الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 115
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 115
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} الخِطابُ في هَذَهِ الآيةِ الكريمَةِ موجَّهٌ للمُسْلِمينَ وليسَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، أَيْ إِنَّما حَرَّمَ اللهُ ـ تعالى، هَذِهِ المَطْعُوماتِ حَصْرًا، ولمْ يُحَرِّمْ مَا تَزْعُمونَ حُرْمَتَهُ مِنَ البَحيرَةِ والسائبَةِ والوصيلةِ ونَحْوِها، وَالحَصْرُ إِضافيٌّ هُنَا، فَلا يُنَافِي تَحْريمَ غَيْرِ هَذِهِ المَطعوماتِ المَذْكورةِ هُنَا كَالْسِّبَاعِ والحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَقِيلَ: بَلِ الحَصْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وإنَّما حُرِّمتِ السِّبَاعُ ونَحْوُهَا بَعْدَ ذلكَ.
وفي هَذِهِ الْآيةُ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ الآيةِ: 114، قبْلَها، والتي أَمَرَ فيها بأكلِ الحلالِ الطيِّبِ فقالَ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّبًا}، لِتَمْيِيزِ الطَّيِّبِ مِنَ الْخَبِيثِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ هِيَ خَبَائِثُ خُبْثًا فِطْرِيًّا، لِأَنَّ بَعْضَهَا مُفْسِدٌ لِتَوَلُّدِ الْغِذَاءِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ.
وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى الطِّيبِ وَالْخُبْثِ في ذَاتِهِ. وَقَدْ يَعْرِضُ الْخُبْثُ لِبَعْضِ الْمَطْعُومَاتِ عَرْضًا. وَتِلْكَ هِيَ الْمَيْتَةُ، وَالدَّمُ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَبَعْضُهَا مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ، وَهُوَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ بِهَا. فَاللهُ خَلَقَ الْأَنْعَامَ، وَالْمُشْرِكُونَ يَذْكُرُونَ اسْمَ غَيْرِ اللهِ عَلَيْهَا.
وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِحِلِّ مَا أَمَرَهم بِأَكْلِهِ مِمَّا رَزَقَهُمُ. فبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ ـ تَعَالَى، فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَأْكُلوا الحَلالَ الطَيِّبَ، بَيَّنَ لَهُمْ هُنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّعَامِ، مِمَّا فِيهِ مَضَرَّةٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وفي أَبْدانِهم وأَنْفُسِهم.
فَقَدْ أَثْبَتَ عِلْمُ الطِبِّ الحَديثِ، والتَحْلِيلُ المِخْبَرِيُّ ضَرَرَ هَذِهِ الأَنْواعِ مِنَ الطَعَامِ عَلَى جِسْمِ الإِنْسانِ وصِحَّتِهِ العامَّةِ، وتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الاخْتِصاصِ.
قولُهُ: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} أَيْ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ، أَيْ: ما ذَكَرَ الذابِحُ عِنْدَ ذَبْحِهِ اسْمًا غَيْرَ اسْمِ اللهِ تَعالى.
قولُهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} فَمَنْ اضَطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيءٍ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ المُحَرَّمَةِ، فَأَكَلَ مِنْهَا فِي حُدُودِ إِزَالَةِ الضَّرُورَةِ، لِيَقِيَ نَفْسَهُ الهَلاَكَ. أَيْ دَعَتْهُ ضَرورةُ المَخْمَصَةِ إِلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ "غَيْرَ بَاغٍ" عَلَى مُضْطَرٍّ آخَر، وَغَيْرَ طَالِبٍ لِلْحَرَامِ لِلَذَّةٍ. "وَلاَ عَادٍ" أَيْ: وَغَيْرَ مُتَعَدٍّ قَدْرَ الضَرُورَةِ وسَدِّ الرَّمَقِ. ولا مُتَجَاوِزٍ مَا يُزِيلُ الضَّرُورَةَ. دُونَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا العُدْوَانَ وَالبَغْيَ، وَتَجَاوُزَ مَا حَرَّمَ اللهُ. فإنَّهُ سَيَجِدُ اللهَ ـ تَعَالَى، غَفورًا رحيمًا.
وَفي هذا المعنى أَخْرَجَ الأئمَّةُ: عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ الطَبريُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ الرازيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ سُبحانَهُ: "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم الْمَيْتَةَ والدَمَ ولحمَ الخِنْزيرِ" قَالَ: إِنَّ الْإِسْلَام دِينٌ مُطَهَّرٌ، طَهَّرَهُ اللهُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَجَعَلَ لَكَ فِيهِ ـ يَا ابْنَ آدَمَ، سَعَةً إِذا اضْطُرِرْتَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
قولُهُ: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُ ذَلِكَ التَجاوُزَ، لِأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ـ جلَّ جلالُهُ العظيمُ. أَيْ أَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ، لنْ يُؤَاخِذُهُ بِذَلِكَ فَقد أُقِيمَ سَبَبُهُ مَقَامَهُ، وَلِتَعْظِيمِ أَمْرِ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ جِيءَ بالاسْمِ المقدَّسِ الجَلِيلِ "اللهُ".
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} إِنَّمَا: كافةٌ ومكفوفةٌ للحَصْرٍ. و "حَرَّمَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهِ" تَبَارَكَ وَتَعالى، وهذهِ الجملةُ الفعليةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "عَلَيْكُمُ" على: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "حَرَّمَ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمع المُذكَّرِ. و "الْمَيْتَةَ" مَفعولٌ بِهِ لِـ "حَرَّمَ"، منصوبٌ. وَ "الدَّمَ" معطوفٌ على "الْمَيْتَةَ" منصوبٌ مثله. وَ "لَحْمَ" معطوفٌ مثلهُ، وهو مُضافٌ. و "الْخِنْزِيرِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "مَا" مَوْصُولَةٌ مبنيَّةٌ على السُّكونِ في محلِّ النصْبِ بالمفعوليَّةِ عطفًا على "الْمَيْتَةَ"، أَوْ هي نَكِرَةٌ مَوْصُوفةٌ. و "أُهِلَّ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ للمجهولِ. ونائبُ فاعِلِهِ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) وُهُوَ العائدُ. وَ "لِغَيْرِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بـ "أُهِلَّ"، وَ "غيْرِ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ، ولَفْظُ الجَلالَةِ "اللهِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ بِمَعْنَى "عِنْدَ"؛ أَيْ: عِنْدَ ذَبْحِهِ، وهو مُتَعلٍّقٌ بِـ "أُهِلَّ" أيضًا، وَيجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِحالٍ مِنْ نائبِ الفاعِلِ، أَيْ: مُضَحًّى بِهِ. والجملَةُ صلةُ "ما" لا مجلَّ لها مِنَ الإعرابِ، إِنْ أُعْرِبتْ "ما" اسمًا مَوْصولًا بمعنى "الذي"، أَمَّا إِذا أُعرِبتْ نَكرةً موصوفةً فالجملةُ في محلِّ النَّصْبِ على أَنَّها صفةٌ لها.
قولُهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} الفاءُ: هي الفصيحةُ، فقد أَفْصَحَتْ عَنْ جوابِ شرطٍ مُقَدَّرٍ بـ: إِذا عَرَفْتُمْ تَحْريمَ مَا ذُكِرَ عَلَيْكم، وأَرَدْتُم بَيَانَ حُكْمِ مَا إِذَا اضْطُررْتم إِلَيْهِ، فأَقولُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جازِمٌ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابتِداءِ، وخَبَرُهُ جُملةُ الشَّرْطِ أَوِ الجَوَابِ أَوْ هُما معًا. و "اضْطُرّ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ لمجهولِ، ونائبُ فاعلِهِ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ عَلَى "مَنْ"، والجُملةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. و "غَيْرَ" منصوبٌ على الحالِ مِنَ ضَميرِ نائبِ الفاعلِ المُسْتترِ في "اضْطُرَّ" وهو مُضافٌ. و "بَاغٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسْرَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى الياءِ المَحْذوفَةِ. و "وَلَا عَادٍ} الواوُ: للعطفِ، و "لا" زائدةٌ لِتَأْكيدِ النَّفْيِ. و "عادٍ" مِثْلُ "باغ" مَعطوفٌ عَلَيْهِ. وجَوابُ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ مَحْذوفٌ، والتَقديرُ: فالله لا يُؤاخِذُهُ بِذَلِكَ، وَجُمْلةُ "مَنْ" الشَرْطِيَّة في مَحَلِّ النَّصْبِ، على أَنَّهُ مَقُولٌ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وجُمْلةُ "إِذا" المُقَدَّرةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الفاءُ: تَعْلِيليَّةٌ للجَوابِ المَحْذوفِ. وَ "إِنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. وَ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ. و "غَفورٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "رَحِيمٌ" خَبَرٌ ثانٍ لَهُ، وجُملَةُ "إنَّ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِلامِ التَعْلِيلِ المُقَدَّرَةِ المَدْلُولِ عَلَيْها بالفَاءِ التَعْلِيلِيَّةِ.
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} الخِطابُ في هَذَهِ الآيةِ الكريمَةِ موجَّهٌ للمُسْلِمينَ وليسَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، أَيْ إِنَّما حَرَّمَ اللهُ ـ تعالى، هَذِهِ المَطْعُوماتِ حَصْرًا، ولمْ يُحَرِّمْ مَا تَزْعُمونَ حُرْمَتَهُ مِنَ البَحيرَةِ والسائبَةِ والوصيلةِ ونَحْوِها، وَالحَصْرُ إِضافيٌّ هُنَا، فَلا يُنَافِي تَحْريمَ غَيْرِ هَذِهِ المَطعوماتِ المَذْكورةِ هُنَا كَالْسِّبَاعِ والحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَقِيلَ: بَلِ الحَصْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وإنَّما حُرِّمتِ السِّبَاعُ ونَحْوُهَا بَعْدَ ذلكَ.
وفي هَذِهِ الْآيةُ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ الآيةِ: 114، قبْلَها، والتي أَمَرَ فيها بأكلِ الحلالِ الطيِّبِ فقالَ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّبًا}، لِتَمْيِيزِ الطَّيِّبِ مِنَ الْخَبِيثِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ هِيَ خَبَائِثُ خُبْثًا فِطْرِيًّا، لِأَنَّ بَعْضَهَا مُفْسِدٌ لِتَوَلُّدِ الْغِذَاءِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ.
وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى الطِّيبِ وَالْخُبْثِ في ذَاتِهِ. وَقَدْ يَعْرِضُ الْخُبْثُ لِبَعْضِ الْمَطْعُومَاتِ عَرْضًا. وَتِلْكَ هِيَ الْمَيْتَةُ، وَالدَّمُ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَبَعْضُهَا مُنَافٍ لِلْفِطْرَةِ، وَهُوَ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ بِهَا. فَاللهُ خَلَقَ الْأَنْعَامَ، وَالْمُشْرِكُونَ يَذْكُرُونَ اسْمَ غَيْرِ اللهِ عَلَيْهَا.
وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِحِلِّ مَا أَمَرَهم بِأَكْلِهِ مِمَّا رَزَقَهُمُ. فبَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهُ ـ تَعَالَى، فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَأْكُلوا الحَلالَ الطَيِّبَ، بَيَّنَ لَهُمْ هُنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّعَامِ، مِمَّا فِيهِ مَضَرَّةٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وفي أَبْدانِهم وأَنْفُسِهم.
فَقَدْ أَثْبَتَ عِلْمُ الطِبِّ الحَديثِ، والتَحْلِيلُ المِخْبَرِيُّ ضَرَرَ هَذِهِ الأَنْواعِ مِنَ الطَعَامِ عَلَى جِسْمِ الإِنْسانِ وصِحَّتِهِ العامَّةِ، وتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الاخْتِصاصِ.
قولُهُ: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} أَيْ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللهِ، أَيْ: ما ذَكَرَ الذابِحُ عِنْدَ ذَبْحِهِ اسْمًا غَيْرَ اسْمِ اللهِ تَعالى.
قولُهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} فَمَنْ اضَطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيءٍ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ المُحَرَّمَةِ، فَأَكَلَ مِنْهَا فِي حُدُودِ إِزَالَةِ الضَّرُورَةِ، لِيَقِيَ نَفْسَهُ الهَلاَكَ. أَيْ دَعَتْهُ ضَرورةُ المَخْمَصَةِ إِلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ "غَيْرَ بَاغٍ" عَلَى مُضْطَرٍّ آخَر، وَغَيْرَ طَالِبٍ لِلْحَرَامِ لِلَذَّةٍ. "وَلاَ عَادٍ" أَيْ: وَغَيْرَ مُتَعَدٍّ قَدْرَ الضَرُورَةِ وسَدِّ الرَّمَقِ. ولا مُتَجَاوِزٍ مَا يُزِيلُ الضَّرُورَةَ. دُونَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا العُدْوَانَ وَالبَغْيَ، وَتَجَاوُزَ مَا حَرَّمَ اللهُ. فإنَّهُ سَيَجِدُ اللهَ ـ تَعَالَى، غَفورًا رحيمًا.
وَفي هذا المعنى أَخْرَجَ الأئمَّةُ: عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ الطَبريُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ الرازيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ سُبحانَهُ: "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم الْمَيْتَةَ والدَمَ ولحمَ الخِنْزيرِ" قَالَ: إِنَّ الْإِسْلَام دِينٌ مُطَهَّرٌ، طَهَّرَهُ اللهُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَجَعَلَ لَكَ فِيهِ ـ يَا ابْنَ آدَمَ، سَعَةً إِذا اضْطُرِرْتَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
قولُهُ: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ لَهُ ذَلِكَ التَجاوُزَ، لِأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ـ جلَّ جلالُهُ العظيمُ. أَيْ أَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ، لنْ يُؤَاخِذُهُ بِذَلِكَ فَقد أُقِيمَ سَبَبُهُ مَقَامَهُ، وَلِتَعْظِيمِ أَمْرِ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ جِيءَ بالاسْمِ المقدَّسِ الجَلِيلِ "اللهُ".
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} إِنَّمَا: كافةٌ ومكفوفةٌ للحَصْرٍ. و "حَرَّمَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهِ" تَبَارَكَ وَتَعالى، وهذهِ الجملةُ الفعليةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "عَلَيْكُمُ" على: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "حَرَّمَ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمع المُذكَّرِ. و "الْمَيْتَةَ" مَفعولٌ بِهِ لِـ "حَرَّمَ"، منصوبٌ. وَ "الدَّمَ" معطوفٌ على "الْمَيْتَةَ" منصوبٌ مثله. وَ "لَحْمَ" معطوفٌ مثلهُ، وهو مُضافٌ. و "الْخِنْزِيرِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "مَا" مَوْصُولَةٌ مبنيَّةٌ على السُّكونِ في محلِّ النصْبِ بالمفعوليَّةِ عطفًا على "الْمَيْتَةَ"، أَوْ هي نَكِرَةٌ مَوْصُوفةٌ. و "أُهِلَّ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ للمجهولِ. ونائبُ فاعِلِهِ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) وُهُوَ العائدُ. وَ "لِغَيْرِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بـ "أُهِلَّ"، وَ "غيْرِ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ، ولَفْظُ الجَلالَةِ "اللهِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ بِمَعْنَى "عِنْدَ"؛ أَيْ: عِنْدَ ذَبْحِهِ، وهو مُتَعلٍّقٌ بِـ "أُهِلَّ" أيضًا، وَيجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِحالٍ مِنْ نائبِ الفاعِلِ، أَيْ: مُضَحًّى بِهِ. والجملَةُ صلةُ "ما" لا مجلَّ لها مِنَ الإعرابِ، إِنْ أُعْرِبتْ "ما" اسمًا مَوْصولًا بمعنى "الذي"، أَمَّا إِذا أُعرِبتْ نَكرةً موصوفةً فالجملةُ في محلِّ النَّصْبِ على أَنَّها صفةٌ لها.
قولُهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} الفاءُ: هي الفصيحةُ، فقد أَفْصَحَتْ عَنْ جوابِ شرطٍ مُقَدَّرٍ بـ: إِذا عَرَفْتُمْ تَحْريمَ مَا ذُكِرَ عَلَيْكم، وأَرَدْتُم بَيَانَ حُكْمِ مَا إِذَا اضْطُررْتم إِلَيْهِ، فأَقولُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جازِمٌ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابتِداءِ، وخَبَرُهُ جُملةُ الشَّرْطِ أَوِ الجَوَابِ أَوْ هُما معًا. و "اضْطُرّ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ لمجهولِ، ونائبُ فاعلِهِ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ عَلَى "مَنْ"، والجُملةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. و "غَيْرَ" منصوبٌ على الحالِ مِنَ ضَميرِ نائبِ الفاعلِ المُسْتترِ في "اضْطُرَّ" وهو مُضافٌ. و "بَاغٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسْرَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى الياءِ المَحْذوفَةِ. و "وَلَا عَادٍ} الواوُ: للعطفِ، و "لا" زائدةٌ لِتَأْكيدِ النَّفْيِ. و "عادٍ" مِثْلُ "باغ" مَعطوفٌ عَلَيْهِ. وجَوابُ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ مَحْذوفٌ، والتَقديرُ: فالله لا يُؤاخِذُهُ بِذَلِكَ، وَجُمْلةُ "مَنْ" الشَرْطِيَّة في مَحَلِّ النَّصْبِ، على أَنَّهُ مَقُولٌ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وجُمْلةُ "إِذا" المُقَدَّرةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الفاءُ: تَعْلِيليَّةٌ للجَوابِ المَحْذوفِ. وَ "إِنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. وَ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ. و "غَفورٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "رَحِيمٌ" خَبَرٌ ثانٍ لَهُ، وجُملَةُ "إنَّ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِلامِ التَعْلِيلِ المُقَدَّرَةِ المَدْلُولِ عَلَيْها بالفَاءِ التَعْلِيلِيَّةِ.
مواضيع مماثلة
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 101
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 120
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 121
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 122
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 102
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 120
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 121
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 122
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 102
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود