الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 84
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 84
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} خِطَابٌ جَديدٌ لِحَضْرَةِ النَّبِيِّ الأَعْظَمِ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: قُلْ يا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ: "كُلٌّ" مِنَّا، أَنَا وَأَنْتُمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَالكَافِرِينَ، والمُعْرِضينَ والمُقْبِلينَ، والرَّاجِينَ واليائسينَ القَانِطِينَ. وَالتَنْوِينُ للعِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ أَحَدٍ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ قَوْلِهِ: {وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} الآيةَ: 72، السابقةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ، وَقَوْلِهِ: {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا} الآيةَ: 82، مِنْها، وَقَوْلِهِ في الآية: 83، بَعْدَهَا: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ}.
"يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ" أَيْ: عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَعَلى مَذْهَبِهِ وَطَريقَتِهِ التي تُشَاكِلُ حَالَهُ، ومَا هوَ عَلَيْهِ في نَفْسِ الأَمْرِ، وتُشَابِهُهُ في القُبْحِ أَوِ الحُسْنِ، وَكُلٌّ يَتَرَشَّحُ بِمُودَعِ بَاطِنِهِ، فمَا تُكِنُّهُ الضَّمائِرُ يَلُوحُ عَلَى السَّرَائر، وَمَنْ صَفَا مِنَ الكُدَرِ جَوْهَرُهُ، لَا يَفُوحُ مِنْهُ إِلَّا نَشْرُ مَنَاقِبِهِ، وَمَنْ طُبِعَتْ عَلَى الكُدُورَةِ طِينَتُهُ، فَلا يَشُمُّ مَنْ يَحُومُ حَوْلَهُ إِلَّا رِيحَ مَثَالِبِهِ. وإنَّما يَدُلُّ ويُخْبِرُ عَنْ بَوَاطِنِ السَّرائرِ حَرَكَاتُ الظَوَاهِر.
وَ "شَاكِلَتِهِ" مِنْ قَوْلِهِمْ طَريقٌ ذُو شَوَاكِلَ، أَيْ: طُرُقٍ تَتَشَعَّبُ مِنْهُ، وتتفرَّعُ عَنْهُ، وهوَ مِنَ الشَّكْلِ (بِفَتْحِ الشِينِ) أَيْ: المِثْلِ والنَّظيرِ. قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ ثَوْبًا يُشَبِّهُ بِهِ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ:
لَهُ خُلُجٌ تَهْوِي فُرَادَى وَتَرْعَوِي ...... إِلَى كُلِّ ذِي نَيِّرَيْنِ بَادِي الشَّوَاكِلِ
وَيُقالُ لَسْتَ مِنْ شَكْلِهِ ولا شَاكِلَتِهِ، وأَمَّا الشِّكْلُ (بِكَسْرِ الشِّينِ) فَالْهَيْئَةُ، وجارِيَةٌ حَسَنَةُ الشِّكْلِ، أَيْ: حَسَنةُ الهَيْئَةِ. ويُطْلَقُ كلٌّ مِنَ "الشِّكْلِ" وَ "الشَّكْلِ" عَلَى المِثْلِ والهَيْئَةِ، وهوَ ظَاهِرُ القاموسِ. وَقَالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
حَيِّ الحُمُولَ بِجَانِبِ العَزْلِ ................. إِذْ لَا يُلائِمُ شَكْلُها شَكْلِي
أَيْ: لا يُلائِمُ مِثْلُها مِثْلِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والطَبَرِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: عَلَى شَاكِلَتِهِ: عَلَى نَاحِيَتِهِ. تَفْسِيرُ الطَبَرِيِّ: (15/154). وَقَالَ مُجَاهِدٌ، المَعْنَى: عَلَى حِدَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: دِينَهُ. وقالَ الحَسَنُ وَقَتَادَةُ عَلَى نِيَّتِهِ. فقد أَخْرَجَ هَنَّادُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "عَلى شَاكِلَتِهِ" قَالَ: عَلى نِيَّتِهِ. وَقَالَ مُقاتِلٌ: عَلَى خَلِيقَتِهِ. وقَالَ الضَحَّاكُ: حِدَّتِهِ. وَقَالَ الفَرَّاءُ عَلَى طَريقَتِهِ وَجَدِيلَتِهِ التي جُبِلَ عَلَيْهَا. مَعاني القُرْآنِ للفَرَّاءِ: (2/130). وقالَ القُتَيْبِيُّ: عَلَى طَبيعَتِهِ وَجِبِلَّتِهِ. وَقِيلَ: عَلَى السَّبيلِ الذي اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ وَهوَ مِنَ الشَّكْلِ. وكُلُّها مُتَقَارِبَةٌ. وَمَجَازُ الآيَةِ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى مَا يُشْبِهِهُ كَمَا يُقَالُ فِي المَثَلِ: كُلُّ امْرِئٍ يُشْبِهُهُ فِعْلُهُ. وقالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الرَّازِي: الأَرُواحُ والنُّفُوسُ مُخْتَلِفَةٌ بِمَاهِيَّتِها، فَبَعْضُها مُشْرِقَةٌ صَافِيَةٌ، يَظْهَرُ فِيهَا مِنَ القُرْآنِ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَبَعْضُهَا كَدِرَةٌ ظُلْمانِيَّةٌ يَظْهَرُ فَيهَا مِنَ القُرْآنِ ضَلالٌ وَنَكَالٌ.
والآيَةُ مِنْ أَرْجَى آيَاتِ القُرْآنِ الكَريمِ لأَنَّ شاكِلَةَ العَبْدِ الذُّنوبُ، وشاكِلَةَ مَوْلانَا العَظِيمِ العَفْوُ والمَغْفرةُ والفَضْلُ والإحسانُ والجودُ والكرمُ. وعَنْ سيِّدِنا أَبي بَكْرٍ الصِّديقِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وأَرْضَاهُ، قَالَ: (لَمْ أَرَ فِي القُرْآنِ آيَةً أَرْجَى مِنَ التي فِيهَا {غَافِرُ الذَّنْبِ وَقَابِلُ التَّوْبِ} الآيةَ: 3، مِنْ سُورَةِ غَافِرٍ، قَدَّمَ الغُفْرَانَ قَبْلَ قَبُولِ التَوْبَةِ). وَعَنْ سَيِّدِنا عُثْمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، (قالَ: لَمْ أَرَ آيَةً أَرْجَى مِنْ قولِهِ: {نَبِّئْ عَبادي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحيمُ} الآية: 49، منْ سُورَةِ الحِجْرِ). وَعَنْ سَيِّدِنا عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ: (لَمْ أَرَ آيَةً أَرْجَى مِنْ قوْلِهِ: {يَا عِبَادِي الذينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهم لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} الآيَةَ: 53، مِنْ سُورةِ الزُمَرِ. قالُوا: ذَلْكَ حِينَ تَذَاكَرُوا القُرَآنِ. وَعَنِ الإمَامِ القُرْطُبِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، قالَ: (لَمْ أَرَ آيَةً أَرْجَى مِنْ قولِهِ: {الذينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانِهمْ بِظُلْمٍ} الآيَةَ: 82، مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ).
قولُهُ: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} تَفْريعٌ عَلَى ما قَبْلَهُ، والمَعْنَى: فَإِنَّ رَبَّكم الذي بَرَأَكم عَلَى هَذِهِ الطَبَائِع المُتَخَالِفَةِ، "أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا" أَيْ: أَسَدُّ طَريقًا وَأَقْرَبُ صَوَابًا، وَأَبْيَنُ مِنْهَاجًا، وأَحْسَنُ دِينًا. وَأَسْرَعُ قَبُولًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "أَهْدَى" مِنْ "اهْتَدَى"، عَلَى حَذْفِ الزَّوائِدِ، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ "هَدَى" المُتَعَدِّي. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ "هَدَى" القاصِرِ، بِمَعْنَى اهْتَدَى.
وَهَذَا تَوَعُّدٌ صريحٌ للكافرينَ، وَتهديدٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ لَّهُمْ. فَإنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هوَ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَكْثَرُ هِدَايَةً، وَأَوْضَحُ سَبِيلًا، وَأَصَحُّ اتِّبَاعًا لِلْحَقِّ، فَيُؤْتِيهِ أَجْرَهُ مَوْفُورًا، وَأَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَضَلُّ سَبِيلًا، وأَشدُّ بُعْدًا عَنِ الصَّوابِ، فَيُعَاقِبُهُ عِقَابًا شَديدًا.
قولُهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} قُلْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "كُلٌّ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وَسَوَّغَ الابْتِداءَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ نَكِرَةً، قَصْدُ العُمُومِ. و "يَعْمَلُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "كُلٌّ". و "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَ "شَاكِلَتِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، خَبَرُ المُبْتَدَأِ "كلٌّ"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ منَ المُبْتَدِأِ والخَبَرِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، بِـ "قُلْ".
قولُهُ: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} الفاءُ: للتَعْلِيلِ، أَوْ للاسْتِئْنافِ، و "رَبُّكمْ" مرفوعٌ بالابْتِدَاءِ، مُضَافٌ، وكافُ الخِطَابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "أَعَلَمُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "بِمَنْ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "أَعْلَمُ"، و "مَنْ" اسمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلها و "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفَتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "أَهْدَى" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "سَبِيلًا" تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ المُبْتَدَأِ، مَنْصُوبٌ بـ "أَهْدَى" التَفْضِيلِ على وزنِ "أَفْعَل"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ صِلَةُ "مَنْ" المَوْصُولَةِ.
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} خِطَابٌ جَديدٌ لِحَضْرَةِ النَّبِيِّ الأَعْظَمِ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: قُلْ يا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ: "كُلٌّ" مِنَّا، أَنَا وَأَنْتُمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَالكَافِرِينَ، والمُعْرِضينَ والمُقْبِلينَ، والرَّاجِينَ واليائسينَ القَانِطِينَ. وَالتَنْوِينُ للعِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ أَحَدٍ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ قَوْلِهِ: {وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} الآيةَ: 72، السابقةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ، وَقَوْلِهِ: {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا} الآيةَ: 82، مِنْها، وَقَوْلِهِ في الآية: 83، بَعْدَهَا: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ}.
"يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ" أَيْ: عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَعَلى مَذْهَبِهِ وَطَريقَتِهِ التي تُشَاكِلُ حَالَهُ، ومَا هوَ عَلَيْهِ في نَفْسِ الأَمْرِ، وتُشَابِهُهُ في القُبْحِ أَوِ الحُسْنِ، وَكُلٌّ يَتَرَشَّحُ بِمُودَعِ بَاطِنِهِ، فمَا تُكِنُّهُ الضَّمائِرُ يَلُوحُ عَلَى السَّرَائر، وَمَنْ صَفَا مِنَ الكُدَرِ جَوْهَرُهُ، لَا يَفُوحُ مِنْهُ إِلَّا نَشْرُ مَنَاقِبِهِ، وَمَنْ طُبِعَتْ عَلَى الكُدُورَةِ طِينَتُهُ، فَلا يَشُمُّ مَنْ يَحُومُ حَوْلَهُ إِلَّا رِيحَ مَثَالِبِهِ. وإنَّما يَدُلُّ ويُخْبِرُ عَنْ بَوَاطِنِ السَّرائرِ حَرَكَاتُ الظَوَاهِر.
وَ "شَاكِلَتِهِ" مِنْ قَوْلِهِمْ طَريقٌ ذُو شَوَاكِلَ، أَيْ: طُرُقٍ تَتَشَعَّبُ مِنْهُ، وتتفرَّعُ عَنْهُ، وهوَ مِنَ الشَّكْلِ (بِفَتْحِ الشِينِ) أَيْ: المِثْلِ والنَّظيرِ. قَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ ثَوْبًا يُشَبِّهُ بِهِ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ:
لَهُ خُلُجٌ تَهْوِي فُرَادَى وَتَرْعَوِي ...... إِلَى كُلِّ ذِي نَيِّرَيْنِ بَادِي الشَّوَاكِلِ
وَيُقالُ لَسْتَ مِنْ شَكْلِهِ ولا شَاكِلَتِهِ، وأَمَّا الشِّكْلُ (بِكَسْرِ الشِّينِ) فَالْهَيْئَةُ، وجارِيَةٌ حَسَنَةُ الشِّكْلِ، أَيْ: حَسَنةُ الهَيْئَةِ. ويُطْلَقُ كلٌّ مِنَ "الشِّكْلِ" وَ "الشَّكْلِ" عَلَى المِثْلِ والهَيْئَةِ، وهوَ ظَاهِرُ القاموسِ. وَقَالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
حَيِّ الحُمُولَ بِجَانِبِ العَزْلِ ................. إِذْ لَا يُلائِمُ شَكْلُها شَكْلِي
أَيْ: لا يُلائِمُ مِثْلُها مِثْلِي. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والطَبَرِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: عَلَى شَاكِلَتِهِ: عَلَى نَاحِيَتِهِ. تَفْسِيرُ الطَبَرِيِّ: (15/154). وَقَالَ مُجَاهِدٌ، المَعْنَى: عَلَى حِدَّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: دِينَهُ. وقالَ الحَسَنُ وَقَتَادَةُ عَلَى نِيَّتِهِ. فقد أَخْرَجَ هَنَّادُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "عَلى شَاكِلَتِهِ" قَالَ: عَلى نِيَّتِهِ. وَقَالَ مُقاتِلٌ: عَلَى خَلِيقَتِهِ. وقَالَ الضَحَّاكُ: حِدَّتِهِ. وَقَالَ الفَرَّاءُ عَلَى طَريقَتِهِ وَجَدِيلَتِهِ التي جُبِلَ عَلَيْهَا. مَعاني القُرْآنِ للفَرَّاءِ: (2/130). وقالَ القُتَيْبِيُّ: عَلَى طَبيعَتِهِ وَجِبِلَّتِهِ. وَقِيلَ: عَلَى السَّبيلِ الذي اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ وَهوَ مِنَ الشَّكْلِ. وكُلُّها مُتَقَارِبَةٌ. وَمَجَازُ الآيَةِ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى مَا يُشْبِهِهُ كَمَا يُقَالُ فِي المَثَلِ: كُلُّ امْرِئٍ يُشْبِهُهُ فِعْلُهُ. وقالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الرَّازِي: الأَرُواحُ والنُّفُوسُ مُخْتَلِفَةٌ بِمَاهِيَّتِها، فَبَعْضُها مُشْرِقَةٌ صَافِيَةٌ، يَظْهَرُ فِيهَا مِنَ القُرْآنِ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَبَعْضُهَا كَدِرَةٌ ظُلْمانِيَّةٌ يَظْهَرُ فَيهَا مِنَ القُرْآنِ ضَلالٌ وَنَكَالٌ.
والآيَةُ مِنْ أَرْجَى آيَاتِ القُرْآنِ الكَريمِ لأَنَّ شاكِلَةَ العَبْدِ الذُّنوبُ، وشاكِلَةَ مَوْلانَا العَظِيمِ العَفْوُ والمَغْفرةُ والفَضْلُ والإحسانُ والجودُ والكرمُ. وعَنْ سيِّدِنا أَبي بَكْرٍ الصِّديقِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وأَرْضَاهُ، قَالَ: (لَمْ أَرَ فِي القُرْآنِ آيَةً أَرْجَى مِنَ التي فِيهَا {غَافِرُ الذَّنْبِ وَقَابِلُ التَّوْبِ} الآيةَ: 3، مِنْ سُورَةِ غَافِرٍ، قَدَّمَ الغُفْرَانَ قَبْلَ قَبُولِ التَوْبَةِ). وَعَنْ سَيِّدِنا عُثْمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، (قالَ: لَمْ أَرَ آيَةً أَرْجَى مِنْ قولِهِ: {نَبِّئْ عَبادي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحيمُ} الآية: 49، منْ سُورَةِ الحِجْرِ). وَعَنْ سَيِّدِنا عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ: (لَمْ أَرَ آيَةً أَرْجَى مِنْ قوْلِهِ: {يَا عِبَادِي الذينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهم لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} الآيَةَ: 53، مِنْ سُورةِ الزُمَرِ. قالُوا: ذَلْكَ حِينَ تَذَاكَرُوا القُرَآنِ. وَعَنِ الإمَامِ القُرْطُبِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، قالَ: (لَمْ أَرَ آيَةً أَرْجَى مِنْ قولِهِ: {الذينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانِهمْ بِظُلْمٍ} الآيَةَ: 82، مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ).
قولُهُ: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} تَفْريعٌ عَلَى ما قَبْلَهُ، والمَعْنَى: فَإِنَّ رَبَّكم الذي بَرَأَكم عَلَى هَذِهِ الطَبَائِع المُتَخَالِفَةِ، "أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا" أَيْ: أَسَدُّ طَريقًا وَأَقْرَبُ صَوَابًا، وَأَبْيَنُ مِنْهَاجًا، وأَحْسَنُ دِينًا. وَأَسْرَعُ قَبُولًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "أَهْدَى" مِنْ "اهْتَدَى"، عَلَى حَذْفِ الزَّوائِدِ، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ "هَدَى" المُتَعَدِّي. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ "هَدَى" القاصِرِ، بِمَعْنَى اهْتَدَى.
وَهَذَا تَوَعُّدٌ صريحٌ للكافرينَ، وَتهديدٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ لَّهُمْ. فَإنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هوَ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَكْثَرُ هِدَايَةً، وَأَوْضَحُ سَبِيلًا، وَأَصَحُّ اتِّبَاعًا لِلْحَقِّ، فَيُؤْتِيهِ أَجْرَهُ مَوْفُورًا، وَأَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَضَلُّ سَبِيلًا، وأَشدُّ بُعْدًا عَنِ الصَّوابِ، فَيُعَاقِبُهُ عِقَابًا شَديدًا.
قولُهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} قُلْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "كُلٌّ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وَسَوَّغَ الابْتِداءَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ نَكِرَةً، قَصْدُ العُمُومِ. و "يَعْمَلُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "كُلٌّ". و "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَ "شَاكِلَتِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، خَبَرُ المُبْتَدَأِ "كلٌّ"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ منَ المُبْتَدِأِ والخَبَرِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، بِـ "قُلْ".
قولُهُ: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} الفاءُ: للتَعْلِيلِ، أَوْ للاسْتِئْنافِ، و "رَبُّكمْ" مرفوعٌ بالابْتِدَاءِ، مُضَافٌ، وكافُ الخِطَابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "أَعَلَمُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "بِمَنْ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "أَعْلَمُ"، و "مَنْ" اسمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلها و "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفَتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "أَهْدَى" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "سَبِيلًا" تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ المُبْتَدَأِ، مَنْصُوبٌ بـ "أَهْدَى" التَفْضِيلِ على وزنِ "أَفْعَل"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ صِلَةُ "مَنْ" المَوْصُولَةِ.
مواضيع مماثلة
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 19
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 33 / 2
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 46
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 62
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 79
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 33 / 2
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 46
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 62
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 79
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود