معنى المنبت

أحببت أن أنقل لكم مقالة جميلة تشرح معنى المنبت بقلم خيري منصور

http://www.alkhaleej.ae/portal/98a276e2-8a75-4308-9409-d1e70d59a749.aspx


خيري منصور

المسألة ليست حسابية وحاسمة، بحيث تبدو الأنصاف كما لو أنها شُطرت بتلك الشعرة التي تحدث عنها أفلاطون كما لو أنها بَيْضة مسلوقة، فنصف المثقف ليس نصف جاهل ونصف المعافى ليس نصف مريض، ونصف البطل القومي ليس نصف الخائن أو الجاسوس، فهذا النمط من الحسابات والحواسيب لا يليق بمفاهيم كبرى .

لهذا قد يكون وصف المُنْبتَ هو الأدق لمن خَسروا ما كانوا يمتلكون وَفشلوا في تحقيق ما يحلمون به ويصبون إليه، وفي الحديث النبوي الشريف فإن المُنْبت هو الذي أضاع المشيتْين فلا هو هنا ولا هناك، لأنه خسر الطريق الذي لم يستطع أن يَقْطعه كما خسر ظَهْرَه الذي أَبْهظته الحمولة الشّاقة .

وأحياناً تبدو لنا فلسفات التوفيق بل التلفيق أشبه بطريق قصير وسهل لهذا المُنْبتَ، خصوصاً حين أساء الانْتِقائيون منهم ثنائية الأصالة والمعاصرة، وكأنهما طرفان متناقضان بحيث تكون الأصالة كلها من الماضي الذي ولّى وتكون المعاصرة كل ما هو جديد أو طارئ .

وما فشل المُنْبَتون في تحقيقه هو صَهْرُ ما لم يفقد صلاحيته من الماضي والتراث مع المُدْركَات والمعارف الحديثة في سياق واحد، وليس مجرد عقد مُصاهرات .

اليابانيون استطاعوا إلى حد بعيد تَحسْدهُم عليه الكثير من شعوب العالم تحقيق هذا الصهر أو الدمج، فلم يتخلوا عن تقاليدهم وماضيهم الذي تشكلت منه روحهم القومية ولم يَجفْلوا أو يَخافوا من الجديد، لهذا كانت لهم حداثتهم الخاصة بين حداثات العالم، فالحداثة ليست وصفة كونية للجميع، لهذا كان أهم مُنظريها وهو هنري لوفيغر يقول حداثتنا وليس مجرد الحداثة، ويضع الكلمة بين قوسين كي يُفهِم القارئ أنه يتحدث عن ثقافة تخصه ولها صلة عضوية بهويته ومجمل مكوناته الحضارية والتاريخية .

والعالم فيه الآن كثير من المُنْبَتّين الذين أضاعوا ماضيهم ولم يظفروا بالحاضر إلا إذا كانوا مجرد ظلال وأصداء لغيرهم، وأكثر ما يدهش المرء وهو يقرأ عن العَوْلمة مثلاً أن من جابهوا هذه الأُطروحة الأمريكية الصنع كانوا من أوروبا وبالتحديد من فرنسا وألمانيا، والردود الأكثر جدية على فوكوياما لم تأت من آسيا وإفريقيا بقدر ما جاءت من فرنسا ومن مثقفيها ومعاقلها الأكاديمية الكُبرى، أما الألمان فقد اعتبروا أطروحة العَوْلمة بالطريقة التي صاغها فوكوياما وبشر بها وحاول تسويقها قادة وسَدَنةُ الرأسمالية المتوحشة اعتداء على فيلسوفهم هيجل بل هي إعادة إنتاج له لكن بعد إفراغه من مضمونه .

وبقدر ما لدينا الآن في الوطن العربي من مفكرين مُدْركين لهذه المسألة، هناك من اسْتَخفهم الطرب فَرَقصوا على إيقاع نشيد آخر، وَتَصّوروا أن النقل والمحاكاة هما السّبيل الوحيد للتحدْيث واللّحاق بالعصر، لهذا اكتشفوا أن منجزات التكنولوجيا قد تَتَحوّل إلى سلاح مَضاد، بحيث يكون التجهيل المُبَرْمج والممنهج بديلاً للتوْعية، والتكنولوجيا شأن كل ما أنجزه الإنسان في تاريخه الطويل بدءاً من الفأس والعجلة حتى بناء الدول، إنها تقبل الشيء ونقيضه، لهذا قيل بأن الخشب قد يكون سيئ الحظ عندما يصبح كعب بُندقية أو تابوتاً وهو حسن الحظ عندما يصبح قيثاراً أو مهداً لطفل . إن مفهوم المُنْبَتّ في تراثنا قد لا نجد ما يرادفه تماماً في التراثات الأخرى، فهو ليس فقط الانقطاع بل الخسارة المزدوجة وإضاعة المشيتْين كما حدث للغراب عندما حاول أن يقلد الحمامة، فلم يستطع مواصلة النعيق ولم يُتْقن الهديل .

سلمت يداك يا ابا مصطفى وبارك الله فيك