنَّ ، حتى لَيَكادُ يَصِلُ إلى الجُنونِ ، وهي ( إي الأنثى ) أيضاً تُحِبُّه وتَتَلَوَّى بيْن ذِراعيْه مُسْتَسْلِمــةً إلى لَذَّةٍ آسِرَةِ .
وأغارُ على العاشقين من النجوم أنْ تَسْرِقَ أسرارُهم وتُـذيعها فيمشي بها في الناسِ الواشونَ ويسعى العُذّالُ فيُفسدون ما بين العشّاق من مودَّةٍ ، فأتمنّى أنْ أكون بحراً لأُغرق كلَّ هذه النجوم حرصاً على العاشقينَ وأسرارِهم ، فأقول:
ليتـني يا شوقُ بحـــرٌ يُغـرِقُ الأنجــمَ قَسْـــرا
ربّمــــا يَســرِقُ نجــمٌ مـــن فَــمِ العشّاقِ سِرّا
(6)
وأنظر في عينيِّ من أحبُّ فإذا هما بحر مليء بكنوزٍ ثمينةٍ وينطوي على أسرارٍ عظيمـة الخطر فأقول :
أبحرتُ في عينيكِ أستجلي الذي
خلفَ الجفون ورفَّــــــــة الأجفـــــانِ
فكشفْتُ أسراراً وجُبْتُ عوالماً
جلَّتْ عن الأسمـــــــــاءِ والألــــوانِ
(7)
فالعينان نافـذتا القلب ، وفي القلبِ أسرارٌ وكنوزٍ لا يَقْدِرُها ، ولا يحصُرُها إلاّ خالقها ، ومهما اكتشفنا فإنما نكتشف اليسيرَ اليسير ، ويبقى فيهما مالا يطلع عليه إلاّ العليم الخبير.
أمّا الشاعرُ الكبيرُ ، شاعرُ المَهْجَرِ ، إيليا أبو ماضي فإنَّه يرى أنَّ ثّمَّةَ صفاتٍ مُشْتَرَكَةٍ تَجمَعُ بينَه وبين البحرِ ، وأُخرى تُباعِدُ بينَهما ، فكلاهمـا واسعٌ مُترامي الأطرافِ مُمْتَدُّ الشُّطْآنِ ، وكلاهُمـا يشكِّلُ قَطْرَةً في بحرِ الوُجـودِ اللاّنِهائي ، وكلٌّ منهما يجهلُ مَصيرَه ومُنتَهاه ُ، كما يَجهلُ أَصلَـــه ومُبْتَــداهُ ، وفي كلٍّ منهُما الغَثٌّ والثَّمينُ (( الصدف والرَّمـْلُ )) أمّا ما يُفَرِّقُ بينهمَـا مِن صِفاتٍ ، فإنَّ العقلَ يأتي في المُقدِّمةِ ، وهو مِن أَهَمِّ نِعَمِ الخالق ، سبحانه.
أمّا الصِّفةُ الثانيةُ فهي الظِّلُّ والأثرُ الذي يَترُكُه الإنسانُ في هذه الحياةِ بعد رحيلِهِ عنها ، حيثُ أنَّ للشّاعِرِ ظِلٌّ بينما ليس للبحر مثلُ هذا الظِلِّ ، وما أَظُنُّ شاعرَنا الفيلسوفَ هـذا قَصَدَ بالظِّلِّ غيرَ الأثَرِ الذي يَبْقى في الحياةِ بعدَ رحيله ، ورغمَ كل ِّهذه الصِّفاتِ التي يَمتاز بها الشاعرُ على البحرِ فإن البحرَ أطـولُ منه عمراً ، فلسوف يمضي هو إلى عالمٍ آخرَ بينما يبقى البحرُ ، لمــاذا ؟ ويُجيب لستُ أدري فهولا يدري سرَّ ذلك ولا يَمْلُكُ له تَفسيراً ثــمّ يَنتَقِدُ الشاعرُ البحرَ لأنّ فيـه المُتناقضاتِ ، فهو يَلِدُ السمكَ الجَميلَ ، نعم ولكنّه يَلِدُ الحِيتانَ التي تَلتهِمُ هذه الأسماكَ وتَقضي عليها ، وسطحُه مسرحٌ تَرقُصُ عليه الأمواجُ بينما قاعُــه ساحـــةُ حربٍ وصِراعٍ، في البحر إذاً الموت الر!هيبُ والعيشُ الجميلُ ، ويتساءل بعد ذلك ،هل البحرُ مَهْدٌ مُريحٌ ، أمْ هو مَحْضُ ضَريــحٍ ؟ ويُطلِـقُ بعـدَهـا إِجابتَه الحَيْرى (( لستُ أدري )) ، يقول :
إنّني يا بحــرُ ، بحــرٌ شـاطئــاه شـاطئـاكــا
الغَــدُ المَجهــــولُ والأمْسُ اللّـذانِ اكْتَنَفاكا
وكِــلانا قَطـرةٌ ، يا بحـرُ في هـذا وذاكــــا
لا تَسَلْني ما غَدٌ ما أَمسِ إنّي لستُ أَدري
*****
فيـكَ مثلي أيّهـا الجَبّـارُ أَصْـدافٌ ورَمْــلُ
إنّمــا أنتَ بِــلا ظِلٍّ وَلِي في الأرضِ ظِلُّ
إنّمــا أنتَ بِـــلا عَقْـلٍ ولِي يا بحـرُ عَقْلُ
فلماذا يا تُرى أَمضي وتَبْقى ؟لستُ أَدري
يَرْقُصُ المـوجُ وفي قاعِـكَ حَرْبٌ لن تَـزولا
تَخلُقُ الأسْماكَ لكنْ تَخلُقُ الحُوتَ الأَكولا
قدْ جَمَعْتَ الموتَ في صَدْرِكَ والعَيْشَ الجَميلا
ليت شِعْري أنتَ مَهْدٌ أمْ ضَريحٌ لستُ أَدري
(
وفي مَلحمةٍ تدورُ أحداثُها بين اللّيلِ والبحرِ ويُذْكي نارَها الشاعرُ:علي محمود طه، فيُلهِبُ بالحماسِ نفسَ البحرِ ليَثورَ على اللّيلِ ، ولِيَأخذَ منْه ذِمامَ المُبادرةِ ، ولِيستعملَ أسلحتَه بِدِقَّةٍ وكفاءةٍ عاليتـين ، فيَكْسِبَ المعركـةَ ويُحْـرِزَ بـذلك النَّصْـرَ، مُذَكِّراً لنا بصفاتٍ طالما وصَفَه بِها سابِقوهُ مِن الشُّعراءِ ، كما سَلَفَ أَنْ بيَّنا ، يقول :
قِفْ مِن اللّيلِ مُصْغِياً ، والعُبـابِ
وتَأَمَّـلْ في المُزْبِـــداتِ الغِضـابِ
صاعداتٍ تَلوكُ بِشِدْقِها الصَّخْـرَ
وتَرْمي بِـهِ في صُـدورِ الشِّعــابِ
هابِطــاتٍ تَئِنُّ في قَبْضَـةِ الرّيـحِ
وتُرْغي على الصُّخورِ الصِّـلابِ
ذلك البحرُ ، هل تُشاهــدُ فيـــه
غيرَ ليـلٍ مِن وَحْشَــةٍ واكْتِئـابِ؟
ظُلُمَــــاتٌ مِـن فوقِهـا ظُلُمَـاتٌ
تَتَرامى بالمــــائــــجِ الصَّخّــابِ
لا تَرى تَحْتَهُنَّ غيـرَ وُجُــــــودٍ
مِن عُبابٍ وعـالَمٍ مِن ضَبـابِ (9)
يُصَوِّرُ لنا الشَّاعرُ البحرَ جَمَلاً هائجاً ، تَلَبَّسَتْهُ شَياطينُ الرِّيحِ ، فانْدَفَعَتْ أَمواجُه وكأنَّها أَشداقُ ذلك الجمَـــل , تَلوكُ الصُّخورَ وتَقْــذِفُ بِهــا عــلى الشَّواطئ والطُرُقاتِ , وليس في البحرِ إلاّ الظُلمَــاتُ الـتي يَقْــذِفُ بعضُهـا بعضــاً بالأمواجِ ، فليس ثَمَّةَ إلاّ عُبابٌ وضَبابٌ ووحْشَةٌ واكْتِئابٌ .
بعد ذلك يُحاوِلُ إِثارةَ حَفيظَةِ البحرِ على اللَّيلِ لِيَستَعمِلَ أَسلِحتَـه ، ولِيَنْجُوَ بنفسِهِ مِن سَطوةِ اللّيلِ وظُلْمِهِ إذْ يقول :
أيُّها البحرُ كيف تَنْجو مِن اللَّيْـ
ـلِ وأَيْن المَنْجَى بتلكَ الرِّحابِ ؟
هو بحــرٌ أطَــــمُّ لُجّـــــــــــــــاً ، وأَطغى
منـك موجــاً في جيئـةٍ وذَهــاب
وَيْكَ يا بحرُ، ما أَنينُــــكَ في اللَّيْـــ
ــــــلِ أَنيـنَ المُـــرَوَّع ِ الغَـــلاّبَ
اِمْضِ حتى تَـرى المَــدائـــنَ غَرْقى
وتَرَى الكوْنَ زَفْـرةً مِن عُبـــابِ
ذاكَ أوْ يَهْتِـــكَ الظــلامُ دَياجيـه
ويَنْضُو ذاكَ السَّوادَ الكــــــــــابي
(10)
في الأبياتِ -كما تَرى-تَحريضٌ واضحٌ مِن الشاعِرِ للبَحْرِ على اللَّيْلِ ، فالجُرْمُ مَشْهودٌ والقَرائنُ واضحـــةٌ لا تَحتــــــاجُ إلى دليلٍ ، فهو في البـدءِ يحاول أن يُثيرَ حَفيظَةَ البحر عنـدما يقول له: بأنَّ اللّيلَ أَقْوى منْه وإنَّ مَوْجَهُ أَعْتا ، وبَعدَ ذلكَ يَتساءلُ عن سببِ أَنينِه وشَكواهُ ، وليس هو بالضَّعيفِ الجَبانِ ، إذاً لِيُنْذِرَ اللَّيْلَ بِضَرورَةِ سحبِ قُوّاتِهِ الظَّلامِيَّةَ ، وتَمزيقِ هذه الغِلالاتِ السَّوداءَ الدَّاكِنَةَ ، وإلاّ فَلَسَوْف يَنْدَفِعُ بِقُوَّتِهِ وجَبَروتِهِ فيُغْرِقُ المُدُنَ ويَنْشُرُ عُبابَهُ على الكونِ كُلِّهِ فيُغرِقُه .
ويَخافُ اللَّيلُ، فيَسحبُ قُوّاتِه ، ويَجلو حَنادِسَ ظَلامِه ، مُفْسِحاً الطَّريقَ للفجرِ الـذي أَقبـلَ في ثِيـابِـهِ الرَّقيقـةِ الشَّفَّافَـةِ ،يَتَبَخْتَرُ كَشـابٍّ ثَرِيٍّ جميلٍ ، طَلَعَ يزهو بحُلَّتِهِ وكاملِ زِينَتِهِ ، في جيشٍ من الخَدَمِ والحَشَمِ ، لِيَلْفِتَ إليه أَنظـــارَ الصَّبايا و لِيَسْلِبَ ألبـــابَهُنَّ ، ويَأسِرَ قُلوبَهُنَّ ، باعثــــــــاً في أنفُسِهِنَّ لَهْفَةً مُقْلِقَةً وشوقاً عارماً .
ويضحكُ الشاطئُ سُروراً بهذا الانْتِصارِ، ويَستَدْعي فِرَقـاً فَـنِّـيَّـةً مِنَ الطُّيورِ ، لِتُغَرِّدَ مُعْرِبَةً عن البَهْجَةِ والسَّعادةِ فَتَقَرَّ عينُ البحرِ ، ويَهــدأَ بالُـــه ، وتَطْمَئنَّ نَفْسُـهُ ، ويَنْشُرَ راياتِهِ ذاتَ الألوانِ القُزَحِيَّـةِ الخَلاّبَـةِ ، ولِتَكْتَمِلَ الفَرحةُ ، وتَعُمَّ البهجةُ تُسْتَدعى فِرَقٌ مِن الرَّاقِصاتِ العَذْراواتِ حَديثاتِ السِّنِّ ، لِيُراقِصْنَ الأمواجَ عارياتِ الأجسادِ، فيَغارُ اليَمُّ عليهِنَّ ، ويَلُفُّ هذه القُدودَ الغَضَّةَ النّاعِمَةَ ، ويَسْتُرَ ، بِرَغْوتِهِ تلكَ النُّهودَ الحالِمَةَ ، التي بَدَأتْ تَشْرَئبُّ بِحَلَماتِها باحثةً عن اللَّذَّةِ والنَّشوةِ ، يقول:
أَقبلَ الفَجرُ في شُفوفٍ مِن رِقـاقٍ
يَتَهـــادى في مَنْظَـــــــرٍ خَــــــلاّبِ
وإذا الشّــاطئُ الضَّحــوكُ تَغَـــــــنَّى
بالأَغـــــــــــــــــــانيِّ العِــــــذابِ
ومِـن البحـرِ جــانـبٌ مُطْمَئنٌّ
قُزَحِيُّ الأَديـــــــمِ غَـضُّ ،الإهــابِ
نَـزَلَتْ فيـهِ تَسْتَحِـمُّ عَــذارى..
الضَّــــــوْءِ مـن كُلِّ بَضَّــــــةٍ وكَعَــابَ
عارياتٍ يَسْبَحْنَ في اليَــــــمِّ لـــكنْ
لَفَّهــا الرَّغْـــــــوُ في رَقيقِ الثِّيـابِ
فإذا البحرُ يَرقُصُ المـــــوجُ فيـــــهِ
وإذا الطَّيرُ صُـــــــــدَّحٌ في الرَّوابي
(11)
إنّه الشاعر المبدعُ (( علي محمود طه )) شاعرُ الرِّقَّـةِ والعُـــذوبــــةِ والجَمالِ ، مُبــــدِعُ الصُّوَرِ الجَميلةِ ، وصاحبُ الخيـالِ المُحَلِّقِ ، هاهو يَسبَحُ مـــع النُّجومِ والكواكبِ بِحِسِّه الرَّهيفِ ، مُتْحِفاً الأدبَ والشِّعْرَ العربيَّ بِرائعــــةٍ أُخرى بعُنوان :
الشـاطئ المَهجور
موجَـــــةَ السِّحرِ مِـن خَـفِيِّ البُـحــورِ
اُغْـمُري القلـبَ بالخيـالِ الغَميرِ
أَقبِلي الآنَ مِــن شَـــــواطئِ أَحـــــــلا
.. مي ورُدِّي عَــلَيَّ نَفْــــــحَ العَبيـرِ
واصْخَبي في شِعــابِ قلــبي وضِجِّي
فوقَ آلامِـــــهِ الجِسـامِ وثُــــــــــوري
أَيْقِظي فيــــه مِــن فُنـــونٍ وسِـحْــــرٍ
ذكريـاتٍ مــن الشَّبــابِ الغَـريـــــرِ
إنّهــا ذكـريــــاتُ أُمْسِيـَّــــةٍ مَــرَّتْ
وأَيامِ غِبْطَـــــــــــــــةٍ وسُــــــــــــرور
(12)
يَستلهِمُ الشّاعرُ في مَقطوعتِه هذه موجــةً مِن أَمواجِ بِحارِ الغَيبِ الساحرةِ ، المُفْعَمَةِ بالجَمالِ والإلْهامِ ، لِتَغْمُرَه بسِحْرِها وتُجَنّح بخَيالِهِ ، فتُخلِّصَهُ من هُمومِهِ وآلامِه ، وتُريحَه من مَخاوِفَه وهَواجِسَه وتُعيدَ إليه ذِكرياتِ شَبابِـه ، ليَرقى سُلَّمَ الإبداعِ ويُحلِّقَ في سمائه ، ويزورُ يوماً مدينةَ (( كـان ))على الشّاطئ الفَرنسيِّ ، ويُشاهدُ الفاتناتِ يَسْبَحْنَ في مياهِا على ضوءِ القمرِ ، فيقول بعُنوان :
البحرُ والقمرُ
تَســاءلَ المـــــــاءُ فيــكِ والشَّجَــــرُ
مِن أينَ يا (( كانُ)) هـذِه الصُّوَرُ ؟
البحرُ والحُـــــــــــــــورُ فيــه سابِحَــــــة
رُؤىً بِهــا باتَ يَحــــــــلَــمُ القَمَــرُ
يَـزيـــدُ سيقــانَهُـــنَّ مـِن بَهَــــــــجٍ
لــونٌ عجيبُ الـــرُّواءِ مُبتَـكَــرُ
تَغَـــايَـــرَ المــــــوجُ إذْ طَلَعْنَ بـــــــه
وثارَ مِـن حَــــــــــــوْلِهِنَّ يَشْتَـجِرُ
مــــازِلْــنَ والبَحْــرُ في تَـــــــوَثُّبِــــــه
يُرْغي كــمَــــا راعَ قلبَــه خطَــــرُ
فاليَـصْخَبِ البحـرُ ولْتَـئِـنَّ بِـــــه
رِمــالُهُ ولْيُـثَــــــــرْثِـــــــــرِ الشَّجَـرُ
(14)
صُوَرٌ ولا أبدعَ ، حَسناواتٌ جميــــلاتٌ ، تَعَرَّيْنَ لِيَسْبَحْنَ في البَحرِ ، فَبَــدَتْ منهُنَّ أجسامٌ وسيقان ، ما كان القمرُ لِيَحلَـــــمَ برُؤيَةِ مِثْلِها من قبلُ ، فامتدَّتْ أيـدي أشِعَّتِهِ الفِضِّيَّةِ لتـُلامِسَ هذه السيقان ، ولِتَسْكُبَ عليها من لَونِها الجميلِ فزادتْها جمـالاً على جَمالٍ ، لكنَّ الموجَ غـــارَ من القمرِ ، وثارتْ ثائرتُه وأخَذَ يَضْرِبُ بعضُه بعضـاً من شـدَّةِ الغضبِ ، فقـد أكلـــتِ الغيرةُ قلبَه ، حتى بدا البحرُ كمنْ راعَه خطرٌ البحرَ معذورٌ في غيرتِه هذه ، فلْيَصْخبْ ولْتَئِنَّ رِمالُه فَرَقاً ، وليَقُلِ الشّجرُ ما شاء أن يقول ، وليبح بما شاء أن يبوحَ به.
أمّا شاعرُ القُطرين خليل مطران الذي تَغَرَّبَ عن أهلِهِ ووطنِـه لتَحسينِ ظُروفِ عيشِـهِ ، ولطالما عَلَّلَ نفسَه بأنَّها ستبلُغ مُناها ، فقد جاء إلى البحرِ شاكياً هَمَّه وغَمَّـه وبُعْـدَ أمانيــهِ ، مُقيماً على صَخرةٍ من صخورِه الصَّمَّاءِ، فما كان من البحرِ إلاّ أنْ قابلَه برياحٍ هوجاءَ عاصفةٍ ، وأمواجٍ خَرْقاءَ قاصفـةٍ ، فتَمَنّى لو أنَّ قلبَـه كهــذه الصخرةِ التي يُلْهِبُ الموجُ ظهرَها بِسِياطِـه فيُفَتِّتَها ، لكنّها لا حِسَّ فيها ، بينما قلبُه يَتَشَظّى ألَمـاً وحُزناً من أمواجِ الهمومِ ، وأعباءِ الحيــاةِ التي تَتَقــاذَفُــه يُمْنَةً ويُسْرَةً ثمّ ما يَلبَثُ أنْ يَعْكُسَ على البحرِ صورةَ نفسِه ، ليَرى فيه ما فيها من أسَىً وضيقٍ كلَّما أقبلَ المَساءُ ، يقول :
ثاوٍ على الصخر الأصمِّ وليتَ لي
قلبٌ كتلك الصخرةِ الصمّــــاءِ
ينتابهـا مـوج كمَـــــــوج مـكـــــارهي
ويَفُتُّها كالسُـقْــمِ في أَعضــــــائي
والبحر خفّـاقُ الجوانب ضـائــــقٌ
كَمَداً ، كصَدري ساعة الإمساءِ
(15)
إذا كان خليل مطران قد شارك شعراء الأندلس بإضفاء صفات العنف والقسوة على البحر ، كما سلف أن بيَّنا ، إلا إنّه خالفهم بأنّه لم ينظر إليه بعين الريبة والخوف، وإنما اعتبره صديقاً يـركـن إليــه ليبثـه شـكواه وإخفـاقـاتـه ، وليشاركه في حمل همومه بالرغم من قسوته وعنفوانه.
ويشارك السيابُ الخليلَ في هذا الموقـف من البحر ليشكو إليه غربته عن وطنه العراق ولكن لأسباب غير تلك التي باعدت بين الخليل ووطنه لبنـان، هاهو يقف أمام شاطئ البحر مسرّحــاً بصرَه في مداه علّه يرى وطنه الغافي على الشاطئ الآخر ، لكنه لا يرى غير صخب البحر وهيجانه واضطراب أمواجه وعصف رياحه ، وكأنها جميعاً تنادي معه بصوت واحد (( عراق....! )) فقد حال بينـه وبين محبوبه البحر الواسع ، يقول :
وعلى الرمال على الخليج
جلس الغريب ، يسرح البصر المُحَيَّر في الخليج .
ويهدُّ أعمِدة الضياء بما يصَعِّد من نشيج
أعلى من العَبّــاب ، يهدر رغوُه ، ومن الضجيج .
صوتٌ تفجَّر في قرارة نفسي الثكلى عراق
كالمَدّ يصعد كالدموع إلى العيون .
الريح تصرخ بي : عراق .
والموجُ يُعْوِلُ بي : عراق ، عراق ليس سوى عراق !
البحر أوسع ما يكونُ وأنت أبعد ما يكون. ( 16)
ويقف الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي أمام البحر أيضاً، إنما ليستعيد مشاعره يوم ركـب البحــر ، فكـاد قلبُـه يتفطّرُ فَـرَقاً ، مُذَكِّراً لنا بمشاعر الخوف والرهبة التي كانت تنتاب الأندلسيين عند ركوب البحر كما سلف أن بينا، لكنه، وقد أصبح على الشاطئ ، اليوم ، ولم يعد للبحر سلطـــان عليه ، فهو يقف اليوم ليستمـدَّ من البحر القوة والعنفوان ، فهو وإن خــاف قلبُه البحرَ لضعف جسمه واضمحلال عزمـــــــــه ، فإن روحه تحاكي البحر سَعَة وثورة وعنفواناً ، يقول:
يــوم أبحـرتُ فـــــوق متْنِـك تهوي
بي أمـواجُـــــــــــــك الغضـابُ وتَعلو
راعني حـولُك الرهيـبُ فخارت
عَــزَمـــــــاتي ولم يَعُــدْ ليَ حــوْلُ
وتَـرَنَّحتْ بيـن جنبـيْـك تلهــو
بي فتطفـــــــــــو آناً وتهــــــــدأُ آنا
كانت القطرة الضئيلة من لُجِّكَ
... أَمضى مـنّي وأَخطــرَ شـــــانا
وأنا اليوم أجتليـك من الشاطئ
... تُزجي الأَمـواجَ مثـلَ الجبالِ
فـــإذا بي أَثـــورُ مثلك يا بحرُ
وتَـنْزو الأَمْــــواجُ في أَوْصــــــــالي
هو روحي الذي يحاكيك في البأس
... ولكن يَـــــؤودُهُ عِبءُ جِسْمي
فإذا ما اجْتَلاك والجسمُ غفـلان
... توخّــــــاك في مضــاءٍ وعـــزمِ
هو الــــذي يحـاكيك يا بحـــرُ
... ويخشى قــلبي الجَــــــزوعُ أذاكا
ضَعْضَعَ الجسمُ عزمَ روحي المعنَّى
يا أخــــــــــــا الروح بُثَّ فيَّ قُواكا
(17)
يخاطب الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي البحر مذكّراً إيّاه بيوم ركب ظهره ، فثار وهاج ،وكأنه جملٌ هائج أو بغل شَموسٌ لم يركب ظهرُه من قبل ، وأخذت أمواجُه الغضاب ترغي وتزبد ، وتعلو وتنخفض باعثة في نفس الشاعر الخوف والرهبة ، فخارت عزيمته حتى أنّ قطرة واحدة من ماء البحر كانت أقوى منه وأقدر ، وما ملك حينها إلاّ الاستسلام لقَدَرِهِ.
وها هو اليوم يجلس على الشاطئ يراقب البحر ويكتنه أسراره وأعاجيبه ، دون أن يجرُء على الاقتراب منه أو النزول فيه ، فتأثّر بالبحر وتعلم منه الغضب والثورة فدبت في نفسه الحميّة ، فروح الشاعر تملك من القوّة والعنفوان ما يحاكي البحر في قوته وعنفوانه ، لكنّ جسمَـهُ ضعيفٌ لا يستطيع مجارات البحر ، وقد سرى ضعفه هذا إلى قلبه فأثار فيه الرعب ، لذلك فهو يرجو البحر أن يهبه شيئاً من قوّته وبعضاً من عزيمته ومضائه.
أما الشاعرة الفلسطينية نازك المـلائكة ، فإنها تنظر في أعماق نفسها فتراها وكأنها سفينة ، تاهت في بحر لُجي تتقاذفها أمواجـه ، فتـدفعها إلى المجهــــول ، كتلك السفينة التي تجري في البحر ، يلطمها الموج من كل جانب وتعصف بها الأنواء تقول بعنوان :
الريحُ مزّقت الشراعَ
زورقي والموجُ أطفأ ضوءَ مصباحي فماذا قد بقي؟
وغداً سينسكب الدجــا في جفني المغرورق
وتسير أمــواج البحور على شبابي المُفرَق
(18)
ترى الشاعرةُ ــ كغيرِها من أبناء فلسطين ــ أنّها تركب زورق الحياة ، وقد أطفأ الموجُ مصباحها ومزقت الريح شراعها ، فهي تسير في عُرض بحرٍ محيط على غير هدىً ، وبدون أية مقاومة ، فهي يائسة موقنة بالغرق ، ولسوف تمشي أمواج هذا البحر على جسدها لا محالة ، إنّها حالة الضياع الفلسطيني الذي فرضه عليه احتلال أرض فلسطين وتشريد شعبها ،رحلة لا يعلم منتهىً لها إلا الله سبحانه .
وبعد هذا التطواف على رياض الشعر العابقـات الظليــلات تلك ، تعــال معي ـ عزيزي القارئ ـ نَفيء إلى جنّـةٍ هي أربى جنـان الدنيـا ثمراً وأورفها ظلاًّ في ضيافـة شاعرٍ من عمـالقـة الشعر العربي قاطبة ، إنّه الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري ، سنزورُه في شقَّته المستلقية على على رمــال (( أثينــا )) عاصمة اليونان وقد ركن البحرُ ، ذات مساء، إلى الهدوء والسكينة والدَعَةِ ، بعد طول صخب ، فبدا للشاعر خيرَ سمـيرٍ ، فا ستغلَّ لحظات هدوئه هذه ليسامره ويناجيـــه، فكــانـت هــذه القصيدة التي نقتطف لك منها ما يمتعك ولا يدعك تمَل ، على أنّها جميلة ممتعة كلّها ، وهي بعنوان :
ســجــا البـحــر
سجـــــا البحر ، وانْداحتُ ضِفافٌ نَدِيَّـــــةٌ
ولــــــــــوَّحَ رَضْـراضُ الحَصى والجَنـــــــــــادِلِ
ولُفَّ الــدجــــــــــا في مستَجَـدِّ غِـلالـــــــــــةٍ
سِـــــــــــوى مـا تَـرَدَّى قبلَها مـن غَــــلائــــلِ
سجـــــا البحـر حـــتى لا تُعيـــــدُ ضفـــــافُــــــــــهُ
صـــدى رَعَشــــاتٍ مُتْعَبـاتٍ قــلائــــــــلِ
وحـــــــــتى لَيَبْـــــدو ــ في غَـرابــــــــــةِ حـالِــــهِ
وغُـربَتِــــــه ــ عـن نفســـه جِـــــــدَّ ذاهــــــــــلِ
وطــــال عليــــــــــــه في عَبـــوسِ دُجُـنَّــــــــــــةٍ
ترقُّبُ (( ضحـــاكٍ)) من الشرق قابِـلِ
وجَفَّتْ رمــالٌ (( للمسابــح )) بَلَّلتْ
شِفاهـــاً عَطاشى من(( عِـــــذابِ )) المناهِلِ
وغُصَّ بأشبـــــــــــاحٍ إليـــــــــه صَــــــــــواعــــدٍ
عــــلى أُخْرَياتٍ من سمــــــــــــاءٍ نَـــــــــوازِلِ
إذا هَـزْ هَـزَتــهُ الريحُ واسَّرَحَتْ بــــــــه
خيــــوطٌ مــن الأضـــــواءِ مِثــــلُ الجَـــــدائــــــلِ
وألْحَمَــــهُ وَمْضٌ مـــــن (( البـــرقِ )) ناعسٌ
وسَــــــدَّاهُ شَـــفٌّ مـن غيــــــــومٍ نــــــوازلِ
حسِبْتَ (( عريشاً )) من عناقيدِ كَرمـــةٍ
تَــــــدَلَّى و (( حِــــرْشاً ))من حُقول السنابلِ
وخِلْتَ النجـــومَ الزُهْــــرَ صيْــداً لصائــدٍ
يُنَشِّـرُ مـن أشبــــــــــــــاكِـــــهِ والحَبــــائـــــــــلِ
تنفَّسْ عميقـــــــاً أيُّهـــــــا الشيـخُ لم يَهُــــنْ
يجَـريٍ على فَــــرْطِ المَـــــــدى والمتطـــــــاولِ
ولم يُنسِـــــهِ التَيَّـــــــاهُ مــن جَــبـــــروتِـــــــــــهِ
عنـــــاقَ الشــــواطي واحتضــــــانَ الجَـــــداوِلِ
ولا زاده إلاّ سمـــــاحــــــــــــــاً وعِـــــــــــــــــــزَّةً
تَخَطّي شُعـــوبٍ فـــــــــــوقَــــــــه وقبـــــــائــــلِ
فيــــا روعـــــــةَ الــــــدنيــــا يُســـــامـرُ ركبَهـــــــا
ويحمـــــلُ أَســــــرارَ العصــــــــورِ الأوائــــلِ
لك الخـيرُ هــــل جيـــلٌ تَقَضّى ولم تَــــكـن
شهيـــــــداً عــلى أعْــــــراسِـــــهِ والغَوائــــــلِ
وهــــل طـــــــار إلاّ عنـك نـــــــــورُ عَبــاقِــــــرٍ
ووحيُ أســــــاطـــيرٍ وبِــــــــدْعُ فطـــــاحـــلِ
وهــل سُعِّـــرت نـــــارٌ لِحَــــربٍ ولم تُـثِــــــرْ
عُبــابَــــك يَغـــلي حِقْــدُهـــــــــا كالمَراجِـــــــلِ
غَزَتْــــكَ أساطيـــــلُ الطُغـــــاة وطَـــــوَّحتْ
بحـــــــابِـــــلِ حـــــــوتٍ فيــــــك أقـواسُ نابِلِ
عَبَـــــــدْتُـــــــكَ صُــــوفيّــاً يـديـــنُ ضمـيــــــــرُه
بمــــــا ذَرَّ فيــــــــــه مـن قُــــرونِ الـــدخــــائــلِ
وعـــاطيتُــــكَ النَجــــوى مُعــــاطـــاةَ راهِبٍ
مُصيــخٍ إلى همسٍ مــن الغيبِ نـــــــــازلِ
وتَشْهَــــــدُ أُمّــــــــاتُ القــــوافي تَشــاغلتْ
بهــــــا أكـــــــؤسُ السمّـــــارِ أنّــــَك شاغـــلي
* * *
سجـــا البحرُ إلاّ مـن شــراعٍ مُهَــــــــــــــــوِّمٍ
يحـــــومُ عـــلى صَمْتِ الـــــدجــا كالمُخـــاتلِ
معــــــالِـمُ كـــــونٍ غــــــامضـــــــــاتُ سرائــــرٍ
فهـنَّ لمـن يـــرتادُهــــــــــا كالمَجــــــــاهِـــــــــــلِ
ومـــا أصغـــــرَ الدنيـــــــا على جهـلِ ساحــلٍ
ــ لفَرطِ التجــــــافي والتَنــــــافي ــ بســـاحِــلِ
(19)
لقد هدأ البحر واسترخى مرتـدياً ثـوبَ نومه المريح ، حتى ليبدو للناظر إليه ساكناً تماماً وكأنه ينتظر قادماً من الشرق، وســاد السكون وسيطر الوجوم وكأنما أشباح تصعد منه وأخرى تنزل فيه ـ كما تُخيِّلُ للشاعر هواجسُه ـ فإذا هزهزته الريحُ وسَرحت على وجهه خيوطٌ من الضوءِ ــ وكأنها جدائلُ صبيَّة شقراء ــ وتشابك ومضٌ خفيفٌ من البرقِ مع غيومٍ شفافةٍ ، تَشَكَّل ما يُشبِهُ عَريشاً تتدلى منه عناقيدُ العِنبِ الصفراءُ الناضجةُ ، أو حقلاً من سنابلِ قمحٍ حان حصادُها .
ولشدَّة هدوءِ البحرِ فإنّ سطحَهُ مرآةٌ تَعكسُ نجومَ السمـاء ، فتبدو وكأنها اللؤلؤُ أو المَرجانُ .
ثم إن الشاعر ينظر إلى البحر وكأنه شيخ كبير لطالما سعى في الحياة وكافح إلاّ أنه مازال قوياً لم تؤثر فيه الأيامُ و لم يفُتَّ في عضُدها كثرة الجري ، فيقول له تنفس عميقاً واسترحْ مليّاً فقد كافحت طويلاً وكنت متواضعاً رغم عظمتك وجلال قدرك ، فقد كنت تحنو على الشواطئ وتحتضن الجداولَ الصغـيرة كمـــا يحضن الرجل صغـاره ويعطف عليهم ، كمــا أن عبور الخلق له ما زاده إلاّ تسامحاً ورفعة ، فما أروعـه وهو يسامر هؤلاء الذين ركبوا ظهره ويحافظ على أسرارهم ، نعم السمير لا يفشي سراً ولا يخون رفيقاً .
وقد عاصر البحر كلَّ الأجيال ، وحمل علومهم ومخترعاتهم وعصارة فكرهم ونتاج عبقريتهم من مكان إلى مكان ناشراً النور والهداية .
كما شهد كلَّ حروبهم واكتوى بنار حقدهم ، فغضب وزمجر ، وأرغى وأزبـــد معبِّراً عن استيائه ، حتى أنه هو ذاته لم يسلم من شرور الناس ، فلطــالمـــا شَنّوا الحروب على بناته ((أسماكه )) ورموها بنبال حقدهم فلم تسلم من أذاهم .
ثم يعبر الشاعر الجواهريُّ للبحر عن عميق حبه وعظيم إعجابه ، فهو يحبُّه حتى العبادة ، ويناجيه كما يناجي الرهبان والنُسّاك معبودَهم ، ويمدحه بقصائد بديعة تسلب الألباب ، حتى أمست حديثَ السُمّـار وشغلَ الناسِ الشاغلَ.
ويسترسل الجواهـــريُّ في وصف البحر مبدياً إعجابه بسكونه ، اللهم إلاّ من شراع متعب يحوم فيه وقد بدا عليه الإعياء والنعاس ، حتى ليخيّل للمرء أَنّه إنما يريد استكناه البحر وسرقــة أسراره عن الكون ومعالمه التي يخفيها في باطنه .
وأخيراً يعبّر شاعرُنا عن عميق أساه وحزنه لتباعد الناس وخلافهم المستحكم وعدائهم المستمر الذي يحول بينهم ، حتى إن واحدَهم في ساحلٍ من سواحل البحر لا يعرف شيئاً عن أخيه الإنسان الذي يعيش على الساحل المقابل .
وهكذا عشنا لحظات ثمينة مع شاعر عظيم وقصيدة فيّاضة بالصور الحسية والمشاعر الإنسانيّة النبيلة .
ونختــم بخنســاء العصــر ، كمـا لقّبَهـا بعضهم ، أو شاعرة الثُكْل الخالد كم لَقّبت كانت تلقِّب نفسَها ، نقصد الشاعرة الراحلة هند هارون من مدينة اللاذقية ، حيث توفي وحيدها (( عمار )) وهو ريعان شبابه ، وكان يستعد للتقدم إلى امتحان الشهادة الثانوية ، لكن الداء الذي صارعه طويلاً (سرطان الدم ) لم يمهله ، فبكته بكاءً مُرّاً ، وكانت تلجأُ بين الفينة والفينة إلى البحر مجترّة ذكريات وحيدها ، مُلْــتــمِسةً في البحر السلوان :
أغنياتُ البحرِ للبحّار ، غاب الأمسِ ، ذكرى
وشباكُ الصيــــدِ والقنـــــــديلُ صيّــــــــادٌ تَحَــرّى
راقصاتُ اليَـــــمِّ حُــــورٌ ..والرُؤى تنداحُ فجرا
وأنا أَنْسُمُ وَرْداً ..كان عِطراً .. ذاب خمــــــــرا
نشوةُ الآلامِ وَجْـــــــــدٌ ..كان لَفْحــــاً ..صـار جَمْرا
وجنــــونٌ ليتــه يبقى لأنســــى كيف أُذْرى
بـــين إعصـــــارٍ يُحيـلُ النفسَ أشتاتاً وذُعْــــرا
وسكـونٍ عبقريٍّ ...مَــدَّه الرحمـــن صَبــــــــْرا
يا عيوني هَدْهِدي الأحلامَ إن ساكَنْتُ بحرا
( 20 )
فهي تجلسُ على شاطئ البحر لتسلي نفسَها وتنسى حزنها فتسمع أمواجه ترسل غناءها الشجيَّ شوقاً إلى الصيّاد الذي غادرها بالأمسِ ولم يعد فهي تتذكره وتناديه .
وينزل صياد إلى البحر حاملاً شباكهُ وقنديلَ باحثاً عن خليلٍ له فقده بالأمس .
وهي تجلس على الشاطئ بانتظار عودته ، ويقبل الفجر فتتراءى لها حوريات البحر يرقصن لعودة عمّار ، فتشمُّ ريحه من بعيدٍ فيأخذها السكر وكأنَّ عطره قد تحوّل إلى خمرة معتّقة .
إنَّها نشوةُ الألم والوجدُ الذي يحرق الأحشاء ، وما ازدادت نيرانه مع مرور الزمن إلاّ اتّقاداً ولهيباً، يسلب اللبَّ ويُسْلِمُ النفسَ إلى الجنون ، ويا ليتَ هذا الجنونَ دام إلى الأبد لتنسى آلامها وتسلوَ حزنها.
وهي بين حالين يعصف الأولُ بها حيثُ تذكر مصابها، ويُسلمها الثاني إلى التسليم بقضاء الله وقَدَرِهِ ، فتسكن النيران في قلبها ، ثمَّ يعود الأولُ ليعصف بها من جديد وهكذا دواليك .
وفي النهاية تخاطبُ عيونها راجية منها أن تسعفها بالأحلام التي يمدُّها بها البحر عساها تجد في هذه الأحلام بعض السلوان وتنعَم بشيءٍ من الطمأنينة وراحة البال ، وأنّى يتوفّر لها ذلك ؟ فهي مشتّة الفكر مكلومة الفؤاد ، ما أنْ تسترسل مــع البحـر فتغفو عـلى أحـلام ورديَّةٍ ، حتى يمضَّ جرح فؤادها فتَسْرُق آلامُها أحلامَها ، وتعيدُها إلى شِقْوَتها وثُكْلِها الخالد .
وبذلك نكون قد رسمنا صورة واضحة للبحر كما هي في خيال أدباء العرب وشعرائهم ، راجين أن تكون وافية ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
مصادر الباب السابع :
1 ــ سورة فصِّلت الآيتان 34-35
2 ــ صحيح البخاري , كتاب الطهارة.
3 ــ ديوان عبير الخيال: ص 35-36 .
4 ــ ديوان عبير الخيال: ص 37-38.
5 ــ ديوان عبير الخيال: ص 18-19.
6 ــ :المصدر السابق: ص 96
7 ــ : المصدر السابق :ص
8 ــ : المصدر السابق :
9 ــ ديوان إيليا أبو ماضي : ص 196- 197-198.
10 ــ ديوان علي محمود طه: ص 185.
11 ــ ديوان علي محمود طه: ص 185
12 ــ ديوان علي محمود طه: ص185
13 ــ ديوان علي محمود طه: ص 185149.
14 ــ ديوان علي محمود طه: ص 185716.
15 ــ ديوان خليل مطران : ص 145.
16 ــ ديوان بدر شاكر السياب : ص317 .
17 ــ ديوان د. إبراهيم ناجي :ص 768-769.
18 ــ ديوان نازك اللائكة : ص 612-613.
19 ــ ديوان الشاعر محمد مهدي الجواهري ، الأعمال الكاملة الصادر عن وزارة الثقافة السورية ج3ص453
20 ــ ديوان المرسى والشراع لهند هارون ص143.
ثبتٌ بالمراجع:
القرآن الكريم .
المعجم المفهرس لآيات القرآن الكريم ، للدكتور عبد الرحمن الحجيلي
القاموس المحيط ، للفيروز أبادي
المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده .
تاج العروس من جواهر القاموس ، لمرتضى الزَبيدي
معجم مقاييس اللغة ، لابن فارس
المعجم الوسيط ، الصادر عن دار الدعوة .
أوراق الورد ، لمحمد صادق الرافعي
لسان العرب ، لابن منظور
الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم . للأستاذ :علي نايف الشحود .
خزانة الأدب وغاية الأرب ، لابن حجة الحموي .
الفهــــــــــرس :
1- تمهيــد 5
2- البحر في اللغـة العربية 9
3- البحر في القرآن الكريم 15
4- البحر في النثر العربي 33
5- البحر في الشعر الجاهلي 43
6- البحر في الشعر الأندلسي 69
7- البحر في الشعر المعاصر 109
8- المصـــــادر والمراجع 167
لقد تغيَّرت الحياةُ في العصرِ الحديثِ عمَّا كانت عليه في العُصورِ السَّابقةِ تغيُّراً كبيرا ً، وأصبح للبحرِ في حياةِ الناسِ أهميُّةٌ مُتنامِيَةٌ ، لا سيَّما في عصر التكنولوجيا ، والمُخترَعاتِ الحديثةِ التي صار الإنسانُ يَجوبُ بِها المُحيطاتِ والبحارَ ويسبِرُ بوِساطتِها القيعانَ والأغوارَ ، ويكتشفُ المَجاهِلَ والأسرارَ ، ويَستخرِجُ الكُنوزَ الدَّفينةَ واللؤلؤَ والمَحار ووصل إلى أبعــادٍ وأعمــاقٍ مــا تَيَسَّرَ له الوصولُ إليها من قبلُ ، وعَرَفَ ما كان من المستحيل عليه مَعرِفتُه لولا ما كان لهذه المُخترعاتِ من فضل ، فأنِس بالبحرِ وألِفَه، ولِما فيه مصلحةُ الإنسانَ سخَّرَه ووظَّـفـه ، وصـــار البحرُ مَلجـــأه ومُتَنَفَّـسَــهُ ، يَقصُــدُه للراحـــــةِ والاستجمَـام ، ويفيءُ إليه هَرَباً من الهمومِ والخُطوبِ الجِسام .
أمّا الأديبُ والشّاعرُ ، فإنه غالباً ما قَصَدَ البحرَ طَلَباً للوحيِ والإلهام .
فقـد تَلاشى ، أو كاد خــوفُ الإنسانِ من البحرِ ، واختفتْ ، أو كـــادت تلك النظرةُ السَلبيَّةُ التي غَلَبتْ على الأَدَبِ في الحِقَبِ الخوالي .
وقد اعتدتُ ، وأنا واحدٌ من أهلِ هذا العصرِ ، أنْ أقصُدَ البحرَ مُستَحِمّاً مُستَجِمّاً مُسْتَعصِماً مُستَلهِماً ، كلَّ ما انْتابني هَمٌّ ونَصَبٌ ، أو حَلَّ بي وَهْنٌ وتَعَبٌ ، فتُوسِعُ صَدري سَعَتُه ويَبْسُطُ نَفْسي انْبِساطُه .
وأذكرُ أَنّني هربتُ إليه يوماً شاكياً نُكْثَ الأصدقـاءِ وقِلَّةَ الوفاء ، وكان الوقـتُ أصيلاً ، الريحُ ساكنةٌ ، والبحرُ هادئٌ وادعٌ حتى ليُخيَّلُ إليك أنَّك تَنظُر إلى مِرآةٍ لِشِدَّةِ صَفائه، وبَدَأتِ الشمسُ رِحلةَ الغِيابِ بالغوصِ في البحرِ ، غاسلةً فيه ما علِق بها من غُبارِ ذلك النَّهارِ مُودِعةً فيه ما استُحْفِظَتْهُ من أسرارٍ ، نافـضــةً عنهــا وعَثـاءَ السفرِ مُرسلةً أَشِعَّتَها الذَّهبيَّةَ فوق سطحِهِ ، كصَبِيَّةٍ تتمطّى على سريرِهــا مُستلقيةً عند المساء بعد طول عَناءٍ فتركتُ القلمَ لأُمَتِّعَ ناظريَّ بهذا المشهدِ الجميلِ البديعِ ، مُغْتَنِماً فُرصَةً قَلَّ أنْ تَتكرَّرَ .
وإذا بامرأةٍ كانت جالسةً عـــلى الطاولةِ المُقابلةِ لطاولتي تَقـذِفُ بعُلبةٍ فارغةٍ إلى البحرِ بعد أنْ عَبَّتْ ما فيها، وراحت العُلبةُ تَطفو على سطحِ الماءِ ، مُشوِّهةً هذه اللوحةَ الجميلةَ التي لا تستطيعُ ريشةُ أَمهرِ الفنانين أنْ تَرسُمَها، وساءني ذلك كثيراً ، فصَرَفْتُ وجهي تجاه الشاطئ ، وإذْ بأُنبوبِ مياهِ الصَّرْفِ الصِّحيِّ ، فاغراً فاه ، يَتقيأ ما في جوفِه من أقذارٍ، قاذفاً بها إلى البحرِ ، فعَظُمَتْ دَهشتي وازداد استيائي من هــذا الإنسانِ الــذي يُقابـل الإحسانَ بالإســاءةِ والجُحود ، وسُرْعان ما قفزتْ إلى مُخَيِّلتي عبارةٌ طالما سمِعتُها من حُكَماءِ النّاسِ وكِبارِ الرِّجالِ : (( فلانٌ بحرٌ، أو فُلانٌ كالبحرِ )) عبارةٌ يُطلِقونَهــــا عـــلى العاقل الحليم واسع الأفُقِ سليم دواعي الصَّدْرِ ، أو العلاّمةِ الفهّامة الحَبْر .
وفَطِنْتُ إلى العَلاقةِ بينهما ، فالحليمُ هو الذي يَصبِرُ على أَذى الناسِ وجهلِهم ويُقابل ذلك منهم بالصَّفحِ والإحسانِ والعفوِ والمَغفرةِ ، والعالِمُ هو الذي ينطوي سِرُّهُ على كُنوزِ المَعرِفَةِ ، وكلاهمــا يُشبِــه البحرَ ، فهو يَستوعبُ ما يُلقي الإنســــانُ بساحلِه من أقـذارٍ ، ويُخرِجُ له الإسْفنجَ واللؤلؤَ والمَحار ، والسمَكَ الطَّرِيَّ ، ويَحمِله ويَحمِلُ بضائعَهُ ، وتذكَّرتُ قولَه تعالى : (( ولا تَستوي الحَسَنةُ ولا السَيِّئةُ ادْفَعْ بالّتي هي أَحْسَنُ فإذا الذي بينَك وبينَه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حَميم )) . صدق الله العظيم ( 1)
وتـذكّرتُ ، أيضـاً حديثَ رسولِ اللهِ ، صلى الله عليه وسلم، الذي وَصَفَ فيه البحرَ بأنّــــه (( الطَّهورُ مـاؤه الحِلَّـةُ مَيْتَـتُـه)).(2) فمزَّقتُ القصيدةَ التي كانت بين يديَّ في نعيِ الوفاءِ وذَمِّ الصداقةِ والأصدقاءِ ، وشَرَعْتُ في كتابةِ القصيدةِ الآتيةِ ، وهي بعنوان :
أنا مثلُكَ أيُّّها البحر
ثَرَّ الشواطئ والأعمــــاقِ نائيهــــــــا
يا واصلَ الأرضِ قاصيها بِـــدانيهــا
أنتَ الطَّهورُ وكـم يُلقى بِساحِلــهِ
من الخَـــلائِــــــقِ أدرانٌ فيُخْفيهـــــا
شأْني وشأْنُكَ أنْ نُغْضي بِــلا مَلَلٍ
عنِ الأَذِيَّــــــةِ مهمَـــا اشْتَطَّ مُؤذيهـــا
أين الإساءةُ والإحســـانُ ؟ ما اسْتَويا
عنــدَ الـكِرامِ لأنَّ الحُــلْـمَ ماحيهــــا
يا أبيضَ القلبِ لا حِقْـــــدٌ يُكَــدِّرُهُ
صـافي السَّريــرَةِ ، لا إثْـمٌ يُغَشِّيهــا
* * *
ما أجمـلَ البحرَ يَرســــو في مَوانِئِــهِ
مِـن كلِّ قُطْرٍ مِـن الأَقطـارِ ساعيهــا
يأتي ويَرْجِـعُ والخَيراتُ تَصْحَبُــــــهُ
أنَّى تَوَجَّــــــه ، لا عُجْبــاً ولا تِيهـــــا
يا خالقَ البحرِ كم في البحرِ مُدْهِشَةٌ
مِن العَجـائبِ جَــلَّ اللهُ باريهــا
يا خالقَ البحرِ كم في البحرِ مِن عِبَرٍ
يَبْلى الزَّمـــانُ ولا تَبْـلى مَعانيهــا
(3 )
فالبحرُ مُستَودَعُ أسرارِ الخلقِ ومَكْمَنُ كُنوزِ الحَقِّ ، فيه من الآياتِ الدَّالَّةِ على قُدْرَتِهِ ، سبحانه ، ما يَخْلِبُ اللُّبَّ ويُطَهِّرُ القلبَ مِن أوضارِ المادَّةِ ، ويَملؤُهُ بالإيمانِ .
والبحرُ عندي مَصدَرُ وحْيٍ وإلهامٍ ،اقرأْ إذا شِئتَ القصيدةَ الآتيةَ وهي بعُنوان:
وشْوشـاتُ المَـوْجِ
داعَبَ الأهـــــدابَ حُلْــمٌ وانْثَــــنَى
في الــــكَرى والرَّاحُ دارتْ بينَنـــــــا
وَشْوَشاتُ المـــوجِ ، قَـــلبي والـــدُّجــــا
وبقـــــايـــــا مِـــن صَبـــابــــــاتٍ لنــــــــا
يا عَــــروسَ البحـرَ غنِّي ، هَـــــلِّلي
واسْبَحي في النُّـــــورِ ، قَــرِّي أَعْيُنــــا
أنا والبحرُ وليـــلي هــــــــــاهُنـــــــــــــا
وعَــــــــذارى الشِّعْـرِ تَحْنــــــو بالمُــــــــنى
تَمْتَمــــــاتُ الوَحْـــيِ وهْمـــي مَـرْكَبــي
وشِـراعي ذِكـريـــــــاتٌ تُجْتَــــــــــــــــنى
* * *
إِيــــــهِ يا ســـــــاقي أَدِرْهـــــــا قَهْـــــــوةً
واسْــــقِنـــــا ثُـــــمَّ اسْــــقِنــــا ثُــمَّ اسْقِنا
أنا واللّيــــــلُ وقـــــــــــــلبي والهــــوى
وعَـــــروسُ البحــــرِ تَجْـــــلــــو كأسَنـــــا
قُــــــدسُــــنــــا خمـرٌ وحُـبٌّ ومُـــــــــنى
أيُّ قـــلبٍ مـــا تَشَهّى قُــــــدسَنا؟
(4)
فقد صار البحرُ إذاً مَصْدرَ وحْيٍ وسُرورٍ ، ومَكانُ قَصْفٍ وحُبورٍ لا ويلٍ وثُبورٍ ، كما كــان سائداً في العُصورِ السّابقـــةِ ، وقــــــــــد أصبــحَ البحرُ إنساناً عاشقاً ، يُحسُّ بالجمــــالِ فيحبُّــه ، ويبادلُـــه الشَّوقَ ، ويطارحُه الغرامَ ، أَقولُ في قصيدة ثالثة ، مخاطبـــــاً مدينـة اللاذقية بعنوان :
عروس البحر
تَـــــــلالا الـــــدرُّ وافْتَــرَّ الجُمـــــانُ
على خَـــدَّيْـــــكِ فابْتسَمَ الزَّمـانُ
فأنـتِ الـــلاذقيَّـــــةُ بحـرُ سِـحْــرٍ
تَضَـــاحَـــكُ في جَـوانِبِـــــهِ الجِنـانُ
شواطئُ تَرْقُصُ الأمــــواجُ فيهـــــا
وتَمْـــرَحُ في مَتــارِفِهــــا الحِســــانُ
وجُــنَّ المـــاءُ مِـن بَهْــرٍ ووَجْـــــــدٍ
فــــكــــم وافَـتْــــــهُ فاتِـنــــــــــةٌ رَزانُ
وراحتْ بـــيْن أَذْرُعِــــهِ تَــلَــوَّى
وحُــــورُ المـــاءِ خَـــــوْداتٌ لِـــــــــدانُ
(5)
إذاً فالبحرُ ـ كما نراه ــ فتىً يَعْشَقُ الأنْثى ويُلاعِبُها ، ويهيم بالجَمالِ ويُداعِبُ الحسناوات ، وتَتَمَلَّكُهُ نشوةٌ عارمةٌ بهنَّ ، حتى لَيَكادُ يَصِلُ إلى الجُنونِ ، وهي ( إي الأنثى ) أيضاً تُحِبُّه وتَتَلَوَّى بيْن ذِراعيْه مُسْتَسْلِمــةً إلى لَذَّةٍ آسِرَةِ .
وأغارُ على العاشقين من النجوم أنْ تَسْرِقَ أسرارُهم وتُـذيعها فيمشي بها في الناسِ الواشونَ ويسعى العُذّالُ فيُفسدون ما بين العشّاق من مودَّةٍ ، فأتمنّى أنْ أكون بحراً لأُغرق كلَّ هذه النجوم حرصاً على العاشقينَ وأسرارِهم ، فأقول:
ليتـني يا شوقُ بحـــرٌ يُغـرِقُ الأنجــمَ قَسْـــرا
ربّمــــا يَســرِقُ نجــمٌ مـــن فَــمِ العشّاقِ سِرّا
(6)
وأنظر في عينيِّ من أحبُّ فإذا هما بحر مليء بكنوزٍ ثمينةٍ وينطوي على أسرارٍ عظيمـة الخطر فأقول :
أبحرتُ في عينيكِ أستجلي الذي
خلفَ الجفون ورفَّــــــــة الأجفـــــانِ
فكشفْتُ أسراراً وجُبْتُ عوالماً
جلَّتْ عن الأسمـــــــــاءِ والألــــوانِ
(7)
فالعينان نافـذتا القلب ، وفي القلبِ أسرارٌ وكنوزٍ لا يَقْدِرُها ، ولا يحصُرُها إلاّ خالقها ، ومهما اكتشفنا فإنما نكتشف اليسيرَ اليسير ، ويبقى فيهما مالا يطلع عليه إلاّ العليم الخبير.
أمّا الشاعرُ الكبيرُ ، شاعرُ المَهْجَرِ ، إيليا أبو ماضي فإنَّه يرى أنَّ ثّمَّةَ صفاتٍ مُشْتَرَكَةٍ تَجمَعُ بينَه وبين البحرِ ، وأُخرى تُباعِدُ بينَهما ، فكلاهمـا واسعٌ مُترامي الأطرافِ مُمْتَدُّ الشُّطْآنِ ، وكلاهُمـا يشكِّلُ قَطْرَةً في بحرِ الوُجـودِ اللاّنِهائي ، وكلٌّ منهما يجهلُ مَصيرَه ومُنتَهاه ُ، كما يَجهلُ أَصلَـــه ومُبْتَــداهُ ، وفي كلٍّ منهُما الغَثٌّ والثَّمينُ (( الصدف والرَّمـْلُ )) أمّا ما يُفَرِّقُ بينهمَـا مِن صِفاتٍ ، فإنَّ العقلَ يأتي في المُقدِّمةِ ، وهو مِن أَهَمِّ نِعَمِ الخالق ، سبحانه.
أمّا الصِّفةُ الثانيةُ فهي الظِّلُّ والأثرُ الذي يَترُكُه الإنسانُ في هذه الحياةِ بعد رحيلِهِ عنها ، حيثُ أنَّ للشّاعِرِ ظِلٌّ بينما ليس للبحر مثلُ هذا الظِلِّ ، وما أَظُنُّ شاعرَنا الفيلسوفَ هـذا قَصَدَ بالظِّلِّ غيرَ الأثَرِ الذي يَبْقى في الحياةِ بعدَ رحيله ، ورغمَ كل ِّهذه الصِّفاتِ التي يَمتاز بها الشاعرُ على البحرِ فإن البحرَ أطـولُ منه عمراً ، فلسوف يمضي هو إلى عالمٍ آخرَ بينما يبقى البحرُ ، لمــاذا ؟ ويُجيب لستُ أدري فهولا يدري سرَّ ذلك ولا يَمْلُكُ له تَفسيراً ثــمّ يَنتَقِدُ الشاعرُ البحرَ لأنّ فيـه المُتناقضاتِ ، فهو يَلِدُ السمكَ الجَميلَ ، نعم ولكنّه يَلِدُ الحِيتانَ التي تَلتهِمُ هذه الأسماكَ وتَقضي عليها ، وسطحُه مسرحٌ تَرقُصُ عليه الأمواجُ بينما قاعُــه ساحـــةُ حربٍ وصِراعٍ، في البحر إذاً الموت الر!هيبُ والعيشُ الجميلُ ، ويتساءل بعد ذلك ،هل البحرُ مَهْدٌ مُريحٌ ، أمْ هو مَحْضُ ضَريــحٍ ؟ ويُطلِـقُ بعـدَهـا إِجابتَه الحَيْرى (( لستُ أدري )) ، يقول :
إنّني يا بحــرُ ، بحــرٌ شـاطئــاه شـاطئـاكــا
الغَــدُ المَجهــــولُ والأمْسُ اللّـذانِ اكْتَنَفاكا
وكِــلانا قَطـرةٌ ، يا بحـرُ في هـذا وذاكــــا
لا تَسَلْني ما غَدٌ ما أَمسِ إنّي لستُ أَدري
*****
فيـكَ مثلي أيّهـا الجَبّـارُ أَصْـدافٌ ورَمْــلُ
إنّمــا أنتَ بِــلا ظِلٍّ وَلِي في الأرضِ ظِلُّ
إنّمــا أنتَ بِـــلا عَقْـلٍ ولِي يا بحـرُ عَقْلُ
فلماذا يا تُرى أَمضي وتَبْقى ؟لستُ أَدري
يَرْقُصُ المـوجُ وفي قاعِـكَ حَرْبٌ لن تَـزولا
تَخلُقُ الأسْماكَ لكنْ تَخلُقُ الحُوتَ الأَكولا
قدْ جَمَعْتَ الموتَ في صَدْرِكَ والعَيْشَ الجَميلا
ليت شِعْري أنتَ مَهْدٌ أمْ ضَريحٌ لستُ أَدري
(
وفي مَلحمةٍ تدورُ أحداثُها بين اللّيلِ والبحرِ ويُذْكي نارَها الشاعرُ:علي محمود طه، فيُلهِبُ بالحماسِ نفسَ البحرِ ليَثورَ على اللّيلِ ، ولِيَأخذَ منْه ذِمامَ المُبادرةِ ، ولِيستعملَ أسلحتَه بِدِقَّةٍ وكفاءةٍ عاليتـين ، فيَكْسِبَ المعركـةَ ويُحْـرِزَ بـذلك النَّصْـرَ، مُذَكِّراً لنا بصفاتٍ طالما وصَفَه بِها سابِقوهُ مِن الشُّعراءِ ، كما سَلَفَ أَنْ بيَّنا ، يقول :
قِفْ مِن اللّيلِ مُصْغِياً ، والعُبـابِ
وتَأَمَّـلْ في المُزْبِـــداتِ الغِضـابِ
صاعداتٍ تَلوكُ بِشِدْقِها الصَّخْـرَ
وتَرْمي بِـهِ في صُـدورِ الشِّعــابِ
هابِطــاتٍ تَئِنُّ في قَبْضَـةِ الرّيـحِ
وتُرْغي على الصُّخورِ الصِّـلابِ
ذلك البحرُ ، هل تُشاهــدُ فيـــه
غيرَ ليـلٍ مِن وَحْشَــةٍ واكْتِئـابِ؟
ظُلُمَــــاتٌ مِـن فوقِهـا ظُلُمَـاتٌ
تَتَرامى بالمــــائــــجِ الصَّخّــابِ
لا تَرى تَحْتَهُنَّ غيـرَ وُجُــــــودٍ
مِن عُبابٍ وعـالَمٍ مِن ضَبـابِ (9)
يُصَوِّرُ لنا الشَّاعرُ البحرَ جَمَلاً هائجاً ، تَلَبَّسَتْهُ شَياطينُ الرِّيحِ ، فانْدَفَعَتْ أَمواجُه وكأنَّها أَشداقُ ذلك الجمَـــل , تَلوكُ الصُّخورَ وتَقْــذِفُ بِهــا عــلى الشَّواطئ والطُرُقاتِ , وليس في البحرِ إلاّ الظُلمَــاتُ الـتي يَقْــذِفُ بعضُهـا بعضــاً بالأمواجِ ، فليس ثَمَّةَ إلاّ عُبابٌ وضَبابٌ ووحْشَةٌ واكْتِئابٌ .
بعد ذلك يُحاوِلُ إِثارةَ حَفيظَةِ البحرِ على اللَّيلِ لِيَستَعمِلَ أَسلِحتَـه ، ولِيَنْجُوَ بنفسِهِ مِن سَطوةِ اللّيلِ وظُلْمِهِ إذْ يقول :
أيُّها البحرُ كيف تَنْجو مِن اللَّيْـ
ـلِ وأَيْن المَنْجَى بتلكَ الرِّحابِ ؟
هو بحــرٌ أطَــــمُّ لُجّـــــــــــــــاً ، وأَطغى
منـك موجــاً في جيئـةٍ وذَهــاب
وَيْكَ يا بحرُ، ما أَنينُــــكَ في اللَّيْـــ
ــــــلِ أَنيـنَ المُـــرَوَّع ِ الغَـــلاّبَ
اِمْضِ حتى تَـرى المَــدائـــنَ غَرْقى
وتَرَى الكوْنَ زَفْـرةً مِن عُبـــابِ
ذاكَ أوْ يَهْتِـــكَ الظــلامُ دَياجيـه
ويَنْضُو ذاكَ السَّوادَ الكــــــــــابي
(10)
في الأبياتِ -كما تَرى-تَحريضٌ واضحٌ مِن الشاعِرِ للبَحْرِ على اللَّيْلِ ، فالجُرْمُ مَشْهودٌ والقَرائنُ واضحـــةٌ لا تَحتــــــاجُ إلى دليلٍ ، فهو في البـدءِ يحاول أن يُثيرَ حَفيظَةَ البحر عنـدما يقول له: بأنَّ اللّيلَ أَقْوى منْه وإنَّ مَوْجَهُ أَعْتا ، وبَعدَ ذلكَ يَتساءلُ عن سببِ أَنينِه وشَكواهُ ، وليس هو بالضَّعيفِ الجَبانِ ، إذاً لِيُنْذِرَ اللَّيْلَ بِضَرورَةِ سحبِ قُوّاتِهِ الظَّلامِيَّةَ ، وتَمزيقِ هذه الغِلالاتِ السَّوداءَ الدَّاكِنَةَ ، وإلاّ فَلَسَوْف يَنْدَفِعُ بِقُوَّتِهِ وجَبَروتِهِ فيُغْرِقُ المُدُنَ ويَنْشُرُ عُبابَهُ على الكونِ كُلِّهِ فيُغرِقُه .
ويَخافُ اللَّيلُ، فيَسحبُ قُوّاتِه ، ويَجلو حَنادِسَ ظَلامِه ، مُفْسِحاً الطَّريقَ للفجرِ الـذي أَقبـلَ في ثِيـابِـهِ الرَّقيقـةِ الشَّفَّافَـةِ ،يَتَبَخْتَرُ كَشـابٍّ ثَرِيٍّ جميلٍ ، طَلَعَ يزهو بحُلَّتِهِ وكاملِ زِينَتِهِ ، في جيشٍ من الخَدَمِ والحَشَمِ ، لِيَلْفِتَ إليه أَنظـــارَ الصَّبايا و لِيَسْلِبَ ألبـــابَهُنَّ ، ويَأسِرَ قُلوبَهُنَّ ، باعثــــــــاً في أنفُسِهِنَّ لَهْفَةً مُقْلِقَةً وشوقاً عارماً .
ويضحكُ الشاطئُ سُروراً بهذا الانْتِصارِ، ويَستَدْعي فِرَقـاً فَـنِّـيَّـةً مِنَ الطُّيورِ ، لِتُغَرِّدَ مُعْرِبَةً عن البَهْجَةِ والسَّعادةِ فَتَقَرَّ عينُ البحرِ ، ويَهــدأَ بالُـــه ، وتَطْمَئنَّ نَفْسُـهُ ، ويَنْشُرَ راياتِهِ ذاتَ الألوانِ القُزَحِيَّـةِ الخَلاّبَـةِ ، ولِتَكْتَمِلَ الفَرحةُ ، وتَعُمَّ البهجةُ تُسْتَدعى فِرَقٌ مِن الرَّاقِصاتِ العَذْراواتِ حَديثاتِ السِّنِّ ، لِيُراقِصْنَ الأمواجَ عارياتِ الأجسادِ، فيَغارُ اليَمُّ عليهِنَّ ، ويَلُفُّ هذه القُدودَ الغَضَّةَ النّاعِمَةَ ، ويَسْتُرَ ، بِرَغْوتِهِ تلكَ النُّهودَ الحالِمَةَ ، التي بَدَأتْ تَشْرَئبُّ بِحَلَماتِها باحثةً عن اللَّذَّةِ والنَّشوةِ ، يقول:
أَقبلَ الفَجرُ في شُفوفٍ مِن رِقـاقٍ
يَتَهـــادى في مَنْظَـــــــرٍ خَــــــلاّبِ
وإذا الشّــاطئُ الضَّحــوكُ تَغَـــــــنَّى
بالأَغـــــــــــــــــــانيِّ العِــــــذابِ
ومِـن البحـرِ جــانـبٌ مُطْمَئنٌّ
قُزَحِيُّ الأَديـــــــمِ غَـضُّ ،الإهــابِ
نَـزَلَتْ فيـهِ تَسْتَحِـمُّ عَــذارى..
الضَّــــــوْءِ مـن كُلِّ بَضَّــــــةٍ وكَعَــابَ
عارياتٍ يَسْبَحْنَ في اليَــــــمِّ لـــكنْ
لَفَّهــا الرَّغْـــــــوُ في رَقيقِ الثِّيـابِ
فإذا البحرُ يَرقُصُ المـــــوجُ فيـــــهِ
وإذا الطَّيرُ صُـــــــــدَّحٌ في الرَّوابي
(11)
إنّه الشاعر المبدعُ (( علي محمود طه )) شاعرُ الرِّقَّـةِ والعُـــذوبــــةِ والجَمالِ ، مُبــــدِعُ الصُّوَرِ الجَميلةِ ، وصاحبُ الخيـالِ المُحَلِّقِ ، هاهو يَسبَحُ مـــع النُّجومِ والكواكبِ بِحِسِّه الرَّهيفِ ، مُتْحِفاً الأدبَ والشِّعْرَ العربيَّ بِرائعــــةٍ أُخرى بعُنوان :
الشـاطئ المَهجور
موجَـــــةَ السِّحرِ مِـن خَـفِيِّ البُـحــورِ
اُغْـمُري القلـبَ بالخيـالِ الغَميرِ
أَقبِلي الآنَ مِــن شَـــــواطئِ أَحـــــــلا
.. مي ورُدِّي عَــلَيَّ نَفْــــــحَ العَبيـرِ
واصْخَبي في شِعــابِ قلــبي وضِجِّي
فوقَ آلامِـــــهِ الجِسـامِ وثُــــــــــوري
أَيْقِظي فيــــه مِــن فُنـــونٍ وسِـحْــــرٍ
ذكريـاتٍ مــن الشَّبــابِ الغَـريـــــرِ
إنّهــا ذكـريــــاتُ أُمْسِيـَّــــةٍ مَــرَّتْ
وأَيامِ غِبْطَـــــــــــــــةٍ وسُــــــــــــرور
(12)
يَستلهِمُ الشّاعرُ في مَقطوعتِه هذه موجــةً مِن أَمواجِ بِحارِ الغَيبِ الساحرةِ ، المُفْعَمَةِ بالجَمالِ والإلْهامِ ، لِتَغْمُرَه بسِحْرِها وتُجَنّح بخَيالِهِ ، فتُخلِّصَهُ من هُمومِهِ وآلامِه ، وتُريحَه من مَخاوِفَه وهَواجِسَه وتُعيدَ إليه ذِكرياتِ شَبابِـه ، ليَرقى سُلَّمَ الإبداعِ ويُحلِّقَ في سمائه ، ويزورُ يوماً مدينةَ (( كـان ))على الشّاطئ الفَرنسيِّ ، ويُشاهدُ الفاتناتِ يَسْبَحْنَ في مياهِا على ضوءِ القمرِ ، فيقول بعُنوان :
البحرُ والقمرُ
تَســاءلَ المـــــــاءُ فيــكِ والشَّجَــــرُ
مِن أينَ يا (( كانُ)) هـذِه الصُّوَرُ ؟
البحرُ والحُـــــــــــــــورُ فيــه سابِحَــــــة
رُؤىً بِهــا باتَ يَحــــــــلَــمُ القَمَــرُ
يَـزيـــدُ سيقــانَهُـــنَّ مـِن بَهَــــــــجٍ
لــونٌ عجيبُ الـــرُّواءِ مُبتَـكَــرُ
تَغَـــايَـــرَ المــــــوجُ إذْ طَلَعْنَ بـــــــه
وثارَ مِـن حَــــــــــــوْلِهِنَّ يَشْتَـجِرُ
مــــازِلْــنَ والبَحْــرُ في تَـــــــوَثُّبِــــــه
يُرْغي كــمَــــا راعَ قلبَــه خطَــــرُ
فاليَـصْخَبِ البحـرُ ولْتَـئِـنَّ بِـــــه
رِمــالُهُ ولْيُـثَــــــــرْثِـــــــــرِ الشَّجَـرُ
(14)
صُوَرٌ ولا أبدعَ ، حَسناواتٌ جميــــلاتٌ ، تَعَرَّيْنَ لِيَسْبَحْنَ في البَحرِ ، فَبَــدَتْ منهُنَّ أجسامٌ وسيقان ، ما كان القمرُ لِيَحلَـــــمَ برُؤيَةِ مِثْلِها من قبلُ ، فامتدَّتْ أيـدي أشِعَّتِهِ الفِضِّيَّةِ لتـُلامِسَ هذه السيقان ، ولِتَسْكُبَ عليها من لَونِها الجميلِ فزادتْها جمـالاً على جَمالٍ ، لكنَّ الموجَ غـــارَ من القمرِ ، وثارتْ ثائرتُه وأخَذَ يَضْرِبُ بعضُه بعضـاً من شـدَّةِ الغضبِ ، فقـد أكلـــتِ الغيرةُ قلبَه ، حتى بدا البحرُ كمنْ راعَه خطرٌ البحرَ معذورٌ في غيرتِه هذه ، فلْيَصْخبْ ولْتَئِنَّ رِمالُه فَرَقاً ، وليَقُلِ الشّجرُ ما شاء أن يقول ، وليبح بما شاء أن يبوحَ به.
أمّا شاعرُ القُطرين خليل مطران الذي تَغَرَّبَ عن أهلِهِ ووطنِـه لتَحسينِ ظُروفِ عيشِـهِ ، ولطالما عَلَّلَ نفسَه بأنَّها ستبلُغ مُناها ، فقد جاء إلى البحرِ شاكياً هَمَّه وغَمَّـه وبُعْـدَ أمانيــهِ ، مُقيماً على صَخرةٍ من صخورِه الصَّمَّاءِ، فما كان من البحرِ إلاّ أنْ قابلَه برياحٍ هوجاءَ عاصفةٍ ، وأمواجٍ خَرْقاءَ قاصفـةٍ ، فتَمَنّى لو أنَّ قلبَـه كهــذه الصخرةِ التي يُلْهِبُ الموجُ ظهرَها بِسِياطِـه فيُفَتِّتَها ، لكنّها لا حِسَّ فيها ، بينما قلبُه يَتَشَظّى ألَمـاً وحُزناً من أمواجِ الهمومِ ، وأعباءِ الحيــاةِ التي تَتَقــاذَفُــه يُمْنَةً ويُسْرَةً ثمّ ما يَلبَثُ أنْ يَعْكُسَ على البحرِ صورةَ نفسِه ، ليَرى فيه ما فيها من أسَىً وضيقٍ كلَّما أقبلَ المَساءُ ، يقول :
ثاوٍ على الصخر الأصمِّ وليتَ لي
قلبٌ كتلك الصخرةِ الصمّــــاءِ
ينتابهـا مـوج كمَـــــــوج مـكـــــارهي
ويَفُتُّها كالسُـقْــمِ في أَعضــــــائي
والبحر خفّـاقُ الجوانب ضـائــــقٌ
كَمَداً ، كصَدري ساعة الإمساءِ
(15)
إذا كان خليل مطران قد شارك شعراء الأندلس بإضفاء صفات العنف والقسوة على البحر ، كما سلف أن بيَّنا ، إلا إنّه خالفهم بأنّه لم ينظر إليه بعين الريبة والخوف، وإنما اعتبره صديقاً يـركـن إليــه ليبثـه شـكواه وإخفـاقـاتـه ، وليشاركه في حمل همومه بالرغم من قسوته وعنفوانه.
ويشارك السيابُ الخليلَ في هذا الموقـف من البحر ليشكو إليه غربته عن وطنه العراق ولكن لأسباب غير تلك التي باعدت بين الخليل ووطنه لبنـان، هاهو يقف أمام شاطئ البحر مسرّحــاً بصرَه في مداه علّه يرى وطنه الغافي على الشاطئ الآخر ، لكنه لا يرى غير صخب البحر وهيجانه واضطراب أمواجه وعصف رياحه ، وكأنها جميعاً تنادي معه بصوت واحد (( عراق....! )) فقد حال بينـه وبين محبوبه البحر الواسع ، يقول :
وعلى الرمال على الخليج
جلس الغريب ، يسرح البصر المُحَيَّر في الخليج .
ويهدُّ أعمِدة الضياء بما يصَعِّد من نشيج
أعلى من العَبّــاب ، يهدر رغوُه ، ومن الضجيج .
صوتٌ تفجَّر في قرارة نفسي الثكلى عراق
كالمَدّ يصعد كالدموع إلى العيون .
الريح تصرخ بي : عراق .
والموجُ يُعْوِلُ بي : عراق ، عراق ليس سوى عراق !
البحر أوسع ما يكونُ وأنت أبعد ما يكون. ( 16)
ويقف الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي أمام البحر أيضاً، إنما ليستعيد مشاعره يوم ركـب البحــر ، فكـاد قلبُـه يتفطّرُ فَـرَقاً ، مُذَكِّراً لنا بمشاعر الخوف والرهبة التي كانت تنتاب الأندلسيين عند ركوب البحر كما سلف أن بينا، لكنه، وقد أصبح على الشاطئ ، اليوم ، ولم يعد للبحر سلطـــان عليه ، فهو يقف اليوم ليستمـدَّ من البحر القوة والعنفوان ، فهو وإن خــاف قلبُه البحرَ لضعف جسمه واضمحلال عزمـــــــــه ، فإن روحه تحاكي البحر سَعَة وثورة وعنفواناً ، يقول:
يــوم أبحـرتُ فـــــوق متْنِـك تهوي
بي أمـواجُـــــــــــــك الغضـابُ وتَعلو
راعني حـولُك الرهيـبُ فخارت
عَــزَمـــــــاتي ولم يَعُــدْ ليَ حــوْلُ
وتَـرَنَّحتْ بيـن جنبـيْـك تلهــو
بي فتطفـــــــــــو آناً وتهــــــــدأُ آنا
كانت القطرة الضئيلة من لُجِّكَ
... أَمضى مـنّي وأَخطــرَ شـــــانا
وأنا اليوم أجتليـك من الشاطئ
... تُزجي الأَمـواجَ مثـلَ الجبالِ
فـــإذا بي أَثـــورُ مثلك يا بحرُ
وتَـنْزو الأَمْــــواجُ في أَوْصــــــــالي
هو روحي الذي يحاكيك في البأس
... ولكن يَـــــؤودُهُ عِبءُ جِسْمي
فإذا ما اجْتَلاك والجسمُ غفـلان
... توخّــــــاك في مضــاءٍ وعـــزمِ
هو الــــذي يحـاكيك يا بحـــرُ
... ويخشى قــلبي الجَــــــزوعُ أذاكا
ضَعْضَعَ الجسمُ عزمَ روحي المعنَّى
يا أخــــــــــــا الروح بُثَّ فيَّ قُواكا
(17)
يخاطب الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي البحر مذكّراً إيّاه بيوم ركب ظهره ، فثار وهاج ،وكأنه جملٌ هائج أو بغل شَموسٌ لم يركب ظهرُه من قبل ، وأخذت أمواجُه الغضاب ترغي وتزبد ، وتعلو وتنخفض باعثة في نفس الشاعر الخوف والرهبة ، فخارت عزيمته حتى أنّ قطرة واحدة من ماء البحر كانت أقوى منه وأقدر ، وما ملك حينها إلاّ الاستسلام لقَدَرِهِ.
وها هو اليوم يجلس على الشاطئ يراقب البحر ويكتنه أسراره وأعاجيبه ، دون أن يجرُء على الاقتراب منه أو النزول فيه ، فتأثّر بالبحر وتعلم منه الغضب والثورة فدبت في نفسه الحميّة ، فروح الشاعر تملك من القوّة والعنفوان ما يحاكي البحر في قوته وعنفوانه ، لكنّ جسمَـهُ ضعيفٌ لا يستطيع مجارات البحر ، وقد سرى ضعفه هذا إلى قلبه فأثار فيه الرعب ، لذلك فهو يرجو البحر أن يهبه شيئاً من قوّته وبعضاً من عزيمته ومضائه.
أما الشاعرة الفلسطينية نازك المـلائكة ، فإنها تنظر في أعماق نفسها فتراها وكأنها سفينة ، تاهت في بحر لُجي تتقاذفها أمواجـه ، فتـدفعها إلى المجهــــول ، كتلك السفينة التي تجري في البحر ، يلطمها الموج من كل جانب وتعصف بها الأنواء تقول بعنوان :
الريحُ مزّقت الشراعَ
زورقي والموجُ أطفأ ضوءَ مصباحي فماذا قد بقي؟
وغداً سينسكب الدجــا في جفني المغرورق
وتسير أمــواج البحور على شبابي المُفرَق
(18)
ترى الشاعرةُ ــ كغيرِها من أبناء فلسطين ــ أنّها تركب زورق الحياة ، وقد أطفأ الموجُ مصباحها ومزقت الريح شراعها ، فهي تسير في عُرض بحرٍ محيط على غير هدىً ، وبدون أية مقاومة ، فهي يائسة موقنة بالغرق ، ولسوف تمشي أمواج هذا البحر على جسدها لا محالة ، إنّها حالة الضياع الفلسطيني الذي فرضه عليه احتلال أرض فلسطين وتشريد شعبها ،رحلة لا يعلم منتهىً لها إلا الله سبحانه .
وبعد هذا التطواف على رياض الشعر العابقـات الظليــلات تلك ، تعــال معي ـ عزيزي القارئ ـ نَفيء إلى جنّـةٍ هي أربى جنـان الدنيـا ثمراً وأورفها ظلاًّ في ضيافـة شاعرٍ من عمـالقـة الشعر العربي قاطبة ، إنّه الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري ، سنزورُه في شقَّته المستلقية على على رمــال (( أثينــا )) عاصمة اليونان وقد ركن البحرُ ، ذات مساء، إلى الهدوء والسكينة والدَعَةِ ، بعد طول صخب ، فبدا للشاعر خيرَ سمـيرٍ ، فا ستغلَّ لحظات هدوئه هذه ليسامره ويناجيـــه، فكــانـت هــذه القصيدة التي نقتطف لك منها ما يمتعك ولا يدعك تمَل ، على أنّها جميلة ممتعة كلّها ، وهي بعنوان :
ســجــا البـحــر
سجـــــا البحر ، وانْداحتُ ضِفافٌ نَدِيَّـــــةٌ
ولــــــــــوَّحَ رَضْـراضُ الحَصى والجَنـــــــــــادِلِ
ولُفَّ الــدجــــــــــا في مستَجَـدِّ غِـلالـــــــــــةٍ
سِـــــــــــوى مـا تَـرَدَّى قبلَها مـن غَــــلائــــلِ
سجـــــا البحـر حـــتى لا تُعيـــــدُ ضفـــــافُــــــــــهُ
صـــدى رَعَشــــاتٍ مُتْعَبـاتٍ قــلائــــــــلِ
وحـــــــــتى لَيَبْـــــدو ــ في غَـرابــــــــــةِ حـالِــــهِ
وغُـربَتِــــــه ــ عـن نفســـه جِـــــــدَّ ذاهــــــــــلِ
وطــــال عليــــــــــــه في عَبـــوسِ دُجُـنَّــــــــــــةٍ
ترقُّبُ (( ضحـــاكٍ)) من الشرق قابِـلِ
وجَفَّتْ رمــالٌ (( للمسابــح )) بَلَّلتْ
شِفاهـــاً عَطاشى من(( عِـــــذابِ )) المناهِلِ
وغُصَّ بأشبـــــــــــاحٍ إليـــــــــه صَــــــــــواعــــدٍ
عــــلى أُخْرَياتٍ من سمــــــــــــاءٍ نَـــــــــوازِلِ
إذا هَـزْ هَـزَتــهُ الريحُ واسَّرَحَتْ بــــــــه
خيــــوطٌ مــن الأضـــــواءِ مِثــــلُ الجَـــــدائــــــلِ
وألْحَمَــــهُ وَمْضٌ مـــــن (( البـــرقِ )) ناعسٌ
وسَــــــدَّاهُ شَـــفٌّ مـن غيــــــــومٍ نــــــوازلِ
حسِبْتَ (( عريشاً )) من عناقيدِ كَرمـــةٍ
تَــــــدَلَّى و (( حِــــرْشاً ))من حُقول السنابلِ
وخِلْتَ النجـــومَ الزُهْــــرَ صيْــداً لصائــدٍ
يُنَشِّـرُ مـن أشبــــــــــــــاكِـــــهِ والحَبــــائـــــــــلِ
تنفَّسْ عميقـــــــاً أيُّهـــــــا الشيـخُ لم يَهُــــنْ
يجَـريٍ على فَــــرْطِ المَـــــــدى والمتطـــــــاولِ
ولم يُنسِـــــهِ التَيَّـــــــاهُ مــن جَــبـــــروتِـــــــــــهِ
عنـــــاقَ الشــــواطي واحتضــــــانَ الجَـــــداوِلِ
ولا زاده إلاّ سمـــــاحــــــــــــــاً وعِـــــــــــــــــــزَّةً
تَخَطّي شُعـــوبٍ فـــــــــــوقَــــــــه وقبـــــــائــــلِ
فيــــا روعـــــــةَ الــــــدنيــــا يُســـــامـرُ ركبَهـــــــا
ويحمـــــلُ أَســــــرارَ العصــــــــورِ الأوائــــلِ
لك الخـيرُ هــــل جيـــلٌ تَقَضّى ولم تَــــكـن
شهيـــــــداً عــلى أعْــــــراسِـــــهِ والغَوائــــــلِ
وهــــل طـــــــار إلاّ عنـك نـــــــــورُ عَبــاقِــــــرٍ
ووحيُ أســــــاطـــيرٍ وبِــــــــدْعُ فطـــــاحـــلِ
وهــل سُعِّـــرت نـــــارٌ لِحَــــربٍ ولم تُـثِــــــرْ
عُبــابَــــك يَغـــلي حِقْــدُهـــــــــا كالمَراجِـــــــلِ
غَزَتْــــكَ أساطيـــــلُ الطُغـــــاة وطَـــــوَّحتْ
بحـــــــابِـــــلِ حـــــــوتٍ فيــــــك أقـواسُ نابِلِ
عَبَـــــــدْتُـــــــكَ صُــــوفيّــاً يـديـــنُ ضمـيــــــــرُه
بمــــــا ذَرَّ فيــــــــــه مـن قُــــرونِ الـــدخــــائــلِ
وعـــاطيتُــــكَ النَجــــوى مُعــــاطـــاةَ راهِبٍ
مُصيــخٍ إلى همسٍ مــن الغيبِ نـــــــــازلِ
وتَشْهَــــــدُ أُمّــــــــاتُ القــــوافي تَشــاغلتْ
بهــــــا أكـــــــؤسُ السمّـــــارِ أنّــــَك شاغـــلي
* * *
سجـــا البحرُ إلاّ مـن شــراعٍ مُهَــــــــــــــــوِّمٍ
يحـــــومُ عـــلى صَمْتِ الـــــدجــا كالمُخـــاتلِ
معــــــالِـمُ كـــــونٍ غــــــامضـــــــــاتُ سرائــــرٍ
فهـنَّ لمـن يـــرتادُهــــــــــا كالمَجــــــــاهِـــــــــــلِ
ومـــا أصغـــــرَ الدنيـــــــا على جهـلِ ساحــلٍ
ــ لفَرطِ التجــــــافي والتَنــــــافي ــ بســـاحِــلِ
(19)
لقد هدأ البحر واسترخى مرتـدياً ثـوبَ نومه المريح ، حتى ليبدو للناظر إليه ساكناً تماماً وكأنه ينتظر قادماً من الشرق، وســاد السكون وسيطر الوجوم وكأنما أشباح تصعد منه وأخرى تنزل فيه ـ كما تُخيِّلُ للشاعر هواجسُه ـ فإذا هزهزته الريحُ وسَرحت على وجهه خيوطٌ من الضوءِ ــ وكأنها جدائلُ صبيَّة شقراء ــ وتشابك ومضٌ خفيفٌ من البرقِ مع غيومٍ شفافةٍ ، تَشَكَّل ما يُشبِهُ عَريشاً تتدلى منه عناقيدُ العِنبِ الصفراءُ الناضجةُ ، أو حقلاً من سنابلِ قمحٍ حان حصادُها .
ولشدَّة هدوءِ البحرِ فإنّ سطحَهُ مرآةٌ تَعكسُ نجومَ السمـاء ، فتبدو وكأنها اللؤلؤُ أو المَرجانُ .
ثم إن الشاعر ينظر إلى البحر وكأنه شيخ كبير لطالما سعى في الحياة وكافح إلاّ أنه مازال قوياً لم تؤثر فيه الأيامُ و لم يفُتَّ في عضُدها كثرة الجري ، فيقول له تنفس عميقاً واسترحْ مليّاً فقد كافحت طويلاً وكنت متواضعاً رغم عظمتك وجلال قدرك ، فقد كنت تحنو على الشواطئ وتحتضن الجداولَ الصغـيرة كمـــا يحضن الرجل صغـاره ويعطف عليهم ، كمــا أن عبور الخلق له ما زاده إلاّ تسامحاً ورفعة ، فما أروعـه وهو يسامر هؤلاء الذين ركبوا ظهره ويحافظ على أسرارهم ، نعم السمير لا يفشي سراً ولا يخون رفيقاً .
وقد عاصر البحر كلَّ الأجيال ، وحمل علومهم ومخترعاتهم وعصارة فكرهم ونتاج عبقريتهم من مكان إلى مكان ناشراً النور والهداية .
كما شهد كلَّ حروبهم واكتوى بنار حقدهم ، فغضب وزمجر ، وأرغى وأزبـــد معبِّراً عن استيائه ، حتى أنه هو ذاته لم يسلم من شرور الناس ، فلطــالمـــا شَنّوا الحروب على بناته ((أسماكه )) ورموها بنبال حقدهم فلم تسلم من أذاهم .
ثم يعبر الشاعر الجواهريُّ للبحر عن عميق حبه وعظيم إعجابه ، فهو يحبُّه حتى العبادة ، ويناجيه كما يناجي الرهبان والنُسّاك معبودَهم ، ويمدحه بقصائد بديعة تسلب الألباب ، حتى أمست حديثَ السُمّـار وشغلَ الناسِ الشاغلَ.
ويسترسل الجواهـــريُّ في وصف البحر مبدياً إعجابه بسكونه ، اللهم إلاّ من شراع متعب يحوم فيه وقد بدا عليه الإعياء والنعاس ، حتى ليخيّل للمرء أَنّه إنما يريد استكناه البحر وسرقــة أسراره عن الكون ومعالمه التي يخفيها في باطنه .
وأخيراً يعبّر شاعرُنا عن عميق أساه وحزنه لتباعد الناس وخلافهم المستحكم وعدائهم المستمر الذي يحول بينهم ، حتى إن واحدَهم في ساحلٍ من سواحل البحر لا يعرف شيئاً عن أخيه الإنسان الذي يعيش على الساحل المقابل .
وهكذا عشنا لحظات ثمينة مع شاعر عظيم وقصيدة فيّاضة بالصور الحسية والمشاعر الإنسانيّة النبيلة .
ونختــم بخنســاء العصــر ، كمـا لقّبَهـا بعضهم ، أو شاعرة الثُكْل الخالد كم لَقّبت كانت تلقِّب نفسَها ، نقصد الشاعرة الراحلة هند هارون من مدينة اللاذقية ، حيث توفي وحيدها (( عمار )) وهو ريعان شبابه ، وكان يستعد للتقدم إلى امتحان الشهادة الثانوية ، لكن الداء الذي صارعه طويلاً (سرطان الدم ) لم يمهله ، فبكته بكاءً مُرّاً ، وكانت تلجأُ بين الفينة والفينة إلى البحر مجترّة ذكريات وحيدها ، مُلْــتــمِسةً في البحر السلوان :
أغنياتُ البحرِ للبحّار ، غاب الأمسِ ، ذكرى
وشباكُ الصيــــدِ والقنـــــــديلُ صيّــــــــادٌ تَحَــرّى
راقصاتُ اليَـــــمِّ حُــــورٌ ..والرُؤى تنداحُ فجرا
وأنا أَنْسُمُ وَرْداً ..كان عِطراً .. ذاب خمــــــــرا
نشوةُ الآلامِ وَجْـــــــــدٌ ..كان لَفْحــــاً ..صـار جَمْرا
وجنــــونٌ ليتــه يبقى لأنســــى كيف أُذْرى
بـــين إعصـــــارٍ يُحيـلُ النفسَ أشتاتاً وذُعْــــرا
وسكـونٍ عبقريٍّ ...مَــدَّه الرحمـــن صَبــــــــْرا
يا عيوني هَدْهِدي الأحلامَ إن ساكَنْتُ بحرا
( 20 )
فهي تجلسُ على شاطئ البحر لتسلي نفسَها وتنسى حزنها فتسمع أمواجه ترسل غناءها الشجيَّ شوقاً إلى الصيّاد الذي غادرها بالأمسِ ولم يعد فهي تتذكره وتناديه .
وينزل صياد إلى البحر حاملاً شباكهُ وقنديلَ باحثاً عن خليلٍ له فقده بالأمس .
وهي تجلس على الشاطئ بانتظار عودته ، ويقبل الفجر فتتراءى لها حوريات البحر يرقصن لعودة عمّار ، فتشمُّ ريحه من بعيدٍ فيأخذها السكر وكأنَّ عطره قد تحوّل إلى خمرة معتّقة .
إنَّها نشوةُ الألم والوجدُ الذي يحرق الأحشاء ، وما ازدادت نيرانه مع مرور الزمن إلاّ اتّقاداً ولهيباً، يسلب اللبَّ ويُسْلِمُ النفسَ إلى الجنون ، ويا ليتَ هذا الجنونَ دام إلى الأبد لتنسى آلامها وتسلوَ حزنها.
وهي بين حالين يعصف الأولُ بها حيثُ تذكر مصابها، ويُسلمها الثاني إلى التسليم بقضاء الله وقَدَرِهِ ، فتسكن النيران في قلبها ، ثمَّ يعود الأولُ ليعصف بها من جديد وهكذا دواليك .
وفي النهاية تخاطبُ عيونها راجية منها أن تسعفها بالأحلام التي يمدُّها بها البحر عساها تجد في هذه الأحلام بعض السلوان وتنعَم بشيءٍ من الطمأنينة وراحة البال ، وأنّى يتوفّر لها ذلك ؟ فهي مشتّة الفكر مكلومة الفؤاد ، ما أنْ تسترسل مــع البحـر فتغفو عـلى أحـلام ورديَّةٍ ، حتى يمضَّ جرح فؤادها فتَسْرُق آلامُها أحلامَها ، وتعيدُها إلى شِقْوَتها وثُكْلِها الخالد .
وبذلك نكون قد رسمنا صورة واضحة للبحر كما هي في خيال أدباء العرب وشعرائهم ، راجين أن تكون وافية ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
مصادر الباب السابع :
1 ــ سورة فصِّلت الآيتان 34-35
2 ــ صحيح البخاري , كتاب الطهارة.
3 ــ ديوان عبير الخيال: ص 35-36 .
4 ــ ديوان عبير الخيال: ص 37-38.
5 ــ ديوان عبير الخيال: ص 18-19.
6 ــ :المصدر السابق: ص 96
7 ــ : المصدر السابق :ص
8 ــ : المصدر السابق :
9 ــ ديوان إيليا أبو ماضي : ص 196- 197-198.
10 ــ ديوان علي محمود طه: ص 185.
11 ــ ديوان علي محمود طه: ص 185
12 ــ ديوان علي محمود طه: ص185
13 ــ ديوان علي محمود طه: ص 185149.
14 ــ ديوان علي محمود طه: ص 185716.
15 ــ ديوان خليل مطران : ص 145.
16 ــ ديوان بدر شاكر السياب : ص317 .
17 ــ ديوان د. إبراهيم ناجي :ص 768-769.
18 ــ ديوان نازك اللائكة : ص 612-613.
19 ــ ديوان الشاعر محمد مهدي الجواهري ، الأعمال الكاملة الصادر عن وزارة الثقافة السورية ج3ص453
20 ــ ديوان المرسى والشراع لهند هارون ص143.
ثبتٌ بالمراجع:
القرآن الكريم .
المعجم المفهرس لآيات القرآن الكريم ، للدكتور عبد الرحمن الحجيلي
القاموس المحيط ، للفيروز أبادي
المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده .
تاج العروس من جواهر القاموس ، لمرتضى الزَبيدي
معجم مقاييس اللغة ، لابن فارس
المعجم الوسيط ، الصادر عن دار الدعوة .
أوراق الورد ، لمحمد صادق الرافعي
لسان العرب ، لابن منظور
الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم . للأستاذ :علي نايف الشحود .
خزانة الأدب وغاية الأرب ، لابن حجة الحموي .
الفهــــــــــرس :
1- تمهيــد 5
2- البحر في اللغـة العربية 9
3- البحر في القرآن الكريم 15
4- البحر في النثر العربي 33
5- البحر في الشعر الجاهلي 43
6- البحر في الشعر الأندلسي 69
7- البحر في الشعر المعاصر 109
8- المصـــــادر والمراجع 167
رد: البحر في الأدب العربي /5 /
أشكرك بداية -أستاذنا- على هذه القراءة العميقة للبحر..ولكنني لست أعلم كيف انتقلت بي قراءة هذه المقالة والأشعار إلى مكانٍ مختلفٍ تماماً ..انتقلت بي إلى النقيض الثاني ( كما يظنّ البعض ) وهو الجبل ...مثال القسوة والقوة والجبروت (كما يظنّ البعضُ أيضاً)..
ولكنه في الحقيقة كالبحر ..يبدو مخيفاً..وهو لطيف...
تذكرت في قراءتك الشاعرية للبحر قصيدة لابن خفاجة يصف فيها الجبل بقراءة مغايرة أيضاً ، ومن بعض أبياتها:
وأرعنَ طمّاح الذؤابة باذخٍ
يُطاول أعنان السماء بغارب
يسدُّ مهبّ الريح عن كلّ وجهةٍ
ويزحمُ ليلاً شُهبَه بالمناكبِ
وقورٌ على ظهر الفلاة كأنّه
طوالَ الليالي مفكرٌ في العواقب
أصختُ إليه وهْوَ أخرس صامتٌ
فحدّثني ليلُ السُّرى بالعجائب
وقال:"ألا كم كنتُ ملجأ قاتلٍ
وموطنَ أوّاهٍ تبتّل تائبِ"
"وكم مرّبي من مُدلجٍ ومُؤوّبٍ!
وقالَ بظلي من من مطيٍّ وراكبِ!"
"فما كان إلاّ أن طوتهم يدُ الردى
وطارت بهم ريحُ النّوى والنّوائب
فالجبلُ عالٍ يصدّ الرياح...صامت وقور يقف وسط الفلاة ويُفكّر طوال الوقت..
فكما شُخّص البحر في الشّعر العربي بإنسان ..كذلك شُخّص الجبل بإنسان شاهد على أحداثَ كثيرة يلتفّ بعمامة نسجتها له حوادثُ الدّهر والطبيعة..
أليس بديع أن يلتقي الشعراء في وصف البحر والجبل وبثّهما الهمومَ ...وجعلهما مثالين للوقار والهدوء ..والحلم والأناة..
ولكنه في الحقيقة كالبحر ..يبدو مخيفاً..وهو لطيف...
تذكرت في قراءتك الشاعرية للبحر قصيدة لابن خفاجة يصف فيها الجبل بقراءة مغايرة أيضاً ، ومن بعض أبياتها:
وأرعنَ طمّاح الذؤابة باذخٍ
يُطاول أعنان السماء بغارب
يسدُّ مهبّ الريح عن كلّ وجهةٍ
ويزحمُ ليلاً شُهبَه بالمناكبِ
وقورٌ على ظهر الفلاة كأنّه
طوالَ الليالي مفكرٌ في العواقب
أصختُ إليه وهْوَ أخرس صامتٌ
فحدّثني ليلُ السُّرى بالعجائب
وقال:"ألا كم كنتُ ملجأ قاتلٍ
وموطنَ أوّاهٍ تبتّل تائبِ"
"وكم مرّبي من مُدلجٍ ومُؤوّبٍ!
وقالَ بظلي من من مطيٍّ وراكبِ!"
"فما كان إلاّ أن طوتهم يدُ الردى
وطارت بهم ريحُ النّوى والنّوائب
فالجبلُ عالٍ يصدّ الرياح...صامت وقور يقف وسط الفلاة ويُفكّر طوال الوقت..
فكما شُخّص البحر في الشّعر العربي بإنسان ..كذلك شُخّص الجبل بإنسان شاهد على أحداثَ كثيرة يلتفّ بعمامة نسجتها له حوادثُ الدّهر والطبيعة..
أليس بديع أن يلتقي الشعراء في وصف البحر والجبل وبثّهما الهمومَ ...وجعلهما مثالين للوقار والهدوء ..والحلم والأناة..
محمد عبدالعزيز حوسو- أرمنازي بالقلب
- عدد المساهمات : 19
نقاط : 542
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 12/12/2008
مواضيع مماثلة
» البحر في الأدب العربي /1/
» البحر في الأدب العربي /2/
» البحر في الأدب العربي /3 / ( عبد القادر الأسود)
» البحر في الأدب العربي /4/ ( عبد القادر الأسود)
» شهادة الدكتور حسن ربابعة أستاذ الأدب العربي في جامعة مؤتة ، الأردن
» البحر في الأدب العربي /2/
» البحر في الأدب العربي /3 / ( عبد القادر الأسود)
» البحر في الأدب العربي /4/ ( عبد القادر الأسود)
» شهادة الدكتور حسن ربابعة أستاذ الأدب العربي في جامعة مؤتة ، الأردن
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود