فيض العليم .... سورة الأنعام، الآية: 96 ؛ 97
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
فيض العليم .... سورة الأنعام، الآية: 96 ؛ 97
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
(96)
قَوْلُهُ ـ سبحانه وتَعَالَى: {فالِقُ الْإِصْباحِ} ها هو ـ تبارك وتعالى ـ ينتقل بنا إلى السماءِ ليُبَيِّنَ لنا بعضاً من دلائلِ قدرتِه فيها، بعدَ أنْ بيَّنَ لنا بعضاً من دلائلِ قدرتِه في الأرضِ، وهو نوعٌ آخَرُ مِنْ دَلائلِ وُجودِ اللهِ الصانِعِ العظيم وعِلمِهِ وقُدْرَتِه وحِكْمَتِهِ ـ سبحانَه وتعالى، فالنَّوعُ المُتَقَدِّمُ ـ أي قولُه: {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الحبِّ والنَّوى..} من الآيةِ السابقةِ، كانَ مَأْخوذاً مِنْ دَلالَةِ أَحْوالِ النَباتَ والحَيَوانِ، والنَّوعُ المَذْكورُ في هذه الآيةِ مأخوذٌ مِنْ الأَحْوالِ الفَلَكِيَّةِ، وذلكَ لأنَّ فَلْقَ ظُلْمَةِ الليلِ بِنُورِ الصُبْحِ أَعْظَمُ في كَمالِ القُدْرَةِ مِنْ فَلْقِ الحَبِّ والنَّوى بالنَباتِ والشَجَرِ ولأنَّ مِنَ المَعلومِ بالضَرورةِ أَنَّ الأَحْوالَ الفَلَكِيَّةَ أَعْظَمُ في القلوبِ وأَكْثَرُ وَقْعاً مِنْ الأَحوالِ الأرْضِيَّةِ. و"فالقُ الإصباحِ" أَيْ أَنَّ اللهَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ، يَشُقُّ غَبَشَ الصُبْحِ بِضوءِ النَهارِ، لِيَسْعى الأحياءُ إلى تَحصيلِ أَسْبابِ حياتِهم، وجَعَلَ اللَّيلَ راحةً للجِسْمِ والنَفسِ، وسَيَّرَ الشَمْسَ والقَمَرَ بِنِظامٍ دَقيقٍ ليَعرِفَ الناسُ به مَواقيتَ مُعاملاتِهم وعِباداتِهم من صَوْمٍ وصَلاةٍ وحَجٍّ وغير ذلك. وكلُّه في نظامٍ مُحْكَمٍ، من تَقديرِ القادرِ المُهيمِنِ على الكون وتدبيرِ المُحيطِ بكلِّ شيءٍ عِلْماً. وجَعَلَ الشَمْسَ والقَمَرَ يَجْريان في الفَلَكِ بحِسابٍ مُقَدَّرٍ مَعلومٍ لا يَتَغَيَّرُ ولا يَضطَّربُ حتّى يَنْتَهي إلى أَقْصى مَنازِلِهِما بحيثُ تُتِمُّ الشَمْسُ دورَتَها في سَنَةٍ ويُتِمُّ القَمَرُ دورَتَهُ في شهرٍ، وبِذلك تَنْتَظِمُ المَصالِحُ المُتَعَلِّقَةُ بالفُصولِ الأَرْبَعَةِ وغَيرِها. وَالصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ أَوَّلُ النهارِ، وكذلك الإصباحُ، أيْ فَالِقُ الصُّبْحِ كُلَّ يَوْمٍ، يُرِيدُ الْفَجْرَ. وَالْمَعْنَى: شَاقُّ الضِّيَاءِ عَنِ الظَّلَامِ وَكَاشِفُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ خَالِقُ النَّهَارِ. وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَاغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ)). فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: ((وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي)) وَفِي كِتَابِ النَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا ((وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي)) وَذَلِكَ يَفْنَى مَعَ الْبَدَنِ؟ قِيلَ لَهُ: فِي الْكَلَامِ تَجَوُّزٌ، وَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ لَا تُعْدِمْهُ قَبْلِي. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ هُنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ فِيهِمَا: ((هُمَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ)). وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِمَا الْجَارِحَتَانِ.
قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ الليلَ سَكَناً} أيْ ساجِياً مُظلِماً لِتَسْكُنَ فِيهِ الْأَشْيَاءُ كَمَا قَالَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجى}، وَقَالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}، وَقَالَ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}، قَالَ صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ عَاتَبَتْهُ فِي كَثْرَةِ سَهَرِهِ: (إِنَّ اللهَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا، إِلَّا لِصُهَيْبٍ، إِنَّ صُهَيْبًا إِذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ طَالَ شَوْقُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ
النَّارَ طَارَ نَوْمُهُ) (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).
قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مُقَنَّنٍ مُقَدَّرٍ لَا يَتَغَيَّرُ، ولا يَضطَّرِبُ، بَلْ لِكُلِّ مِنْهُما مَنَازِلُ يَسْلُكُهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ طُولًا وَقِصَرًا كَمَا قَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} يونس، الآية: 5. وَكَمَا قَالَ في سورةِ يس: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، الآية: 40. وقال في سورةِ الأعراف: {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} الآية: 54، وَقال في سورة الأنعام: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} الآية: 96. أَيِ الْجَمِيعُ جَارٍ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَكَثِيرًا مَا إِذَا ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى خَلَقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَخْتِمُ الْكَلَامَ بِالْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ كَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم}يس، الآية: 37 والآية: 38. ومَعنَى "حُسْباناً" أَيْ بِحِسَابٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ. وَقَالَ ابْنُ عبَّاسٍ في قولِهِ ـ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً} أَيْ بِحِسَابٍ. وقال الْأَخْفَشُ: حُسْبَانٌ جَمْعُ حِسَابٍ، مِثْلَ شِهَابٍ وَشُهْبَانٍ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: حُسْبَانٌ مَصْدَرُ حَسَبْتُ الشَّيْءَ أَحْسُبُهُ حُسْبَانًا وَحِسَابًا وَحِسْبَةً، وَالْحِسَابُ الِاسْمُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: جَعَلَ اللهُ تَعَالَى سَيْرَ الشَّمْسِ. وَالْقَمَرِ بِحِسَابٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، فَدَلَّهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وَقِيلَ: "حُسْباناً" أَيْ ضِيَاءً. وَالْحُسْبَانُ: النَّارُ فِي لُغَةٍ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ناراً. والحُسْبانَةُ: الوِسَادَةُ الصَغيرَةُ أَيْضاً.
قولُه: {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} قال: "العزيز" إشارةً إلى كمالِ قُدْرَتِه، و"العليم" إشارةً إلى كَمالِ عِلْمِهِ، فإنَّ تَقديرَ الأفْلاكِ بصِفاتِها المخصوصَةِ، وهَيآتِها المَحدودَةِ، وحَركاتِها المُقدَّرَةِ بالمَقاديرِ المَخْصوصةِ في السرعةِ والبُطءِ وغيرِ ذلك، لا يُمكنُ حصولُهُ إلاَّ بِقُدْرَةٍ كامِلَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بجَميعِ المُمْكِناتِ، وعِلْمٍ نافذٍ في جَميعِ المَعلوماتِ مِنَ الكُلِّيَّاتِ والجُزْئيَّاتِ، وهو تصريحٌ بأنَّ حُصولَ هذهِ الأَحْوالِ والصِفاتِ ليس بالطَبْعِ والخاصيَّةِ، وإنَّما بِتَخْصيصِ الفاعِلِ القادرِ المُخْتارِ ـ جَلَّ وعَلا وعَزَّ.
قولُهُ تعالى: {فَالِقُ الإصباح} هو المصدرُ والجُمهورُ على كسرِ الهمزةِ، وهو من: أصبح يُصبِحُ إصْباحاً، وقال الليثُ والزَجَّاجُ والفَرَّاءُ: إنَّ الصُبْحَ والإصَباحَ والصَباحَ واحدٌ، وهو أَوَّلُ النَهارِ. وقيل: الإِصباحُ ضوءُ الشَمْسِ بالنَهارِ وضَوْءُ القَمَرِ بالليلِ، رواهُ ابْنُ أَبي طَلْحَةَ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم. وقال مجاهدٌ: هو إضاءةُ الفَجْرِ. والظاهرُ أنَّ الإِصْباحَ في الأصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِه الصُبْحُ وكذا الإِمْساءُ، قالَ امْرُؤ القيسِ:
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِ ........... بصبحٍ وما الإِصباحُ منكَ بِأَمْثَلِ
وقَرَأَ الحَسَنُ وأَبو رَجاءٍ وعيسى بْنُ عُمَر: الأصباح: بفتح الهمزة
وهو جمعُ صُبْحٍ نحوَ: قُفْلٍ وأَقفالٍ وبُرْدٍ وأَبرادٍ، ويُنْشَدُ قولُه:
أفنى رياحاً وبني رياحِ ......................... تناسخُ الأمساءِ والأصباح
بِفتحِ الهَمزةِ مِنَ الأَمْساءِ والأَصْباحِ على أَنَّهُما جَمْعُ مُسْي وصُبْح، وبِكسرِها على أنَّهما مَصدران. وقَرَأَ النُخَعِيُّ "فَالِقُ الإصباحَ" بنصبِ "الإصباحَ" وكَسْرِ الهَمزةِ، كأنَّهُ قال: "فالقٌ الإصباحَ"، على أنَّ "الإصباحَ" مفعولٌ بِهِ، لكنْ حُذِفَ التَنْوينُ لِسُكونِهِ وسُكونِ اللامِ بما أنَّ الهمزةَ للوصلِ. فحُذِفَ التَنْوينُ لالْتِقاءِ الساكنين كَقولِ أبي الأسود الدؤليّ:
فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَب............................. ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا
وقرئ: {والمُقيمي الصلاةَ} الحَج: 35. و{لَذَائِقُو العذابَ} الصافات: 38. بالنَصْبِ حَمْلاً للنُونِ على التَنْوين، إلاَّ أَنَّ سِيبَوَيْهِ لا يُجيزُ حَذفَ التَنوينِ لالْتِقاءِ الساكِنَيْنِ إلاَّ في شِعْرٍ، وقدْ أَجازَهُ المُبَرِّدُ في التَوَسُّعِ. وقَرَأَ يَحيى والنُخَعِيُّ وأَبُو حَيَوَةَ: "فَلَقَ" فِعْلاً ماضِياً، وقد تَقَدَّمَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ قَرَأَ الأُولى كذلك، وهذا أَدَّلُّ دَليلٍ على أَنَّ القِراءةَ عندَهم سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، أَلا تَرى كيف قَرَأَ عَبْدُ اللهِ "فَلَقَ الحَبَّ" فِعْلاً ماضياً، وَقَرَأَ "فالقُ الأَصباحِ"، اسمَ فاعلٍ، وقَرَأَ الثلاثةُ المَذكورون بعَكْسِهِ. ومعنى فَلَق الصُبْحَ، والظُلمَةَ هو أَنَّها تَنْفَلِقُ عنِ الصُبْحِ كما قال أبو نُواسٍ يصف الخمرةَ:
تَرَدَّتْ بِهِ ثُمَّ انْفَرَى عَنْ أدِيمِهَا ................ تَفَرِّيَ ليلٍ عَنْ بياضِ نَهارِ
فإمَّا أَنْ يُرادَ: فالقُ ظُلْمَةِ الإِصباحِ، يَعني أَنَّه على حَذْفِ مُضافٍ.
وإمّا أَنْ يُرادَ فالقُ الإِصباحِ الذي هو عَمودُ الفَجْرِ عنْ بياضِ النَهارِ وإسْفارُه، وقالوا: انْشَقَّ عَمودُ الفَجْرِ وانْصَدَعَ، وسَمَّوا الفجرَ فَلَقاً بمَعنى مَفْلوقٍ، قالَ أبو تمامٍ الطائيُّ:
وأزرقُ الفجرِ يَبْدو قَبْلَ أَبْيَضِهِ ............ وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطَرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ
وقُرِئَ: فالقَ وجاعلَ بالنَصْبِ على المَدْحِ. وأَنشدَ غيرُه:
فانشقَّ عنها عمودُ الفَجْرِ جافلةً ... عَدْوَ النَّحوص تخافُ القانِصَ اللَّحِما
قولُهُ: {وَجَاعِلُ اللَّيلِ سَكَناً} قَرَأَ الكُوفيُّونَ: "جَعَلَ" فعلاً ماضياً، وقَرَأَ الباقون بِصيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ، والرَّسْمُ يَحْتَمِلُهُما، و"الليل" مَنْصوبٌ عندَ الكُوفيّين، ومَجْرورٌ عندَ غيرِهم بمُقتضى قِراءةِ كلٍّ منهم، ووَجهُ قراءةِ الكوفيين لَه مُناسَبَتُهُ لما بَعدَه فإنَّ بَعدَهُ أَفعالاً ماضِيَةً نحو: {جَعَلَ لَكُمُ النجومَ} الأنعام: 97. {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم} الأنعام: 98. إلى آخرِ الآياتِ، و"سَكَناً": إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أَنَّ الجَعْلَ بمَعنى التَصْيِيرِ، وإمَّا حالاً على أَنَّه بمَعنى الخَلْقِ، وتَكونُ الحالُ مُقَدَّرَةً.
وأمَّا قِراءةُ غيرِهم فـ "جاعِلُ" يُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ بمَعْنى المُضِيِّ، وهو الظاهرُ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءةُ الكُوفِيِّين، والماضي عندَ البَصْرِيِّين لا يَعْمَلُ إلاَّ مَعَ "أل" خِلافاً لِبَعْضِهم في منَعِ إعْمالِ المُعَرَّفِ بِها، وخلافاً لِلكِسائي في إعْمالِهِ مُطْلقاً، وإذاً فـ "سَكَناً" منصوبٌ بفِعلٍ مُضْمَرٍ عندَ البَصْريّين، وعلى مُقتَضى مَذْهَبِ الكِسائي يَنْصِبُه بِه. وقد زَعَمَ أَبو سَعيدٍ السِيرافي أَنَّ اسْمَ الفاعِلِ المُتَعدِّي إلى اثْنَيْنِ يَجوزُ أَنْ يَعمَلَ في الثاني وإنْ كان ماضياً، قالَ: لأنَّه لَمَّا أُضيفَ إلى الأَوَّلِ تَعَذَّرَتْ إضافَتُهُ إلى الثاني فَتَعيَّنَ نَصْبُه لَهُ. وقالَ بعضُهم: لأنَّهُ بالإِضافةِ أَشْبَهَ المُعَرَّفَ بـ "أل" فعَمِلَ مُطلَقاً. وعلى هذا فـ "سَكَناً" مَنْصوبٌ بِه أَيضاً، وأَمَّا إذا قُلْنا إنَّه بمَعنى الحَالِ والاسْتِقْبالِ فنَصْبُهُ به. و"سَكْن" على وزنِ فَعْل بمَعنى مَفْعول كالقَبْضِ بمَعنى مَقبوضٍ.
قولُه: {والشمسَ والقَمَر حُسْبَاناً} الجُمهورُ بِنَصْبِ "الشَمْس" و"القَمَر" وهي واضحةٌ على قراءةِ الكُوفِيِّين، أَيْ: بِعَطْفِ هذيْن المَنْصوبيْن على المَنصوبَيْنِ بِـ "جَعَلَ"، وفي "حُسْباناً" الوجهان اللذان في "سَكَناً" مِنَ المَفعولِ الثاني والحالِ، وأَمَّا على قراءةِ الجَماعةِ فإنْ اعْتَقَدْنا كونَه ماضياً فلا بُدَّ مِنْ إضْمارِ فِعْلٍ يَنْصِبُهُما، أَيْ: وجَعَلَ الشَمْسَ، وإنْ قُلْنا إنَّهُ غيرُ ماضٍ فمَذْهَبُ سَيبَوَيْهِ أَيْضاً أَنَّ النَصْبَ بإضْمارِ فِعْلٍ، تَقولُ: "هذا ضاربُ زيدٍ الآنَ أوْ غَداً أوْ عَمْراً" بِنَصْبِ عَمْرٍو، وبِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ لا على مَوْضِعِ المَجْرورِ باسْمِ الفاعِلِ، وعلى رأيِ غيرِهِ يَكونُ النَّصْبُ على مَحَلِّ المَجْرورِ، ويُنْشِدونَ قولَهُ:
هل أَنْتَ باعثُ دينارٍ لِحاجَتِنا .......... أَوْ عَبْدَ رَبٍّ أَخا عَوْن بْنِ مِخْراقِ
بِنَصْبِ "عَبْد" وهو مُحْتَمِلٌ للمَذْهَبَيْنِ. وقال الزمخشري: أو يُعطَفان على مَحَلِّ "اللَّيْلِ". فإنْ قلتَ: كيفَ يَكونُ لِـ "اللَّيْلِ" مَحَلٌّ والإِضافةُ حقيقةٌ لأنَّ اسْمَ الفاعِلِ المُضافِ إليْهِ في مَعْنى المُضِيِّ ولا تقولُ: زَيْدٌ ضارِبٌ عَمْراً أَمْسِ؟ قلتُ: ما هو بمَعنى الماضي، وإنَّما هوَ دالٌّ على فعلٍ مُسْتَمِرٍّ في الأَزْمِنَةِ. وقال أبو حيَّان التوحيديّ معقِّباً عليه: أَمَّا قولُهُ إنَّما هو دالٌّ على فِعْلٍ مُسْتَمِرٍّ في الأَزْمِنَةِ، يَعْني فيَكونُ عامِلاً، ويَكونُ للمَجْرورِ إذْ ذاكَ بَعدَهُ مَوْضِعٌ فيُعْطَفُ عليْه "الشَمْسُ والقَمَرُ". وهذا ليس بصحيحٍ، إذا كان لا يَتَقَيَّدُ بِزَمَنٍ خاصٍّ، وإنَّما هو للاسْتِمْرارِ، فلا يَجُوزُ لَهْ أَنْ يَعْمَلَ، ولا لِمَجرورِهِ مَحَلٌّ، وقد نَصُّوا على ذلك وأَنشدوا عليه قولَ الحطيئةِ:
أَلْقَيْتَ كاسبهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ............ فامْنُنْ عليكَ سلامُ اللهِ يا عُمَرُ
فليْسَ الكاسِبُ هُنا مُقيَّداً بِزَمانٍ، وإذا تَقَيَّدَ بِزمانٍ: فإمَّا أَنْ يَكونَ ماضياً دون "أل" فلا يَعْمَلُ عِنْدَ البَصْريِّين، أوْ بـ "أل" أوْ حالاً أوْ مُسْتَقْبَلاً فيَعمَلُ ويُضافُ على ما أُحْكِمَ في النَّحْوِ. ثمَّ قالَ: وعلى تقديرِ تَسْليمِ أَنَّ الذي للاسْتِمْرارِ يَعْمَلُ فلا يَجوزُ العَطْفُ على مَحَلِّ مَجْرورِهِ، بلْ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ في الذي بمَعنى الحالِ والاسْتِقْبالِ أَنْ لا يَجوزَ العَطْفُ على مَحَلِّ مَجْرورِهِ، بِلِ النَّصْبُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، لو قلتَ: هذا ضاربُ زيدٍ وعَمْراً لم يَكُنْ نَصْبُ "عَمْراً" على المَحَلِّ على الصحيحِ وهو مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ؛ لأنَّ شَرْطَ العَطْفِ على المَوْضِعِ مَفْقودٌ، وهوَ أَنْ يَكونَ للمَوْضِعِ مُحْرِزٌ لا يَتَغَيَّرُ، وهذا مُوَضَّحٌ في عِلْمِ النَّحْوِ. انتهى تعقيب الشيخ التوحيدي.
وقد ذَكرَ الزمخشريُّ في أَوَّلِ الفاتحةِ في {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الفاتحة: 4. أَنَّه لَمَّا لَمْ يُقْصَدْ بِه زَمانٌ صارتْ إضافَتُهُ مَحْضَةً فلِذلك وَقَعَ صِفَةً للمَعارِفِ، فمِنْ لازِمِ قولِهِ إنَّهُ يَتَعَرَّفُ بالإِضافَةِ أَنْ لا يَعْمَلَ، لأنَّ العامِلَ في نِيَّةِ الانْفِصالِ عَنْ الإِضافَةِ، ومَتى كان في نِيَّةِ الانْفِصالِ كان نَكِرَةً، ومتى كان نَكِرَةً فلا يَقَعُ صِفَةً للمَعْرِفَةِ. وهذا حَسَنٌ حيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ
ـ سبحانَه ـ بِقَوْلِهِ، وقدْ تَقَدَّمَ تَحقيقُه في هناك.
وقرأ أَبو حَيَوَةَ: {وَالشَّمْسِ والقَمَرِ} جَرّاً نَسَقاً على اللفْظِ. وقُرِئَ شاذّاً {والشَّمْسُ والقَمَرُ} رَفْعاً على الابْتِداءِ، وكانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقْرَأَ "حُسْبانٌ" رَفعاً على الخَبَرِ، وإنَّما قَرَأَهْ نَصْباً، فالخَبَرُ حِينَئذٍ مَحذوفٌ تَقديرُهُ: مَجْعولانِ حُسْباناً، أوْ مخلوقان حُسْباناً. فإنْ قُلتَ: لا يُمْكِنُ في هذِهِ القراءةِ رَفْعُ "حسبان" حتّى نُلْزِمَ القارِئ بذلك؛ لأنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ ليْسا نَفْسَ الحُسْبانِ. فالجَوابُ: أَنَّهُما في قِراءةِ النَّصْبِ: إمَّا مَفْعولانِ أوَّلانِ و"حسْباناً" مفعولٌ ثانٍ، وإمَّا صاحِبا حالٍ و"حُسباناً" حالٌ، والمَفْعولُ الثاني هو الأَوَّلُ، والحالُ لا بُدَّ وأَنْ تَكونَ صادِقَةً على ذِي الحالِ، فمَهْما كانَ الجَوابُ لَكم كانَ لَنا والجَوابُ ظاهرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.
والحُسْبانُ: إمّا أَنَّهُ جَمْعٌ، فقيل: هو جَمْعُ حِسابٍ كَرِكابٍ ورُكْبانٍ وشِهابٍ وشُهْبانٍ، وهو قولُ أَبي عُبَيْدٍ والأخفشِ وأَبي الهَيْثَمِ والمُبَرِّدِ. وقالَ أَبو البَقاءِ: "هو جَمْعُ حُسْبانَةٍ". وهوَ غَلَطٌ؛ لأنَّ الحُسْبانَةَ هي القِطْعَةُ مِنَ النَّارِ، ولَيْسَ المُرادُ ذلك قَطْعاً. وقيلَ: بلْ هوَ مَصْدَرٌ كالرُّجْحانِ والنُّقْصانِ والخُسْران، وأَمَّا الحِسابُ فهو اسْمٌ لا مَصْدَرٌ، وهذا قولُ ابْنِ السكِّيتِ. وقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: والحُسْبانُ بالضَمِّ مَصْدَرُ حَسَبْتُ يَعني بالفَتْحِ كما أَنَّ الحِسبانَ بالكَسْرِ يَعني مَصْدَرُ حَسِبْتُ بالكَسْرِ، ونَظيرُهُ الكُفْرانُ والشُّكْران. وقيلَ: بَلْ الحُسْبانُ والحِسابُ مَصْدرانِ وهُوَ قَوْلُ أَحمدٍ بْنِ يَحيى. وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْدٍ عَنْ أَبي زَيْدٍ في مَجيءِ الحُسبانِ مَصْدَراً قولُ قيسٍ
بْنِ الخَطيمِ:
على اللهِ حُسْباني إذا النفسُ أشرفَتْ ... على طَمَعٍ أَو ْخافَ شَيْئاً ضَميرُها
وانْتِصابُ "حُسْباناً" على ما تَقَدَّمَ مِنَ المَفْعولِيَّةِ أَوْ الحاليَّةِ. وقالَ ثَعلب عَنِ الأَخْفَشِ: إنَّهُ مَنْصوبٌ على إسْقاطِ الخافِضِ، والتَقديرُ: يَجْريان بِحُسْبانٍ كَقولِهِ: {لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} أيْ: مِنْ طِينٍ.
وقولُهُ: {ذلك} إشارةً إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الفَلْقِ أَوِ الجَعْلِ أوْ جَميعِ ما تقدَّم مِنَ الأَخْبارِ في قولِهِ: "فالق الحَبِّ" إلى "حُسْباناً".
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ
فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
(97)
قَوْلُهُ ـ سبحانَهُ وتَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ما زِلْنا في عجائبِ السَماءِ مَعَ دَلائلِ قُدْرَتِهِ ـ تبارك وتعالى ـ فهذِه الآيةُ العظيمةُ تبَيِّنَ لَنا كَمَالَ قُدْرَتِهِ ـ سبحانَهُ ـ في النُجومِ. وَفِي النُّجُومِ مَنَافِعُ جَمَّةٌ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ مَنَافِعِهَا، وَهِيَ الَّتِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، فقالَ: "لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ" فهو ـ سبحانَه وتعالى ـ وحدَهُ الذي سخَّرَ لَنا هذِه الكواكِبَ النَيِّرَةَ لِنَهْتَديَ بِها إلى الطُرِقِ والمَسالِكِ خِلالَ سَيْرِنا في ظُلُماتِ اللَّيلِ بَرّاً وبحراً، حيثُ لا نَرَى شَمْساً ولا قَمَراً. وَفِي سورةِ الصافاتِ ذكَرَ لَنا مَنافِعَ أُخْرى فقال: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ} الآيةِ: 7. أيْ أنَّ هذه النُجومَ تتصدى لِمَرَدَةِ الشياطينِ الذين يحاولون اسْتِراقَ السَمْعِ ومَعْرِفَةَ ما يَحْدُثُ في المَلَأِ الأَعْلى، فتَقْذِفُهم بالشُهُبِ الحارِقَة كما جاءَ في سورةِ الجِنِّ حيثُ قال تعالى على لسانِ الجانِّ: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} الآية: 9. وسنذكُرُ المزيدَ لِبيانَ ذلكَ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى. وفي سورةِ المُلك ذَكَرَ لَنا نَوعاً آخَرَ مِنْ المَنافِعِ في هَذِهِ النُجومِ فقالَ: {وَلَقدْ زَيَّنا السماءَ الدُنْيا بِمَصابيحَ} الآية: 5. فإنَّ هذه النُجومَ لها وظيفةٌ جماليَّةٌ أَيْضاً، فهي تُزَيِّنُ السَماءَ حتَّى أَنَّ الناظرَ إليْها لا يَمَلُّ مِنَ الاسْتِمْتاعِ بهذا الجَمَالِ الأخَّاذِ. وكما أَنَّ نُجومَ السَماءِ يُهتَدى بها في الفَلَواتِ، فَكذلك نُجُومُ القُلوبِ يُهتَدى بها في معرفة رَبِّ الأرضين والسموات. وقيلَ: المُرادُ بـ "النجوم" هو كلُّ ما عَدا النَيِّريْن (الشمس والقمر) لأنَّ هذه النجومَ هي التي بِها الإهْتِداءُ، في الليلِ، ولأنَّ النَّجْمَ يُخَصُّ في العُرْفِ بما عَداهُما. وجُوِّزَ أَنْ يَدْخُلا فيها فيكونُ هذا بياناً لِفائدتِهِما العامَّةِ إثْرَ بيانِ فائدتِهِما الخاصَّةِ، ويَقْسِمُ علماءُ الفَلَكِ النُّجومَ إلى ثوابتَ وسَيَّاراتٍ، فالثوابتُ كثيرةٌ لا يحصي عَدَدَها إلاَّ اللهُ تعالى، وهي ثابتةٌ نِسْبِيّاً لأنَّنا نَراها هكذا لِشِدَّةِ بُعدِها عنها، وإنَّما هي متحركةٌ في أفَلاكِها بِحَسَبِ نظامِها الذي وَضَعَهُ لَها خالقُها ـ تَبارَكَ وتَعالى ـ فَلا ثَباتَ لِمخلوقٍ في هذا الكون، وإنَّما يَجْري كلٌّ إلى أَجلِهِ. وأمَّا السياراتُ فهيَ تِسْعٌ بما فيها كَوْكَبُ الأَرْضِ التي نَحْنُ عليها وهي: نِبْتون، أُورَانوس، زُحَل، المشتري، المريخ، الزهرة، عطارد، بلوتن. وكان القًدَماءُ يَحْسِبونَها سَبْعاً، ثُمَّ اكْتَشَفَ العُلماءُ لَها ثامِناً فتاسعاً، وكلُّها تَدورُ حَوْلَ الشَمْسِ بِسُرْعةٍ فائقةٍ، بعضُها يُكمِلُ دورةً كلَّ ثمانينَ يَوماً مِنْ أَيّامِنا، وهو عُطارد، أَقرَبُ الكَواكِبِ إلى الشمسِ، وهي سَنَتُهُ؛ وبعضُها يُكْمِلُ دورةً كاملةً في مئتيْن وثمانٍ وارْبعينَ سَنَةً مِنْ سِنِيِّ أَرْضِنا، وهو أَبْعدُها مِنَ الشَمْسِ، ويَدورُ في دائرةٍ مِساحَتُها سَبْعَةُ بَلايينَ وخَمْسِمِئةِ مِليون مِيلٍ، حَسْبَ ما يُقَدِّرُ عُلَماءُ الفَضاءِ. والقُمَرُ أَقْرَبُ الأَجرامِ السَماوِيَّةِ مِنَّا، حيثُ قَدَّرَ العُلَماءُ المَسافةَ بينَه وبينَ الأَرْضِ بِنَحْوِ مِئتَيْن وأَرْبعينَ أَلْفَ مِيلٍ، وهو الوَحيدُ الذي اسْتَطاعَ الإنْسانُ أَنْ يَصِلَ إليْهِ بِوِساطَةِ المَراكِبِ الفَضائيَّةِ، فَنَزَلَ على سَطْحِهِ، وسَبَرَ أَغْوارَه، وتَعَرَّفَ على تضاريسِهِ وأَتى بِعَيِّناتٍ مِنْ مائهِ وتُرْبَتِهِ وأَحجارِهِ، وهو يَدورُ حولَ الأَرْضِ مرةً كلَّ تسعةٍ وعِشْرينَ يَوماً ونِصْفَ اليومِ، وهو الشهرُ القَمَرِيُّ الذي يَعْتَمِدُهُ المُسلِمون في تَقويمِهم، وحِسابِ أَوْقاتِ صِيامِهم وحَجِّهم. وتَبْعُدُ أَرْضُنا عن الشَمْسِ ثلاثةً وتِسْعينَ مِليونَ ميلٍ، بتقديرِ العُلماءِ، وتَدورُ الأرضُ حولَ مِحْورِها بِسُرْعَةِ ألْفِ مِيلٍ في الساعةِ، حسبَ ما يقولُ عُلَماءِ فيزياءِ الفَضاءِ، وتَدورُ حولَ الشَمْسِ في دائرةٍ مِساحَتُها مِئةٌ وتِسعونَ مِلْيونَ مِيلٍ، وتَسْتَكْمِلُ دَوْرَتَها في هذه الدائرةِ مَرَّةً واحدةً كلَّ سنةٍ. ويَدورُ حولَ هذِهِ الكواكبِ واحدٌ وثلاثون قَمَراً أُخْرى. وقَدَّرتْ بعضُ الدِراساتِ المُتَخَصِّصةِ وُجودَ حَلَقةٍ مِنْ ثلاثينَ أَلْفاً مِنَ النُجَيْماتِ وآلافِ المُذَنَّباتِ، وشُهْبٍ لا حَصْرَ لَها ولنَّكها تَدورُ حولَ ذلكَ السَيَّارَ العِمْلاقِ الذي نسَمِّيهِ الشَّمْس، والتي يَبْلُغُ قطرُها بحَسَبِ بَعْضِ النَظَريَّاتِ: ثَمانَمِئةٍ وخَمْسَةً وسِتِّينَ أَلفَ مِيلٍ. وهي أكْبَرُ مِنْ الأرضِ بِمِلْيونَ مَرَّة ورُبْعِ المِليون.
ولا تُشَكِّلُ هذهِ الشَمْسُ وما حَوْلَها مِنَ الكَواكِبِ المَذْكورةِ، والأقْمارِ، والنُجَيْماتِ، والشُهُبِ التي تَشَغَلُ هَذا المَجالَ الواسِعَ ذَرَّةً صَغيرةً في هذا المَكانِ الواسِعِ الذي لا يُدْرِكُهُ عَقْلٌ ولا بَصَرٌ. ثمَّ إنَّ هذِهِ الشمسُ لَيْسَتْ ثابِتَةً أو واقفةً في مَكانٍ ما، وإنَّما {وكلٌّ في فلكٍ يسبحون} يس: 40. فهي بِدَوْرِها ـ ومَعَها كُلُّ هذِه الأجرامِ التي ذَكَرْناها ـ تَدورُ في نِظامٍ رائعٍ بَديعٍ بِسُرْعَةِ ستِّمِئةِ أَلفِ ميلٍ في الساعةِ. وفي هذا الكون الفسيحِ العَجيبِ آلافُ الأنظِمَةِ ـ غَيْر نِظامِنا الشَمْسِيِّ ـ يَتَكَوَّنُ مِنْها ذلِكُمُ النِّظامُ الذي نُسَمِّيهِ (المَجَرَّات) أوْ مَجاميعِ النُجومِ، وكأنَّها جَميعَها طَبَقٌ عَظيمٌ تَدورُ عليْه النُجومُ والكَواكِبُ مُنْفَرِدَةً ومُجْتَمِعَةً.
وتتحرَّكُ مجَرّاتُ النُّجومِ هذِه بِدَوْرِها أَيْضاً، فالمجَرَّةُ التي يَقَعُ فيها نِظامُنا الشَمْسِيُّ تَدورُ حولَ مِحْوَرِها بحيثُ تُكْمِلَ دَورةً واحدةً كلَّ مئتيْ بِلْيون سَنَةً ضوئيَّةً، وهذا شَيْءٌ مُذْهِلٌ ومُحَيِّرٌ لا تَتَصَوَّرُهُ العُقولُ ولا تستوعِبُه.
ويُقَدِّرُ عُلَماءُ الفَلَكِ أَنَّ هذا الكونَ يَتَأَلَّفُ مِنْ خَمْسِمِئةِ مِليون مَجَرَّة، في كلٍّ مِنْها مئةُ مليون نَجْم، أوْ نَحو ذلك. ويُقدِّرونَ أنَّ أَقْرَبَ مَجْموعَةٍ مِنَ النُّجومِ، وهي التي نَراها في الليلِ كَخُيوطٍ بَيْضاءَ دَقيقةٍ، والتي نُسَمِّيها دَرْبَ التَبَّانَةِ، تَضُمُّ حَيِّزاً مَداهُ أَلْفُ سَنَةٍ ضَوْئيَّة. وسُرْعَةُ الضَوْءِ ثلاثمئةِ أَلْفِ (كم / الثانية). وبِمَعرِفَةِ هذه الحقيقةِ يَتَبَيَّنُ لَنا اتِّساعُ السَنَةِ الضَوئيَّةِ ومِقدارُ زَمَنِها، ومسافةُ ألفِ سَنَةٍ ضَوئيَّة شيءٌ مُذْهِلٌ، فوقَ ما يُحيطُ به عقلُ بَشَرٍ وفوقَ طاقتِهِ. ونحنُ ـ سُكَّانَ الأرضِ ـ نَبْعُدُ عنْ مَرْكَزِ هذِهِ المَجْموعَةِ بمِقدارِ ثلاثين ألفَ سَنَة ضَوْئيَّة، وهذه المَجموعةُ جُزْءٌ مِنْ مَجْموعَةٍ كَبيرةٍ تَتأَلَّفُ مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ مَجَرَّةً. وقُطْرُ هذه المَجموعَةِ الكَبيرة مِلْيونا سَنَة ضوئيَّة.
ويَبقى كلُّ هذا في إطارِ النظريَّاتِ والتَكَهُّناتِ، وهو قابلٌ للجَديدِ دائماً ـ بحَسَبِ تَطَوُّرِ العِلْمِ وأَدواتِ البَحْثِ العِلْمِيِّ، وحينَ يَنْظُرُ العَقْلُ إلى هذا النِّظامِ العَجيبِ، والتَنْظِيمِ الدَقيقِ الغَريبِ المُدْهِشِ لا يَلْبَثُ أنْ يَحْكُمَ باسْتِحالةِ أنْ يَكونَ هذا كُلُّهُ قائماً بِنَفْسِهِ، بَلْ إنَّ هُنالِكَ طاقة غَيْر محدودةٍ هي التي تقيمُ هذا النِظامَ العَظيمَ، وتهيمنُ عليه.
وبعضُ العُلَماءِ يَقولُ: إنَّ كُلَّ إنْسانٍ في الوُجودِ لَهُ نَجْمٌ، وتَرْتَبِطُ حياتُهُ بهذا النَجْمِ، وحينَ يَأْفُلُ النَّجْمُ يَأْفُلُ قَرينُهُ على الأرْضِ، وهُناكَ نُجومٌ لامعةٌ نَرصُدُ حركتَها، ونُجومٌ أُخرى غيرُ لامِعَةٍ وبَعيدةٌ عنا، ويُقالُ إنَّها تَخُصُّ مخلوقاتٍ لا يَدْري بِها أَحَدٌ لِقِلَّةِ تَأثيرِها في الحياة.
قولُه: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} أَيْ بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَةً لِتَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاعْتِبَارِ. أيْ بَيَّنّا الآياتِ المَتْلُوَّةِ المَذْكورَةِ لِنِعَمِهِ ـ سبحانَه ـ التي هذِهِ النِعْمَةُ مِنْ جُمْلَتِها، أوْ الآياتِ التَكْوينِيَّةِ الدّالَّةِ على شُؤونِهِ تَعالى فَصْلاً فَصْلاً.
قولُهُ: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إنَّ ذَلك مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِه على وُجودِ الصانِعِ المُخْتارِ وكَمالِ قُدْرَتِهِ وعَظَمَتِهِ وبَديعِ صَنْعَتِهِ وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ. وخَصَّهُم بالذِكرِ لأنَّهم المُنْتَفِعون بِمعاني الآياتِ المَذكورَةِ فيَعْمَلون بِمُوجِبِها أَوْ يَتَفَكَّرونَ في الآياتِ التَكْوينِيَّةِ فَيَعلَمون حَقيقةَ الحالِ، وقد خصَّهم بالتَفْصيلِ مَعَ عُمومِهِ لِلكُلِّ.
وقد كَثُرَتِ الأَخبارُ في النَهْيِ عَنْ عِلْمِ النُجُومِ والنَّظَرِ فيها، إلاَّ في حدودِ التفكُّرِ في عَظَمَةِ اللهِ والتعرُّفِ عَلَيْه مِنْ خِلالِ عظيمِ صَنَعَتِه وبديعِ خلقِهِ، وإلاَّ لِمَعرِفَةِ أَوْقاتِ العِباداتِ، وتحديدِ المَسافاتِ والجِهاتِ وضَبْطِ المٌعامَلاتِ. والمَقصودُ بالنَهْيِ هو ما نَراهُ منَ المُشَعْوِذين الذين يَدَّعونَ معرفةً بالنُّجومِ، فيَتَنَبَّؤون بالمُسْتَقْبَلِ ويسْتَشْرفونَ الغَيْبَ وما شاكلَهُ. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ والخَطيبُ عنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما ـ قال، قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ: ((تَعَلَّموا مِنَ النُجومِ ما تَهْتَدون بِهِ في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ ثُمَّ انْتَهوا)). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ وأَبو داوودَ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وروى أَحْمَدٌ ومُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما ـ قال، قالَ رَسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ: ((مَنِ اقْتَبَسَ عِلْماً مِنَ النُّجومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِحْرِ زَادَ مَا زَادَ)). صحيح، الجامع الصغير: 595. وشرح مُسْنَدِ أَبي حَنيفَةَ النُعمانِ ـ رضي الله عنه: (1/ 143)
وأَخْرَجَ الخَطيبُ عَنْ مَيْمون بْنِ مَهرانَ قال، قُلتُ لابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما ـ أَوْصِني، قالَ: (أُوصيكَ بِتَقْوَى اللهِ تَعالى، وإيَّاكَ وعِلْمِ النُجُومِ فإنَّه يَدْعُو إلى الكَهَانَةِ). وأَخْرَجَ الخطيبُ أيضاً عنْ عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ تَعالى وجْهَهُ ـ قال: (نَهاني رَسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ عنِ النَظَرِ في النُّجومِ). وعن أَبي هُريرةَ وأمِّ المؤمنين عائِشَةَ الصِّدِّيقةِـ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ نحوَه. وأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عَنْهُما قال، قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ: ((إنَّ مُتَعَلِّمَ حُروفِ أَبي جادوراءَ في النُّجومِ ليسِ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعالى خَلاقٌ يَومَ القِيامَةِ)). إلى غيرِ ذلكَ مِنَ الأخبارِ، ولَعَلَّ ما تُفيدُهُ مِنَ النَهْيِ عَنِ التَّعلُّمِ مِنْ بابِ سَدِّ الذَّرائعِ، لأنَّ ذلك العِلْمَ ربَّما يَجُرُّ إلى مَحْظورٍ شَرْعاً، كَما يُشيرُ إليْهِ خَبَرُ ابْنِ مَهْرانَ. وكذا النَهْيُ عنِ النَظَرِ فيها مَحْمولٌ على النَظَرِ الذي كانت تَفعلُهُ الكَهَنَةُ الزاعمون تأثيرَ الكَواكِبِ بأَنْفُسِها، والحاكِمونَ بِقَطْعيَّةِ ما تَدُلُّ عليْه بِتَثْليثِها وتَرْبِيعِها واقْتِرانِها ومُقابَلَتِها ـ مَثلاً ـ مِنَ الأَحْكامِ بِحيثُ لا تَتَخَلَّفُ قَطْعاً على أَنَّ الوُقوفَ على جَميعِ ما أَوْدَعَ اللهُ تعالى في كلِّ كَوْكَبٍ مِمّا يَمْتَنِعُ لِغَيْرِ عَلاَّمِ الغُيوبِ. والوُقوفُ على بَعضٍ، أوْ كلِّ بعضٍ منها، لا يُجْدي المُتَمَسِّكَ بِهِ نَفْعاً، ولا يُفيدُ إلاَّ ظَنّاً، كالمُتَمَسِّكِ بِحبالِ القَمَرِ، والقابِضُ عليْهِ كالقابِضِ على شُعاعِ الشَمْسِ.
نَعم إنَّ بعضَ الحَوادِثِ في عالَمِ الكَوْنِ، قدْ جَرَتْ عادةُ اللهِ تَعالى بإحداثِهِ في الغالِبِ عِنْدَ طُلوعِ كَوْكَبٍ أَوْ غُروبِهِ أَوْ مُقارَنَتِهِ لِكوكَبٍ آخَرَ، وفيما يُشاهَدُ عندَ غيْبوبَةِ الثُريّا وطُلوعِها وطُلوعِ سُهيلٍ شاهدٌ لِما ذَكَرْنا. ولا يَبْعُدُ أنْ يَكونَ ذلكَ مِنَ الأَسْبابِ العاديَّةِ، وهي قدْ تَتَخَلَّفُ مُسَبِّباتُها عَنْها سَواءً قُلْنا: إنَّ التَأْثيرَ عِندَها ـ كما هو المَشهورُ عنِ الأَشاعِرَةِ ـ أَمْ قُلْنا: إنَّها المُؤَثِّرَةُ بإذْنِ اللهِ تَعالى كما هُو المأثورُ عنِ السَلَفِ، ويُشيرُ إليهِ كلامُ حُجَّةِ الإسْلامِ الغَزالَيِّ في العِلَّةِ. فمَتى أَخْبَرَ المُجَرِّبُ عَنْ شيءٍ مِنْ ذلكَ على هذا الوَجْهِ لمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَأْسٌ.
وما أَخْرَجَهُ الخَطيبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سأَلَ رَجُلاً عَنْ حِسابِ النُّجومِ وجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُخْبِرَهُ، فقالَ عِكْرِمَةُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ يَقولُ: عِلْمٌ عَجَزَ النَّاسُ عَنْه وَدِدْتُ أَنّي عَلِمْتُهُ. وما أَخْرَجَهُ الزُبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عِنْ عبدِ اللهِ بْنِ حَفْصٍ قال: خُصَّتِ العَرَبُ بِخِصالٍ: بالكَهَانَةِ والقِيافَةِ والعيافَةِ والنُّجومِ والحِسابِ، فهدَمَ الإسلامُ الكهانَةَ وثَبَتَ الباقي بعدَ ذَلكَ، وقولُ الحَسَنِ بْنِ صالح: سمِعتُ عن ابْنِ عبّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ أَنَّهُ قالَ في النُجومِ: (ذلكَ عِلْمٌ ضَيَّعَهُ النَّاسُ)، فَلَعَلَّ ذلك ـ إنْ صَحَّ ـ مَحمولٌ على نَحْوِ ما قُلْنا. وهو عِلْمٌ لا يَنْفَعُ، والجَهْلُ بِهِ لا يَضُرُّ، فما شاء اللهُ تعالى كان وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
وقد وَرَدَ في اسْتِحْبابِ مُراعاةِ الشَمْسِ والقَمَرِ لِذِكْرِ اللهِ ـ سبحانَه ـ لا لِغَيْرِ ذَلك أَحاديثُ، مِنْها ما رواهُ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال، قالَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ((أَحَبُّ عِبادِ اللهِ إلى اللهِ الذين يُراعونَ الشَمْسَ والقَمَرَ لِذِكْرِ اللهِ)). وعندَ ابْنِ شاهينَ والطَبَرانيِّ والخَطيبِ وأَحْمَد، عنِ ابْنِ أَبي أَوْفَى وأَبي الدَرْداءِ وأَبي هُريرَةَ ـ رضيَ اللهُ عنهم ـ نحوُه.
وأَخْرَجَ الحاكِمُ في تاريخِهِ، والدَيْلَمِيُّ بسنَدٍ ضعيفٍ عنْ أَبي هريرةَ أيضاً قال، قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ثلاثةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: التاجرُ الأمينُ، والإمامُ المُقْتَصِدُ، وراعي الشمسِ بالنَّهارِ)). وأَخْرَجَ عبدُ اللهِ بْنُ أحمد في زَوائدِ الزُهْدِ عَنْ سَلْمانَ الفارسِيِّ ـ رضي اللهُ عنه ـ قالَ: ((سبْعةٌ في ظِلِّ اللهِ يَومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّه فَذَكَرَ مِنْهمُ الرَجُلَ الذي يُراعي الشَمْسَ لِمَواقيتِ الصَلاةِ)).
فهذه الأحاديثُ مُقَيَّدَةٌ بكونِ المُراعاةِ لِذِكْرِ اللهِ والصَلاةِ، لا غيرِ، وقد جَعَلَ اللهُ انْقِضاءَ وقتِ صَلاةِ الفَجْرِ طُلوعَ الشَمْسِ، وأَوَّلَ صلاةِ الظُهْرِ زَوالَها، ووقتَ العَصْرِ ما دامتِ الشَمْسُ بَيْضاءَ نَقِيَّةً، ووقْتَ المَغْرِبِ غُروبَ الشَمسِ، وورَدَ في صلاةِ العِشاءِ أِنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ كان يُؤقِّتُ مَغيبَ القَمَرِ لَيْلَةَ ثالثَ عَشَرَ، وبِالشمسِ والقَمَرِ يُعرَفُ أَوائلُ الشُهورِ وأَوْساطُها وأَواخِرُها، فمَنْ راعاهُما لِهذِه الأُمورِ فهو الذي أَرادَهُ ـ صلى الله عليْه وسَلَّمَ ـ ومَنْ راعاهُما لِغيْرِ ذلكَ فهوَ غيرُ مُرادٍ بما وَرَدَ. وقد أَخرجَ الطَبَرانيُّ والخَطيبُ عَنِ ابْنِ مَسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلَّمَ: ((إذا ذُكِرَ أَصحابي فأَمْسِكوا، وإذا ذُكِرَ القَدَرُ فأَمْسِكوا، وإذا ذُكِرَتِ النُجُومُ فأَمْسِكوا)).
وهذه الأَحاديثُ مَحْمولَةٌ على النَّظرِ فيها لِما عَدا الاهْتِداءِ والتَفَكُّرِ والاعْتِبارِ وما وَرَدَ في جَوازِ النَظَرِ في النُّجومِ أو الحثِّ عليْه، فهو مُقَيَّدٌ بالاهتداءِ والتَفَكُّرِ والاعْتِبارِ كما دَلَّتْ عليْه الأحاديثُ والآثارُ السابقُةُ، وعليْه يُحمَلُ ما رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّه سألَ رَجَلاً عَنْ حِسابِ النُّجومِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُخبِرَهُ فقالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقولُ: (عِلْمٌ عَجَزَ النَّاسُ عنْهُ ووَدِدْتُ أَنّي عَلِمْتُهُ) وقد تَقَدَّمَ.
ومِنْ ثمَّ فإنَّ هذه النجومَ لا تتحرُّكُ إلاَّ بأَمْرِ اللهِ وليس لَها حولٌ ولا طَوْلٌ ولا قوَّةٌ مِنْ ذاتِها، ولا علاقةَ لها بأحدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ، كَما قدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ ضِعافِ العُقولِ، فقدْ أَخْرجَ أَبو داوودَ والخَطيبُ عَنْ سُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ أَنَّهُ خَطَبَ فَذَكَرَ حديثاً عَنْ رَسولِ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ أَنَّه قال: ((أمَّا بعدُ: فإنَّ ناساً يَزْعُمون أَنَّ كُسوفَ هذِهِ الشَمْسِ، وكُسوفَ هذا القَمَرِ، وزَوالَ هذِه النُجومِ عنْ مَواضِعِها، لِمَوْتِ رجالٍ عُظماءَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وإنَّهم قدْ كَذَبوا، ولَكِنَّها آياتٌ مِنْ آياتِ اللهِ يَعتَبِرُ بِها عِبادُه، لِيِنْظُرَ ما يَحدُثُ لَهم مِنْ تَوبةٍ)). أَخرجَهُ كذلك أَحمد بنُ حنبلٍ: 5/16. وقد ثَبَتَ في الصحيحيْن وغيرِهِما في كُسُوفِ الشَمْسِ والقَمَرِ عَنِ النَبِيِّ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((أَنَّهما لا يَنْكَسِفانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولا لِحَياتِهِ، ولَكنْ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِما عِبادَه)). وكان قدِ اتَّفَقَ أَنْ كُسِفَتِ الشَمْسُ عندَ وَفاةِ إبراهيمَ ابْنِ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وآلِهِ وسلَّمَ ـ فقالَ النَّاسُ: إنَّها كُسِفَتْ لِمَوتِهِ. فقامَ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ خطيباً لِيُبَيِّنَ للنَّاسِ بأنَّها والقَمَرِ وغيرَهُما، لا تُخْسَفُ ولا تُكْسَفُ لِمْوتِ أَحدٍ أو ولادته، ولا لِغيرِ ذلك، إنَّما هي جَميعُها تحتَ هَيْمَنَةِ اللهِ وسَطْوَتِه، يُحَرِّكُها بقدرته كيفَ شاءَ، ويفعلُ بها ما يَشاءُ، لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتَها حِكْمَتُهُ وارْتَضَتْها
مَشَيئتُه.
وقولُهُ تَعالى: {جَعَلَ لَكُمُ النجومَ} الظاهِرُ أَنَّ "جَعَلَ" بِمَعْنى خَلَقَ فَتَكونُ مُتَعَدِّيَةً لِواحِدٍ، و"لَكمْ" مُتَعَلِّقٌ بـ "جَعَلَ" وكذا "لتهتدوا". فإنْ قِيلَ: كيف يَتَعَلَّقُ حَرْفا جَرٍّ متَّحدانِ في اللَّفْظِ والمَعنى؟ فالجَوابُ أَنَّ الثاني بدلٌ مِنَ الأَوَّلِ بَدَلُ اشْتِمالٍ بإعادَةِ العامِلِ، فإنَّ "لِيَهْتَدوا" جارٌّ ومَجْرورٌ، إذِ اللاَّمُ لامُ كَيْ، والفِعْلُ بَعدَها مَنْصوبٌ بإضْمارِ "أَن" عندَ البَصْرِيّينَ وقدْ تَقَدَّمَ تَقريرُهُ. والتَقديرُ: جَعَلَ لَكُمْ النُجومَ لاهْتِدائكم، ونَظيرُهُ في القُرآنِ: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} الزخرف: 33. فَـ "لِبُيوتِهم" بَدَلٌ مِنْ "لِمَنْ يَكْفُرْ" بإعادَةِ العامِلِ، وقالَ ابْنُ عُطْيَةَ: وقدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ بَمَعْنى "صَيَّرَ" ويُقَدَّرُ المَفْعولُ الثاني مِنْ "لتَهْتدوا" أَيْ: جَعَلَ لَكُمُ النُجومَ هِدايةً.
قالَ الشَيْخُ: وهُوَ ضَعيفٌ لِنُدورِ حَذْفِ أَحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ وأَخَواتِها. ابْنُ عَطِيَّةَ لم يَدَّعِ حَذْفَ المَفعولِ الثاني حتَّى يَجْعَلُهُ ضَعيفاً إنَّما قالَ: إنَّهُ مِنْ "لِتَهْتَدُوا" أيْ: فيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الجارِّ الذي وَقَعَ مَفْعُولاً ثانياً كَما يُقدَّرُ في نَظائِرِهِ والتَقديرُ: جَعَلَ لَكمُ النُجومَ مُسْتَقِرَّةً أوْ كائنةً لاهْتِدائكم. وأَمَّا قولُهُ: "أَيْ جَعَلَ لَكمُ النُّجومَ هِدايةً" فلإِيضاحِ المَعْنَى وبَيانُهُ. والنُّجومُ مَعْروفَةٌ وهيَ جَمْعُ نَجْمٍ، والنَّجْمُ في الأَصْلِ مَصْدَرٌ، يُقالُ: نَجَمَ الكَوْكَبُ يَنْجُمُ نَجْماً ونُجُوماً فهُوَ ناجِمٌ، ثُمَّ أُطْلِقَ على الكَوْكَبِ مَجازاً، فالنَّجْمُ يُسْتَعْمَلُ مَرَّةً اسْماً للكَوْكَبِ ومَرَّةً مَصْدَراً، والنُجومُ تُسْتَعْمَلُ مَرَّةً للكَواكِبِ وتارَةً مَصْدَراً ومِنْهُ: نَجَمَ النَبْتُ أيْ: طَلَعَ، ونَجَمَ قَرْنُ الشاةِ وغَيْرُها، والنَّجْمُ مِنَ النَّباتِ ما لا ساقَ لَهُ، والشَجَرُ ما لَهُ ساقٌ، والتَنْجِيمُ: التَفْريقُ، ومِنْهُ نُجومُ الكِنَانَةِ تَشْبيهاً بِتَفرُّقِ الكَواكِبِ.
(96)
قَوْلُهُ ـ سبحانه وتَعَالَى: {فالِقُ الْإِصْباحِ} ها هو ـ تبارك وتعالى ـ ينتقل بنا إلى السماءِ ليُبَيِّنَ لنا بعضاً من دلائلِ قدرتِه فيها، بعدَ أنْ بيَّنَ لنا بعضاً من دلائلِ قدرتِه في الأرضِ، وهو نوعٌ آخَرُ مِنْ دَلائلِ وُجودِ اللهِ الصانِعِ العظيم وعِلمِهِ وقُدْرَتِه وحِكْمَتِهِ ـ سبحانَه وتعالى، فالنَّوعُ المُتَقَدِّمُ ـ أي قولُه: {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الحبِّ والنَّوى..} من الآيةِ السابقةِ، كانَ مَأْخوذاً مِنْ دَلالَةِ أَحْوالِ النَباتَ والحَيَوانِ، والنَّوعُ المَذْكورُ في هذه الآيةِ مأخوذٌ مِنْ الأَحْوالِ الفَلَكِيَّةِ، وذلكَ لأنَّ فَلْقَ ظُلْمَةِ الليلِ بِنُورِ الصُبْحِ أَعْظَمُ في كَمالِ القُدْرَةِ مِنْ فَلْقِ الحَبِّ والنَّوى بالنَباتِ والشَجَرِ ولأنَّ مِنَ المَعلومِ بالضَرورةِ أَنَّ الأَحْوالَ الفَلَكِيَّةَ أَعْظَمُ في القلوبِ وأَكْثَرُ وَقْعاً مِنْ الأَحوالِ الأرْضِيَّةِ. و"فالقُ الإصباحِ" أَيْ أَنَّ اللهَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ، يَشُقُّ غَبَشَ الصُبْحِ بِضوءِ النَهارِ، لِيَسْعى الأحياءُ إلى تَحصيلِ أَسْبابِ حياتِهم، وجَعَلَ اللَّيلَ راحةً للجِسْمِ والنَفسِ، وسَيَّرَ الشَمْسَ والقَمَرَ بِنِظامٍ دَقيقٍ ليَعرِفَ الناسُ به مَواقيتَ مُعاملاتِهم وعِباداتِهم من صَوْمٍ وصَلاةٍ وحَجٍّ وغير ذلك. وكلُّه في نظامٍ مُحْكَمٍ، من تَقديرِ القادرِ المُهيمِنِ على الكون وتدبيرِ المُحيطِ بكلِّ شيءٍ عِلْماً. وجَعَلَ الشَمْسَ والقَمَرَ يَجْريان في الفَلَكِ بحِسابٍ مُقَدَّرٍ مَعلومٍ لا يَتَغَيَّرُ ولا يَضطَّربُ حتّى يَنْتَهي إلى أَقْصى مَنازِلِهِما بحيثُ تُتِمُّ الشَمْسُ دورَتَها في سَنَةٍ ويُتِمُّ القَمَرُ دورَتَهُ في شهرٍ، وبِذلك تَنْتَظِمُ المَصالِحُ المُتَعَلِّقَةُ بالفُصولِ الأَرْبَعَةِ وغَيرِها. وَالصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ أَوَّلُ النهارِ، وكذلك الإصباحُ، أيْ فَالِقُ الصُّبْحِ كُلَّ يَوْمٍ، يُرِيدُ الْفَجْرَ. وَالْمَعْنَى: شَاقُّ الضِّيَاءِ عَنِ الظَّلَامِ وَكَاشِفُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ خَالِقُ النَّهَارِ. وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَاغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ)). فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: ((وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي)) وَفِي كِتَابِ النَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا ((وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي)) وَذَلِكَ يَفْنَى مَعَ الْبَدَنِ؟ قِيلَ لَهُ: فِي الْكَلَامِ تَجَوُّزٌ، وَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ لَا تُعْدِمْهُ قَبْلِي. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ هُنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ فِيهِمَا: ((هُمَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ)). وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِمَا الْجَارِحَتَانِ.
قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ الليلَ سَكَناً} أيْ ساجِياً مُظلِماً لِتَسْكُنَ فِيهِ الْأَشْيَاءُ كَمَا قَالَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجى}، وَقَالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}، وَقَالَ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}، قَالَ صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ عَاتَبَتْهُ فِي كَثْرَةِ سَهَرِهِ: (إِنَّ اللهَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا، إِلَّا لِصُهَيْبٍ، إِنَّ صُهَيْبًا إِذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ طَالَ شَوْقُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ
النَّارَ طَارَ نَوْمُهُ) (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).
قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مُقَنَّنٍ مُقَدَّرٍ لَا يَتَغَيَّرُ، ولا يَضطَّرِبُ، بَلْ لِكُلِّ مِنْهُما مَنَازِلُ يَسْلُكُهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ طُولًا وَقِصَرًا كَمَا قَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} يونس، الآية: 5. وَكَمَا قَالَ في سورةِ يس: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، الآية: 40. وقال في سورةِ الأعراف: {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} الآية: 54، وَقال في سورة الأنعام: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} الآية: 96. أَيِ الْجَمِيعُ جَارٍ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَكَثِيرًا مَا إِذَا ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى خَلَقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَخْتِمُ الْكَلَامَ بِالْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ كَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم}يس، الآية: 37 والآية: 38. ومَعنَى "حُسْباناً" أَيْ بِحِسَابٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ. وَقَالَ ابْنُ عبَّاسٍ في قولِهِ ـ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً} أَيْ بِحِسَابٍ. وقال الْأَخْفَشُ: حُسْبَانٌ جَمْعُ حِسَابٍ، مِثْلَ شِهَابٍ وَشُهْبَانٍ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: حُسْبَانٌ مَصْدَرُ حَسَبْتُ الشَّيْءَ أَحْسُبُهُ حُسْبَانًا وَحِسَابًا وَحِسْبَةً، وَالْحِسَابُ الِاسْمُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: جَعَلَ اللهُ تَعَالَى سَيْرَ الشَّمْسِ. وَالْقَمَرِ بِحِسَابٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، فَدَلَّهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وَقِيلَ: "حُسْباناً" أَيْ ضِيَاءً. وَالْحُسْبَانُ: النَّارُ فِي لُغَةٍ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ناراً. والحُسْبانَةُ: الوِسَادَةُ الصَغيرَةُ أَيْضاً.
قولُه: {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} قال: "العزيز" إشارةً إلى كمالِ قُدْرَتِه، و"العليم" إشارةً إلى كَمالِ عِلْمِهِ، فإنَّ تَقديرَ الأفْلاكِ بصِفاتِها المخصوصَةِ، وهَيآتِها المَحدودَةِ، وحَركاتِها المُقدَّرَةِ بالمَقاديرِ المَخْصوصةِ في السرعةِ والبُطءِ وغيرِ ذلك، لا يُمكنُ حصولُهُ إلاَّ بِقُدْرَةٍ كامِلَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بجَميعِ المُمْكِناتِ، وعِلْمٍ نافذٍ في جَميعِ المَعلوماتِ مِنَ الكُلِّيَّاتِ والجُزْئيَّاتِ، وهو تصريحٌ بأنَّ حُصولَ هذهِ الأَحْوالِ والصِفاتِ ليس بالطَبْعِ والخاصيَّةِ، وإنَّما بِتَخْصيصِ الفاعِلِ القادرِ المُخْتارِ ـ جَلَّ وعَلا وعَزَّ.
قولُهُ تعالى: {فَالِقُ الإصباح} هو المصدرُ والجُمهورُ على كسرِ الهمزةِ، وهو من: أصبح يُصبِحُ إصْباحاً، وقال الليثُ والزَجَّاجُ والفَرَّاءُ: إنَّ الصُبْحَ والإصَباحَ والصَباحَ واحدٌ، وهو أَوَّلُ النَهارِ. وقيل: الإِصباحُ ضوءُ الشَمْسِ بالنَهارِ وضَوْءُ القَمَرِ بالليلِ، رواهُ ابْنُ أَبي طَلْحَةَ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم. وقال مجاهدٌ: هو إضاءةُ الفَجْرِ. والظاهرُ أنَّ الإِصْباحَ في الأصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِه الصُبْحُ وكذا الإِمْساءُ، قالَ امْرُؤ القيسِ:
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِ ........... بصبحٍ وما الإِصباحُ منكَ بِأَمْثَلِ
وقَرَأَ الحَسَنُ وأَبو رَجاءٍ وعيسى بْنُ عُمَر: الأصباح: بفتح الهمزة
وهو جمعُ صُبْحٍ نحوَ: قُفْلٍ وأَقفالٍ وبُرْدٍ وأَبرادٍ، ويُنْشَدُ قولُه:
أفنى رياحاً وبني رياحِ ......................... تناسخُ الأمساءِ والأصباح
بِفتحِ الهَمزةِ مِنَ الأَمْساءِ والأَصْباحِ على أَنَّهُما جَمْعُ مُسْي وصُبْح، وبِكسرِها على أنَّهما مَصدران. وقَرَأَ النُخَعِيُّ "فَالِقُ الإصباحَ" بنصبِ "الإصباحَ" وكَسْرِ الهَمزةِ، كأنَّهُ قال: "فالقٌ الإصباحَ"، على أنَّ "الإصباحَ" مفعولٌ بِهِ، لكنْ حُذِفَ التَنْوينُ لِسُكونِهِ وسُكونِ اللامِ بما أنَّ الهمزةَ للوصلِ. فحُذِفَ التَنْوينُ لالْتِقاءِ الساكنين كَقولِ أبي الأسود الدؤليّ:
فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَب............................. ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا
وقرئ: {والمُقيمي الصلاةَ} الحَج: 35. و{لَذَائِقُو العذابَ} الصافات: 38. بالنَصْبِ حَمْلاً للنُونِ على التَنْوين، إلاَّ أَنَّ سِيبَوَيْهِ لا يُجيزُ حَذفَ التَنوينِ لالْتِقاءِ الساكِنَيْنِ إلاَّ في شِعْرٍ، وقدْ أَجازَهُ المُبَرِّدُ في التَوَسُّعِ. وقَرَأَ يَحيى والنُخَعِيُّ وأَبُو حَيَوَةَ: "فَلَقَ" فِعْلاً ماضِياً، وقد تَقَدَّمَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ قَرَأَ الأُولى كذلك، وهذا أَدَّلُّ دَليلٍ على أَنَّ القِراءةَ عندَهم سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، أَلا تَرى كيف قَرَأَ عَبْدُ اللهِ "فَلَقَ الحَبَّ" فِعْلاً ماضياً، وَقَرَأَ "فالقُ الأَصباحِ"، اسمَ فاعلٍ، وقَرَأَ الثلاثةُ المَذكورون بعَكْسِهِ. ومعنى فَلَق الصُبْحَ، والظُلمَةَ هو أَنَّها تَنْفَلِقُ عنِ الصُبْحِ كما قال أبو نُواسٍ يصف الخمرةَ:
تَرَدَّتْ بِهِ ثُمَّ انْفَرَى عَنْ أدِيمِهَا ................ تَفَرِّيَ ليلٍ عَنْ بياضِ نَهارِ
فإمَّا أَنْ يُرادَ: فالقُ ظُلْمَةِ الإِصباحِ، يَعني أَنَّه على حَذْفِ مُضافٍ.
وإمّا أَنْ يُرادَ فالقُ الإِصباحِ الذي هو عَمودُ الفَجْرِ عنْ بياضِ النَهارِ وإسْفارُه، وقالوا: انْشَقَّ عَمودُ الفَجْرِ وانْصَدَعَ، وسَمَّوا الفجرَ فَلَقاً بمَعنى مَفْلوقٍ، قالَ أبو تمامٍ الطائيُّ:
وأزرقُ الفجرِ يَبْدو قَبْلَ أَبْيَضِهِ ............ وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطَرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ
وقُرِئَ: فالقَ وجاعلَ بالنَصْبِ على المَدْحِ. وأَنشدَ غيرُه:
فانشقَّ عنها عمودُ الفَجْرِ جافلةً ... عَدْوَ النَّحوص تخافُ القانِصَ اللَّحِما
قولُهُ: {وَجَاعِلُ اللَّيلِ سَكَناً} قَرَأَ الكُوفيُّونَ: "جَعَلَ" فعلاً ماضياً، وقَرَأَ الباقون بِصيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ، والرَّسْمُ يَحْتَمِلُهُما، و"الليل" مَنْصوبٌ عندَ الكُوفيّين، ومَجْرورٌ عندَ غيرِهم بمُقتضى قِراءةِ كلٍّ منهم، ووَجهُ قراءةِ الكوفيين لَه مُناسَبَتُهُ لما بَعدَه فإنَّ بَعدَهُ أَفعالاً ماضِيَةً نحو: {جَعَلَ لَكُمُ النجومَ} الأنعام: 97. {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم} الأنعام: 98. إلى آخرِ الآياتِ، و"سَكَناً": إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أَنَّ الجَعْلَ بمَعنى التَصْيِيرِ، وإمَّا حالاً على أَنَّه بمَعنى الخَلْقِ، وتَكونُ الحالُ مُقَدَّرَةً.
وأمَّا قِراءةُ غيرِهم فـ "جاعِلُ" يُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ بمَعْنى المُضِيِّ، وهو الظاهرُ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءةُ الكُوفِيِّين، والماضي عندَ البَصْرِيِّين لا يَعْمَلُ إلاَّ مَعَ "أل" خِلافاً لِبَعْضِهم في منَعِ إعْمالِ المُعَرَّفِ بِها، وخلافاً لِلكِسائي في إعْمالِهِ مُطْلقاً، وإذاً فـ "سَكَناً" منصوبٌ بفِعلٍ مُضْمَرٍ عندَ البَصْريّين، وعلى مُقتَضى مَذْهَبِ الكِسائي يَنْصِبُه بِه. وقد زَعَمَ أَبو سَعيدٍ السِيرافي أَنَّ اسْمَ الفاعِلِ المُتَعدِّي إلى اثْنَيْنِ يَجوزُ أَنْ يَعمَلَ في الثاني وإنْ كان ماضياً، قالَ: لأنَّه لَمَّا أُضيفَ إلى الأَوَّلِ تَعَذَّرَتْ إضافَتُهُ إلى الثاني فَتَعيَّنَ نَصْبُه لَهُ. وقالَ بعضُهم: لأنَّهُ بالإِضافةِ أَشْبَهَ المُعَرَّفَ بـ "أل" فعَمِلَ مُطلَقاً. وعلى هذا فـ "سَكَناً" مَنْصوبٌ بِه أَيضاً، وأَمَّا إذا قُلْنا إنَّه بمَعنى الحَالِ والاسْتِقْبالِ فنَصْبُهُ به. و"سَكْن" على وزنِ فَعْل بمَعنى مَفْعول كالقَبْضِ بمَعنى مَقبوضٍ.
قولُه: {والشمسَ والقَمَر حُسْبَاناً} الجُمهورُ بِنَصْبِ "الشَمْس" و"القَمَر" وهي واضحةٌ على قراءةِ الكُوفِيِّين، أَيْ: بِعَطْفِ هذيْن المَنْصوبيْن على المَنصوبَيْنِ بِـ "جَعَلَ"، وفي "حُسْباناً" الوجهان اللذان في "سَكَناً" مِنَ المَفعولِ الثاني والحالِ، وأَمَّا على قراءةِ الجَماعةِ فإنْ اعْتَقَدْنا كونَه ماضياً فلا بُدَّ مِنْ إضْمارِ فِعْلٍ يَنْصِبُهُما، أَيْ: وجَعَلَ الشَمْسَ، وإنْ قُلْنا إنَّهُ غيرُ ماضٍ فمَذْهَبُ سَيبَوَيْهِ أَيْضاً أَنَّ النَصْبَ بإضْمارِ فِعْلٍ، تَقولُ: "هذا ضاربُ زيدٍ الآنَ أوْ غَداً أوْ عَمْراً" بِنَصْبِ عَمْرٍو، وبِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ لا على مَوْضِعِ المَجْرورِ باسْمِ الفاعِلِ، وعلى رأيِ غيرِهِ يَكونُ النَّصْبُ على مَحَلِّ المَجْرورِ، ويُنْشِدونَ قولَهُ:
هل أَنْتَ باعثُ دينارٍ لِحاجَتِنا .......... أَوْ عَبْدَ رَبٍّ أَخا عَوْن بْنِ مِخْراقِ
بِنَصْبِ "عَبْد" وهو مُحْتَمِلٌ للمَذْهَبَيْنِ. وقال الزمخشري: أو يُعطَفان على مَحَلِّ "اللَّيْلِ". فإنْ قلتَ: كيفَ يَكونُ لِـ "اللَّيْلِ" مَحَلٌّ والإِضافةُ حقيقةٌ لأنَّ اسْمَ الفاعِلِ المُضافِ إليْهِ في مَعْنى المُضِيِّ ولا تقولُ: زَيْدٌ ضارِبٌ عَمْراً أَمْسِ؟ قلتُ: ما هو بمَعنى الماضي، وإنَّما هوَ دالٌّ على فعلٍ مُسْتَمِرٍّ في الأَزْمِنَةِ. وقال أبو حيَّان التوحيديّ معقِّباً عليه: أَمَّا قولُهُ إنَّما هو دالٌّ على فِعْلٍ مُسْتَمِرٍّ في الأَزْمِنَةِ، يَعْني فيَكونُ عامِلاً، ويَكونُ للمَجْرورِ إذْ ذاكَ بَعدَهُ مَوْضِعٌ فيُعْطَفُ عليْه "الشَمْسُ والقَمَرُ". وهذا ليس بصحيحٍ، إذا كان لا يَتَقَيَّدُ بِزَمَنٍ خاصٍّ، وإنَّما هو للاسْتِمْرارِ، فلا يَجُوزُ لَهْ أَنْ يَعْمَلَ، ولا لِمَجرورِهِ مَحَلٌّ، وقد نَصُّوا على ذلك وأَنشدوا عليه قولَ الحطيئةِ:
أَلْقَيْتَ كاسبهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ............ فامْنُنْ عليكَ سلامُ اللهِ يا عُمَرُ
فليْسَ الكاسِبُ هُنا مُقيَّداً بِزَمانٍ، وإذا تَقَيَّدَ بِزمانٍ: فإمَّا أَنْ يَكونَ ماضياً دون "أل" فلا يَعْمَلُ عِنْدَ البَصْريِّين، أوْ بـ "أل" أوْ حالاً أوْ مُسْتَقْبَلاً فيَعمَلُ ويُضافُ على ما أُحْكِمَ في النَّحْوِ. ثمَّ قالَ: وعلى تقديرِ تَسْليمِ أَنَّ الذي للاسْتِمْرارِ يَعْمَلُ فلا يَجوزُ العَطْفُ على مَحَلِّ مَجْرورِهِ، بلْ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ في الذي بمَعنى الحالِ والاسْتِقْبالِ أَنْ لا يَجوزَ العَطْفُ على مَحَلِّ مَجْرورِهِ، بِلِ النَّصْبُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، لو قلتَ: هذا ضاربُ زيدٍ وعَمْراً لم يَكُنْ نَصْبُ "عَمْراً" على المَحَلِّ على الصحيحِ وهو مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ؛ لأنَّ شَرْطَ العَطْفِ على المَوْضِعِ مَفْقودٌ، وهوَ أَنْ يَكونَ للمَوْضِعِ مُحْرِزٌ لا يَتَغَيَّرُ، وهذا مُوَضَّحٌ في عِلْمِ النَّحْوِ. انتهى تعقيب الشيخ التوحيدي.
وقد ذَكرَ الزمخشريُّ في أَوَّلِ الفاتحةِ في {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الفاتحة: 4. أَنَّه لَمَّا لَمْ يُقْصَدْ بِه زَمانٌ صارتْ إضافَتُهُ مَحْضَةً فلِذلك وَقَعَ صِفَةً للمَعارِفِ، فمِنْ لازِمِ قولِهِ إنَّهُ يَتَعَرَّفُ بالإِضافَةِ أَنْ لا يَعْمَلَ، لأنَّ العامِلَ في نِيَّةِ الانْفِصالِ عَنْ الإِضافَةِ، ومَتى كان في نِيَّةِ الانْفِصالِ كان نَكِرَةً، ومتى كان نَكِرَةً فلا يَقَعُ صِفَةً للمَعْرِفَةِ. وهذا حَسَنٌ حيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ
ـ سبحانَه ـ بِقَوْلِهِ، وقدْ تَقَدَّمَ تَحقيقُه في هناك.
وقرأ أَبو حَيَوَةَ: {وَالشَّمْسِ والقَمَرِ} جَرّاً نَسَقاً على اللفْظِ. وقُرِئَ شاذّاً {والشَّمْسُ والقَمَرُ} رَفْعاً على الابْتِداءِ، وكانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقْرَأَ "حُسْبانٌ" رَفعاً على الخَبَرِ، وإنَّما قَرَأَهْ نَصْباً، فالخَبَرُ حِينَئذٍ مَحذوفٌ تَقديرُهُ: مَجْعولانِ حُسْباناً، أوْ مخلوقان حُسْباناً. فإنْ قُلتَ: لا يُمْكِنُ في هذِهِ القراءةِ رَفْعُ "حسبان" حتّى نُلْزِمَ القارِئ بذلك؛ لأنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ ليْسا نَفْسَ الحُسْبانِ. فالجَوابُ: أَنَّهُما في قِراءةِ النَّصْبِ: إمَّا مَفْعولانِ أوَّلانِ و"حسْباناً" مفعولٌ ثانٍ، وإمَّا صاحِبا حالٍ و"حُسباناً" حالٌ، والمَفْعولُ الثاني هو الأَوَّلُ، والحالُ لا بُدَّ وأَنْ تَكونَ صادِقَةً على ذِي الحالِ، فمَهْما كانَ الجَوابُ لَكم كانَ لَنا والجَوابُ ظاهرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.
والحُسْبانُ: إمّا أَنَّهُ جَمْعٌ، فقيل: هو جَمْعُ حِسابٍ كَرِكابٍ ورُكْبانٍ وشِهابٍ وشُهْبانٍ، وهو قولُ أَبي عُبَيْدٍ والأخفشِ وأَبي الهَيْثَمِ والمُبَرِّدِ. وقالَ أَبو البَقاءِ: "هو جَمْعُ حُسْبانَةٍ". وهوَ غَلَطٌ؛ لأنَّ الحُسْبانَةَ هي القِطْعَةُ مِنَ النَّارِ، ولَيْسَ المُرادُ ذلك قَطْعاً. وقيلَ: بلْ هوَ مَصْدَرٌ كالرُّجْحانِ والنُّقْصانِ والخُسْران، وأَمَّا الحِسابُ فهو اسْمٌ لا مَصْدَرٌ، وهذا قولُ ابْنِ السكِّيتِ. وقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: والحُسْبانُ بالضَمِّ مَصْدَرُ حَسَبْتُ يَعني بالفَتْحِ كما أَنَّ الحِسبانَ بالكَسْرِ يَعني مَصْدَرُ حَسِبْتُ بالكَسْرِ، ونَظيرُهُ الكُفْرانُ والشُّكْران. وقيلَ: بَلْ الحُسْبانُ والحِسابُ مَصْدرانِ وهُوَ قَوْلُ أَحمدٍ بْنِ يَحيى. وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْدٍ عَنْ أَبي زَيْدٍ في مَجيءِ الحُسبانِ مَصْدَراً قولُ قيسٍ
بْنِ الخَطيمِ:
على اللهِ حُسْباني إذا النفسُ أشرفَتْ ... على طَمَعٍ أَو ْخافَ شَيْئاً ضَميرُها
وانْتِصابُ "حُسْباناً" على ما تَقَدَّمَ مِنَ المَفْعولِيَّةِ أَوْ الحاليَّةِ. وقالَ ثَعلب عَنِ الأَخْفَشِ: إنَّهُ مَنْصوبٌ على إسْقاطِ الخافِضِ، والتَقديرُ: يَجْريان بِحُسْبانٍ كَقولِهِ: {لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} أيْ: مِنْ طِينٍ.
وقولُهُ: {ذلك} إشارةً إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الفَلْقِ أَوِ الجَعْلِ أوْ جَميعِ ما تقدَّم مِنَ الأَخْبارِ في قولِهِ: "فالق الحَبِّ" إلى "حُسْباناً".
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ
فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
(97)
قَوْلُهُ ـ سبحانَهُ وتَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ما زِلْنا في عجائبِ السَماءِ مَعَ دَلائلِ قُدْرَتِهِ ـ تبارك وتعالى ـ فهذِه الآيةُ العظيمةُ تبَيِّنَ لَنا كَمَالَ قُدْرَتِهِ ـ سبحانَهُ ـ في النُجومِ. وَفِي النُّجُومِ مَنَافِعُ جَمَّةٌ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ مَنَافِعِهَا، وَهِيَ الَّتِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، فقالَ: "لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ" فهو ـ سبحانَه وتعالى ـ وحدَهُ الذي سخَّرَ لَنا هذِه الكواكِبَ النَيِّرَةَ لِنَهْتَديَ بِها إلى الطُرِقِ والمَسالِكِ خِلالَ سَيْرِنا في ظُلُماتِ اللَّيلِ بَرّاً وبحراً، حيثُ لا نَرَى شَمْساً ولا قَمَراً. وَفِي سورةِ الصافاتِ ذكَرَ لَنا مَنافِعَ أُخْرى فقال: {وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ} الآيةِ: 7. أيْ أنَّ هذه النُجومَ تتصدى لِمَرَدَةِ الشياطينِ الذين يحاولون اسْتِراقَ السَمْعِ ومَعْرِفَةَ ما يَحْدُثُ في المَلَأِ الأَعْلى، فتَقْذِفُهم بالشُهُبِ الحارِقَة كما جاءَ في سورةِ الجِنِّ حيثُ قال تعالى على لسانِ الجانِّ: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} الآية: 9. وسنذكُرُ المزيدَ لِبيانَ ذلكَ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى. وفي سورةِ المُلك ذَكَرَ لَنا نَوعاً آخَرَ مِنْ المَنافِعِ في هَذِهِ النُجومِ فقالَ: {وَلَقدْ زَيَّنا السماءَ الدُنْيا بِمَصابيحَ} الآية: 5. فإنَّ هذه النُجومَ لها وظيفةٌ جماليَّةٌ أَيْضاً، فهي تُزَيِّنُ السَماءَ حتَّى أَنَّ الناظرَ إليْها لا يَمَلُّ مِنَ الاسْتِمْتاعِ بهذا الجَمَالِ الأخَّاذِ. وكما أَنَّ نُجومَ السَماءِ يُهتَدى بها في الفَلَواتِ، فَكذلك نُجُومُ القُلوبِ يُهتَدى بها في معرفة رَبِّ الأرضين والسموات. وقيلَ: المُرادُ بـ "النجوم" هو كلُّ ما عَدا النَيِّريْن (الشمس والقمر) لأنَّ هذه النجومَ هي التي بِها الإهْتِداءُ، في الليلِ، ولأنَّ النَّجْمَ يُخَصُّ في العُرْفِ بما عَداهُما. وجُوِّزَ أَنْ يَدْخُلا فيها فيكونُ هذا بياناً لِفائدتِهِما العامَّةِ إثْرَ بيانِ فائدتِهِما الخاصَّةِ، ويَقْسِمُ علماءُ الفَلَكِ النُّجومَ إلى ثوابتَ وسَيَّاراتٍ، فالثوابتُ كثيرةٌ لا يحصي عَدَدَها إلاَّ اللهُ تعالى، وهي ثابتةٌ نِسْبِيّاً لأنَّنا نَراها هكذا لِشِدَّةِ بُعدِها عنها، وإنَّما هي متحركةٌ في أفَلاكِها بِحَسَبِ نظامِها الذي وَضَعَهُ لَها خالقُها ـ تَبارَكَ وتَعالى ـ فَلا ثَباتَ لِمخلوقٍ في هذا الكون، وإنَّما يَجْري كلٌّ إلى أَجلِهِ. وأمَّا السياراتُ فهيَ تِسْعٌ بما فيها كَوْكَبُ الأَرْضِ التي نَحْنُ عليها وهي: نِبْتون، أُورَانوس، زُحَل، المشتري، المريخ، الزهرة، عطارد، بلوتن. وكان القًدَماءُ يَحْسِبونَها سَبْعاً، ثُمَّ اكْتَشَفَ العُلماءُ لَها ثامِناً فتاسعاً، وكلُّها تَدورُ حَوْلَ الشَمْسِ بِسُرْعةٍ فائقةٍ، بعضُها يُكمِلُ دورةً كلَّ ثمانينَ يَوماً مِنْ أَيّامِنا، وهو عُطارد، أَقرَبُ الكَواكِبِ إلى الشمسِ، وهي سَنَتُهُ؛ وبعضُها يُكْمِلُ دورةً كاملةً في مئتيْن وثمانٍ وارْبعينَ سَنَةً مِنْ سِنِيِّ أَرْضِنا، وهو أَبْعدُها مِنَ الشَمْسِ، ويَدورُ في دائرةٍ مِساحَتُها سَبْعَةُ بَلايينَ وخَمْسِمِئةِ مِليون مِيلٍ، حَسْبَ ما يُقَدِّرُ عُلَماءُ الفَضاءِ. والقُمَرُ أَقْرَبُ الأَجرامِ السَماوِيَّةِ مِنَّا، حيثُ قَدَّرَ العُلَماءُ المَسافةَ بينَه وبينَ الأَرْضِ بِنَحْوِ مِئتَيْن وأَرْبعينَ أَلْفَ مِيلٍ، وهو الوَحيدُ الذي اسْتَطاعَ الإنْسانُ أَنْ يَصِلَ إليْهِ بِوِساطَةِ المَراكِبِ الفَضائيَّةِ، فَنَزَلَ على سَطْحِهِ، وسَبَرَ أَغْوارَه، وتَعَرَّفَ على تضاريسِهِ وأَتى بِعَيِّناتٍ مِنْ مائهِ وتُرْبَتِهِ وأَحجارِهِ، وهو يَدورُ حولَ الأَرْضِ مرةً كلَّ تسعةٍ وعِشْرينَ يَوماً ونِصْفَ اليومِ، وهو الشهرُ القَمَرِيُّ الذي يَعْتَمِدُهُ المُسلِمون في تَقويمِهم، وحِسابِ أَوْقاتِ صِيامِهم وحَجِّهم. وتَبْعُدُ أَرْضُنا عن الشَمْسِ ثلاثةً وتِسْعينَ مِليونَ ميلٍ، بتقديرِ العُلماءِ، وتَدورُ الأرضُ حولَ مِحْورِها بِسُرْعَةِ ألْفِ مِيلٍ في الساعةِ، حسبَ ما يقولُ عُلَماءِ فيزياءِ الفَضاءِ، وتَدورُ حولَ الشَمْسِ في دائرةٍ مِساحَتُها مِئةٌ وتِسعونَ مِلْيونَ مِيلٍ، وتَسْتَكْمِلُ دَوْرَتَها في هذه الدائرةِ مَرَّةً واحدةً كلَّ سنةٍ. ويَدورُ حولَ هذِهِ الكواكبِ واحدٌ وثلاثون قَمَراً أُخْرى. وقَدَّرتْ بعضُ الدِراساتِ المُتَخَصِّصةِ وُجودَ حَلَقةٍ مِنْ ثلاثينَ أَلْفاً مِنَ النُجَيْماتِ وآلافِ المُذَنَّباتِ، وشُهْبٍ لا حَصْرَ لَها ولنَّكها تَدورُ حولَ ذلكَ السَيَّارَ العِمْلاقِ الذي نسَمِّيهِ الشَّمْس، والتي يَبْلُغُ قطرُها بحَسَبِ بَعْضِ النَظَريَّاتِ: ثَمانَمِئةٍ وخَمْسَةً وسِتِّينَ أَلفَ مِيلٍ. وهي أكْبَرُ مِنْ الأرضِ بِمِلْيونَ مَرَّة ورُبْعِ المِليون.
ولا تُشَكِّلُ هذهِ الشَمْسُ وما حَوْلَها مِنَ الكَواكِبِ المَذْكورةِ، والأقْمارِ، والنُجَيْماتِ، والشُهُبِ التي تَشَغَلُ هَذا المَجالَ الواسِعَ ذَرَّةً صَغيرةً في هذا المَكانِ الواسِعِ الذي لا يُدْرِكُهُ عَقْلٌ ولا بَصَرٌ. ثمَّ إنَّ هذِهِ الشمسُ لَيْسَتْ ثابِتَةً أو واقفةً في مَكانٍ ما، وإنَّما {وكلٌّ في فلكٍ يسبحون} يس: 40. فهي بِدَوْرِها ـ ومَعَها كُلُّ هذِه الأجرامِ التي ذَكَرْناها ـ تَدورُ في نِظامٍ رائعٍ بَديعٍ بِسُرْعَةِ ستِّمِئةِ أَلفِ ميلٍ في الساعةِ. وفي هذا الكون الفسيحِ العَجيبِ آلافُ الأنظِمَةِ ـ غَيْر نِظامِنا الشَمْسِيِّ ـ يَتَكَوَّنُ مِنْها ذلِكُمُ النِّظامُ الذي نُسَمِّيهِ (المَجَرَّات) أوْ مَجاميعِ النُجومِ، وكأنَّها جَميعَها طَبَقٌ عَظيمٌ تَدورُ عليْه النُجومُ والكَواكِبُ مُنْفَرِدَةً ومُجْتَمِعَةً.
وتتحرَّكُ مجَرّاتُ النُّجومِ هذِه بِدَوْرِها أَيْضاً، فالمجَرَّةُ التي يَقَعُ فيها نِظامُنا الشَمْسِيُّ تَدورُ حولَ مِحْوَرِها بحيثُ تُكْمِلَ دَورةً واحدةً كلَّ مئتيْ بِلْيون سَنَةً ضوئيَّةً، وهذا شَيْءٌ مُذْهِلٌ ومُحَيِّرٌ لا تَتَصَوَّرُهُ العُقولُ ولا تستوعِبُه.
ويُقَدِّرُ عُلَماءُ الفَلَكِ أَنَّ هذا الكونَ يَتَأَلَّفُ مِنْ خَمْسِمِئةِ مِليون مَجَرَّة، في كلٍّ مِنْها مئةُ مليون نَجْم، أوْ نَحو ذلك. ويُقدِّرونَ أنَّ أَقْرَبَ مَجْموعَةٍ مِنَ النُّجومِ، وهي التي نَراها في الليلِ كَخُيوطٍ بَيْضاءَ دَقيقةٍ، والتي نُسَمِّيها دَرْبَ التَبَّانَةِ، تَضُمُّ حَيِّزاً مَداهُ أَلْفُ سَنَةٍ ضَوْئيَّة. وسُرْعَةُ الضَوْءِ ثلاثمئةِ أَلْفِ (كم / الثانية). وبِمَعرِفَةِ هذه الحقيقةِ يَتَبَيَّنُ لَنا اتِّساعُ السَنَةِ الضَوئيَّةِ ومِقدارُ زَمَنِها، ومسافةُ ألفِ سَنَةٍ ضَوئيَّة شيءٌ مُذْهِلٌ، فوقَ ما يُحيطُ به عقلُ بَشَرٍ وفوقَ طاقتِهِ. ونحنُ ـ سُكَّانَ الأرضِ ـ نَبْعُدُ عنْ مَرْكَزِ هذِهِ المَجْموعَةِ بمِقدارِ ثلاثين ألفَ سَنَة ضَوْئيَّة، وهذه المَجموعةُ جُزْءٌ مِنْ مَجْموعَةٍ كَبيرةٍ تَتأَلَّفُ مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ مَجَرَّةً. وقُطْرُ هذه المَجموعَةِ الكَبيرة مِلْيونا سَنَة ضوئيَّة.
ويَبقى كلُّ هذا في إطارِ النظريَّاتِ والتَكَهُّناتِ، وهو قابلٌ للجَديدِ دائماً ـ بحَسَبِ تَطَوُّرِ العِلْمِ وأَدواتِ البَحْثِ العِلْمِيِّ، وحينَ يَنْظُرُ العَقْلُ إلى هذا النِّظامِ العَجيبِ، والتَنْظِيمِ الدَقيقِ الغَريبِ المُدْهِشِ لا يَلْبَثُ أنْ يَحْكُمَ باسْتِحالةِ أنْ يَكونَ هذا كُلُّهُ قائماً بِنَفْسِهِ، بَلْ إنَّ هُنالِكَ طاقة غَيْر محدودةٍ هي التي تقيمُ هذا النِظامَ العَظيمَ، وتهيمنُ عليه.
وبعضُ العُلَماءِ يَقولُ: إنَّ كُلَّ إنْسانٍ في الوُجودِ لَهُ نَجْمٌ، وتَرْتَبِطُ حياتُهُ بهذا النَجْمِ، وحينَ يَأْفُلُ النَّجْمُ يَأْفُلُ قَرينُهُ على الأرْضِ، وهُناكَ نُجومٌ لامعةٌ نَرصُدُ حركتَها، ونُجومٌ أُخرى غيرُ لامِعَةٍ وبَعيدةٌ عنا، ويُقالُ إنَّها تَخُصُّ مخلوقاتٍ لا يَدْري بِها أَحَدٌ لِقِلَّةِ تَأثيرِها في الحياة.
قولُه: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} أَيْ بَيَّنَّاهَا مُفَصَّلَةً لِتَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاعْتِبَارِ. أيْ بَيَّنّا الآياتِ المَتْلُوَّةِ المَذْكورَةِ لِنِعَمِهِ ـ سبحانَه ـ التي هذِهِ النِعْمَةُ مِنْ جُمْلَتِها، أوْ الآياتِ التَكْوينِيَّةِ الدّالَّةِ على شُؤونِهِ تَعالى فَصْلاً فَصْلاً.
قولُهُ: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إنَّ ذَلك مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِه على وُجودِ الصانِعِ المُخْتارِ وكَمالِ قُدْرَتِهِ وعَظَمَتِهِ وبَديعِ صَنْعَتِهِ وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ. وخَصَّهُم بالذِكرِ لأنَّهم المُنْتَفِعون بِمعاني الآياتِ المَذكورَةِ فيَعْمَلون بِمُوجِبِها أَوْ يَتَفَكَّرونَ في الآياتِ التَكْوينِيَّةِ فَيَعلَمون حَقيقةَ الحالِ، وقد خصَّهم بالتَفْصيلِ مَعَ عُمومِهِ لِلكُلِّ.
وقد كَثُرَتِ الأَخبارُ في النَهْيِ عَنْ عِلْمِ النُجُومِ والنَّظَرِ فيها، إلاَّ في حدودِ التفكُّرِ في عَظَمَةِ اللهِ والتعرُّفِ عَلَيْه مِنْ خِلالِ عظيمِ صَنَعَتِه وبديعِ خلقِهِ، وإلاَّ لِمَعرِفَةِ أَوْقاتِ العِباداتِ، وتحديدِ المَسافاتِ والجِهاتِ وضَبْطِ المٌعامَلاتِ. والمَقصودُ بالنَهْيِ هو ما نَراهُ منَ المُشَعْوِذين الذين يَدَّعونَ معرفةً بالنُّجومِ، فيَتَنَبَّؤون بالمُسْتَقْبَلِ ويسْتَشْرفونَ الغَيْبَ وما شاكلَهُ. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ والخَطيبُ عنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما ـ قال، قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ: ((تَعَلَّموا مِنَ النُجومِ ما تَهْتَدون بِهِ في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ ثُمَّ انْتَهوا)). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ وأَبو داوودَ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وروى أَحْمَدٌ ومُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما ـ قال، قالَ رَسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ: ((مَنِ اقْتَبَسَ عِلْماً مِنَ النُّجومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِحْرِ زَادَ مَا زَادَ)). صحيح، الجامع الصغير: 595. وشرح مُسْنَدِ أَبي حَنيفَةَ النُعمانِ ـ رضي الله عنه: (1/ 143)
وأَخْرَجَ الخَطيبُ عَنْ مَيْمون بْنِ مَهرانَ قال، قُلتُ لابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عنهُما ـ أَوْصِني، قالَ: (أُوصيكَ بِتَقْوَى اللهِ تَعالى، وإيَّاكَ وعِلْمِ النُجُومِ فإنَّه يَدْعُو إلى الكَهَانَةِ). وأَخْرَجَ الخطيبُ أيضاً عنْ عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ تَعالى وجْهَهُ ـ قال: (نَهاني رَسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ عنِ النَظَرِ في النُّجومِ). وعن أَبي هُريرةَ وأمِّ المؤمنين عائِشَةَ الصِّدِّيقةِـ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ نحوَه. وأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عَنْهُما قال، قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ: ((إنَّ مُتَعَلِّمَ حُروفِ أَبي جادوراءَ في النُّجومِ ليسِ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعالى خَلاقٌ يَومَ القِيامَةِ)). إلى غيرِ ذلكَ مِنَ الأخبارِ، ولَعَلَّ ما تُفيدُهُ مِنَ النَهْيِ عَنِ التَّعلُّمِ مِنْ بابِ سَدِّ الذَّرائعِ، لأنَّ ذلك العِلْمَ ربَّما يَجُرُّ إلى مَحْظورٍ شَرْعاً، كَما يُشيرُ إليْهِ خَبَرُ ابْنِ مَهْرانَ. وكذا النَهْيُ عنِ النَظَرِ فيها مَحْمولٌ على النَظَرِ الذي كانت تَفعلُهُ الكَهَنَةُ الزاعمون تأثيرَ الكَواكِبِ بأَنْفُسِها، والحاكِمونَ بِقَطْعيَّةِ ما تَدُلُّ عليْه بِتَثْليثِها وتَرْبِيعِها واقْتِرانِها ومُقابَلَتِها ـ مَثلاً ـ مِنَ الأَحْكامِ بِحيثُ لا تَتَخَلَّفُ قَطْعاً على أَنَّ الوُقوفَ على جَميعِ ما أَوْدَعَ اللهُ تعالى في كلِّ كَوْكَبٍ مِمّا يَمْتَنِعُ لِغَيْرِ عَلاَّمِ الغُيوبِ. والوُقوفُ على بَعضٍ، أوْ كلِّ بعضٍ منها، لا يُجْدي المُتَمَسِّكَ بِهِ نَفْعاً، ولا يُفيدُ إلاَّ ظَنّاً، كالمُتَمَسِّكِ بِحبالِ القَمَرِ، والقابِضُ عليْهِ كالقابِضِ على شُعاعِ الشَمْسِ.
نَعم إنَّ بعضَ الحَوادِثِ في عالَمِ الكَوْنِ، قدْ جَرَتْ عادةُ اللهِ تَعالى بإحداثِهِ في الغالِبِ عِنْدَ طُلوعِ كَوْكَبٍ أَوْ غُروبِهِ أَوْ مُقارَنَتِهِ لِكوكَبٍ آخَرَ، وفيما يُشاهَدُ عندَ غيْبوبَةِ الثُريّا وطُلوعِها وطُلوعِ سُهيلٍ شاهدٌ لِما ذَكَرْنا. ولا يَبْعُدُ أنْ يَكونَ ذلكَ مِنَ الأَسْبابِ العاديَّةِ، وهي قدْ تَتَخَلَّفُ مُسَبِّباتُها عَنْها سَواءً قُلْنا: إنَّ التَأْثيرَ عِندَها ـ كما هو المَشهورُ عنِ الأَشاعِرَةِ ـ أَمْ قُلْنا: إنَّها المُؤَثِّرَةُ بإذْنِ اللهِ تَعالى كما هُو المأثورُ عنِ السَلَفِ، ويُشيرُ إليهِ كلامُ حُجَّةِ الإسْلامِ الغَزالَيِّ في العِلَّةِ. فمَتى أَخْبَرَ المُجَرِّبُ عَنْ شيءٍ مِنْ ذلكَ على هذا الوَجْهِ لمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَأْسٌ.
وما أَخْرَجَهُ الخَطيبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ سأَلَ رَجُلاً عَنْ حِسابِ النُّجومِ وجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُخْبِرَهُ، فقالَ عِكْرِمَةُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ يَقولُ: عِلْمٌ عَجَزَ النَّاسُ عَنْه وَدِدْتُ أَنّي عَلِمْتُهُ. وما أَخْرَجَهُ الزُبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عِنْ عبدِ اللهِ بْنِ حَفْصٍ قال: خُصَّتِ العَرَبُ بِخِصالٍ: بالكَهَانَةِ والقِيافَةِ والعيافَةِ والنُّجومِ والحِسابِ، فهدَمَ الإسلامُ الكهانَةَ وثَبَتَ الباقي بعدَ ذَلكَ، وقولُ الحَسَنِ بْنِ صالح: سمِعتُ عن ابْنِ عبّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهُما ـ أَنَّهُ قالَ في النُجومِ: (ذلكَ عِلْمٌ ضَيَّعَهُ النَّاسُ)، فَلَعَلَّ ذلك ـ إنْ صَحَّ ـ مَحمولٌ على نَحْوِ ما قُلْنا. وهو عِلْمٌ لا يَنْفَعُ، والجَهْلُ بِهِ لا يَضُرُّ، فما شاء اللهُ تعالى كان وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
وقد وَرَدَ في اسْتِحْبابِ مُراعاةِ الشَمْسِ والقَمَرِ لِذِكْرِ اللهِ ـ سبحانَه ـ لا لِغَيْرِ ذَلك أَحاديثُ، مِنْها ما رواهُ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال، قالَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ((أَحَبُّ عِبادِ اللهِ إلى اللهِ الذين يُراعونَ الشَمْسَ والقَمَرَ لِذِكْرِ اللهِ)). وعندَ ابْنِ شاهينَ والطَبَرانيِّ والخَطيبِ وأَحْمَد، عنِ ابْنِ أَبي أَوْفَى وأَبي الدَرْداءِ وأَبي هُريرَةَ ـ رضيَ اللهُ عنهم ـ نحوُه.
وأَخْرَجَ الحاكِمُ في تاريخِهِ، والدَيْلَمِيُّ بسنَدٍ ضعيفٍ عنْ أَبي هريرةَ أيضاً قال، قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ثلاثةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: التاجرُ الأمينُ، والإمامُ المُقْتَصِدُ، وراعي الشمسِ بالنَّهارِ)). وأَخْرَجَ عبدُ اللهِ بْنُ أحمد في زَوائدِ الزُهْدِ عَنْ سَلْمانَ الفارسِيِّ ـ رضي اللهُ عنه ـ قالَ: ((سبْعةٌ في ظِلِّ اللهِ يَومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّه فَذَكَرَ مِنْهمُ الرَجُلَ الذي يُراعي الشَمْسَ لِمَواقيتِ الصَلاةِ)).
فهذه الأحاديثُ مُقَيَّدَةٌ بكونِ المُراعاةِ لِذِكْرِ اللهِ والصَلاةِ، لا غيرِ، وقد جَعَلَ اللهُ انْقِضاءَ وقتِ صَلاةِ الفَجْرِ طُلوعَ الشَمْسِ، وأَوَّلَ صلاةِ الظُهْرِ زَوالَها، ووقتَ العَصْرِ ما دامتِ الشَمْسُ بَيْضاءَ نَقِيَّةً، ووقْتَ المَغْرِبِ غُروبَ الشَمسِ، وورَدَ في صلاةِ العِشاءِ أِنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ كان يُؤقِّتُ مَغيبَ القَمَرِ لَيْلَةَ ثالثَ عَشَرَ، وبِالشمسِ والقَمَرِ يُعرَفُ أَوائلُ الشُهورِ وأَوْساطُها وأَواخِرُها، فمَنْ راعاهُما لِهذِه الأُمورِ فهو الذي أَرادَهُ ـ صلى الله عليْه وسَلَّمَ ـ ومَنْ راعاهُما لِغيْرِ ذلكَ فهوَ غيرُ مُرادٍ بما وَرَدَ. وقد أَخرجَ الطَبَرانيُّ والخَطيبُ عَنِ ابْنِ مَسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلَّمَ: ((إذا ذُكِرَ أَصحابي فأَمْسِكوا، وإذا ذُكِرَ القَدَرُ فأَمْسِكوا، وإذا ذُكِرَتِ النُجُومُ فأَمْسِكوا)).
وهذه الأَحاديثُ مَحْمولَةٌ على النَّظرِ فيها لِما عَدا الاهْتِداءِ والتَفَكُّرِ والاعْتِبارِ وما وَرَدَ في جَوازِ النَظَرِ في النُّجومِ أو الحثِّ عليْه، فهو مُقَيَّدٌ بالاهتداءِ والتَفَكُّرِ والاعْتِبارِ كما دَلَّتْ عليْه الأحاديثُ والآثارُ السابقُةُ، وعليْه يُحمَلُ ما رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّه سألَ رَجَلاً عَنْ حِسابِ النُّجومِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يُخبِرَهُ فقالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقولُ: (عِلْمٌ عَجَزَ النَّاسُ عنْهُ ووَدِدْتُ أَنّي عَلِمْتُهُ) وقد تَقَدَّمَ.
ومِنْ ثمَّ فإنَّ هذه النجومَ لا تتحرُّكُ إلاَّ بأَمْرِ اللهِ وليس لَها حولٌ ولا طَوْلٌ ولا قوَّةٌ مِنْ ذاتِها، ولا علاقةَ لها بأحدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ، كَما قدْ يَتَوَهَّمُ بَعْضُ ضِعافِ العُقولِ، فقدْ أَخْرجَ أَبو داوودَ والخَطيبُ عَنْ سُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ أَنَّهُ خَطَبَ فَذَكَرَ حديثاً عَنْ رَسولِ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ أَنَّه قال: ((أمَّا بعدُ: فإنَّ ناساً يَزْعُمون أَنَّ كُسوفَ هذِهِ الشَمْسِ، وكُسوفَ هذا القَمَرِ، وزَوالَ هذِه النُجومِ عنْ مَواضِعِها، لِمَوْتِ رجالٍ عُظماءَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وإنَّهم قدْ كَذَبوا، ولَكِنَّها آياتٌ مِنْ آياتِ اللهِ يَعتَبِرُ بِها عِبادُه، لِيِنْظُرَ ما يَحدُثُ لَهم مِنْ تَوبةٍ)). أَخرجَهُ كذلك أَحمد بنُ حنبلٍ: 5/16. وقد ثَبَتَ في الصحيحيْن وغيرِهِما في كُسُوفِ الشَمْسِ والقَمَرِ عَنِ النَبِيِّ ـ صَلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((أَنَّهما لا يَنْكَسِفانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولا لِحَياتِهِ، ولَكنْ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِما عِبادَه)). وكان قدِ اتَّفَقَ أَنْ كُسِفَتِ الشَمْسُ عندَ وَفاةِ إبراهيمَ ابْنِ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وآلِهِ وسلَّمَ ـ فقالَ النَّاسُ: إنَّها كُسِفَتْ لِمَوتِهِ. فقامَ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ خطيباً لِيُبَيِّنَ للنَّاسِ بأنَّها والقَمَرِ وغيرَهُما، لا تُخْسَفُ ولا تُكْسَفُ لِمْوتِ أَحدٍ أو ولادته، ولا لِغيرِ ذلك، إنَّما هي جَميعُها تحتَ هَيْمَنَةِ اللهِ وسَطْوَتِه، يُحَرِّكُها بقدرته كيفَ شاءَ، ويفعلُ بها ما يَشاءُ، لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتَها حِكْمَتُهُ وارْتَضَتْها
مَشَيئتُه.
وقولُهُ تَعالى: {جَعَلَ لَكُمُ النجومَ} الظاهِرُ أَنَّ "جَعَلَ" بِمَعْنى خَلَقَ فَتَكونُ مُتَعَدِّيَةً لِواحِدٍ، و"لَكمْ" مُتَعَلِّقٌ بـ "جَعَلَ" وكذا "لتهتدوا". فإنْ قِيلَ: كيف يَتَعَلَّقُ حَرْفا جَرٍّ متَّحدانِ في اللَّفْظِ والمَعنى؟ فالجَوابُ أَنَّ الثاني بدلٌ مِنَ الأَوَّلِ بَدَلُ اشْتِمالٍ بإعادَةِ العامِلِ، فإنَّ "لِيَهْتَدوا" جارٌّ ومَجْرورٌ، إذِ اللاَّمُ لامُ كَيْ، والفِعْلُ بَعدَها مَنْصوبٌ بإضْمارِ "أَن" عندَ البَصْرِيّينَ وقدْ تَقَدَّمَ تَقريرُهُ. والتَقديرُ: جَعَلَ لَكُمْ النُجومَ لاهْتِدائكم، ونَظيرُهُ في القُرآنِ: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} الزخرف: 33. فَـ "لِبُيوتِهم" بَدَلٌ مِنْ "لِمَنْ يَكْفُرْ" بإعادَةِ العامِلِ، وقالَ ابْنُ عُطْيَةَ: وقدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ بَمَعْنى "صَيَّرَ" ويُقَدَّرُ المَفْعولُ الثاني مِنْ "لتَهْتدوا" أَيْ: جَعَلَ لَكُمُ النُجومَ هِدايةً.
قالَ الشَيْخُ: وهُوَ ضَعيفٌ لِنُدورِ حَذْفِ أَحَدِ مَفْعُولَيْ ظَنَّ وأَخَواتِها. ابْنُ عَطِيَّةَ لم يَدَّعِ حَذْفَ المَفعولِ الثاني حتَّى يَجْعَلُهُ ضَعيفاً إنَّما قالَ: إنَّهُ مِنْ "لِتَهْتَدُوا" أيْ: فيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الجارِّ الذي وَقَعَ مَفْعُولاً ثانياً كَما يُقدَّرُ في نَظائِرِهِ والتَقديرُ: جَعَلَ لَكمُ النُجومَ مُسْتَقِرَّةً أوْ كائنةً لاهْتِدائكم. وأَمَّا قولُهُ: "أَيْ جَعَلَ لَكمُ النُّجومَ هِدايةً" فلإِيضاحِ المَعْنَى وبَيانُهُ. والنُّجومُ مَعْروفَةٌ وهيَ جَمْعُ نَجْمٍ، والنَّجْمُ في الأَصْلِ مَصْدَرٌ، يُقالُ: نَجَمَ الكَوْكَبُ يَنْجُمُ نَجْماً ونُجُوماً فهُوَ ناجِمٌ، ثُمَّ أُطْلِقَ على الكَوْكَبِ مَجازاً، فالنَّجْمُ يُسْتَعْمَلُ مَرَّةً اسْماً للكَوْكَبِ ومَرَّةً مَصْدَراً، والنُجومُ تُسْتَعْمَلُ مَرَّةً للكَواكِبِ وتارَةً مَصْدَراً ومِنْهُ: نَجَمَ النَبْتُ أيْ: طَلَعَ، ونَجَمَ قَرْنُ الشاةِ وغَيْرُها، والنَّجْمُ مِنَ النَّباتِ ما لا ساقَ لَهُ، والشَجَرُ ما لَهُ ساقٌ، والتَنْجِيمُ: التَفْريقُ، ومِنْهُ نُجومُ الكِنَانَةِ تَشْبيهاً بِتَفرُّقِ الكَواكِبِ.
مواضيع مماثلة
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 19
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 20
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 31
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 36
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 37
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 20
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 31
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 36
» فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 37
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود