منتدى مدينة أرمناز العام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :101 ـ 105

اذهب الى الأسفل

الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :101 ـ 105 Empty الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :101 ـ 105

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود الإثنين أبريل 30, 2012 7:11 am


وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)

بعد أن تحدث الله سبحانه وتعالى عن اليهود الذين نقضوا المواثيق الخاصة بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوها وهم يعلمون، قال الله سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} أي أن ما جاء في القرآن مصدق لما جاء في التوراة، لأن القرآن من عند الله والتوراة من عند الله،ولكنهم حرفوا التوراة وكتموا بعضها وغيروا وبدلوا فيها فأخفوا ما يريدون إخفاءه ، لذلك جاء القرآن الكريم ليظهر ما أخفوه ويؤكد ما لم يخفوه ولم يتلاعبوا فيه.
وقوله تعالى: { نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } ولما جاءهم الكتاب الخاتم وهو القرآن الكريم نبذوه هو الآخر وراء ظهورهم ، أي طرحوه بعيداً ، إذن ما في كتابهم من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم نبذوه بعيداً . لأنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا ويقولون أتى زمن نبي سنؤمن به ونقتلكم قتل عاد وإرم .
و{نَبَذَ فَرِيقٌ } يعني نبذ جماعة وبقيت جماعة أخرى لم تنبذ الكتاب بدليل أن ابن سلام وهو أحد أحبار اليهود صدَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به ، وكذلك كعبُ الأحبار واسمه " مُخيريق " .
{وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} أي جعلوه وراءهم حتى ينسوه تماماً ولا يلتفتوا إليه أبداً .
{كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي يتظاهرون بأنهم لا يعلمون ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصافه ، وقوله تعالى: "كأنهم" دليل على أنهم يعلمون ذلك علم يقين . إذن هم يعلمون يقيناً ولكنهم تظاهروا بعدم العلم .
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ } ظرفٌ لنَبَذَ والجملة عطف على سابقتها داخلة تحت الإنكار ، والضمير لبني إسرائيل عامة لا لعلمائهم فقط ، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعله مصدراً بمعنى الرسالة كما في قوله :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ....... بليلى ولا أرسلتهم برسول
{مِنْ عِندِ الله} متعلق بـ "جاء" أو بمحذوف وقع صفة للرسول لإفادة مزيد تعظيمه إذ قدْرُ الرسول على قدر المرسل .
{مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } أي من التوراة من حيث إنه صلى الله عليه
وسلم جاء على الوصف الذي ذكر فيها ، أو أخبر بأنها كلام الله تعالى المنزل على نبيه موسى عليه السلام ، أو صدق ما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين ، وإخبار الأمم والمواعظ والحكم ، أو أظهر ما سألوه عنه من غوامضها ، وحمل بعضهم "ما" على العموم لتشمل جميع الكتب الإلهية التي نزلت قبل ، وقرأ ابن أبي عبلة: { مُصَدّقاً } بالنصب على الحال من النكرة الموصوفة .
{ كتاب الله } مفعول لـ { نَبَذَ } والمراد به التوراة لما روي عن أنه لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن ، ويؤيده أن النبذ يقتضي سابقة الأخذ في الجملة وهو متحقق بالنسبة إليها وأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول ، وأن مذمتهم في أنهم نبذوا الكتاب الذي أُوتوه واعترفوا بحقيته أشد فإنه يفيد أنه كان مجرد مكابرة وعناد ، ومعنى نبذهم لها اطراح أحكامها ، أو ما فيها من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل: القرآن هو المقصود بـ "كتاب الله " ، لأن الكلام مع الرسول فيصير المعنى أنه يصدق ما بأيديهم من التوراة ، وهم بالعكس يكذبون ما جاء به من القرآن ويتركونه ولا يؤمنون به بعدما لزمهم تلقيه بالقبول .
{ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } جمع ظهر وهو معروف ، ويجمع أيضاً على ظُهران ، وقد شبّه تركهم كتاب الله تعالى وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر ، والجامع عدم الالتفات وقلّة المبالاة ، ثم استعمل ههنا ما كان مستعملاً هناك وهو النبذ وراء الظهر والعرب كثيراً ما
تستعمل ذلك في هذا المعنى ، ومنه قول الفرزدق :
تميم بن مر لا تكونن حاجتي ............. بظهر ولا يعيى عليك جوابها
ويقولون أيضاً: جعل هذا الأمر دُبُرَ أُذُنُه ويريدون ما تقدم .
{كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملةٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال ، وصاحبُها، فريقٌ ، والعاملُ فيها: نَبَذَ ، والتقدير: مُشْبهين للجُهَّال . ومتعلَّقُ العلمِ محذوفٌ تقديرُه: أنه كتابُ الله لا يُداخِلُهم فيه شكٌّ ، أي كفروا عِناداً. إشارة إلى أنهم نبذوه لا عن شبهة ولكن بغياً وحسداً .
{ وَلَمَّا جَاءهُمُ } على احتمال أن يكون الأكثر غير النابذين ، فاليهود أربع فرق ، فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب ، وهم الأقلون ، وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدّي الحدود ، وهم المعنيون بقوله تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ } وفرقة لم يجاهروا ، ولكن نبذوا لجهلهم وهم الأكثرون وفرقة تمسكوا بها ظاهراً ونبذوها سراً ؛ وهم المتجاهلون .

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

يخبرنا الحق تبارك وتعالى أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين لأن النبذ يقابله الإتباع واتبعوا يعني اقتدوا وجعلوا طريقهم في الاهتداء هو ما تتلوه الشياطين على ملك سليمان ، وكان السياق يقتضي أن يقال ما تلته الشياطين على ملك سليمان ، ولكن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن هذا الاتّباع مستمرّ حتى الآن كأنهم لم يحددوا المسألة بزمن معين .
وفي أسباب نزولها ما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : " إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ، فإذا سمع أحدهم بكلمة كذب عليها ألف كذبة ، فأُشْرِبَتْها قلوبُ الناس واتخذوها دوادوين فأطلع الله تعالى على ذلك سليمان بن داود فأخذها وقذفها تحت الكرسي فلما مات سليمان قام شيطان في الطريق فقال: ألا أدلُّكم على كنز سليمان الذي ليس لأحد مثله؟ قالوا: نعم فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسختْها الأمم فأنزل الله تعالى عُذرَ سليمان فيما قالوا من السحر " .
{ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } هذه الجملةُ معطوفةٌ على مجموعِ الجملةِ السابقةِ من قولِه: "ولمَّا جاءَهم" إلى آخرها .
أوقال هي معطوفةٌ على "أُشْرِبوا"أو على "نَبَذَ فريقٌ" وهذا ليس بظاهر، لأنَّ عطفَها على " نَبَذَ " يقتضي كونَها جواباً لقولِه: { وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ } واتِّباعُهم لِما تتلو الشياطينُ ليس مترتِّباً على مجيء الرسولِ بل كان اتِّباعُهم لذلك قبله ، فالأَوْلَى أن تكونَ معطوفةً على جملةٍ لا كما تقدم .
و"ما" موصولةٌ، وعائدُها محذوفٌ، والتقديرُ: تَتْلوه . و"يَتْلو" في معنى تَلَتْ ، فهو مضارعٌ واقعٌ موقعَ الماضي كقوله:
وإذا مَرَرْتَ بقبرِه فاعْقِرْ بِه ........... كُوَمَ الهِجانِ وكلَّ طَرْفٍ سابحِ
وانضَحْ جوانِبَ قبرِه بدِمائِها ........... فَلَقَدْ يـكونُ أخا دمٍ وذَبائحِ
أي: فلقَدْ كان ، وقال الكوفيون: الأصلُ: ما كانت تَتْلو الشياطينُ ، ولا يريدونَ بذلك أنَّ صلةَ "ما" محذوفةٌ ، وهي "كانَتْ" و"تتل" في موضعِ الخبرِ ، وإنما قَصَدوا تفسيرَ المعنى ، وهو نظيرُ: كانَ زيدٌ يقوم والمعنى على الإِخبار بقيامِه في الزمنِ الماضي .
وقرأ الحسن والضحاك: "الشياطُون" إجراءً له مُجْرى جَمْعِ السلامةِ ، وغَلَّطَه بعضُهم ولَحَّنوه، وجمع الأصمعي: بُستانُ على بَساتُون وهو يُقَوِّي قراءَةَ الحسن ، والشياطين هم مردة الجن .
قوله: {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} على بمعنى "في" أي : في زمنِ ملكِه، ومُلْكُه هنا شَرْعُه . ويمكن: أَنْ يُضَمَّن تَتْلو معنى: "تتقوَّل"، أي: تتقوَّل على مُلْكِ سليمان ، وتَقَوَّل يتعدَّى بـ "على" ، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل} الحاقة: 44 . وهذا الثاني أَوْلَى ، فإن التجَوُّز في الأفعالِ أَوْلَى مِن التجوُّز في الحُروف، وهو مذهبُ البصريينَ كما مَرَّ غيرَ مرة. وإنما أَحْوَجَ إلى هذيْنِ التأويلَيْنِ لأن تلا إذا تعدَّى بـ "على"كان المجرورُ شيئاً يَصِحُّ أَنْ يُتْلى عليه نحو:تَلَوْتُ على زيدٍ القرآنَ والمُلْكُ ليس كذلك .
والتلاوةُ: الاتِّباعُ أو القراءةُ وهو قريبٌ منه . وسُلَيمان عَلَمٌ أعجمي فلذلك لم ينصرِفْ . وفيه ثلاثةُ أسبابٍ: العجمةُ والتعريفُ والألفُ والنونُ ، وهذا إنما يَثْبُتُ بعد دخولِ الاشتقاقِ فيه والتصريفِ حتى تُعْرَفَ زيادتُهما، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخلان في الأسماء الأعجمية . وكَرَّر {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بذكرِه ظاهراً تفخيماً له وتعظيماً .
{ولكن الشياطين كَفَرُواْ} هذه الواوُ عاطفةٌ جملةَ الاستدراكِ على ما قبلَها .
وقرأ ابنُ عامر والكسائيُّ وحمزةُ بتخفيفِ " لكنْ " ورَفْعِ ما بَعْدها ، والباقون بالتشديدِ والنصبِ وهو واضحٌ . وأمَّا القراءةُ الأولى فتكونُ " لكنْ " مخفّفةً من الثقيلة جيء بها لمجرَّدِ الاستدراك ، وإذا خُفِّفَتْ لم تَعْمَلْ عند الجمهورِ، ونُقِلَ جوازُ ذلك عن يونسَ والأخفشِ . وهل تكونُ عاطفةً؟ الجمهورُ على أنَّها تكونُ عاطفةً إذا لم يكنْ معها الواوُ ، وكانَ ما بعدَها مفرداً ، وذهبَ يونسُ إلى أنها لا تكونُ عاطفةً ، وهو قويٌّ ، فإنه لم يُسْمَعْ من لسانهم: ما قام زيدٌ لكن عمروٌ ، وإن وُجِدَ ذلك في كتب النحويين فمِنْ تمثيلاتِهم، ولذلك لم يُمَثِّل بها سيبويه إلا مع الواو وهذا يَدُلُّ على نَفْيهِ . وأمَّا إذا وقعت بعدها الجملُ فتارةً تقترنُ بالواوِ وتارةً لا تقترنُ ، قال زهير :
إنَّ ابنَ وَرْقَاءَ لا تُخْشَى بوادِرُهُ .......... لكنْ وقائِعُه في الحَرْبِ تُنْتَظَرُ
وقال الكسائي والفراء:الاختيارُ تشديدُها إذا كانَ قبلَها واوٌ ، وتخفيفُها إذا لم يكنْ ، وهذا جنوحٌ منهما إلى القولِ بكونِها حرفَ عطفٍ .
{يُعَلِّمُونَ الناس السحر} الناسَ: مفعولٌ أولُ ، و"السحرَ" مفعولٌ ثانٍ . واختلفوا في هذه الجملةِ على خمسةِ أقوال ، أحدُها: أنها حالٌ من فاعل "كفروا " أي: كفروا مُعَلِّمينَ . الثاني: أنها حالٌ من الشياطين . الثالث: أنها في محلِّ رفعٍ على أنَّها خبرٌ ثانٍ للشياطين . الرابعُ : أنها بدلٌ من "كَفروا" بدلَ الفعلَ من الفعلِ . الخامسُ: أنَّه استئنافيةٌ ، أخبرَ عنهم بذلك ، هذا إذا أعَدْنا الضميرَ من " يُعَلِّمون " على الشياطين ، أمَّا إذا أَعَدْناه على " الذين اتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ " فتكونُ حالاً من فاعلِ "اتَّبعوا" ، أو استئنافيةً فقط . والسِّحْرُ: كلُّ ما لَطُفَ ودَقَّ. سَحَرَهُ. إذا أبدى له أمراً يَدِقُّ عليه ويَخْفَى . قال:
...............................أَدَاءٌ عَراني من حُبابِكِ أَمْ سِحْرُ
ويقال: سَحَره: أي خَدَعَه وعَلَّله ، قال امرؤ القيس :
أرانا مُوضِعِيْنَ لأمرِ غَيْبٍ ................ ونُسْحَرُ بالطَّعام وبِالشَّرابِ
أي: نُعَلَّلُ ، وهو في الأصلِ: مصدرٌ يُقال : سَحَرَه سِحْراً ، ولم يَجِيءْ مصدرٌ لفَعَل يَفْعَل على فِعْل إلاَّ سِحْراً وفِعْلاً. وهو من المصادر الشاذة، ويُستعملُ بما لَطُفَ وخَفيَ سببُه ، والمرادُ به أمرٌ غريبٌ يُشبه الخارقَ ، صرح النووي في "الروضة" بحرمته ، وفسره الجمهور بأنه خارق للعادة يظهر من نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة ، وعده العلامة التفتازاني: من الكبائر ، وذهب بعضهم إلى القول بأن السحر كفر على الإطلاق ، وقال آخرون: إن كان فيه ردُّ ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا .
رُوي أن جارية لحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها سحرتها فأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها ، فأنكر أمير المؤمين عثمان رضي الله تعالى عنه و إنما كان إنكاره لقتلها بغير إذنه .
وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : اقتلوا كلَّ ساحر وساحرة فقتلوا ثلاث سواحر ، واعترض الشافعية على القول بالقتل مطلقاً واحتجوا بأنّه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي الذي سحره فالمؤمن مثله لقوله عليه السلام: ((لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين)) . واختلف في تعليمه وتعلُّمه فقيل: كفر لهذه الآية إذ فيها ترتيب الحكم على الوصف المناسب وهو مشعر بالعِلِّية ، وأجيب بأنّا لا نسلم أن فيها ذلك لأن المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يُعلِّمون السحر ، وقيل: إنهما حرامان وبه قطع الجمهور وقيل: مكروهان وإليه ذهب البعض وقيل: مباحان ، والتعليم المساق للذم هنا محمول على التعليم للإغواء والإضلال ، وإليه مال الإمام الرازي قائلاً : اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} الزمر: 9 ، ولو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين "المعجزة" والعلم بكون المعجز معجزاً واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً ، وما يكون واجباً كيف يكون حراماً وقبيحاً . ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يُقتل به وما لا يُقتل به ، فيفتي به في وجوب القصاص .
والحق الحرمة تبعاً للجمهور إلا لداع شرعيٍّ، وفيما قاله رحمه الله تعالى نظر . لأنّا لا ندعي أنه قبيح لذاته ، وإنما قُبْحُه باعتبار ما يترتب عليه ، فتحريمه من باب سدّ الذرائع ، وكم من أمر حرم لذلك وفي الحديث: ((من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه)) ثم إن توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوع ، ألا ترى أن أكثر العلماء أو كلهم إلا النادر عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر وكفى فارقاً بينهما ما تقدم ، ولو كان تعلمه واجباً لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول مع أنهم لم يُنقل عنهم شيء من ذلك ، أفتراهم أخلوا بهذا الواجب؟وإن إفتاء المفتي بوجوب القَوَد أو عدمِه لا يستلزم معرفته علم السحر لأن صورة إفتائه ـ على ما ذكره العلامة ابن حجرـ إن شهد عدلان عَرَفا السحر وتابا منه .
وقد أطلق بعض العلماء السحر على المشي بين الناس بالنميمة لأن فيها قلب الصديق عدواً والعدو صديقاً ، كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذب لما فيه من الاستمالة ، ويسمى سحراً حلالاً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (( إن من البيان لسحراً )) والقول بأن هذا الحديث مخرَّجٌ مخرجَ الذمِّ للفصاحة والبلاغة بعيدٌ . وظاهر قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ} الخ أنهم يفهمونهم إيّاه بالإقراء والتعليم ، وقيل: يدلونهم على تلك الكتب ، فأطلق على تلك الدلالة تعليماً إطلاقاً للسبب على المسبب ، وقيل: المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق تضر وتنفع ، وأن سليمان عليه السلام إنما تم له ما تم بذلك والإطلاق عليه هو الإطلاق وقيل: {يَعْلَمُونَ} من الإعلام وهو الإخبار ، أي يخبرونهم بما أو بمن يتعلمون به أو منه "السحر".
{وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين} المراد : الجنس ، وهو عطف على {السحر} وهما واحدٌ ، إلاّ أنه نزّل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات كما في قوله : إلى الملك القرم وابن الهمام ... البيت .
وفائدة العطف التنصيصُ بأنهم يعلمون ما هو جامع بين كونه سحراً وبين كونه منزلاً على الملكين للابتلاء ، فيفيد ذمهم بارتكابهم النهي بوجهين ، وقد يراد بالموصول المعهود ، وهو نوع آخر أقوى فيكون من عطف الخاص على العام إشارة إلى كماله .
وهذان الملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله تعالى للناس ، فمن تعلم وعمل به كفر ، ومن تعلم وتوقى عملَه ثبت على الإيمان ، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء ، وتمييزاً بينه وبين المعجزة حيث أن السحر كثر في ذلك الزمان ، وأظهر السحرة أموراً غريبة وقع الشك بها في النبوّة لمشابهتها ـ من حيث الظاهر ـ المعجزات الخارقات للعادة التي يجريها الله على يد أنبيائه ورسله دليلاً على صدق نبوءتهم وما يأتون به من رسالات الله إلى عباده ، فبعث الله تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر حتى يُزيلا الشُبه .
قيل: كان ذلك في زمن إدريس عليه السلام ، وأما ما روي أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله تعالى به ، وقالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك ، فقال الله تعالى لهم : اختاروا ملكين منكم ، فاختاروهما ، فهبطا إلى الأرض ومَثُلا بشرين ، وألق الله تعالى عليهما الشبق ، وحكما بين الناس ، فافتتنا بأمرأة يقال لها زهرة ، فطلباها وامتنعت إلا أن يعبدا صنماً ، أو يشربا خمراً ، أو يقتلا نفساً فاختارا أهونها وشربا الخمر فلما لعبت الخمرة قتلا طفلاً كان ينظر إليهما ، حتى لا يشهد فَعْلَتَهما ، وهكذا ارتكبا الكبائر الثلاث ، ثم تعلّمت زهرة منهما ما صعِدت به إلى السماء ، فصعدت ومُسِختْ هذا النجم المسمى " زُهرة " وأرادا العروج فلم يمكنهما ـ سبحانه ـ من الصعود ، وخيَّرَهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا فهما الآن يعذبان فيها .
إلى غير ذلك من الآثار التي بلغت طرقها نيفاً وعشرين ، فقد أنكرها جماعة منهم القاضي عياض ، وذكر أن ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت لم يرد منه شيء لا سقيم ولا صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر في " البحر " أن جميع ذلك لا يصح منه شيء ، ولم يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلعن الـ " زُهرة " ، ولا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما خلافاً لمن رواه ، وقال الإمام الرازي بعد أن ذكر الرواية في ذلك إن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة ، ونص الشهاب "العراقي" على أنّ مَن اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما مع الـ " زُهرة " فهو كافر بالله تعالى ، فإن الملائكة معصومون لقوله تعالى:{لاَّ يَعْصُونَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}التحريم: و{لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } الأنبياء: 19 و0 2 والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض ، والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان ورُدّت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول .
واعترض الإمام السُيوطي على من أنكر القصّة بأنّ الإمام أحمد وابن حِبّان والبيهقي وغيرَهم رووها مرفوعة وموقوفة على عليٍّ وابن عباس وابن عمر وابن مسعود ، رضي الله تعالى عنهم ، بأسانيد عديدة صحيحة يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخرِّجيها .
وذهب بعضُ المحققين إلى أنّ ما روي مرويٌّ حكايةً لما قاله اليهود وهو باطل في نفسه وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية ، ولا يردّ ما قاله الإمام السيوطي عليه ، إنما يردّ على المنكرين بالكلية ، ولعل ذلك من باب الرموز والإشارات ، فيراد من الملكين العقل النظري والعقل العملي اللذان هما من عالم القدس ، ومن المرأة المسمّاة بالزُهرة النفس الناطقة ومن تعرضهما لها تعليمهما لها ما يسعدها ، ومن حملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى الميل إلى السفليات المدنسة لجوهريهما ، ومن صعودها إلى السماء بما تعلمت منهما عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصاحها لنصحهما ، ومن بقائهما معذبين بقاؤهما مشغولين بتدبير الجسد وحرمانهما عن العروح إلى سماء الحضرة ، لأن طائر العقل لا يحوم حول حماها . ومن الأكابر مَن قال في حلّ هذا الرمز: إن الروح والعقل للذين هما من عالم المجردات قد نزلا من سماء التجرد إلى أرض التعلق ، فعشقا البدن الذي هو كالزهرة في غاية الحسن والجمال لتوقف كمالهما عليه ، فاكتسبا بتوسطه المعاصي والشرك وتحصيل اللذات الحسية الدنية ، ثم صعِد إلى السماء بأن وصل بحسن تدبيرهما إلى الكمال اللائق به ، ثم مسخ بأن انقطع التعلق وتفرقت العناصر ، وهما بقيا معذبين بالحرمان عن الاتصال بعالم القدس متألمين بالآلام الروحانيّة، منكوسي الحال حيث غلب التعلق على التجرد وانعكس القرب بالبعد وقيل: المقصود من ذلك الإشارةُ إلى أنّ مَن كان مَلَكاً إن اتبع الشهوة هبط عن درجة الملائكة إلى درجة البهيمة .
{وَمَا أُنْزِلَ} فيه أربعةُ أقوالٍ أَظْهَرُها أنَّ "ما" موصولةٌ بمعنى الذي محلُّها النصبُ عطفاً على "السِّحْر" والتقديرُ: يُعَلِّمُون الناسً السحرَ والمُنَزَّلَ على المَلَكَيْن . الثاني : أنها موصولةٌ أيضاً ومحلها النصبُ لكنْ عطفاً على {مَا تَتْلُواْ الشياطين} والتقديرُ : واتَّبعوا ما تَتْلوا الشياطينُ وما أُنْزِل على المَلَكَيْن وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ ، ولا حاجَةَ إلى القولِ بأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً . الثالث: أنَّ محلَّها الجَرُّ عطفاً على "مُلْكِ سليمان" والتقديرُ : افتراءً على مُلْكِ سُلَيْمان وافتراءً على ما أُنْزِلَ على المَلَكْين . وتقديرُه: وعلى عَهْدِ الذي أُنْزِل . الرابع: أنَّ "ما" حرفُ نفيٍ ، والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ المنفيَّةِ قبلها، وهي {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} والمعنى: وما أُنْزِل على المَلَكَيْنِ إباحةُ السِّحْرِ .
والجمهورُ على فَتْح لام "المَلَكَيْن" على أنَّهما من الملائكة ، وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن بكَسْرها على أَنَّهما رَجُلانِ من الناسِ، وسيأتي تقريرُ ذلك .
{ بِبَابِلَ } متعلِّقٌ بأُنِزِلَ ، والباءُ بمعنى "في" أي: في بابل: ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المَلَكَيْن أو من الضمير في " أُنْزل " فيتعلَّق بمحذوفٍ .
وبابل لاَ يَنْصَرِفُ للعُجْمَةِ والعَلَمية ، فإنها اسمُ أرضٍ وإنْ شِئْتَ للتأنيث والعَلَمية ، وسُمِّيَتْ بذلك لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخلائقِ بها ، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أمرَ ريحاً فَحَشَرَتْهُمْ بهذه الأرضِ فلم يَدْرِ أحدٌ ما يقولُ الآخر، ثم فَرَّقَتْهُم الريحُ في البلادِ يتكلَّمُ كلُّ أحدٍ بلغةٍ . والبَلْبَلَةُ : التفرقةُ ، وقيل: لَمَّا أُهْبِطَ نوحٌ عليه السلام نَزَلَ فبنى قريةً وسمّاها " ثمانينَ " فَأَصْبَحَ ذاتَ يوم وقد تَبَلْبَلَتْ ألْسِنتُهم على ثمانينَ لغةً . وقيل : لِتَبَلْبُلِ ألسنةِ الخَلْقِ عند سقوطِ صَرْحِ نمرود .
{ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } الجمهورُ على فَتْح تائِهما ، واختلف النحويون في إعرابهما ، وذلكَ مبنيٌّ على القراءَتَيْنِ في " المَلَكَيْنِ ": فَمَنْ فَتَحَ لامَ "المَلَكَيْنِ" وهم الجمهورُ كان في هاروت وماروتَ أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنَّها بَدَلٌ من "الملَكَيْنِ"وجُرَّ بالفتحةِ لأنهما لا يَنْصَرِفان للعُجْمةِ والعَلَمِيَّةِ . الثاني: أنهما عطفُ بيانٍ لهما. الثالث: أنهما بدلٌ من "الناس" في قوله: {يُعَلِّمُونَ الناس } وهو بدلُ بعضٍ من كلٍ ، أَوْ لأنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان . الرابع : أنهما بدلٌ من "الشياطين" في قوله: " ولكنَّ الشياطينَ " في قراءةِ مَنْ نَصَبَ ، وتوجيهُ البدلِ كما تقدَّم . وقيل : هاروت وماروت اسمان لقبيلتينِ من الجن فيكونُ بدلَ كلٍ من كلٍ ، والفتحةُ على هذين القولَيْنِ للنصْبِ . وأمَّا مَنْ قَرَأَ برفعِ "الشياطين" فلا يكونُ "هاروت وماروت " بدلاً منهم ، بل يكونُ منصوباً في هذا القولِ على الذمِّ ، أي: أذمُّ هاروتَ وماروتَ من بينِ الشياطينِ كلِّها، كقولِه:
أَقَارِعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها .......... وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تُجادِعُ
أي: أذمُّ وجوهَ قرودٍ ، ومَنْ كَسَرَ لامَهما فيكونان بدلاً منهما كالقولِ الأولِ إلا إذا فُسِّر بداودَ وسليمان - كما ذكره بعضُ المفسِّرين - فلا يكونَانِ بَدَلاً منهما بل يكونانِ متعلِّقين بالشياطين على الوَجْهَيْن السابقين في رفع الشياطين ونَصْبِه ، أو يكونان بدلاً من " الناس " كما تقدَّم .
وقرأ الحسن: هاروتُ وماروتُ برفعهما ، وهما خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: هما هاروتُ وماروتُ ، ويجوز أَنْ يكونا بدلاً من "الشياطين" الأولِ وهو قولُه: {مَا تَتْلُواْ الشياطين} أو الثاني على قراءةِ مَنْ رفَعَه .
ويُجْمعان على هَواريت ومَواريت وهَوارِتَة ومَوارِتَة ، وليس مَنْ زعم اتقاقَهما من الهَرْت والمَرْت وهو الكَسْر بمُصيبٍ لعدَمِ انصرافِهِما ، ولو كانا مشتقَّينِ كما ذُكِر لانْصَرَفا .
{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلَها . والجمهور على "يُعَلِّمان" مُضَعَّفاً ، واختُلِفَ فيه على قَوْلَين أحدُهما: أنه على بابِه من التعليم . والثاني: أنه بمعنى يُعْلِمان من " أَعْلم" لأنَّ المَلَكَيْن لا يُعَلِّمان الناسَ السحرَ إنما يُعْلِمانِهِم به ويَنْهَيانِهم عنه، وبه قرأ طلحة: "يُعْلِمان" من الإِعلام . وحكى ابنُ الأعرابي وابن الأنباري "أنتَ تَعَلَّمْ " بمعنى " أعلَمْ " وأنشدوا قولَ زهير :
تَعَلَّمَنْ هالَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَمَاً ......... فاقْدِرْ بِذَرْعِكِ وانظُرْ أينَ تَنْسَلِكُ
وقولَ القطامي:
تَعَلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْداً .................... وأَنَّ لذلك الغَيِّ انقِشاعاً
وقول كعب بن مالكِ:
تَعَلَّمْ رسولَ اللهِ أنَّك مُدْرِكي .......... وأنَّ وعيداً منكَ كالأخذِ باليدِ
والضميرُ في "يُعَلِّمان" فيه قولان ، أحدُهما: أَنَّه يعودُ على هاروت وماروت ، والثاني: أنه عائدٌ على المَلَكَيْنِ ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبَيّ بإظهارِ الفاعلِ: "وما يُعَلَّمُ المَلَكان"والأولُ هو الأصحُّ ؛ وذلك أنَّ الاعتمادَ إنما هو على البَدَل دون المبدل منه فإنه في حُكْم المُطَّرَح فمراعاتُه أَوْلَى تقول: "هندٌ حُسْنُها فاتِنٌ" ولا تقول:"فاتنةٌ" مراعاةً لهند إلا في قليلٍ من الكلامِ كقوله :
إنَّ السيوفَ غُدُوَّها ورَواحَها ....... تَرَكَتْ هوازنَ مثلَ قَرْنِ الأعْضَبِ
وقول الآخر :
فكأنَّه لَهِقُ السَّراةِ كأنه ...................... ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ
فراعى المُبْدَلَ منه في قوله : تَرَكَتْ ، وفي قوله: مُعَيَّن ، ولو راعى البَدَلَ وهو الكثيرُ لقال: تَرَكا ومُعَيَّنان كقولِ الآخر:
فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ .............. ولكنَّه بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
وقيل بأن "رَواحَهَا وغدوَّها" منصوبٌ على الظرفِ ، وأن قوله: "مُعَيَّنٌ" خبرٌ عن "حاجِبَيْه" وجازَ ذلك لأن كلَّ اثنين لا يُغْني أحدهما عن الآخر يجوزُ فيهما ذلك ، قال:
لكأنَّ في العَيْنَيْن حَبَّ قَرَنْفُلٍ ............. أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
ويجوز عكسه ، قال:
إذا ذَكَرَتْ عيني الزمانَ الذي مضى ........ بصحراء فَلْجٍ ظَلَّتا تَكِفَانِ
و"مِنْ" زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ.{حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ}حتى: حرفُ غايةٍ وهي هنا بمعنى إلى والفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمارِ "أَنْ" ولا يجوزُ إظهارها ، وعلامةُ النصبِ حذفُ النونِ، والتقديرُ: إلى أَنْ يقولا، وهي متعلقةٌ بقولِه: "وما يُعَلِّمانِ " والمعنى أنه ينتفي تعليمُهما أو إعلامُهما على حسبِ ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية وهي قولُهم: { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } و"حتى" تكونُ حرفَ جر بمعنى "إلى" كهذِه الآية، وكقولِه: {حتى مَطْلَعِ الفجر} القدر: 5 ، وتكونُ حرفَ عطفٍ ، وتكونُ حرفَ ابتداءً فتقعُ بعدها الجملُ كقوله :
فما زالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دماءَها ........... بدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
والغايةُ معنىً لا يفارقها في هذه الأحوالِ الثلاثة، فلذلك لا يكون ما بعدها إلا غايةً لِما قبلها: إمَّا في القوةِ أو الضَّعْفِ أو غيرِهما ، ولها أحكامٌ ستأتي إنْ شاء الله تعالى . و"إنَّما" مكفوفةٌ بما الزائدةِ فلذلكَ وَقَعَ بعدَها الجملةُ، ويُجِوزُ إعمالها، والجملةُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ، وكذلك: "فَلا تَكْفُرْ" .
قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ} معطوفةٌ على قولِه: "وما يُعَلِّمان" والضميرُ في "فيتعلَّمون" عائدٌ على "أحد" وجُمِعَ حَمْلاً على المعنى، نحو قولِه: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } الحاقة: 47 .
قوله: " مِنْهُمَا " متعلِّقٌ بـ " يُعَلِّمون " . و"مِنْ" لابتداءِ الغايةِ ، يعَوْدُ إلى المَلَكَيْنِ ، سواءً قُرِىء بِكْسر اللام أو فتحِها .
قوله: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} ما: موصولةٌ اسميةٌ . و"بين المرءِ" ظَرْفٌ لـ "يُفَرِّقون" . والجمهورُ على فَتْحِ ميم "المَرْء" مهموزاً وهي اللغة العالية . وقرأ ابنُ أبي إسحاق: "المُرْء" بضمِّ الميمِ مهموزاً، وقرأ الأشهب العقيلي والحسنُ: "المِرْء" بكسر الميم مهموزاً . فأمَّا الضمُّ فلغةٌ مَحْكِيَّةٌ، وأمَّا الكسرُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ ذلك للإِتباع ، وذلك أنَّ في "المَرْء" لغةً، وهي أنَّ فاءَه تَتْبَعُ لامَه فإنْ ضُمَّ ضُمَّتْ وإنْ فَتِحَ فُتِحَتْ وإنْ كُسِرَ كُسِرَتْ . تقول: "ما قام المُرْءُ " بضم الميم ، و"رأيت المَرْءَ " بفتحها ، و" مررت بالمِرْءِ " بكسرِها . وقد يُجْمع بالواوِ والنون وهو شاذٌ ، قال الحسن في بعضِ مواعِظه : " أَحْسِنوا مَلأَكم أيها المَرْؤُوْن " أي : أخلاقكم . وقرأ الحسن والزهري : " المِرِ " بكسر الميم وكسرِ الراء خفيفة، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ على الراءَ وحَذَفَ الهمزة تخفيفاً، وهو قياسٌ مُطَّرد . وقرأ الزهري أيضاً: " المَرِّ " بتشديد الراء من غير همز ، ووجهُها أنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الراء ثم نَوَى الوقفَ عليها مشدداً ، كما رُوي عن عاصم " مُسْتَطرٌّ " بتشديد الراء، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ .
{وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} يجوز في "ما" وجهان ، أحدُهما: أن تكونَ الحجازيةَ فيكون " هم " اسمَها ، و"بضارِّين" خبرَها ، والباءُ زائدةٌ ، فهو في محلِّ نصبٍ ، والثاني: أن تكونَ التميميةَ ، فيكونَ "هم" مبتدأ و" بضارِّين " خبرَه والباءُ زائدةٌ أيضاً فهو في محلِّ رفعٍ . والضميرُ فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها: أنَّه عائدٌ على السَّحَرةِ العائدِ عليهم ضميرُ " فيتعلَّمون " . الثاني: يعود على اليهود العائدِ عليهم ضميرُ "واتَّبَعوا " . الثالث: يعودُ على الشياطين . والضميرُ في "به" يعودُ على "ما" في قولِه: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} .
والجمهورُ على "بضارِّين" بإثباتِ النونِ و" من أحدٍ " مفعولٌ به ،
وقرأ الأعمشُ: " بضارِّي " من غيرِ نونٍ ، وفي توجيهِ ذلك قولان ، أظهرُهما: أنه أَسْقَطَ النونَ تخفيفاً وإنْ لم يَقَعْ اسمُ الفاعلِ صلةً لـ " ألْ" ومثلُه قولُ الشاعر :
ولَسْنا إذا تَأَبْون سِلْماً بمُذْعِني ........... لكم غيرَ أنَّا إنْ نُسالَمْ نُسالِم
أي: بمُذْعنين ، ونظيرُه في التثنية: " قَظَا قَظَا بَيْضُك ثِنْتا وبَيْضِي مِئَتا " يريدون: ثِنْتان ومِئَتان . والثاني: أن النونَ حُذِفَتْ للإِضافة إلى "أحد " وفُصِل بين المضافِ والمضافِ إليه بالجارِّ والمجرور وهو " به " كما فُصِل به في قول الآخر:
هما أَخَوا في الحربِ مَنْ لا أخَاله ......... إذا خافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعاهُما
وفي قوله :
كما خُطَّ الكتابُ بكفِّ يوماً ................. يهوديٍ يقارِبُ أو يُزِيلُ
و" مِنْ " في "مِنْ أَحَد" زائدةٌ لتأكيدِ الاستغراق كما تقدَّمَ في {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} .
قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ من الأحوالِ . فهو في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ .
قوله: {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} هذه الجملةِ عَطْفٌ على "يَضُرُّهم" فتكونُ صلةً لـ "ما" أيضاً ، فلا مَحَلَّ لها مِن الإِعراب .
قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ} تقدَّم أنَّ هذه اللامَ جوابُ قسمٍ محذوفٍ . و"عَلِمَ" يجوزُ أن تكون متعديةً إلى اثنين أو إلى واحدٍ ، وعلى كلا التقديرَيْنِ فهي معلَّقةٌ عن العمل فيما بعدَها لأجلِ اللامِ ، فالجملةُ بعدَها في محلِّ نصبِ: إمَّا سادةً مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ على حَسَبِ ما تقدَّم ، ويظهر أثرُ ذلك في العطفِ عليها ، فإن اعتقدنا تعدِّيَها لاثنين عَطَفْنا على الجملةِ بعدَها مفعولَيْن وإلاَّ عَطَفْنا مفعولاً واحداً ، ونظيرُه في الكلامِ: عَلِمْتُ لزيدٌ قائمٌ وعمراً ذاهباً ، أو عَلِمْتُ لزَيدٌ قائمٌ وذهابَ عمروٍ . والذي يَدُلُّ على أنَّ الجملةَ المعلَّقة بعد "عَلِم" في محلِّ نصبٍ وعَطْفَ المنصوبِ على محلِّها قولُ الشاعرِ :
وما كنْتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما الهَوى ... ولا موجعاتِ القَلْبِ حتى تَوَلَّتِ
رُوي بنصبِ "مُوجعات" على أنه عَطْفٌ على محلِّ "ما الهوى" وفي البيت كلامٌ ، إذ يُحتمل أن تكونَ "ما" زائدةً ، و"والهوى" مفعولٌ به ، فَعَطَفَ "موجعاتِ" عليه ، ويُحتمل أن تكونَ "لا" نافيةً للجنس و"موجعاتِ" اسمُها والخبرُ محذوفٌ كأنه قال: ولا موجعاتِ القلب عندي حتى تولَّت .
والضميرُ في "عَلِموا" يمكن أن يعود على اليهودِ الذين بحضرة سيدنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام ، أو على مَنْ بحضرةِ سيدنا سليمانَ، أو على جميعِ اليهودِ أو على الشياطين ، أو على المَلَكَيْنِ عند مَنْ يرى أنَّ الاثنين جمعٌ .
{لَمَنِ اشتراه} في هذه اللامِ قولان ، أحدُهما: أنها لامُ الابتداءِ المعلِّقةِ لـ "عَلِم" عن العملِ ، و"مَنْ" موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و"اشتراهُ" صلتُها وعائدُها . و{مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ ومِنْ زائدةٌ في المبتدأ ، والتقديرُ: ما له خلاقٌ في الآخرةِ . وهذه الجملةُ في محلة رفعٍ خبراً لـ "مَنْ" الموصولةِ فالجملةُ من قوله: "ولقد عَلِموا" مقسمٌ عليها ، و"لَمَن اشتراه" غيرُ مقسمٍ عليها و"اشتراه" صلة "مَن" ، وهو مذهبُ سيبويه والجمهور . الثاني ـ وهو قول الفراء ، وتَبِعه أبو البقاء ـ : أن تكونَ هذه اللامُ هي الموطئةَ للقسَمِ ، و"مَنْ" شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و{مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} جوابُ القسمِ ، و"اشتراه" هو خبرٌ . وجوابُ الشرطِ محذوف؛ لأنه إذا اجتمع شرطٌ وقَسَمٌ ولم يتقدَّمْهما ذو خبر أُجيب سابقُهما غالباً، والجملتان من قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه} مُقْسَماً عليهما، وقد منع الزجاج قول الفراء قال: هذا ليس موضعَ شرط . والذي يَظْهَرُ في مَنْعِهِ ، أنَّ الفعل بعد "مَنْ" وهو "اشتراه" ماضٍ لفظاً ومعنىً فإنَّ الاشتراءَ قد وَقَعَ وانفصَلَ ، فَجَعَلُه شرطاً لا يَصِحُّ ؛ لأنَّ فعلَ الشرطِ وإنْ كان ماضياً لفظاً فلا بدَّ أن يكونَ مستقبلاً معنىً .
و{الخَلاقُ}: النَّصِيبُ وأكثرُ استعمالِه في الخيرِ . والضميرُ المنصوبُ في "اشتراه" فيه أربعةُ أقوالٍ: يعودُ على السحرِ أو الكفرِ أو كَيْلِهم الذي باعوا به السحرَ أو القرآنَ لتعويضِهم كَتْبَ السحرِ عنه .
واللامُ في "لَبِئْسَما" جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: والله لَبِئْسَما ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: السحرُ أو الكفرُ .
قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُ "لو" محذوفٌ تقديرُه: لو كانوا يَعْلَمُون ذمَّ ذلك لَمَا باعُوا به أنفسَهم ، والضميرُ في "به" يعودُ على السحرِ أو الكفرِ ، وفي "يَعْلَمُون" يعودُ على اليهود ، وإثباتَ العلمَ لهم في "ولقد عَلِمُوا" على سبيلِ التوكيد القسمي ، ثم نفيه عنهم في قولِه: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} معناه: لو كانوا يَعْمَلون بعِلْمِهم ، فجَعَلهم حينَ لم يَعْلَموا به كأنهم مُنْسلخون عنه .

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(103)

يفتح الله جل جلاله أمام عباده أبواب التوبة والرحمة ، بعد بين لهم أن السحر كفر، وأن من يقوم به يبعث كافراً يوم القيامة ويخلد في النار ، فلو أنهم آمنوا واتقوا الله لكان ذلك ثواباً لهم عند الله وخيراً في الدنيا والآخرة ، وتوعدهم بالعقوبة في الآخرة .
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ} لو:حرف لِما كان سيقع لوقوعِ غيره ، ويجوز أن تكونَ للتمني أي: ليتهم آمنوا على سبيل المجازِ عن إرادةِ الله إيمانَهم واختيارَهم له ، فعلى هذا لا يَلْزَمُ أن يكونَ لها جوابٌ لأنها قد تُجابُ بالفاءِ حينئذٍ . و"أنهم آمنوا" مؤولٌ بمصدرٍ ، وهو في محلِّ رفعٍ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ ، تقديرُه: ولو إيمانُهم ثابتٌ ، وشَذَّ وقوعُ الاسمِ بعد لو ، وإنَّ كانت مختصةً بالأفعال . وقيل: لا يَحْتاج هذا المبتدأ إلى خبرٍ لجَريانِ لفظِ المسندِ والمسندِ إليه في صلةِ "أَنَّ" ، أوهو في محلِّ رفعٍ بالفاعليةِ ، رافعُه محذوفٌ تقديرُه: ولو ثَبَتَ إيمانُهم ، لأنَّها لا يَليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً . والضميرُ في "أنهم" يعود على اليهودِ ، أو على الذينَ يُعَلِّمون السحرَ .
قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله} في هذه اللامِ قولان ، أحدُهما : أنها لامُ الابتداءِ وأنَّ ما بعدها استئنافُ إخبارٍ بذلك ، وليس متعلِّقاً بإيمانِهم وتقواهم ولا مترتِّباً عليه ، وعلى هذا فجوابُ "لو" محذوفٌ إذا قيل بأنها ليست للتمني أو قيل بأنها للتمني ويكونُ لها جوابٌ تقديره:لأُثيبوا. والثاني: أنها جوابُ "لو" ، فإنَّ "لو" تجابُ بالجملةِ الاسميةِ . وأُوْثِرَتِ الجملةُ الاسميةُ على الفعليةِ في جوابِ "لو" لِما في ذلك من الدَلالةِ على ثبوتِ المثُوبة واستقرارها ، كما عَدَلَ عن النصبِ إلى الرفعِ في "سلامٌ عليكم " و"لمَثُوبةٌ" فيها قولان أحدُهما: أنَّ وزنَها مَفْعُولَة والأصلُ مَثْوُوْبَة ، فثَقُلَتْ الضمةُ على الواوِ فَنُقِلَتْ إلى الساكنِ قبلها ، فالتقى ساكنان فَحُذِفَ أحدُهما مثل: مَقُولة ومَجُوزة ومَصُوْن ومَشُوْب ، وقد جاءَتْ مصادرُ على مَفْعُول كالمَعْقُول ، فهي مصدرٌ . والثاني: أنها مَفْعُلَةٌ من الثواب بضمَّ العين، وإنما نُقِلَتِ الضَمَّةُ منها إلى الثاء، ويقال: "مَثْوَبة" بسكون الثاءِ وفتحِ الواو ، وكان مِنْ حَقِّها الإِعلالُ فيقال: " مَثابة " كمَقامَة ، إلا أنهم صَحَّحُوها ، وبذلك قرأ أبو السَّمَّال وقتادة كمَشْوَرة . ومعنى " لَمَثُوبة " أي: ثوابٌ وجزاءٌ من الله . وقيل: لَرَجْعَةٌ إلى الله .
قوله: {مِّنْ عِندِ الله} في محلِّ رفعٍ صفةً لِمَثُوبة ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: لَمَثُوبة كائنة من عندِ الله . والعِنْدِيَّة هنا مجازٌ كما تقدَّم في نظائره . والتنكيرُ في "لَمَثُوبَةٌ" يفيدُ أنَّ شيئاً من الثوابِ ـ وإنْ قَلَّ ـ خَيرٌ، فلذلك لا يُقال له قليلٌ، ونظيرُه: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} التوبة:72.
وقوله: "خيرٌ" خبرٌ لِمَثُوبَةٌ ، وليست هنا بمعنى أَفْعَل التفضيلِ ، بل هي لبيانِ أنها فاضلةٌ ، كقوله: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} الفرقان: 24 {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ} فصلت: 40 .
قوله: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} جوابُها محذوفٌ تقديرُه: لكان تحصيلُ المثوبةِ خيراً ، أي تحصيلُ أسبابِها من الإِيمانِ والتقوى . وفي مفعولِ "يَعْلَمُون" وجهان أحدُهما: أنه محذوفٌ اقتصاراً أي: لو كانوا من ذوي العلمِ ، والثاني: أنه محذوفٌ اختصاراً ، تقديرُه: لو كانوا يَعْلمون
التفضيلَ في ذلك ، أو يعلمونَ أنَّ ما عند الله خيرٌ وأَبْقَى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)

قوله تعالى: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} الجمهورُ على "راعِنا" أمرٌ من المُراعاة ، وهي النظرُ في مصالحِ الإِنسانِ وتَدَبُّرِ أمورِه ، و"راعِنا" يقتضي المشاركةَ لأنَّ معناه: ليكن منك رعايةٌ لنا وليكن منا رعايةٌ لك، فَنُهوا عن ذلك لأنَّ فيه مساواتِهم به عليه الصلاة والسلام . وقرأ الحسنُ وأبو حَيْوَة: "راعِناً" بالتنوين ، ووجهُه أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي: قولاً راعناً ، والمعنى: لا تقولوا قولاً ذا رُعونة . والرُّعونة: الجَهْل والحُمْق والهَوَج ، وأصلُ الرُّعونة: التفرُّقُ ، ومنه: "جَيْشٌ أَرْعَنُ" أي: متفرِّقٌ في كل ناحية ، ورجلٌ أَرْعَنُ: أي ليس له عَقْلٌ مجتمعٌ ، وامرأةٌ رَعْنَاءٌ ، ورَعَن الرجلُ يَرْعَنُ رَعَناً . وقرأ أُبَيّ:راعُونا أي خاطَبوه بلفظِ الجمعِ تعظيماً . والجملةُ في محل نصبٍ بالقول .
قوله: "انظُرْنا" الجملةُ أيضاً في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ ، والجمهورُ على "انظُرْنا" بوصلِ الهمزةِ وضَمِّ الظاء أمراً من الثلاثي ، وهو نظرٌ من النَّظِرَة وهي التأخير ، أي: أَخِّرْنا وتأنَّ علينا ، قال امرؤ القيس :
فإنَّكما إنْ تَنْظُرانيَ ساعةً ............ من الدَّهْرِ يَنْفَعْني لدى أمِّ جُنْدَبِ
وقيل: هو من نَظَر أي: أبْصَرَ ، ثم اتُّسِعَ فيه فَعُدِّيَ بنفسِه لأنه في الأصلِ يَتَعدَّى بـ "إلى" ، ومنه :
ظاهراتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ ............ نَ كما يَنْظُرُ الأَراكَ الظباءُ
أي: إلى الأراك ، وقيل: مِنْ نَظَر أي: تفكر ثم اتُّسِعَ فيه أيضاً فإنَّ أصلَه أَنْ يتعدَّى بفي ، ولا بدَّ من حَذْفِ مضافٍ على هذا أي: انظُرْ في أمرنا وقرأ أُبيّ والأعمش: "أَنْظِرْنَا" بفتحِ الهمزةِ وكسرِ الظاءِ أمراً من الرباعي بمعنى: أَمْهِلْنا وأخِّرْنا، قال الشاعر:
أبا هندٍ فلا تَعْجَلْ عَلَيْنا ....................... وأَنْظِرْنا نُخْبِّرْكَ اليَقينا
أي: أَمْهِلْ علينا ، وهذا القراءةُ تؤيِّد أنَّ الأولَ من النَّظْرةِ بمعنى التأخير لا من البصرِ ولا من البصيرةِ ، وهذه الآيةُ نَظيرُ التي في سورة الحديد: "انظُرونا نقتبسْ من نوركم " .

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الكتاب} مِنْ: للتبعيضِ فهي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ على الحال ويتعلَّقُ بمحذوف أي: ما يَوَدُّ الذين كفروا كائنين من أهلِ الكتابِ . أو لبيانِ الجنسِ .
قوله: {وَلاَ المشركين} عطفٌ على "أَهْلِ" المجرورِ بمِنْ و"لا" زائدةٌ للتوكيد لأنَّ المعنى: ما يَوَدُّ الذين كفروا مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين كقولِه: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} سورة البيِّنة: 1 بغيرِ زيادة "لا" . وزعَمَ بعضُهم أنه مخفوضٌ على الجِوار وأنَّ الأصلَ: ولا المشركون ، عطفاً على الذين وإنما خُفِض للمجاورة ، نحو: "برؤوسكم وأرجلكِم" في قراءة الجر .
قوله: {أَن يُنَزَّلَ} ناصبٌ ومنصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٌ بـ "يَوَدُّ" أي: ما يودُّ إنزالَ خيرٍ ، وبُني الفعلُ للمفعولِ للعلمِ بالفاعلِ وللتصريحِ به في قولِه: "من ربكم" ، وأتى بـ "ما" في النفي دونَ غيرِها لأنَّها لنفي الحالِ وهم كانوا متلبِّسين بذلك .
قولُه: {مِّنْ خَيْرٍ} هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعلِ ، و" مِنْ " زائدةٌ ، أي: أَنْ يُنَزَّل خيرٌ من ربكم . وحَسُنَ زيادتُها هنا وإنْ كان " يُنَزَّل " لم يباشِرْه حرفُ النفي لانسحابِ النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نُفِيَتِ الوَدادَةُ انتفى مُتَعَلَّقُها . وهذا له نظائرُ في كلامِهم نحو: "ما أظنُّ أحداً يقولُ ذلك إلا زيدٌ " برفع "زيدٌ" بدلاً من فاعِل "يقول" وإنْ لم يباشر النفيَ ، لكنه في قوةِ: "ما يقولُ أحدٌ ذلك إلا زيدٌ في ظني" وقولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} الأحقاف: 33 زيدت الباءُ لأنه في معنى: أَوَلَيس اللهُ بقادرٍ . وقيل: "مِنْ" للتبعيض أي: ما يَوَدُّون أَنْ يُنَزَّلُ من الخيرِ قليلٌ ولا كثيرٌ ، فعلى هذا يكونُ القائمُ مقامَ الفاعل: "عليكم" والمعنى: أَنْ يُنَزَّل عليكم بخير من الخُيور .
{مِّن رَّبِّكُمْ} مِنْ: لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقُ بِيُنَزَّل . أو للتبعيضِ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 76
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى