الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية: 180
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية: 180
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذا حَضَرَ أَحَدكَم الموتُ} هَذِهِ آيَةُ الْوَصِيَّةِ، لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لِلْوَصِيَّةِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي “النِّسَاءِ” {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} النساء: 12، وفي المائدة: “حِينَ الْوَصِيَّةِ”. المائدة: 106. وَالَّتِي فِي الْبَقَرَةِ أَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا وَنَزَلَتْ قَبْلَ نزول الفرائض والمواريث، فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ وَاوِ الْعَطْفِ، أَيْ وَكُتِبَ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أُسْقِطَتِ الْوَاوُ. وَمِثْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ: “لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى” الليل: 16 – 15 أَيْ وَالَّذِي، فَحُذِفَ . وَقِيلَ: لَمَّا ذُكِرَ أَنَّ لِوَلِيِ الدَّمِ أَنْ يَقْتَصَّ، فَهَذَا الَّذِي أَشْرَفَ عَلَى مَنْ يَقْتَصُّ مِنْهُ وَهُوَ سَبَبُ الْمَوْتِ فَكَأَنَّمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، أي حضرت أسبابُه وظهرت أماراتُه وآثارُه من العِلل والأمراض إذ لا اقتدار على الوصيّةِ عند حُضورِ الموت، ذاتِه، فَهَذَا أَوَانُ الْوَصِيَّةِ، فَالْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُتَّصِلَةٌ بِهَا فَلِذَلِكَ سَقَطَتْ واو العطف. و”كُتِبَ” مَعْنَاهُ فُرِضَ وَأُثْبِتَ، كَمَا تَقَدَّمَ . وَحُضُورُ الْمَوْتِ: أَسْبَابُهُ، وَمَتَى حَضَرَ السَّبَبُ كَنَّتْ بِهِ الْعَرَبُ عَنِ الْمُسَبِّبِ، قَالَ شَاعِرُهُمْ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ……… سَائِلٌ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ………. قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
وَإِنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا ……………. وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهُنْدُوَانِ
وَقَالَ جَرِيرٌ فِي مُهَاجَاةِ الْفَرَزْدَقِ:
أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ …………….. فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءُ
وقَالَ سبحانه: “كُتِبَ” وَلَمْ يَقُلْ كَتَبْتُ، وَالْوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَصِيَّةِ الْإِيصَاءَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ فَاصِلٌ، فَكَانَ الْفَاصِلُ كَالْعِوَضِ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ . تَقُولُ الْعَرَبُ: حَضَرَ الْقَاضِي الْيَوْمَ امْرَأَةٌ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ: قَامَ امْرَأَةٌ. وَلَكِنَّ حُسْنَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ طُولِ الْحَائِلِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} إِنْ: شَرْطٌ، وَتقدير جَوَابِهِ فَالْوَصِيَّةُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْفَاءُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْ يَفْعَلُ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ……. وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ
ثم إنَّ الْمَاضِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا . فَإِنْ قَدَّرْتَ الْفَاءَ فَالْوَصِيَّةُ رفعٌ بالابتداء، وإن لم تقدر الْفَاءَ جَازَ أَنْ تَرْفَعَهَا بِالِابْتِدَاءِ، وَأَنْ تَرْفَعَهَا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةُ . وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ أَنْ تَعْمَلَ “الْوَصِيَّةُ” فِي “إِذا” لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الصِّلَةِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْوَصِيَّةُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ فِيهَا مُتَقَدِّمَةً . وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي “إِذا” “كُتِبَ” وَالْمَعْنَى: تَوَجَّهَ إِيجَابُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ وَمُقْتَضَى كِتَابِهِ إِذَا حَضَرَ، فَعَبَّرَ عَنْ تَوَجُّهِ الْإِيجَابِ بِكُتِبَ لِيَنْتَظِمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْأَزَلِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي “إِذا” الْإِيصَاءُ يَكُونَ مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَى الْوَصِيَّةِ، الْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْإِيصَاءُ إِذا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: “خَيْراً” الْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ، فَقِيلَ: الْمَالُ الْكَثِيرُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهم ـ وَقَالُوا سَبْعِمِائَةِ دِينَارٍ إِنَّهُ قَلِيلٌ . وروى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ: الْخَيْرُ أَلْفُ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهَا. وقال الشَّعْبِيُّ مَا بَيْنَ خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى أَلْفٍ . وعن أمِّ المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها أنّ رجلاً أراد أنْ يُوصي فقالت: كمْ مالُك؟ قال: ثلاثةُ آلاف. قالت: كم عِيالُك؟ قال: أربعةٌ. قالت: إنّما قال اللهُ إنْ تَرَكَ خيراً وإنّ هذا الشيءَ يَسيرٌ فاتْركه لعيالك.
وَالْوَصِيَّةُ عِبَارَةٌ عن كل شي يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ وَيُعْهَدُ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ
الْمَوْتِ. وَخَصَّصَهَا الْعُرْفُ بِمَا يُعْهَدُ بِفِعْلِهِ وَتَنْفِيذِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَمْعُ وَصَايَا كَالْقَضَايَا جَمْعُ قَضِيَّةٍ. وَالْوَصِيُّ يَكُونُ الْمُوصِي وَالْمُوصَى إِلَيْهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ وَصَى مُخَفَّفًا. وَتَوَاصَى النَّبْتُ تَوَاصِيًا إِذَا اتَّصَلَ . وَأَرْضٌ وَاصِيَةٌ: مُتَّصِلَةُ النَّبَاتِ. وَأَوْصَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ إِذَا جَعَلْتَهُ وَصِيَّكُ. وَالِاسْمُ الْوِصَايَةُ وَالْوِصَايَةُ (بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ). وَأَوْصَيْتُهُ وَوَصَّيْتُهُ أَيْضًا تَوْصِيَةً بِمَعْنًى، وَالِاسْمُ الْوُصَاةُ. وَتَوَاصَى الْقَوْمُ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَفِي الْحَدِيثِ: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ)). أي أسيرات. وَوَصَّيْتُ الشَّيْءَ بِكَذَا إِذَا وَصَلْتَهُ بِهِ.
واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَنْ خَلَّفَ مَالًا، بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ قِبَلَهُ وَدَائِعُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ واجبةٍ على من ليس قِبَلُه شيءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، مُوسِرًا كَانَ الْمُوصِي أَوْ فَقِيرًا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الوصيّةُ واجبةٌ على ظاهر القرآن، قَلِيلًا كَانَ الْمَالُ أَوْ كَثِيرًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً إِلَّا عَلَى رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عِنْدَهُ مَالٌ لِقَوْمٍ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ وَيُخْبِرَ بِمَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَا وَدِيعَةَ عِنْدَهُ فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ.
وَهَذَا حَسَنٌ، لِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَمَنْ لَا حَقَّ عَلَيْهِ وَلَا أَمَانَةَ قِبَلَهُ فَلَيْسَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ)) وَفِي رِوَايَةٍ ((يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ)) وَفِيهَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي. واحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يَجْعَلْهَا إِلَى إِرَادَةِ الْمُوصِي، وَلَكَانَ ذَلِكَ لَازِمًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ أَنَّ ظَاهِرَهُ الْوُجُوبُ فَالْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ يَرُدُّهُ، وَذَلِكَ فِيمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ لِلنَّاسِ يَخَافُ ضَيَاعَهَا عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ لَهُ حُقُوقٌ عِنْدَ النَّاسِ يَخَافُ تَلَفَهَا عَلَى الْوَرَثَةِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ وَلَا يُخْتَلَفُ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “كُتِبَ عَلَيْكُمْ” وكُتب بمعنى فُرِضَ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ . فقد تقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَبْلُ، وَالْمَعْنَى: إِذَا أَرَدْتُمُ الْوَصِيَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُوصِ، وَقَدْ أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ، فَإِنْ أَوْصَى فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلَا شي عَلَيْهِ .
ولَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِقْدَارَ مَا يُوصَى بِهِ مِنَ الْمَالِ، وَإِنَّمَا قَالَ: “إِنْ تَرَكَ خَيْراً” وَالْخَيْرُ الْمَالُ، كقوله: “وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ” البقرة: 272، “وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لشديد” العاديات: 8 فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْصَى بِالْخُمُسِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُمُسِ . وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ. أَوْصَى عُمَرُ بِالرُّبُعِ. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلَأَنْ أُوصِي بالربع أحسن إلي من أُوصِيَ بِالثُّلُثِ). وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ لِمَنْ مَالُهُ قَلِيلٌ وَلَهُ وَرَثَةٌ تَرْكَ الْوَصِيَّةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
قوله سبحانه: {الوصيَّةُ للوالدين} أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَرِثَانِ وَالْأَقْرِبَاءِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ جَائِزَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، وَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِهَا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، وَنُسِخَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ كَانَ يَرِثُ بِآيَةِ الْفَرَائِضِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آيَةَ الْفَرَائِضِ لَمْ تَسْتَقِلَّ بِنَسْخِهَا بَلْ بِضَمِيمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)). رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ، وأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَنَسْخُ الْآيَةِ إِنَّمَا كَانَ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ لَا بِالْإِرْثِ ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِأَنْ يَأْخُذُوا الْمَالَ عَنِ الْمُوَرِّثِ بِالْوَصِيَّةِ، وَبِالْمِيرَاثِ إِنْ لَمْ يُوصِ، أَوْ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، لَكِنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ وَالْإِجْمَاعُ. وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ وَإِنْ كَانَا مَنَعَا مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلَّ حُكْمُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمِنْ عِنْدِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي الْأَسْمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. وَنَحْنُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ بَلَغَنَا آحَادًا لَكِنْ قَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ الْوَارِثِينَ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ وَأَنَّهَا مُسْتَنَدُ الْمُجْمِعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: نُسِخَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ بِالْفَرْضِ فِي سُورَةِ” النِّسَاءِ” وَثَبَتَتْ لِلْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيِّينَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ مَا أُحِبُّ، فَجُعِلَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجُعِلَ لِلْأَبَوَيْنِ لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشَّطْرُ وَالرُّبُعُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وابن زيد: الآية كلها مَنْسُوخَةٌ، وَبَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ نَدْبًا، وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَهُ النَّحَّاسُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: لَا وَصِيَّةَ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ: قُلْتُ لِلرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ أَوْصِ لِي بِمُصْحَفِكَ، فَنَظَرَ إِلَى وَلَدِهِ وَقَرَأَ “وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ” الأنفال: 75. وَنَحْوُ هَذَا صَنَعَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: “وَالْأَقْرَبِينَ” الْأَقْرَبُونَ جَمْعُ أَقْرَبَ. قَالَ قَوْمٌ: الْوَصِيَّةُ لِلْأَقْرَبِينَ أَوْلَى مِنَ الْأَجَانِبِ، لِنَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، حَتَّى قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنْ أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلَهُ بِمَعْصِيَةٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّهُ أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ لِكُلِ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ وَصَّتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا بِأَثَاثِ البيت. وروي عن سالم ابن عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَوْصَى لِغَيْرِ الْأَقْرَبِينَ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقْرَبِينَ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ فَمَعَهُمْ، وَلَا تَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ تَرْكِهِمْ. وَقَالَ النَّاسُ حِينَ مَاتَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَجَبًا لَهُ! أَعْتَقَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ رِيَاحٍ وَأَوْصَى بِمَالِهِ لِبَنِي هَاشِمٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَا كَرَامَةَ. وَقَالَ طَاوُسٌ: إِذَا أوص لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى قَرَابَتِهِ وَنُقِضَ فِعْلُهُ، وَقَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ وَتَرَكَ قَرَابَتَهُ مُحْتَاجِينَ فَبِئْسَمَا صَنَعَ! وَفِعْلُهُ مَعَ ذَلِكَ جَائِزٌ مَاضٍ لِكُلِّ مَنْ أَوْصَى لَهُ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ، مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ. وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَأَمَّا أَبُو الْعَالِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَعَلَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ أَوْلَى مِنْ مُعْتِقَتِهِ لِصُحْبَتِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ وَإِلْحَاقِهِ بِدَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى. وَهَذِهِ الْأُبُوَّةُ وَإِنْ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً فَهِيَ الْحَقِيقِيَّةُ، وَمُعْتِقَتُهُ غَايَتُهَا أَنْ أَلْحَقَتْهُ بِالْأَحْرَارِ فِي الدُّنْيَا، فَحَسْبُهَا ثَوَابُ عِتْقُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَشَذَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا: لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَالصَّحِيحِ، وَالْحَدِيثُ وَالْمَعْنَى يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. قَالَ سَعْدٌ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا بنت واحدة، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: ((لَا))، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: ((لَا، الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أنْ تَذَرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)) الْحَدِيثَ. وَمَنَعَ أَهْلُ الظَّاهِرِ أَيْضًا الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ وَإِنْ أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة إذا أجازا الْوَرَثَةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِ الْوَارِثِ، فَإِذَا أَسْقَطَ الْوَرَثَةُ حَقَّهُمْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا صَحِيحًا، وَكَانَ كَالْهِبَةِ مِنْ عِنْدِهِمْ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ)). وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ)).
وَاخْتَلَفُوا فِي رُجُوعِ الْمُجِيزِينَ لِلْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ لَهُمُ الرُّجُوعُ فِيهِ. وهَذَا قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهُمُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِنْ أَحَبُّوا. وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَكَمِ وَطَاوُسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَفَرَّقَ مَالِكٌ فَقَالَ: إِذَا أَذِنُوا فِي صِحَّتِهِ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، وَإِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي مَرَضِهِ حِينَ يُحْجَبُ عَنْ مَالِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الاولى بأن المنع إنما وَقَعَ مِنْ أَجْلِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَجَازُوهُ جَازَ. وَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرِ مِنْ ثُلُثِهِ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ بِإِجَازَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّهُمْ أَجَازُوا شَيْئًا لَمْ يَمْلِكُوهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ الْمَالُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ يَمُوتُ الْوَارِثُ الْمُسْتَأْذِنُ قَبْلَهُ وَلَا يَكُونُ وَارِثًا وَقَدْ يَرِثُهُ غَيْرُهُ، فَقَدْ أَجَازَ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فلا يلزمه شي. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، فَإِذَا أَذِنُوا لَهُ فِي صِحَّتِهِ فَقَدْ تَرَكُوا شَيْئًا لَمْ يَجِبْ لَهُمْ، وَإِذَا أَذِنُوا لَهُ فِي مَرَضِهِ فَقَدْ تَرَكُوا مَا وَجَبَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ إِذَا كَانَ قَدْ أَنْفَذَهُ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ. فَإِنْ لَمْ يُنْفِذِ الْمَرِيضُ ذَلِكَ كَانَ لِلْوَارِثِ الرُّجُوعُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ بِالتَّنْفِيذِ، قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشْبَهُ بِالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِ. وَاتَّفَقَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمْ إِذَا أَجَازُوا ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَزِمَهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِمَالٍ، وَيَقُولُ فِي وَصِيَّتِهِ: إِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهُ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمْ يُجِيزُوهُ. فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ رُجِعَ إِلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَعْمَرٍ صَاحِبِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ يَمْضِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ولَا خِلَافَ فِي وَصِيَّةِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الضَّعِيفَ فِي عَقْلِهِ وَالسَّفِيهَ وَالْمُصَابَ الَّذِي يُفِيقُ أحيانا تجوز وَصَايَاهُمْ إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ مَا يُوصُونَ بِهِ. وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ إِذَا كَانَ يَعْقِلُ مَا أَوْصَى بِهِ وَلَمْ يَأْتِ بِمُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْلِ فَوَصِيَّتُهُ جَائِزَةٌ مَاضِيَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ أَجِدْ لِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ذَكَرَهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَالثَّانِي كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَلَا عَتَاقُهُ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي جِنَايَةٍ وَلَا يُحَدُّ فِي قَذْفٍ، فَلَيْسَ كَالْبَالِغِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ وَصِيَّتُهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدِ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ وَصِيَّةَ الْبَالِغِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الصِّبْيَانِ مَا يُوصِي بِهِ فَحَالُهُ حَالُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَعِلَّةُ الْحَجْرِ تَبْذِيرُ الْمَالِ وَإِتْلَافُهُ، وَتِلْكَ عِلَّةٌ مُرْتَفِعَةٌ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ بِالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْمَجْنُونِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، فَوَجَبَ أَنْ تَجُوزَ وَصِيَّتُهُ مَعَ الْأَمْرِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُرَيْحٍ: مَنْ أَوْصَى مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ فَأَصَابَ الْحَقَّ فَاللَّهُ قَضَاهُ عَلَى لِسَانِهِ لَيْسَ لِلْحَقِّ مِدْفَعٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي بِالْعَدْلِ، لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ، وَكَانَ هذا موكولا إِلَى اجْتِهَادِ الْمَيِّتِ وَنَظَرِ الْمُوصِي، ثُمَّ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَقْدِيرَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ))، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي حَسَنَاتِكُمْ لِيَجْعَلَهَا لَكُمْ زَكَاةً)). أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ إِلَّا فِي الثُّلُثِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: “وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ” المائدة: 49 وَحُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ هُوَ الْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَمَنْ تَجَاوَزَ مَا حَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَقَدْ أَتَى مَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَكَانَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ عَاصِيًا إِذَا كَانَ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَوْلُهُ ((الثُّلُثُ كَثِيرٌ)) يُرِيدُ أَنَّهُ غَيْرُ قَلِيلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَقًّا} يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَحْصِينٍ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ مَنْ يَتَّقِي، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ إِلَّا فِيمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إِنْ مَاتَ، فَيَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ وَتَقْصِيرًا مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِ الْوَصِيَّةِ لَيْسَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَفَائِدَتُهَا: الْمُبَالَغَةُ فِي زِيَادَةِ الِاسْتِيثَاقِ وَكَوْنُهَا مَكْتُوبَةً مَشْهُودًا بِهَا وَهِيَ الْوَصِيَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، فَلَوْ أَشْهَدَ الْعُدُولَ وَقَامُوا بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ لَفْظًا لَعُمِلَ بِهَا وَإِنْ لَمْ تُكْتَبْ خَطًّا، فَلَوْ كَتَبَهَا بِيَدِهِ وَلَمْ يُشْهِدْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِهَا إِلَّا فِيمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ إِقْرَارٍ بِحَقٍّ لِمَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ تَنْفِيذُهُ.
رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي صُدُورِ وَصَايَاهُمْ ((هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ وَأَنْ يُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنَهُمْ، وَيُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَوْصَاهُمْ بِمَا وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويعقوب: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)).
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} كُتِبَ: مبنيٌّ للمفعول وحُذِفَ الفاعلُ للعلم به – وهو اللهُ تعالى – وللاختصار. وفي القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ “الوصيةُ” أي: كُتِب عليكم الوصيةُ، وجاز تذكيرُ الفعلِ لوجهين، أحدُهُما: كونُ القائمِ مقامَ الفاعلِ مؤنثاً مجازياً، والثاني: الفصلُ بينه وبين مرفوعه. والثاني: أنه الإِيصاءُ المدلولُ عليه بقوله: “الوصية لِلْوَالِدَيْنِ” أي: كُتِب هو أي: الإِيصاء. والثالث: أنه الجارُّ والمجرورُ، وهذا يتَّجِهُ على رَأي الأخفشِ والكوفيين. و”عليكم” في محلِّ رفعٍ على هذا القولِ، وفي محلِّ نصبٍ على القولين الأوَّلين .
قوله: {إِذَا حَضَرَ} العاملُ في “إذا” هو”كُتِب” على أنها ظرفٌ محضٌ، وليس متضمناً للشرطِ، كأنه قيل: كُتِب عليكم الوصيةُ وَقْتَ حضورِ الموتِ ، ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيه لفظَ “الوصيّة” لأنها مصدرٌ، ومعمولُ المصدرِ لا يتقدَّم عليه.
قوله: “الوصيةُ” فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أولها: أن يكونَ مبتدأً وخبرُه “للوالدَيْن“. وثانيها: أنه مفعولُ “كُتِب” وقد تقدَّم. وثالثها: أنّه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي: فعليه الوصيةُ.
قوله: {حقاً} في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ
محذوفٍ، وذلك المصدرُ المحذوفُ: إمَّا مصدرُ “كُتِب” أو مصدرُ “أَوْصى” أي كَتْباً أو إيصاءً حقاً. الثاني: أنّه حالٌ من المصدَرِ المُعَرَّفِ المحذوف: إِمَّا مصدرُ “كُتِب” أو”أَوْصَى” كما تقدَّم. الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مؤكِّد لمضمونِ الجملة، فيكونُ عاملُه محذوفاً، أي: حَقَّ ذلك حقاً، وهذا تَأْباه القواعدُ النحوية ، لأنَّ ظاهرَ قولِه: “على المتقين” أن يتعلَّق بـ “حقاً” أو يكونَ في موضعِ الصفة له، وكِلا التقديرين لا يجوزُ. أمَّا الأولُ فلأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وأمَّا الثاني فلأن الوصفَ يُخْرِجُه عن التأكيد.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذا حَضَرَ أَحَدكَم الموتُ} هَذِهِ آيَةُ الْوَصِيَّةِ، لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لِلْوَصِيَّةِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي “النِّسَاءِ” {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} النساء: 12، وفي المائدة: “حِينَ الْوَصِيَّةِ”. المائدة: 106. وَالَّتِي فِي الْبَقَرَةِ أَتَمَّهَا وَأَكْمَلَهَا وَنَزَلَتْ قَبْلَ نزول الفرائض والمواريث، فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرُ وَاوِ الْعَطْفِ، أَيْ وَكُتِبَ عَلَيْكُمْ، فَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أُسْقِطَتِ الْوَاوُ. وَمِثْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَقْوَالِ: “لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى” الليل: 16 – 15 أَيْ وَالَّذِي، فَحُذِفَ . وَقِيلَ: لَمَّا ذُكِرَ أَنَّ لِوَلِيِ الدَّمِ أَنْ يَقْتَصَّ، فَهَذَا الَّذِي أَشْرَفَ عَلَى مَنْ يَقْتَصُّ مِنْهُ وَهُوَ سَبَبُ الْمَوْتِ فَكَأَنَّمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، أي حضرت أسبابُه وظهرت أماراتُه وآثارُه من العِلل والأمراض إذ لا اقتدار على الوصيّةِ عند حُضورِ الموت، ذاتِه، فَهَذَا أَوَانُ الْوَصِيَّةِ، فَالْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُتَّصِلَةٌ بِهَا فَلِذَلِكَ سَقَطَتْ واو العطف. و”كُتِبَ” مَعْنَاهُ فُرِضَ وَأُثْبِتَ، كَمَا تَقَدَّمَ . وَحُضُورُ الْمَوْتِ: أَسْبَابُهُ، وَمَتَى حَضَرَ السَّبَبُ كَنَّتْ بِهِ الْعَرَبُ عَنِ الْمُسَبِّبِ، قَالَ شَاعِرُهُمْ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ……… سَائِلٌ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ………. قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
وَإِنَّ الْمَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا مَا ……………. وَصَلْتُ بَنَانَهَا بِالْهُنْدُوَانِ
وَقَالَ جَرِيرٌ فِي مُهَاجَاةِ الْفَرَزْدَقِ:
أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ …………….. فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءُ
وقَالَ سبحانه: “كُتِبَ” وَلَمْ يَقُلْ كَتَبْتُ، وَالْوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَصِيَّةِ الْإِيصَاءَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ فَاصِلٌ، فَكَانَ الْفَاصِلُ كَالْعِوَضِ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ . تَقُولُ الْعَرَبُ: حَضَرَ الْقَاضِي الْيَوْمَ امْرَأَةٌ. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ: قَامَ امْرَأَةٌ. وَلَكِنَّ حُسْنَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ طُولِ الْحَائِلِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} إِنْ: شَرْطٌ، وَتقدير جَوَابِهِ فَالْوَصِيَّةُ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْفَاءُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْ يَفْعَلُ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ……. وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَانِ
ثم إنَّ الْمَاضِيَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا . فَإِنْ قَدَّرْتَ الْفَاءَ فَالْوَصِيَّةُ رفعٌ بالابتداء، وإن لم تقدر الْفَاءَ جَازَ أَنْ تَرْفَعَهَا بِالِابْتِدَاءِ، وَأَنْ تَرْفَعَهَا عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْوَصِيَّةُ . وَلَا يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ أَنْ تَعْمَلَ “الْوَصِيَّةُ” فِي “إِذا” لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الصِّلَةِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْوَصِيَّةُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ فِيهَا مُتَقَدِّمَةً . وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي “إِذا” “كُتِبَ” وَالْمَعْنَى: تَوَجَّهَ إِيجَابُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ وَمُقْتَضَى كِتَابِهِ إِذَا حَضَرَ، فَعَبَّرَ عَنْ تَوَجُّهِ الْإِيجَابِ بِكُتِبَ لِيَنْتَظِمَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْأَزَلِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي “إِذا” الْإِيصَاءُ يَكُونَ مُقَدَّرًا دَلَّ عَلَى الْوَصِيَّةِ، الْمَعْنَى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْإِيصَاءُ إِذا .
قَوْلُهُ تَعَالَى: “خَيْراً” الْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ، فَقِيلَ: الْمَالُ الْكَثِيرُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهم ـ وَقَالُوا سَبْعِمِائَةِ دِينَارٍ إِنَّهُ قَلِيلٌ . وروى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ: الْخَيْرُ أَلْفُ دِينَارٍ فَمَا فَوْقَهَا. وقال الشَّعْبِيُّ مَا بَيْنَ خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى أَلْفٍ . وعن أمِّ المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها أنّ رجلاً أراد أنْ يُوصي فقالت: كمْ مالُك؟ قال: ثلاثةُ آلاف. قالت: كم عِيالُك؟ قال: أربعةٌ. قالت: إنّما قال اللهُ إنْ تَرَكَ خيراً وإنّ هذا الشيءَ يَسيرٌ فاتْركه لعيالك.
وَالْوَصِيَّةُ عِبَارَةٌ عن كل شي يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ وَيُعْهَدُ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ
الْمَوْتِ. وَخَصَّصَهَا الْعُرْفُ بِمَا يُعْهَدُ بِفِعْلِهِ وَتَنْفِيذِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْجَمْعُ وَصَايَا كَالْقَضَايَا جَمْعُ قَضِيَّةٍ. وَالْوَصِيُّ يَكُونُ الْمُوصِي وَالْمُوصَى إِلَيْهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ وَصَى مُخَفَّفًا. وَتَوَاصَى النَّبْتُ تَوَاصِيًا إِذَا اتَّصَلَ . وَأَرْضٌ وَاصِيَةٌ: مُتَّصِلَةُ النَّبَاتِ. وَأَوْصَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ وَأَوْصَيْتُ إِلَيْهِ إِذَا جَعَلْتَهُ وَصِيَّكُ. وَالِاسْمُ الْوِصَايَةُ وَالْوِصَايَةُ (بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ). وَأَوْصَيْتُهُ وَوَصَّيْتُهُ أَيْضًا تَوْصِيَةً بِمَعْنًى، وَالِاسْمُ الْوُصَاةُ. وَتَوَاصَى الْقَوْمُ أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَفِي الْحَدِيثِ: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ)). أي أسيرات. وَوَصَّيْتُ الشَّيْءَ بِكَذَا إِذَا وَصَلْتَهُ بِهِ.
واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَنْ خَلَّفَ مَالًا، بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ قِبَلَهُ وَدَائِعُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ واجبةٍ على من ليس قِبَلُه شيءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، مُوسِرًا كَانَ الْمُوصِي أَوْ فَقِيرًا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الوصيّةُ واجبةٌ على ظاهر القرآن، قَلِيلًا كَانَ الْمَالُ أَوْ كَثِيرًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَتِ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً إِلَّا عَلَى رَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عِنْدَهُ مَالٌ لِقَوْمٍ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ وَيُخْبِرَ بِمَا عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَا وَدِيعَةَ عِنْدَهُ فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ.
وَهَذَا حَسَنٌ، لِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَمَنْ لَا حَقَّ عَلَيْهِ وَلَا أَمَانَةَ قِبَلَهُ فَلَيْسَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ)) وَفِي رِوَايَةٍ ((يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ)) وَفِيهَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي. واحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا بِأَنْ قَالَ: لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يَجْعَلْهَا إِلَى إِرَادَةِ الْمُوصِي، وَلَكَانَ ذَلِكَ لَازِمًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ أَنَّ ظَاهِرَهُ الْوُجُوبُ فَالْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ يَرُدُّهُ، وَذَلِكَ فِيمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ لِلنَّاسِ يَخَافُ ضَيَاعَهَا عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ لَهُ حُقُوقٌ عِنْدَ النَّاسِ يَخَافُ تَلَفَهَا عَلَى الْوَرَثَةِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ وَلَا يُخْتَلَفُ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “كُتِبَ عَلَيْكُمْ” وكُتب بمعنى فُرِضَ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ . فقد تقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَبْلُ، وَالْمَعْنَى: إِذَا أَرَدْتُمُ الْوَصِيَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَالَ النَّخَعِيُّ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُوصِ، وَقَدْ أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ، فَإِنْ أَوْصَى فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلَا شي عَلَيْهِ .
ولَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِقْدَارَ مَا يُوصَى بِهِ مِنَ الْمَالِ، وَإِنَّمَا قَالَ: “إِنْ تَرَكَ خَيْراً” وَالْخَيْرُ الْمَالُ، كقوله: “وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ” البقرة: 272، “وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لشديد” العاديات: 8 فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْصَى بِالْخُمُسِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُمُسِ . وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ. أَوْصَى عُمَرُ بِالرُّبُعِ. وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلَأَنْ أُوصِي بالربع أحسن إلي من أُوصِيَ بِالثُّلُثِ). وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ لِمَنْ مَالُهُ قَلِيلٌ وَلَهُ وَرَثَةٌ تَرْكَ الْوَصِيَّةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
قوله سبحانه: {الوصيَّةُ للوالدين} أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَرِثَانِ وَالْأَقْرِبَاءِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ جَائِزَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، وَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِهَا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، وَنُسِخَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ كَانَ يَرِثُ بِآيَةِ الْفَرَائِضِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آيَةَ الْفَرَائِضِ لَمْ تَسْتَقِلَّ بِنَسْخِهَا بَلْ بِضَمِيمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)). رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ، وأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَنَسْخُ الْآيَةِ إِنَّمَا كَانَ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ لَا بِالْإِرْثِ ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ لَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِأَنْ يَأْخُذُوا الْمَالَ عَنِ الْمُوَرِّثِ بِالْوَصِيَّةِ، وَبِالْمِيرَاثِ إِنْ لَمْ يُوصِ، أَوْ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، لَكِنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ وَالْإِجْمَاعُ. وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ وَإِنْ كَانَا مَنَعَا مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلَّ حُكْمُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمِنْ عِنْدِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي الْأَسْمَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى. وَنَحْنُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ بَلَغَنَا آحَادًا لَكِنْ قَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ. فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقْرَبِينَ الْوَارِثِينَ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ وَأَنَّهَا مُسْتَنَدُ الْمُجْمِعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: نُسِخَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ بِالْفَرْضِ فِي سُورَةِ” النِّسَاءِ” وَثَبَتَتْ لِلْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيِّينَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ مَا أُحِبُّ، فَجُعِلَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجُعِلَ لِلْأَبَوَيْنِ لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشَّطْرُ وَالرُّبُعُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وابن زيد: الآية كلها مَنْسُوخَةٌ، وَبَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ نَدْبًا، وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَهُ النَّحَّاسُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: لَا وَصِيَّةَ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ: قُلْتُ لِلرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ أَوْصِ لِي بِمُصْحَفِكَ، فَنَظَرَ إِلَى وَلَدِهِ وَقَرَأَ “وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ” الأنفال: 75. وَنَحْوُ هَذَا صَنَعَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: “وَالْأَقْرَبِينَ” الْأَقْرَبُونَ جَمْعُ أَقْرَبَ. قَالَ قَوْمٌ: الْوَصِيَّةُ لِلْأَقْرَبِينَ أَوْلَى مِنَ الْأَجَانِبِ، لِنَصِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، حَتَّى قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنْ أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلَهُ بِمَعْصِيَةٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّهُ أَوْصَى لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ لِكُلِ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ وَصَّتْ لِمَوْلَاةٍ لَهَا بِأَثَاثِ البيت. وروي عن سالم ابن عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَوْصَى لِغَيْرِ الْأَقْرَبِينَ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقْرَبِينَ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ فَمَعَهُمْ، وَلَا تَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ تَرْكِهِمْ. وَقَالَ النَّاسُ حِينَ مَاتَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَجَبًا لَهُ! أَعْتَقَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ رِيَاحٍ وَأَوْصَى بِمَالِهِ لِبَنِي هَاشِمٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَا كَرَامَةَ. وَقَالَ طَاوُسٌ: إِذَا أوص لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ رُدَّتِ الْوَصِيَّةُ إِلَى قَرَابَتِهِ وَنُقِضَ فِعْلُهُ، وَقَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ أَوْصَى لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ وَتَرَكَ قَرَابَتَهُ مُحْتَاجِينَ فَبِئْسَمَا صَنَعَ! وَفِعْلُهُ مَعَ ذَلِكَ جَائِزٌ مَاضٍ لِكُلِّ مَنْ أَوْصَى لَهُ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ، مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ. وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَأَمَّا أَبُو الْعَالِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَعَلَّهُ نَظَرَ إِلَى أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ أَوْلَى مِنْ مُعْتِقَتِهِ لِصُحْبَتِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ وَتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ وَإِلْحَاقِهِ بِدَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى. وَهَذِهِ الْأُبُوَّةُ وَإِنْ كَانَتْ مَعْنَوِيَّةً فَهِيَ الْحَقِيقِيَّةُ، وَمُعْتِقَتُهُ غَايَتُهَا أَنْ أَلْحَقَتْهُ بِالْأَحْرَارِ فِي الدُّنْيَا، فَحَسْبُهَا ثَوَابُ عِتْقُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَشَذَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا: لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَالصَّحِيحِ، وَالْحَدِيثُ وَالْمَعْنَى يَرُدُّ عَلَيْهِمْ. قَالَ سَعْدٌ: عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا بنت واحدة، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: ((لَا))، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: ((لَا، الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أنْ تَذَرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)) الْحَدِيثَ. وَمَنَعَ أَهْلُ الظَّاهِرِ أَيْضًا الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ وَإِنْ أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة إذا أجازا الْوَرَثَةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ إِنَّمَا مُنِعَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِ الْوَارِثِ، فَإِذَا أَسْقَطَ الْوَرَثَةُ حَقَّهُمْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا صَحِيحًا، وَكَانَ كَالْهِبَةِ مِنْ عِنْدِهِمْ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ)). وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ)).
وَاخْتَلَفُوا فِي رُجُوعِ الْمُجِيزِينَ لِلْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ لَهُمُ الرُّجُوعُ فِيهِ. وهَذَا قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهُمُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِنْ أَحَبُّوا. وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَكَمِ وَطَاوُسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَفَرَّقَ مَالِكٌ فَقَالَ: إِذَا أَذِنُوا فِي صِحَّتِهِ فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، وَإِنْ أَذِنُوا لَهُ فِي مَرَضِهِ حِينَ يُحْجَبُ عَنْ مَالِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الاولى بأن المنع إنما وَقَعَ مِنْ أَجْلِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَجَازُوهُ جَازَ. وَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرِ مِنْ ثُلُثِهِ لِأَجْنَبِيٍّ جَازَ بِإِجَازَتِهِمْ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّهُمْ أَجَازُوا شَيْئًا لَمْ يَمْلِكُوهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ الْمَالُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ يَمُوتُ الْوَارِثُ الْمُسْتَأْذِنُ قَبْلَهُ وَلَا يَكُونُ وَارِثًا وَقَدْ يَرِثُهُ غَيْرُهُ، فَقَدْ أَجَازَ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فلا يلزمه شي. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، فَإِذَا أَذِنُوا لَهُ فِي صِحَّتِهِ فَقَدْ تَرَكُوا شَيْئًا لَمْ يَجِبْ لَهُمْ، وَإِذَا أَذِنُوا لَهُ فِي مَرَضِهِ فَقَدْ تَرَكُوا مَا وَجَبَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ، فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِيهِ إِذَا كَانَ قَدْ أَنْفَذَهُ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ. فَإِنْ لَمْ يُنْفِذِ الْمَرِيضُ ذَلِكَ كَانَ لِلْوَارِثِ الرُّجُوعُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ بِالتَّنْفِيذِ، قَالَهُ الْأَبْهَرِيُّ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشْبَهُ بِالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِ. وَاتَّفَقَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمْ إِذَا أَجَازُوا ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَزِمَهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ بِمَالٍ، وَيَقُولُ فِي وَصِيَّتِهِ: إِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهُ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَمْ يُجِيزُوهُ. فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ رُجِعَ إِلَيْهِمْ. وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَعْمَرٍ صَاحِبِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ يَمْضِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ولَا خِلَافَ فِي وَصِيَّةِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ الضَّعِيفَ فِي عَقْلِهِ وَالسَّفِيهَ وَالْمُصَابَ الَّذِي يُفِيقُ أحيانا تجوز وَصَايَاهُمْ إِذَا كَانَ مَعَهُمْ مِنْ عُقُولِهِمْ مَا يَعْرِفُونَ مَا يُوصُونَ بِهِ. وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ إِذَا كَانَ يَعْقِلُ مَا أَوْصَى بِهِ وَلَمْ يَأْتِ بِمُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْلِ فَوَصِيَّتُهُ جَائِزَةٌ مَاضِيَةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ أَجِدْ لِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا ذَكَرَهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَالثَّانِي كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَحُجَّتُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَلَا عَتَاقُهُ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي جِنَايَةٍ وَلَا يُحَدُّ فِي قَذْفٍ، فَلَيْسَ كَالْبَالِغِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ وَصِيَّتُهُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدِ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ وَصِيَّةَ الْبَالِغِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَعْقِلُ مِنَ الصِّبْيَانِ مَا يُوصِي بِهِ فَحَالُهُ حَالُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَعِلَّةُ الْحَجْرِ تَبْذِيرُ الْمَالِ وَإِتْلَافُهُ، وَتِلْكَ عِلَّةٌ مُرْتَفِعَةٌ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ بِالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْمَجْنُونِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، فَوَجَبَ أَنْ تَجُوزَ وَصِيَّتُهُ مَعَ الْأَمْرِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ الْأَمْرُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُرَيْحٍ: مَنْ أَوْصَى مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ فَأَصَابَ الْحَقَّ فَاللَّهُ قَضَاهُ عَلَى لِسَانِهِ لَيْسَ لِلْحَقِّ مِدْفَعٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي بِالْعَدْلِ، لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ، وَكَانَ هذا موكولا إِلَى اجْتِهَادِ الْمَيِّتِ وَنَظَرِ الْمُوصِي، ثُمَّ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَقْدِيرَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ))، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي حَسَنَاتِكُمْ لِيَجْعَلَهَا لَكُمْ زَكَاةً)). أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ إِلَّا فِي الثُّلُثِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: “وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ” المائدة: 49 وَحُكْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ هُوَ الْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ. فَمَنْ تَجَاوَزَ مَا حَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَقَدْ أَتَى مَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَكَانَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ عَاصِيًا إِذَا كَانَ بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَوْلُهُ ((الثُّلُثُ كَثِيرٌ)) يُرِيدُ أَنَّهُ غَيْرُ قَلِيلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَقًّا} يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَحْصِينٍ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ مَنْ يَتَّقِي، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ إِلَّا فِيمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إِنْ مَاتَ، فَيَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ، لِأَنَّهُ إِنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ وَتَقْصِيرًا مِنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِ الْوَصِيَّةِ لَيْسَتْ مَأْخُوذَةً مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَفَائِدَتُهَا: الْمُبَالَغَةُ فِي زِيَادَةِ الِاسْتِيثَاقِ وَكَوْنُهَا مَكْتُوبَةً مَشْهُودًا بِهَا وَهِيَ الْوَصِيَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، فَلَوْ أَشْهَدَ الْعُدُولَ وَقَامُوا بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ لَفْظًا لَعُمِلَ بِهَا وَإِنْ لَمْ تُكْتَبْ خَطًّا، فَلَوْ كَتَبَهَا بِيَدِهِ وَلَمْ يُشْهِدْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِهَا إِلَّا فِيمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ إِقْرَارٍ بِحَقٍّ لِمَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ تَنْفِيذُهُ.
رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي صُدُورِ وَصَايَاهُمْ ((هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ وَأَنْ يُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنَهُمْ، وَيُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَوْصَاهُمْ بِمَا وَصَّى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويعقوب: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)).
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} كُتِبَ: مبنيٌّ للمفعول وحُذِفَ الفاعلُ للعلم به – وهو اللهُ تعالى – وللاختصار. وفي القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ “الوصيةُ” أي: كُتِب عليكم الوصيةُ، وجاز تذكيرُ الفعلِ لوجهين، أحدُهُما: كونُ القائمِ مقامَ الفاعلِ مؤنثاً مجازياً، والثاني: الفصلُ بينه وبين مرفوعه. والثاني: أنه الإِيصاءُ المدلولُ عليه بقوله: “الوصية لِلْوَالِدَيْنِ” أي: كُتِب هو أي: الإِيصاء. والثالث: أنه الجارُّ والمجرورُ، وهذا يتَّجِهُ على رَأي الأخفشِ والكوفيين. و”عليكم” في محلِّ رفعٍ على هذا القولِ، وفي محلِّ نصبٍ على القولين الأوَّلين .
قوله: {إِذَا حَضَرَ} العاملُ في “إذا” هو”كُتِب” على أنها ظرفٌ محضٌ، وليس متضمناً للشرطِ، كأنه قيل: كُتِب عليكم الوصيةُ وَقْتَ حضورِ الموتِ ، ولا يجوزُ أن يكونَ العاملُ فيه لفظَ “الوصيّة” لأنها مصدرٌ، ومعمولُ المصدرِ لا يتقدَّم عليه.
قوله: “الوصيةُ” فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أولها: أن يكونَ مبتدأً وخبرُه “للوالدَيْن“. وثانيها: أنه مفعولُ “كُتِب” وقد تقدَّم. وثالثها: أنّه مبتدأ خبرُه محذوفٌ أي: فعليه الوصيةُ.
قوله: {حقاً} في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ أحدُها: أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ
محذوفٍ، وذلك المصدرُ المحذوفُ: إمَّا مصدرُ “كُتِب” أو مصدرُ “أَوْصى” أي كَتْباً أو إيصاءً حقاً. الثاني: أنّه حالٌ من المصدَرِ المُعَرَّفِ المحذوف: إِمَّا مصدرُ “كُتِب” أو”أَوْصَى” كما تقدَّم. الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مؤكِّد لمضمونِ الجملة، فيكونُ عاملُه محذوفاً، أي: حَقَّ ذلك حقاً، وهذا تَأْباه القواعدُ النحوية ، لأنَّ ظاهرَ قولِه: “على المتقين” أن يتعلَّق بـ “حقاً” أو يكونَ في موضعِ الصفة له، وكِلا التقديرين لا يجوزُ. أمَّا الأولُ فلأنَّ المصدرَ المؤكِّد لا يعملُ، وأمَّا الثاني فلأن الوصفَ يُخْرِجُه عن التأكيد.
مواضيع مماثلة
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :143
» الدر النظيم .. ( الآية : 37 من سورة البقرة )
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 52
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :133
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية: 187
» الدر النظيم .. ( الآية : 37 من سورة البقرة )
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 52
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :133
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية: 187
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود