منتدى مدينة أرمناز العام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 48

اذهب الى الأسفل

فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 48 Empty فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 48

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود الأحد سبتمبر 23, 2012 12:17 pm

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
ذكَّرهم ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ عظيمَ نِعَمِه ومِنَنِه عليهم؛ لِيشكُروا له، ولِيَعرِفوا أَنَّها مِنَّةٌ، وأَنَّه فضلٌ مِنْهُ، ثُمَّ حَذَّرَهم فقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} الآية؛ لِيكونوا على حذرٍ؛ لِئلَّا يُصيبُهم ما أَصابَ الأُممَ السالِفةَ مِن الهَلاكِ وأَنواعِ العذابِ بعدَ الأَمْنِ، والتوَسُّعِ عليهم، كقولِه: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} الأنعام: 43. إلى قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} الأنعام: 44.
ثمَّ في الآيةِ دليلٌ لِقولِ أبي حنيفةَ وأصحابِه: إنَّ الوَلَدَ يَصيرُ مَشْتومًا مَقذوفًا بِشَتْمِ والديْه؛ لَمَّا عَيَّرَهم ـ جَلَّ وعلا ـ بِصُنْعِ آبائهم بِقولِه: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ}، وهم لم يَتَّخِذوا العِجلَ، وإنَّما اتخذَه آباؤهم. وكذلِك ذَكَرَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ صُنْعَه ومِنَنَه عَليهِم، مِن نَحوِ النَّجاةِ مِن الغَرَقِ، وإِخراجِهم مِن أَيدي العَدوِّ، وفَرْقِ البَحرِ بِهم، وإهلاكِ العدوِّ. وإنّما كان ذلك لآبائهم دونَهم، لكنْ ذَكَّرَهُم ـ جَلَّ وعَزَّ ـ عظيمَ مِنَّتِه على آبائهم؛ لِيَشْكُروا لَه على ذلك، وكذلك عَيَّرهم بِصُنْعِ آبائهم مِن اتّخاذِ العجلِ، وإظهارِ الظُلمِ؛ لِيَكونوا على حَذَرٍ مِن ذلك، ومعلومٌ أنَّ الولدَ يَرِثُ مِن أبيهِ، إنْ كان من صفاتِه عن طريقِ الجينات الوراثية، وإن كان ما يَترُكُه من إرْثٍ ماديٍ ومعنويٍّ، واللَّه أعلم.
وفي قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} أي: بما كان من إنعامي عليهم باتباعِهم الرسول موسى ـ عليه السلام ـ وطاعتِهم له، فاتبِعوا الرسول مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وأَطيعوا له، ولا تتركوا اتِّباعَه.
ولأنَّ وصفَهم بالتفضيلِ على عَالَمِي زمانِهم قد يَحمِلُهم على الغرور، ويَجعلُهم يَتوَهَّمون أنَّهم مغفورٌ لهم لو أَذنَبوا. فقد ذكرهم ـ سبحانه ـ في الآيةِ السابقةِ بنعمةٍ عظمى مِن نِعَمِه، لذلك حذَّرهم في هذه الآيةِ الكريمةِ مِن التقصيرِ في العملِ الصالحِ، فجاءت هذه الآية الكريمةُ لِتَقتلِعَ مِن أَذهانِهم تلك الأوهامَ بأَحكمِ عبارةٍ وأَجمَعِ بيانٍ.
وفي قَوْلُهُ: {وَاتَّقُوا} أَمْرٌ مَعْنَاهُ الْوَعِيدُ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي التَّقْوَى "يَوْماً" يُرِيدُ عَذَابَهُ وَهَوْلَهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ اخْتِلَافٌ.
وقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي). قيل: أي لا تُؤدي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا؛ كقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} عبس: 34 و 35.
وَلَا تُؤَاخَذُ نَفْسٌ بِذَنْبِ أُخْرَى وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا شَيْئًا تَقُولُ جَزَى عَنِّي هَذَا
الْأَمْرُ يَجْزِي كَمَا تَقُولُ قَضَى عَنِّي وَاجْتَزَأْتُ بِالشَّيْءِ اجْتِزَاءً إِذَا اكْتَفَيْتُ
بِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّ الْغَدْرَ فِي الْأَقْوَامِ عَارٌ ................... وَإِنَّ الْحُرَّ يَجْزَأُ بِالْكُرَاعِ
أَيْ يَكْتَفِي بِهَا. وَفِي حَدِيثِ أمير المؤمنين عُمَرَ ـ رضي الله عنه ـ ((إِذَا أَجْرَيْتَ الْمَاءَ عَلَى الْمَاءِ جَزَى عَنْكَ)). يُرِيدُ إِذَا صَبَبْتَ الْمَاءَ عَلَى الْبَوْلِ فِي الْأَرْضِ فَجَرَى عَلَيْهِ طَهُرَ الْمَكَانُ وَلَا حَاجَةَ بِكَ إِلَى غَسْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَتَنْشِيفِ الْمَاءِ بِخِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ فِي الْأُضْحِيَّةِ: ((لَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ)). أَيْ لَنْ تُغْنِيَ فَمَعْنَى لَا تَجْزِي: لَا تَقْضِي وَلَا تُغْنِي وَلَا تكفي إنْ لم يَكنْ عليها شيءٌ فإنْ كان فإنَها تَجزي وتَقضي وتُغني بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا مِنْ حَسَنَاتِهَا مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أو شي فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ)). خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُهُ الْآخَرُ فِي الْمُفْلِسِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَيُقَالُ: جَزَى وَأَجْزَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَوْمٌ فَقَالُوا جَزَى بِمَعْنَى قَضَى وَكَافَأَ وَأَجْزَى بِمَعْنَى أَغْنَى وَكَفَى أَجْزَأَنِي الشَّيْءُ يُجْزِئُنِي أَيْ كَفَانِي قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَجْزَأْتَ أَمْرَ الْعَالَمِينَ وَلَمْ يَكُنْ ........... لِيُجْزِئَ إِلَّا كَامِلٌ وَابْنُ كَامِلِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} الشَّفَاعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّفْعِ وَهُمَا الِاثْنَانِ تَقُولُ كَانَ وَتْرًا فَشَفَعْتُهُ شَفْعًا وَالشُّفْعَةُ مِنْهُ لِأَنَّكَ تَضُمُّ مِلْكَ شَرِيكِكَ إِلَى مِلْكِكَ. وَالشَّفِيعُ صَاحِبُ الشُّفْعَةِ وَصَاحِبُ الشَّفَاعَةِ وَنَاقَةٌ شَافِعٌ إِذَا اجْتَمَعَ لَهَا حَمْلٌ وَوَلَدٌ يَتْبَعُهَا تَقُولُ مِنْهُ: شَفَعَتِ النَّاقَةُ شَفْعًا وَنَاقَةٌ شَفُوعٌ وَهِيَ الَّتِي تَجْمَعُ بَيْنَ مِحْلَبَيْنِ فِي حَلَبَةٍ وَاحِدَةٍ. وَاسْتَشْفَعْتُهُ إِلَى فُلَانٍ: سَأَلْتُهُ أَنْ يَشْفَعَ لِي إِلَيْهِ. وَتَشَفَّعْتُ إِلَيْهِ فِي فُلَانٍ فَشَفَّعَنِي فِيهِ فَالشَّفَاعَةُ إِذًا ضَمُّ غَيْرِكَ إِلَى جَاهِكَ وَوَسِيلَتِكَ فَهِيَ عَلَى التَّحْقِيقِ إِظْهَارٌ لِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْمُشَفَّعِ وَإِيصَالُ مَنْفَعَتِهِ لِلْمَشْفُوعِ. الرَّابِعَةُ- مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الشَّفَاعَةَ حَقٌّ وَأَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَخَلَّدُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ الَّذِينَ دَخَلُوا النَّارَ فِي الْعَذَابِ. وَالْأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْعُصَاةِ الْمُذْنِبِينَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أُمَمِ النَّبِيِّينَ هُمُ الَّذِينَ تَنَالُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَقَدْ تَمَسَّكَ الْقَاضِي عَلَيْهِمْ فِي الرَّدِّ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي تَوَاتَرَتْ فِي الْمَعْنَى. وَالثَّانِي الْإِجْمَاعُ مِنَ السَّلَفِ عَلَى تَلَقِّي هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِالْقَبُولِ وَلَمْ يبد من أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ نَكِيرٌ فَظُهُورُ رِوَايَتِهَا وَإِطْبَاقُهُمْ عَلَى صِحَّتِهَا وَقَبُولُهُمْ لَهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى صِحَّةِ عَقِيدَةِ أَهْلِ الْحَقِّ وَفَسَادِ دِينِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنْ قَالُوا قَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ مِنَ الْكِتَابِ بِمَا يُوجِبُ رَدَّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِثْلُ قَوْلِهِ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ} غافر: 18. قَالُوا: وَأَصْحَابُ الْكَبَائِرِ ظَالِمُونَ. وَقَالَ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} النساء: 123. و{وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} البقرة: 48. قُلْنَا لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَامَّةً فِي كُلِّ ظَالِمٍ وَالْعُمُومُ لَا صِيغَةَ لَهُ فَلَا تَعُمُّ هَذِهِ الْآيَاتُ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ سُوءًا وَكُلَّ نَفْسٍ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الْكَافِرُونَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ شَفَاعَةً لِأَقْوَامٍ وَنَفَاهَا عَنْ أَقْوَامٍ فَقَالَ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ {فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ} المدثر: 48. وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} الأنبياء: 28. وَقَالَ: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}. سبأ: 23. فَعَلِمْنَا بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} النَّفْسُ الْكَافِرَةُ لَا كُلُّ نَفْسٍ. وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِعُمُومِ الْعَذَابِ لِكُلِّ ظَالِمٍ عَاصٍ فَلَا نَقُولُ إِنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِيهَا بِدَلِيلِ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِّينَاهَا وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} النساء: 48. وَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} يوسف: 87. فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مُرْتَضًى قُلْنَا لَمْ يَقُلْ لِمَنْ لَا يَرْضَى وَإِنَّمَا قَالَ: {لِمَنِ ارْتَضى} وَمَنَ ارْتَضَاهُ اللَّهُ لِلشَّفَاعَةِ هُمُ الْمُوَحِّدُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} مريم 87. وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عَهْدُ اللَّهِ مَعَ خَلْقِهِ قَالَ: ((أَنْ يُؤْمِنُوا وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)). وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِلَّا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنْ قَالُوا الْمُرْتَضَى هُوَ التَّائِبُ الَّذِي اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ اسْتَغْفَرُوا لَهُمْ وَقَالَ: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} غافر: 7. وَكَذَلِكَ شَفَاعَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِنَّمَا هِيَ لِأَهْلِ التَّوْبَةِ دُونَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ قُلْنَا: عِنْدَكُمْ يجب على اللهِ تعالى قَبولُ التوبةِ فَإِذَا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَةَ الْمُذْنِبِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الشَّفَاعَةِ وَلَا إِلَى الِاسْتِغْفَارِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا} أَيْ مِنَ الشِّرْكِ {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أَيْ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ. سَأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنْ ذُنُوبِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} النساء: 48 فَإِنْ قَالُوا جَمِيعُ الْأُمَّةِ يَرْغَبُونَ فِي شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ خَاصَّةً بَطَلَ سُؤَالُهُمْ. قُلْنَا: إِنَّمَا يَطْلُبُ كُلُّ مُسْلِمٍ شَفَاعَةَ الرَّسُولِ وَيَرْغَبُ إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ تَنَالَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ سالم من الذنوب ولا قاسم لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِكُلِّ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مُعْتَرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّقْصِ فَهُوَ لِذَلِكَ يَخَافُ الْعِقَابَ وَيَرْجُو النَّجَاةَ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَنْجُو أَحَدٌ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقِيلَ وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ} أَيْ فِدَاءٌ وَالْعَدْلُ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) الْفِدَاءُ وَ (بِكَسْرِهَا) الْمِثْلُ يُقَالُ عِدْلٌ وَعَدِيلٌ لِلَّذِي يُمَاثِلُكَ فِي الْوَزْنِ وَالْقَدْرِ وَيُقَالُ عَدْلُ الشَّيْءِ هُوَ الَّذِي يُسَاوِيهِ قِيمَةً وَقَدْرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ وَالْعِدْلُ (بِالْكَسْرِ) هُوَ الَّذِي يُسَاوِي الشَّيْءَ مِنْ جِنْسِهِ وَفِي جِرْمِهِ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَكْسِرُ الْعَيْنَ مِنْ مَعْنَى الْفِدْيَةِ فَأَمَّا وَاحِدُ الْأَعْدَالِ فَبِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أَيْ يُعَانُونَ. وَالنَّصْرُ الْعَوْنُ
وَالْأَنْصَارُ الْأَعْوَانُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: "مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ} آل عمران: 52. أَيْ مَنْ يَضُمُّ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَتِي وَانْتَصَرَ الرَّجُلُ: انْتَقَمَ وَالنَّصْرُ: الْإِتْيَانُ يُقَالُ: نَصَرْتُ أَرْضَ بني فلان أتيتها قال الشاعر الراعي يخاطب خيلًا:
إِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ فَوَدِّعِي ........ بِلَادَ تَمِيمٍ وَانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ
وَالنَّصْرُ الْمَطَرُ يُقَالُ نُصِرَتِ الْأَرْضُ مُطِرَتْ وَالنَّصْرُ الْعَطَاءُ قَالَ:
إِنِّي وَأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا ................... لَقَائِلٌ يَا نَصْرُ نَصْرًا نَصْرَا
وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا ذَكَرُوا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَبْنَاءُ أَنْبِيَائِهِ وَسَيَشْفَعُ لَنَا آبَاؤُنَا فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ قيه الشَّفَاعَاتُ وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ فِدْيَةٌ. وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّفَاعَةَ وَالْفِدْيَةَ وَالنَّصْرَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَعَانِي الَّتِي اعْتَادَهَا بَنُو آدَمَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الْوَاقِعَ فِي الشِّدَّةِ لَا يَتَخَلَّصُ إِلَّا بِأَنْ يشفع له أو ينصر أو يفتدي.
قولُه تعالى: {واتقوا يَوْماً} يوماً: مفعولٌ به، ولا بُدَّ مِن مُضافٍ مَحذوفٍ هنا أي: عذابَ يومٍ أَو هَوْلَ يومٍ، وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ يَوْمَ لَا تَجْزِي عَلَى الْإِضَافَةِ. كما يَجوزُ أنْ يِكونَ مَنصوباً على الظرف، والمفعولُ مَحذوفٌ وتقديرُه كما قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: يَوْمًا لَا تَجْزِي فِيهِ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شيئًا ثمَّ حذف فيه كما قال:
يومًا شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وَعَامِرًا ............. قليلًا سوى طعنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ
أَيْ شَهِدْنَا فِيهِ وَقَالَ الْكِسَائِيُّ هَذَا خَطَأٌ لَا يَجُوزُ حَذْفُ" فِيهِ" وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِيهِ نَفْسٌ ثُمَّ حَذَفَ الْهَاءَ وَإِنَّمَا يَجُوزُ حَذْفُ الْهَاءِ لِأَنَّ الظُّرُوفَ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ هَذَا رَجُلًا قَصَدْتُ وَلَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَرْغَبُ وَأَنْتَ تُرِيدُ قَصَدْتُ إِلَيْهِ وَأَرْغَبُ فِيهِ قَالَ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ الَّذِي تَكَلَّمْتُ زَيْدٌ بِمَعْنَى تَكَلَّمْتُ فِيهِ زَيْدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ يَجُوزُ أَنْ تُحْذَفَ الْهَاءُ وَفِيهِ وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ جَائِزَانِ عِنْدَ سيبويه والأخفش والزجاج.
قولُه: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} التَنْكيرُ في "نفسٌ" و"شيئاً" معناه أنَّ نفساً مِن الأَنْفُسِ لا تَجْزي عن نَفْسٍ مثلِها شيئاً مِن الأشياء، وكذلك "شفاعةٌ" و"عدلٌ"، والجملةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ صفةً لـ "يوماً" والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: لا تَجْزي فيه، ثمَّ حُذِفَ الجارُّ والمجرورُ
لأنَّ الظروفَ يُتَّسَعُ فيها ما لا يُتَّسَعُ في غيرِها. وقرى" تُجْزِئُ" بِضَمِّ التَّاءِ وَالْهَمْزِ.
ويَجوزُ عند الكوفيين أنْ يَكونَ التقديرُ: يوماً يومَ لا تَجْزي نفسٌ، فيَصيرُ كقولِهِ تعالى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ} الانفطار:19، ويكونُ اليومُ الثاني بدلاً من "يوماً" الأولِ، ثمّ حُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه كقولِه تعالى: {وَسْئَلِ القريةَ} يوسف: 82.
قولُه: {عَن نَّفْسٍ} متعلِّقٌ بتَجْزي، فهو في محلِّ نَصْبٍ به، ويَجوزُ أنْ يَكونَ نَصْباً على الحالِ.
قولُهُ: "شيئاً" نصبٌ على المصدرِ، أي: شيئاً من الجزاء؛ لأنَّ الجَزاءَ شيءٌ، فَوُضِع العامُّ موضعَ الخاصِّ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به على أنَّ "تَجْزِي" بمعنى "تَقْضي"، أي: لا تَقْضي نفسٌ عن غيرِها شيئاً
من الحقوقِ، والأولُ أظهَر.
وقولُه: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} هذه الجملةُ عَطْفٌ على ما قبلَها فهي صفةٌ أيضاً لـ "يوماً"، والعائدُ منها عليه محذوفٌ كما تقدَّم. و"شفاعةٌ" مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعلُه، فلذلك رُفِعَتْ نائباً عنه، وقُرئ: "يُقْبَل" بالتذكير والتأنيثِ، فالتأنيثُ لِلَّفْظِ، والتذكيرُ لأنّه مُؤنَّثٌ مَجَازيٌّ، وحَسَّنَهُ الفصلُ. وقُرئ: "ولا يَقْبل" مبنياً للفاعل وهو الله تعالى. و"شفاعةً" نصباً مفعولاً به.
{ولاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} صِفةٌ أيضاً، والكلامُ فيه واضحٌ. و"منها" متعلِّقٌ بـ "يُقْبل" و"يُؤْخذ" والضميرُ في "منها" يعودُ على "نفس" الثانيةِ، لأنّها أقربُ مَذكورٍ، ويَجوزُ أنْ يَعودَ على الأولى لأنّها هي المُحَدَّث عنها، ويجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ الأوّل على الأولى وهي النفسُ الجازية، والثاني يعودُ على الثانية وهي المَجْزِيُّ عنها.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو" تُقْبَلُ" بِالتَّاءِ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ مُؤَنَّثَةٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ عَلَى التَّذْكِيرِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الشَّفِيعِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حَسُنَ التَّذْكِيرُ لِأَنَّكَ قَدْ فَرَّقْتَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ" فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ".
قوله جَلَّ شأنُه: {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} جملةٌ مِن مُبتَدَأ وخَبَرٍ، معطوفةٌ على ما قبلَها وإنّما أُتي هنا بالجُملةِ مُصدّرةً بالمُبتدأِ مُخْبَراً عنه بالمُضارعِ تنبيهاً على المُبالَغَةِ والتَأْكيدِ في عَدَمِ النُّصْرة. والضميرُ في قولِه "ولا هُمْ" يعود على النفس؛ لأنَّ المُرادَ بها جِنسُ الأنْفُس، وإنّما عادَ الضميرُ مذكَّراً وإن كانَتِ النفسُ مؤنثةً لأنَّ المرادَ بها العِبادُ والأَناسيُّ. كما تقولُ ثلاثةُ أنفسٍ: إذا قُصِد بها الذكورُ.
والنَّصْرُ: العَوْنُ، والأنصار: الأعوان، ومنه: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} والنصرُ أَيضاً: الانتقامُ، انتَصَرَ زَيْدٌ أي: انتَقَمَ. والنَّصْرُ أيضاً: الإِتيانُ، نَصَرْتُ أرضَ بني فلانٍ أتيتُها، قال الشاعر:
إذا دَخَلَ الشهرُ الحرامُ فودِّعي ........ بلاد تميمٍ وانصُري أرضَ عامرِ
وهو أيضاً : العَطاءُ ، قال الراجز :
إني وأسطارٍ سُطِرْنَ سَطْراً ................... لَقائِلٌ يا نصرُ نَصْرٌ نَصْرا
ويتعَدَّى بـ "على" قال: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} وأمَّا قولُه: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} الأنبياء: 77 فيحتَمِل التعدِّيَ بـ "مِنْ" ويَحْتمل أن يكونَ من التضمين أي: نَصَرْناه عليهم بالانتقام له منهم، وهو أَوجَه.
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 76
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى