الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية: 195
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية: 195
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
أمر بالإنفاق في سبيل الله وعدم إمساك اليد عن البذل؛ فمن أمسك يده وادَّخر شيئاً لنفسه فقد ألقى بيده إلى التهلكة.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: غَزَوْنَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهٍ مَهْ! لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ ـ رضي الله عنه: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ، قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الْآيَةَ. وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَقَبَرَهُ هُنَاكَ. فَأَخْبَرَنَا أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ الْإِلْقَاءَ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَجُمْهُورُ النَّاسِ: الْمَعْنَى لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ بِأَنْ تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَخَافُوا الْعَيْلَةَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: لَيْسَ عِنْدِي مَا أُنْفِقُهُ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ إِذْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ.
وقيل للبراء ابن عَازِبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَهُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْكَتِيبَةِ؟ فَقَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصِيبُ الذَّنْبَ فَيُلْقِي بِيَدَيْهِ وَيَقُولُ: قَدْ بَالَغْتُ فِي الْمَعَاصِي وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّوْبَةِ، فَيَيْأَسُ مِنَ اللَّهِ فَيَنْهَمِكُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَعَاصِي. فَالْهَلَاكُ: الْيَأْسُ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اقْتِحَامِ الرَّجُلِ فِي الْحَرْبِ وَحَمْلَهُ عَلَى العدو وحده، فقال بعضهم: لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلَ وَحْدَهُ عَلَى الْجَيْشِ الْعَظِيمِ إِذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ، وَكَانَ لِلَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ فَذَلِكَ مِنَ التَّهْلُكَةِ. فإِنْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ سَيَقْتُلُ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ وَيَنْجُو فَحَسَنٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يُؤْثِرُ أَثَرًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَجَائِزٌ أَيْضًا. فقد جاء في كتب التاريخ أنّه لَمَّا لَقِيَ المسلمون الْفُرْسَ نَفَرَتْ خيلُ المسلمين من الْفِيَلَةِ، فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَصَنَعَ فِيلًا مِنْ طِينٍ وَأَنَّسَ بِهِ فَرَسَهُ حَتَّى أَلِفَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ لَمْ يَنْفُرْ فَرَسُهُ مِنَ الْفِيلِ فَحَمَلَ عَلَى الْفِيلِ الَّذِي كَانَ يَقْدُمُهَا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ قَاتِلُكَ. فَقَالَ: لَا ضَيْرَ أَنْ أُقْتَلَ وَيُفْتَحَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ لَمَّا تَحَصَّنَتْ بَنُو حَنِيفَةَ بِالْحَدِيقَةِ، قَالَ البراء بن مالك أخو أنس بن مالك رضي الله عنهما: ضَعُونِي فِي الْحَجَفَةِ ـ درع تصنع من الجلود ـ وَأَلْقُونِي إِلَيْهِمْ، فَفَعَلُوا وَقَاتَلَهُمْ وَحْدَهُ وَفَتَحَ الْبَابَ. وَمِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا؟ قَالَ: ((فَلَكَ الْجَنَّةُ)). فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ: ((مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ)) أَوْ ((هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ)) فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ: ((مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ)) أَوْ ((هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ)). فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا)). هَكَذَا الرِّوَايَةُ ((أَنْصَفْنَا)) بِسُكُونِ الْفَاءِ ((أَصْحَابَنَا)) بِفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ لَمْ نَدُلْهُمْ لِلْقِتَالِ حَتَّى قُتِلُوا. وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَرَفْعِ الْبَاءِ، وَوَجْهُهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ لِمَنْ فَرَّ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَوْ حَمَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ وَحْدُهُ، لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ إِذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتَّلَفِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ للمسلمين. فإن كان قصده تجريه الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَصْنَعُوا مِثْلَ صَنِيعِهِ فَلَا يَبْعُدُ جَوَازُهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ إِرْهَابَ الْعَدُوِّ وَلِيُعْلِمَ صَلَابَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ فَلَا يَبْعُدُ جَوَازُهُ. وَإِذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَلِفَتْ نَفْسُهُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَتَوْهِينِ الْكُفْرِ فَهُوَ الْمَقَامُ الشَّرِيفُ الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ" التوبة: 111 الْآيَةَ، إِلَى غَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْمَدْحِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ بِهَا مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَحْسِنُوا" أَيْ فِي الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَةِ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللَّهِ فِي إِخْلَافِهِ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: أَحْسِنُوا فِي أَعْمَالِكُمْ بِامْتِثَالِ الطَّاعَاتِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصحابة.
قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} في هذه الباء ثلاثة أوجه أحدُها: أنها زائدةٌ في المفعول به لأن "ألقى" يتعدَّى بنفسه، قال تعالى: {فألقى موسى عَصَاهُ} الشعراء: 45 ، وقال الشاعر:
حتى إذا أَلْقَتْ يداً في كافِرِ .............. وأَجَنَّ عَوْراتِ الثغورِ ظلامُها
فزيدت الباءُ في المفعولِ كما زيدت في قوله:
وأَلْقى بكفَّيْهِ الفتى استكانَةً .......... من الجوع وَهْناً ما يَمُرُّ وما يَحْلُو
والمعنى: ولا تَقْبِضُوا التهلكة أيديكم، أي: لا تَجْعلوها آخذةً بأيديكم مالكةً لكم إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادةَ الباءِ في المفعولِ لا تَنْقاسُ، إنما جاءتْ في الضرورة كقوله:
..... . . . . . . . . . . . . . . . ... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
الثاني: أنها متعلقةٌ بالفعلِ غيرُ زائدةٍ، والمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: ولا تُلْقوا أنفسكم بأيديكم، ويكون معناها السبب كقولِك: لا تُفْسِدْ حالَك برأيك.
الثالث: أنّها ليست بزائدةٍ بل هي متعلقةٌ بالفعلِ كمَرَرْتُ بزيدٍ،
فيُضمَّن "ألقى" معنى ما يتعدَّى بالباء، ويُعدَّى تعديته، فيكونُ المفعول به في الحقيقة هو المجرورَ بالباء تقديره: ولا تُفْضوا بأيديكم إلى التهلكة، كقولك: أَفْضَيْتُ بجَنْبي إلى الأرضِ أي: طَرَحْتُه على الأرض، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس، لأنَّ بها البطشَ والحركةَ.
و"التَّهْلُكَةُ": مصدرٌ بمعنى الهَلاكِ، يُقال: هَلَكَ يَهْلَكُ هُلْكاً وهَلاكاً وهَلْكاءَ على وزنِ فَعْلاء ومَهْلكاً ومَهْلكة مثلثَ العين وتَهْلُكَة.
وقرأ الخليل التَّهْلِكة بكسر اللام وهي تَفْعِلة من هَلَّك بتشديد اللام.
أمر بالإنفاق في سبيل الله وعدم إمساك اليد عن البذل؛ فمن أمسك يده وادَّخر شيئاً لنفسه فقد ألقى بيده إلى التهلكة.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: غَزَوْنَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ، وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَقَالَ النَّاسُ: مَهٍ مَهْ! لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ! فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ ـ رضي الله عنه: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ، قُلْنَا: هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الْآيَةَ. وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَقَبَرَهُ هُنَاكَ. فَأَخْبَرَنَا أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ الْإِلْقَاءَ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَجُمْهُورُ النَّاسِ: الْمَعْنَى لَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ بِأَنْ تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَتَخَافُوا الْعَيْلَةَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: لَيْسَ عِنْدِي مَا أُنْفِقُهُ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ إِذْ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ.
وقيل للبراء ابن عَازِبٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَهُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْكَتِيبَةِ؟ فَقَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصِيبُ الذَّنْبَ فَيُلْقِي بِيَدَيْهِ وَيَقُولُ: قَدْ بَالَغْتُ فِي الْمَعَاصِي وَلَا فَائِدَةَ فِي التَّوْبَةِ، فَيَيْأَسُ مِنَ اللَّهِ فَيَنْهَمِكُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَعَاصِي. فَالْهَلَاكُ: الْيَأْسُ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اقْتِحَامِ الرَّجُلِ فِي الْحَرْبِ وَحَمْلَهُ عَلَى العدو وحده، فقال بعضهم: لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلَ وَحْدَهُ عَلَى الْجَيْشِ الْعَظِيمِ إِذَا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ، وَكَانَ لِلَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ فَذَلِكَ مِنَ التَّهْلُكَةِ. فإِنْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ سَيَقْتُلُ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ وَيَنْجُو فَحَسَنٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يُؤْثِرُ أَثَرًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَجَائِزٌ أَيْضًا. فقد جاء في كتب التاريخ أنّه لَمَّا لَقِيَ المسلمون الْفُرْسَ نَفَرَتْ خيلُ المسلمين من الْفِيَلَةِ، فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَصَنَعَ فِيلًا مِنْ طِينٍ وَأَنَّسَ بِهِ فَرَسَهُ حَتَّى أَلِفَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ لَمْ يَنْفُرْ فَرَسُهُ مِنَ الْفِيلِ فَحَمَلَ عَلَى الْفِيلِ الَّذِي كَانَ يَقْدُمُهَا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ قَاتِلُكَ. فَقَالَ: لَا ضَيْرَ أَنْ أُقْتَلَ وَيُفْتَحَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ لَمَّا تَحَصَّنَتْ بَنُو حَنِيفَةَ بِالْحَدِيقَةِ، قَالَ البراء بن مالك أخو أنس بن مالك رضي الله عنهما: ضَعُونِي فِي الْحَجَفَةِ ـ درع تصنع من الجلود ـ وَأَلْقُونِي إِلَيْهِمْ، فَفَعَلُوا وَقَاتَلَهُمْ وَحْدَهُ وَفَتَحَ الْبَابَ. وَمِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا؟ قَالَ: ((فَلَكَ الْجَنَّةُ)). فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ: ((مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ)) أَوْ ((هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ)) فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ: ((مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ)) أَوْ ((هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ)). فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا)). هَكَذَا الرِّوَايَةُ ((أَنْصَفْنَا)) بِسُكُونِ الْفَاءِ ((أَصْحَابَنَا)) بِفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ لَمْ نَدُلْهُمْ لِلْقِتَالِ حَتَّى قُتِلُوا. وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَرَفْعِ الْبَاءِ، وَوَجْهُهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ لِمَنْ فَرَّ عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَوْ حَمَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ وَحْدُهُ، لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ إِذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتَّلَفِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ للمسلمين. فإن كان قصده تجريه الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَصْنَعُوا مِثْلَ صَنِيعِهِ فَلَا يَبْعُدُ جَوَازُهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ إِرْهَابَ الْعَدُوِّ وَلِيُعْلِمَ صَلَابَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ فَلَا يَبْعُدُ جَوَازُهُ. وَإِذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَلِفَتْ نَفْسُهُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ وَتَوْهِينِ الْكُفْرِ فَهُوَ الْمَقَامُ الشَّرِيفُ الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ" التوبة: 111 الْآيَةَ، إِلَى غَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْمَدْحِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ بِهَا مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَحْسِنُوا" أَيْ فِي الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَةِ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللَّهِ فِي إِخْلَافِهِ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: أَحْسِنُوا فِي أَعْمَالِكُمْ بِامْتِثَالِ الطَّاعَاتِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصحابة.
قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} في هذه الباء ثلاثة أوجه أحدُها: أنها زائدةٌ في المفعول به لأن "ألقى" يتعدَّى بنفسه، قال تعالى: {فألقى موسى عَصَاهُ} الشعراء: 45 ، وقال الشاعر:
حتى إذا أَلْقَتْ يداً في كافِرِ .............. وأَجَنَّ عَوْراتِ الثغورِ ظلامُها
فزيدت الباءُ في المفعولِ كما زيدت في قوله:
وأَلْقى بكفَّيْهِ الفتى استكانَةً .......... من الجوع وَهْناً ما يَمُرُّ وما يَحْلُو
والمعنى: ولا تَقْبِضُوا التهلكة أيديكم، أي: لا تَجْعلوها آخذةً بأيديكم مالكةً لكم إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادةَ الباءِ في المفعولِ لا تَنْقاسُ، إنما جاءتْ في الضرورة كقوله:
..... . . . . . . . . . . . . . . . ... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
الثاني: أنها متعلقةٌ بالفعلِ غيرُ زائدةٍ، والمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: ولا تُلْقوا أنفسكم بأيديكم، ويكون معناها السبب كقولِك: لا تُفْسِدْ حالَك برأيك.
الثالث: أنّها ليست بزائدةٍ بل هي متعلقةٌ بالفعلِ كمَرَرْتُ بزيدٍ،
فيُضمَّن "ألقى" معنى ما يتعدَّى بالباء، ويُعدَّى تعديته، فيكونُ المفعول به في الحقيقة هو المجرورَ بالباء تقديره: ولا تُفْضوا بأيديكم إلى التهلكة، كقولك: أَفْضَيْتُ بجَنْبي إلى الأرضِ أي: طَرَحْتُه على الأرض، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس، لأنَّ بها البطشَ والحركةَ.
و"التَّهْلُكَةُ": مصدرٌ بمعنى الهَلاكِ، يُقال: هَلَكَ يَهْلَكُ هُلْكاً وهَلاكاً وهَلْكاءَ على وزنِ فَعْلاء ومَهْلكاً ومَهْلكة مثلثَ العين وتَهْلُكَة.
وقرأ الخليل التَّهْلِكة بكسر اللام وهي تَفْعِلة من هَلَّك بتشديد اللام.
مواضيع مماثلة
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :130
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :66 ـ 70
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :142
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 42
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :120
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :66 ـ 70
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :142
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 42
» الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية :120
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود