الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 31
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 31
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَوْفَ الفقْرِ والفاقةِ، وخَشْيَةَ أَنْ لا تَجِدُوا مَا تُنْفِقُونَهُ علَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوْلَادِ خُصُوصُ الْبَنَاتِ، لِأَنَّهُنَّ اللَّائي كُنَّ يُقْتَلْنَ وَأْدًا، وَلَكِنْ عَبَّرَ عَنْهُنَّ بِلَفْظِ الْأَوْلَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا لِأَنَّ الْبِنْتَ يُقَالُ لَهَا: وَلَدٌ. وَقَدْ جَرَى الضَّمِيرُ عَلَى اعْتِبَارِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ نَرْزُقُهُمْ. وكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، إِذْ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ وَهُنَّ أَحْيَاءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "خَشْيَةَ إِمْلاقٍ" قَالَ: مَخَافَة الْفَاقَةِ وَالفَقْرِ. وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَنْ قَوْلِهِ: "خَشْيَةَ إِمْلاقٍ" قَالَ: مَخَافَةَ الْفَقْرِ. قَالَ: وَهلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَم. أَمَا سَمِعْتَ الشَّاعِرَ وَهُوَ يَقُولُ:
وَإِنِّي عَلَى الإِمْلاقِ يَا قَوْمُ مَاجِدٌ ......... أُعِدُّ لأَضْيافِي الشواءَ المُصَهَّبَا
وَقد غُيِّرَ أُسْلُوبَ الْإِضْمَارِ مِنَ الْإِفْرَادِ إِلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُنَا مِنْ أَحْوَال الْجَاهِلِيَّة زَجْرًا لَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْخَطِيئَةِ الذَّمِيمَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَلَكِنَّ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَرْقًا فِي النَّظْمِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قِيلَ هُنَا خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وَقِيلَ فِي الآيَةِ:151، منْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {مِنْ إِمْلاقٍ}. وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ إِنَّما يَئِدُونَهُنَّ إِمَّا لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ لَا يَسْتَطِيعُونَ الإِنْفَاقَ على الْبِنْتِ، وَهمْ لَا يَرْجُونَ منها الإِعَانَةَ عَلَى مُتَطَلَّباتِ الحياةِ، وذَلِكَ بِالعَمَلِ وَالْكَسْبِ، أَوْ بالغَزْوِ والسَّلْبِ عَنْدَمَا تَكْبرُ كما يفعلُ الذُكْرانُ مِنَ الأَوْلادِ، وَلِذَلِكَ فَقَدْ كانُوا يَئِدُونَ البَنَاتِ، وَذَلِكَ مَوْرِدُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {مِنْ إِمْلاقٍ}، فَإِنَّ (مِنْ) التَّعْلِيلِيَّةَ تَقْتَضِي أَنَّ الْإِمْلَاقَ سَبَبُ قَتْلِهِنَّ، فَيَقْتَضِي أَنَّ الْإِمْلَاقَ مَوْجُودٌ حِينَ الْقَتْلِ وَهوَ سَبَبُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ فَقْرَ الْأَبِ وَلَكِنْ خَشْيَةَ عُرُوضِ الْفَقْرِ لَهُ مُسْتقبلًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ العِيَالِ، أَوْ عُرُوضِ الْفَقْرِ لِلْبِنْتِ بِمَوْتِ أَبِيهَا، إِذْ كَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، فَيَكُونُ الدَّافِعُ لِلْوَأْدِ حينئذٍ هُوَ تَوَقُّعَ الْإِمْلَاقِ.
قَالَ الشَاعِرُ الإِسْلَامِيُّ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ:
إِذَا تَذَكَّرْتُ بِنْتِي حِين تَنْدُبُنِي ............ فَاضَتْ لِعَبْرَةِ بِنْتِي عَبْرَتِي بِدَمِ
أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا ....... فَيُهْتَكُ السِّتْرُ عَنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ
تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا ....... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ
أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ ..... وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِ
فَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الْفَرْقِ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ قِيلَ هُنَالِكَ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ بِتَقْدِيمِ ضَمِيرِ الْآبَاءِ عَلَى ضَمِيرِ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّ الْإِمْلَاقَ الدَّافِعَ لِلْوَأْدِ الْمَحْكِيِّ بِهِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ هُوَ إِمْلَاقُ الْآبَاءِ فَقَدَّمَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ رَازِقُهُمْ وَكَمَّلَ بِأَنَّهُ رَازِقُ بَنَاتِهِمْ. وَأَمَّا الْإِمْلَاقُ الْمَحْكِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ الْإِمْلَاقُ الْمَخْشِيُّ وُقُوعُهُ. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ تَوَقَّعَ إِمْلَاقَ الْبَنَاتِ كَمَا رَأَيْتَ فِي الْأَبْيَاتِ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللهَ رَازِقُ الْأَبْنَاءِ وَكَمَّلَ بِأَنَّهُ رَازِقُ آبَائِهِمْ. وَهَذَهِ مِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ الكريمِ. وَالْإِمْلَاقُ: الِافْتِقَارُ وَعَدَمُ الْمِلْكِ. و "أَمْلَقَ" يَأْتي لَازِمًا وَمُتَعَدِّيا، و "أَمْلَقَ" إِذَا افْتَقَرَ، وَيُقالُ: أَمْلَقَ الدَّهْرُ مَا بِيَدِهِ. ومِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَر:
ولمَّا رَأيْتُ العُدْمَ فَيَّدَ نَائِلِي .............. وَأَمْلَقَ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تَنَبَّلُ
وأَمْلَقَ الرَّجُلُ: أَيْ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْمَلَقَاتُ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْعِظَامُ الْمُلْسُ وَاحِدَتُها مَلَقَةُ. قالُ الشَّاعِرُ صَخْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الهُذَلِيُّ المُلَقَّبِ بِـ (صَخْرِ الغَيِّ) في معرِضِ رِثائهِ ابْنَهُ، يَصِفُهُ وهُوَ يَصيدُ وُعُولًا وَرَدَتِ الماءَ لِتَشْرَبَ منْهُ:
أَرَى الأَيّامَ لا تُبْقِى كَرِيمًا .................. ولا الوَحْشَ الأَوابِدَ والنَّعَامَا
ولا عُصْمًا أَوَابِدَ في صُخُورٍ ................ كُسِينَ عَلَى فَرَاسِنِها خِدَامَا
أُتِيحَ لَهَا أُقَيْدِرُ ذُو حَشِيفٍ ............. إِذا سَامَتْ على المَلَقَاتِ سَامَا
الأُقَيْدِرُ: تَصْغيرُ "الأقدَرِ" وهو القصيرُ، أو قصيرُ العُنُقِ، وأَرادَ بِهِ ابنَهُ الصَّائِدَ. و "القَدْرُ" (بِسُكونِ الدَّالِ): رَأْسُ الكَتِفِ. وَ (القَدَرُ) بَالتَّحْرِيكِ: قِصَرُ العُنُقِ، وَ "قَدِرَ" كَ "فَرِحَ"، "يَقْدَرُ قَدَرًا، فهُوَ أَقْدَرُ: قَصِيرُ العُنُقِ. وقِيلَ: الأَقْدَرُ: القَصِيرُ مِنَ الرِّجَالِ. والعُصْمُ: الوُعولُ. والخِدَامُ: الخَلْخَالُ، وأَرادَ بِها الخُطُوطَ السُّودَ التي في يَدَيْه. والحَشِيفُ: الثَّوْبُ الخَلَقُ. وسامَتْ: مَرَّتْ ومَضَتْ. والمَلَقَاتُ: جَمْعُ مَلَقَةٍ وَهِيَ الصَّخْرَةُ المَلْسَاءُ.
قولُهُ: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، والمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُتَكَفِّلٌ بِرِزْقِهِمْ وَرِزْقِكُمْ مَعًا. فَبَدَأَ بِرِزْقِهِمْ للاهْتِمامِ بِهِمْ، أَيْ: لا تَخَافُوا مِنْ فَقْرِكُمْ بِسَبَبِهم، فَرِزْقُهمِ عَلَى اللهِ.
قولُهُ: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} وَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَخَطِيئَةٌ كَبِيرَةٌ. لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ التَنَاسُلِ، وانْقِطاعِ النَّوْعِ، وإِيلامِ الرُّوحِ. بحر العلوم للسمرقندي (3/ 5، بترقيم الشاملة آليا)
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلى النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قال: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)). قالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قال: ((أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)). قالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: ((أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ)). أخرجه الأئمَّةُ: أَحمَدٌ: (1/434، رقم: 4131)، والبُخَارِي: (4/1626، رقم: 4207)، ومُسْلِم: (1/90، رقم: 86)، وأَبو داود: (2/294، رقم: 2310)، والتِرْمِذِيُّ: (5/336، رقم: 3182)، والنَّسائيُّ: (7/89، رقم: 4013).
قالَ أَبو إِسْحاق الزَجَّاجُ: مَعْنَاهُ: إِثْمًا كَبيرًا، يُقَالُ: خَطِئَ يُخْطِئ خِطْئًا، مِثل: أَثِمَ يَأْثَمُ إِثمًا، قالَ اللهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ يوسُف: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} الآيةَ: 97، أَيْ: آثِمِينَ، وَقَالَ منْ سُورةِ الحاقَّةِ: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} الآيةَ: 37.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خَشْيَةَ إِمْلاقٍ" أَيْ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُونَ الْبَنَاتِ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ فَوَعَظَهُمُ اللهُ فِي ذَلِكَ وَأَخْبَرَهمْ أَنَّ رِزْقَهُمْ وَرِزْقَ أَوْلَادِهِمْ عَلى اللهِ فَقَالَ: "نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهمْ كَانَ خِطْأً كَبِيرَا" أَيْ: إِثْمًا كَبِيرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "خِطْأً" قَالَ: خَطِيئَةً. وقالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسيُّ: قَدْ جَاءَ "أَخْطَأَ" بِمَعْنَى خَطِئَ أَيْ أَثِمَ، كَمَا جَاءَ خَطِئ بمعنى أَخْطَأَ، إِذا لَمْ يُصِبِ الصَّوابَ؛ فَمِنَ الأَوَّلِ قولُهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآيَةَ: 286، بِمَعْنَى خَطِئْنَا؛ لأَنَّ المُؤَاخَذَةَ عَنِ المُخْطِئِ مَوْضُوعٌ، وأَنْشَدَ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبي الصَّلْتِ:
عبادُك يُخْطِئُونَ وأنت ربٌّ ................... كريم لا تَليقُ بك الذمومُ
ومِنَ الثاني قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
يا وَيحَ هِنْدٍ إذْ خَطِئْنَ كاهِلًا ............... تَاللهِ لا يَذْهَبُ شَيْخِي باطِلًا
وَجُمْلَةُ "إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيرًا" تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ، وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَنْهِيِّ، وَفِعْلُ "كانَ" تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ. و "الخِطْءُ (بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاء) مَصْدَرُ "خَطِئَ" بِوَزْنِ "فَرِحَ"، إِذَا أَصَابَ إِثْمًا، وَلَا يَكُونُ الْإِثْمُ إِلَّا عَنْ عَمْدٍ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ} الْآية: 8، وَقَالَ منْ سُورَةِ العَلَقِ: {نَاصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ} الآيةَ: 16. وَأَمَّا الْخَطَأُ (بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ): فَهُوَ ضِدُّ الْعَمْدِ. وَفِعْلُهُ: أَخْطَأَ. وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُخْطِئٌ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الْأَحْزَابِ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} الآية: 5. وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ هِيَ سِرُّ الْعَرَبِيَّةِ وَعَلَيْهَا الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّتِهَا. وَأُكِّدَ بِـ "إِنَّ" لِتَحْقِيقِهِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ وَأْدَ الْبَنَاتِ مِنَ السَّدَادِ، وَكانوا يَقُولُونَ: دَفْنُ الْبَنَاتِ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ. وَأُكِّدَ أَيْضًا بِـ "كَانَ" للِإِشْعَارِ بِأَنَّ كَوْنَهُ إِثْمًا أَمْرٌ قَدِ اسْتَقَرَّ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} الوَاو: اسْتِئنافيِّةٌ، و "لا" ناهيةٌ جازمةٌ، و "تَقْتُلُوا" فعلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بـ "لا" الناهيَةِ، وعلامةُ جزْمِهِ حذفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وَواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والألِفُ للتفريق. و "أَوْلادَكُمْ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، وهوَ مُضافٌ، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "خَشْيَةَ" مَفْعُولٌ لأَجْلِهِ منصوبٌ مُضافٌ، وَ "إِمْلاقٍ" مَجرورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} نَحْنُ: ضميرٌ مُنْفَصِلٌ للمُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مَبْنيٌّ عَلى الضَمِّ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، وَ "نَرْزُقُهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على ضميرِ التعظيمِ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلَّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذهِ في محلِّ الرَّفعِ خَبَرٌ للمُبْتَدَأِ "نَحْنُ". وَ "وَإِيَّاكُمْ" حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "إيَّاكم" مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى الهاءِ مِنْ "نرزُقُهم"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها، لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ. وَ "قَتْلَهُمْ" اسْمُّ "إنَّ" منصوبٌ بها، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ لتذْكيرِ الجمعِ. و "كانَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، واسْمُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى القَتْلِ. و "خِطْأً" خَبَرُ "كانَ" منصوبٌ بها. و "كَبِيرًا" صِفَةٌ لـ "خِطْأً" منصوبٌ مثلهُ، وجُمْلَةُ "كَانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لـ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ النَّهْيِ السَّابِقِ، لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {خِطْأً} بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، أَيْ: إِثْمًا. وهيَ قراءةٌ جيدةٌ واضحةٌ لأَنَّها مِنْ قَوْلِهم: خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئًا، كَ "أَثِمَ يَأْثَمُ إثْمًا"، إِذَا تَعَمَّدَ الكَذِبَ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ "خَطَأً" ـ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ. وَهو من "الْخَطَأِ" ضِدِّ الصَّوَابِ، أَيْ أَنَّ قَتْلَهُمْ مَحْضُ خَطَأٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يُعْذَرُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ. وقدْ خَرَّجَ الزَجَّاجُ هذهِ القراءَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا مِنْ أَخْطَأَ يُخْطِئُ خَطَأً، أَيْ: إِخْطاءً، إِذا لَمْ يُصِبْ. والثاني: أَنْ يَكونَ مَصْدَرَ خَطِئَ يَخْطَأُ خَطَأً، إِذا لَمْ يُصِبْ أَيْضًا، وأَنْشَدَ لِعُبَيْدِ بْنِ الأَبْرَصِ الأَسَدِيِّ:
والناسُ يَلْحَوْن الأَميرَ إِذا هُمُ ......... خَطِئوا الصَّوابَ ولا يُلامُ المُرْشِدُ
والمَعْنَى عَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ: أَنَّ قَتْلَهُمْ كانَ غيْرَ صَوَابٍ. واسْتَبْعَدَ قومٌ هَذِهِ القَرَاءَةَ، قالوا: لأَنَّ الخَطَأَ مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ فَلَا يَصِحُّ مَعْنَاهُ هَهُنَا. وقد خَفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى أَخْطَأَ، أَوْ أَنَّهُ يُقالُ: "خَطِئ" إِذا لَمْ يُصِبْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "خِطَاءً" بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَفَتْحِ الطَّاءِ، وَأَلِفٍ بَعْدَ الطَّاءِ، بَعْدَهُ هَمْزَةٌ مَمْدُودًا. وَهُوَ عَلَى وَزْنِ "فِعالٍ"، مِنْ خَطِئَ إِذَا أَجْرَمَ، وَهُوَ لُغَةٌ فِي "الخِطْءِ"، وَكَأَنَّ الْفِعَالَ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ. فَهِيَ مَصْدَرُ "خَاطَأَ، يُخَاطِئُ، خِطاءً" مِثْلُ: "قاتَلَ، يُقاتِلُ، قِتالًا". قالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسِيُّ: هِيَ مَصْدَرُ: "خاطَأَ، يُخاطِئ"، وإِنْ كُنَّا لَمْ نَجِدْ "خاطَأَ"، ولكنْ وَجَدْنا "تخاطَأَ"، وهوَ مُطاوِعُ "خاطَأَ"، فَدَلَّنا عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الجاهليِّ أَوْفَى بْنِ مَطَرٍ المَازِنِيِّ:
أَلَا أَبْلِغَا خِلَّتِي جابِرًا ............................ بِأَنَّ خَليلَكَ لَمْ يُقْتَلِ
تخاطَأَتِ النَّبْلُ أَحْشاءَهُ ........................ وأَخَّرَ يَوْمِي فَلَمْ يَعْجَلِ
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ البسْرِيِّ. في مَهَاةٍ:
تَخَاطَأَهُ الْقَنَّاصُ حَتَّى وَجَدْتُهُ .......... وَخُرْطُومُهُ فِي مَنْقَعِ الْمَاءِ رَاسِبُ
فكأَنَّ هؤلاءِ الذين يَقْتُلُون أَوْلَادَهم يُخاطِئُون الحقَّ والعَدْلَ. وقَدْ طَعَنَ قومٌ عَلَى هَذِهِ القِرَاءَةِ حَتَّى قالَ أَبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: لا أَعْرِفُ لِهَذِهِ القِرَاءةِ وَجْهًا. ولِذَلِكَ جَعَلَهَا أَبو حاتِمٍ غَلَطًا. قالَ السَمينُ الحلبيُّ: قَدْ عَرَفَهُ غَيْرُهُما وللهِ الحَمْدُ. وقَرَأَ الحَسَنُ: "خَطَاءَ"، بِفَتْحِ الخاءِ ومَدِّ الطّاءِ، وهوَ اسْمُ مَصْدَرِ "أَخْطَأَ" كالعَطاءِ اسْمٌ للإِعْطاءِ. وقرَأَ أَيْضًا: "خَطَا" بِالقَصْرِ، وأَصْلُهُ "خَطَأ" كَقِراءَةِ ابْنِ ذَكْوانٍ، إِلَّا أَنَّهُ سَهَّلَ الهَمْزَةَ بِإِبْدالِهَا أَلِفًا فَحُذِفَتْ كَ "عَصا". وقرأَ أَبو رَجاءٍ، والزُّهْريُّ، كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُما كَسَرَا الخاءَ كَ "زِنَى" وكلاهُما مِنْ "خَطِئ في الدِّينِ"، و "أَخْطَأَ في الرَّأْيِ"، وقد يُقامُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَقامَ الآخَر. وقرَأَ ابْنُ عامِرٍ فِي رِوَايةٍ "خَطْئًا" بالفَتْحِ والسُّكونِ والهَمْزِ، وهو مَصْدَرُ "خَطِئَ" بالكَسْرِ.
قرأَ العامَّةُ: {تَقْتُلوا، وَخَشْيَةَ}. وَقَرَأَ يَحْيَى ابْنُ وَثَّابٍ، والأَعْمَشُ: "تُقَتِّلوا"، و "خِشْيَةَ" بِكَسْرِ الخاءِ.
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَوْفَ الفقْرِ والفاقةِ، وخَشْيَةَ أَنْ لا تَجِدُوا مَا تُنْفِقُونَهُ علَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوْلَادِ خُصُوصُ الْبَنَاتِ، لِأَنَّهُنَّ اللَّائي كُنَّ يُقْتَلْنَ وَأْدًا، وَلَكِنْ عَبَّرَ عَنْهُنَّ بِلَفْظِ الْأَوْلَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا لِأَنَّ الْبِنْتَ يُقَالُ لَهَا: وَلَدٌ. وَقَدْ جَرَى الضَّمِيرُ عَلَى اعْتِبَارِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ نَرْزُقُهُمْ. وكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، إِذْ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ وَهُنَّ أَحْيَاءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "خَشْيَةَ إِمْلاقٍ" قَالَ: مَخَافَة الْفَاقَةِ وَالفَقْرِ. وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَنْ قَوْلِهِ: "خَشْيَةَ إِمْلاقٍ" قَالَ: مَخَافَةَ الْفَقْرِ. قَالَ: وَهلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَم. أَمَا سَمِعْتَ الشَّاعِرَ وَهُوَ يَقُولُ:
وَإِنِّي عَلَى الإِمْلاقِ يَا قَوْمُ مَاجِدٌ ......... أُعِدُّ لأَضْيافِي الشواءَ المُصَهَّبَا
وَقد غُيِّرَ أُسْلُوبَ الْإِضْمَارِ مِنَ الْإِفْرَادِ إِلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُنَا مِنْ أَحْوَال الْجَاهِلِيَّة زَجْرًا لَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْخَطِيئَةِ الذَّمِيمَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَلَكِنَّ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَرْقًا فِي النَّظْمِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قِيلَ هُنَا خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وَقِيلَ فِي الآيَةِ:151، منْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {مِنْ إِمْلاقٍ}. وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ إِنَّما يَئِدُونَهُنَّ إِمَّا لِأَنَّهُمْ فُقَرَاءُ لَا يَسْتَطِيعُونَ الإِنْفَاقَ على الْبِنْتِ، وَهمْ لَا يَرْجُونَ منها الإِعَانَةَ عَلَى مُتَطَلَّباتِ الحياةِ، وذَلِكَ بِالعَمَلِ وَالْكَسْبِ، أَوْ بالغَزْوِ والسَّلْبِ عَنْدَمَا تَكْبرُ كما يفعلُ الذُكْرانُ مِنَ الأَوْلادِ، وَلِذَلِكَ فَقَدْ كانُوا يَئِدُونَ البَنَاتِ، وَذَلِكَ مَوْرِدُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {مِنْ إِمْلاقٍ}، فَإِنَّ (مِنْ) التَّعْلِيلِيَّةَ تَقْتَضِي أَنَّ الْإِمْلَاقَ سَبَبُ قَتْلِهِنَّ، فَيَقْتَضِي أَنَّ الْإِمْلَاقَ مَوْجُودٌ حِينَ الْقَتْلِ وَهوَ سَبَبُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ فَقْرَ الْأَبِ وَلَكِنْ خَشْيَةَ عُرُوضِ الْفَقْرِ لَهُ مُسْتقبلًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ العِيَالِ، أَوْ عُرُوضِ الْفَقْرِ لِلْبِنْتِ بِمَوْتِ أَبِيهَا، إِذْ كَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ لَا يُوَرِّثُونَ الْبَنَاتِ، فَيَكُونُ الدَّافِعُ لِلْوَأْدِ حينئذٍ هُوَ تَوَقُّعَ الْإِمْلَاقِ.
قَالَ الشَاعِرُ الإِسْلَامِيُّ إِسْحَاقُ بْنُ خَلَفٍ:
إِذَا تَذَكَّرْتُ بِنْتِي حِين تَنْدُبُنِي ............ فَاضَتْ لِعَبْرَةِ بِنْتِي عَبْرَتِي بِدَمِ
أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا ....... فَيُهْتَكُ السِّتْرُ عَنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ
تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا ....... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ
أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ ..... وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِ
فَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ فِي الْفَرْقِ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ قِيلَ هُنَالِكَ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ بِتَقْدِيمِ ضَمِيرِ الْآبَاءِ عَلَى ضَمِيرِ الْأَوْلَادِ، لِأَنَّ الْإِمْلَاقَ الدَّافِعَ لِلْوَأْدِ الْمَحْكِيِّ بِهِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ هُوَ إِمْلَاقُ الْآبَاءِ فَقَدَّمَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ رَازِقُهُمْ وَكَمَّلَ بِأَنَّهُ رَازِقُ بَنَاتِهِمْ. وَأَمَّا الْإِمْلَاقُ الْمَحْكِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ الْإِمْلَاقُ الْمَخْشِيُّ وُقُوعُهُ. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ تَوَقَّعَ إِمْلَاقَ الْبَنَاتِ كَمَا رَأَيْتَ فِي الْأَبْيَاتِ، فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ اللهَ رَازِقُ الْأَبْنَاءِ وَكَمَّلَ بِأَنَّهُ رَازِقُ آبَائِهِمْ. وَهَذَهِ مِنْ نُكَتِ الْقُرْآنِ الكريمِ. وَالْإِمْلَاقُ: الِافْتِقَارُ وَعَدَمُ الْمِلْكِ. و "أَمْلَقَ" يَأْتي لَازِمًا وَمُتَعَدِّيا، و "أَمْلَقَ" إِذَا افْتَقَرَ، وَيُقالُ: أَمْلَقَ الدَّهْرُ مَا بِيَدِهِ. ومِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَر:
ولمَّا رَأيْتُ العُدْمَ فَيَّدَ نَائِلِي .............. وَأَمْلَقَ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تَنَبَّلُ
وأَمْلَقَ الرَّجُلُ: أَيْ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْمَلَقَاتُ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْعِظَامُ الْمُلْسُ وَاحِدَتُها مَلَقَةُ. قالُ الشَّاعِرُ صَخْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الهُذَلِيُّ المُلَقَّبِ بِـ (صَخْرِ الغَيِّ) في معرِضِ رِثائهِ ابْنَهُ، يَصِفُهُ وهُوَ يَصيدُ وُعُولًا وَرَدَتِ الماءَ لِتَشْرَبَ منْهُ:
أَرَى الأَيّامَ لا تُبْقِى كَرِيمًا .................. ولا الوَحْشَ الأَوابِدَ والنَّعَامَا
ولا عُصْمًا أَوَابِدَ في صُخُورٍ ................ كُسِينَ عَلَى فَرَاسِنِها خِدَامَا
أُتِيحَ لَهَا أُقَيْدِرُ ذُو حَشِيفٍ ............. إِذا سَامَتْ على المَلَقَاتِ سَامَا
الأُقَيْدِرُ: تَصْغيرُ "الأقدَرِ" وهو القصيرُ، أو قصيرُ العُنُقِ، وأَرادَ بِهِ ابنَهُ الصَّائِدَ. و "القَدْرُ" (بِسُكونِ الدَّالِ): رَأْسُ الكَتِفِ. وَ (القَدَرُ) بَالتَّحْرِيكِ: قِصَرُ العُنُقِ، وَ "قَدِرَ" كَ "فَرِحَ"، "يَقْدَرُ قَدَرًا، فهُوَ أَقْدَرُ: قَصِيرُ العُنُقِ. وقِيلَ: الأَقْدَرُ: القَصِيرُ مِنَ الرِّجَالِ. والعُصْمُ: الوُعولُ. والخِدَامُ: الخَلْخَالُ، وأَرادَ بِها الخُطُوطَ السُّودَ التي في يَدَيْه. والحَشِيفُ: الثَّوْبُ الخَلَقُ. وسامَتْ: مَرَّتْ ومَضَتْ. والمَلَقَاتُ: جَمْعُ مَلَقَةٍ وَهِيَ الصَّخْرَةُ المَلْسَاءُ.
قولُهُ: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ، والمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُتَكَفِّلٌ بِرِزْقِهِمْ وَرِزْقِكُمْ مَعًا. فَبَدَأَ بِرِزْقِهِمْ للاهْتِمامِ بِهِمْ، أَيْ: لا تَخَافُوا مِنْ فَقْرِكُمْ بِسَبَبِهم، فَرِزْقُهمِ عَلَى اللهِ.
قولُهُ: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} وَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَخَطِيئَةٌ كَبِيرَةٌ. لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ التَنَاسُلِ، وانْقِطاعِ النَّوْعِ، وإِيلامِ الرُّوحِ. بحر العلوم للسمرقندي (3/ 5، بترقيم الشاملة آليا)
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلى النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قال: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)). قالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قال: ((أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ)). قالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: ((أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ)). أخرجه الأئمَّةُ: أَحمَدٌ: (1/434، رقم: 4131)، والبُخَارِي: (4/1626، رقم: 4207)، ومُسْلِم: (1/90، رقم: 86)، وأَبو داود: (2/294، رقم: 2310)، والتِرْمِذِيُّ: (5/336، رقم: 3182)، والنَّسائيُّ: (7/89، رقم: 4013).
قالَ أَبو إِسْحاق الزَجَّاجُ: مَعْنَاهُ: إِثْمًا كَبيرًا، يُقَالُ: خَطِئَ يُخْطِئ خِطْئًا، مِثل: أَثِمَ يَأْثَمُ إِثمًا، قالَ اللهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ يوسُف: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} الآيةَ: 97، أَيْ: آثِمِينَ، وَقَالَ منْ سُورةِ الحاقَّةِ: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} الآيةَ: 37.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خَشْيَةَ إِمْلاقٍ" أَيْ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُونَ الْبَنَاتِ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ فَوَعَظَهُمُ اللهُ فِي ذَلِكَ وَأَخْبَرَهمْ أَنَّ رِزْقَهُمْ وَرِزْقَ أَوْلَادِهِمْ عَلى اللهِ فَقَالَ: "نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهمْ كَانَ خِطْأً كَبِيرَا" أَيْ: إِثْمًا كَبِيرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "خِطْأً" قَالَ: خَطِيئَةً. وقالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسيُّ: قَدْ جَاءَ "أَخْطَأَ" بِمَعْنَى خَطِئَ أَيْ أَثِمَ، كَمَا جَاءَ خَطِئ بمعنى أَخْطَأَ، إِذا لَمْ يُصِبِ الصَّوابَ؛ فَمِنَ الأَوَّلِ قولُهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآيَةَ: 286، بِمَعْنَى خَطِئْنَا؛ لأَنَّ المُؤَاخَذَةَ عَنِ المُخْطِئِ مَوْضُوعٌ، وأَنْشَدَ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبي الصَّلْتِ:
عبادُك يُخْطِئُونَ وأنت ربٌّ ................... كريم لا تَليقُ بك الذمومُ
ومِنَ الثاني قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
يا وَيحَ هِنْدٍ إذْ خَطِئْنَ كاهِلًا ............... تَاللهِ لا يَذْهَبُ شَيْخِي باطِلًا
وَجُمْلَةُ "إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيرًا" تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ، وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَنْهِيِّ، وَفِعْلُ "كانَ" تَأْكِيدٌ لِلْجُمْلَةِ. و "الخِطْءُ (بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاء) مَصْدَرُ "خَطِئَ" بِوَزْنِ "فَرِحَ"، إِذَا أَصَابَ إِثْمًا، وَلَا يَكُونُ الْإِثْمُ إِلَّا عَنْ عَمْدٍ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ} الْآية: 8، وَقَالَ منْ سُورَةِ العَلَقِ: {نَاصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ} الآيةَ: 16. وَأَمَّا الْخَطَأُ (بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ): فَهُوَ ضِدُّ الْعَمْدِ. وَفِعْلُهُ: أَخْطَأَ. وَاسْمُ الْفَاعِلِ مُخْطِئٌ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الْأَحْزَابِ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} الآية: 5. وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ هِيَ سِرُّ الْعَرَبِيَّةِ وَعَلَيْهَا الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَئِمَّتِهَا. وَأُكِّدَ بِـ "إِنَّ" لِتَحْقِيقِهِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ وَأْدَ الْبَنَاتِ مِنَ السَّدَادِ، وَكانوا يَقُولُونَ: دَفْنُ الْبَنَاتِ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ. وَأُكِّدَ أَيْضًا بِـ "كَانَ" للِإِشْعَارِ بِأَنَّ كَوْنَهُ إِثْمًا أَمْرٌ قَدِ اسْتَقَرَّ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} الوَاو: اسْتِئنافيِّةٌ، و "لا" ناهيةٌ جازمةٌ، و "تَقْتُلُوا" فعلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بـ "لا" الناهيَةِ، وعلامةُ جزْمِهِ حذفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وَواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والألِفُ للتفريق. و "أَوْلادَكُمْ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، وهوَ مُضافٌ، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "خَشْيَةَ" مَفْعُولٌ لأَجْلِهِ منصوبٌ مُضافٌ، وَ "إِمْلاقٍ" مَجرورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} نَحْنُ: ضميرٌ مُنْفَصِلٌ للمُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مَبْنيٌّ عَلى الضَمِّ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، وَ "نَرْزُقُهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على ضميرِ التعظيمِ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلَّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذهِ في محلِّ الرَّفعِ خَبَرٌ للمُبْتَدَأِ "نَحْنُ". وَ "وَإِيَّاكُمْ" حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "إيَّاكم" مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى الهاءِ مِنْ "نرزُقُهم"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها، لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ. وَ "قَتْلَهُمْ" اسْمُّ "إنَّ" منصوبٌ بها، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ لتذْكيرِ الجمعِ. و "كانَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، واسْمُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى القَتْلِ. و "خِطْأً" خَبَرُ "كانَ" منصوبٌ بها. و "كَبِيرًا" صِفَةٌ لـ "خِطْأً" منصوبٌ مثلهُ، وجُمْلَةُ "كَانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لـ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ النَّهْيِ السَّابِقِ، لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {خِطْأً} بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، أَيْ: إِثْمًا. وهيَ قراءةٌ جيدةٌ واضحةٌ لأَنَّها مِنْ قَوْلِهم: خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئًا، كَ "أَثِمَ يَأْثَمُ إثْمًا"، إِذَا تَعَمَّدَ الكَذِبَ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ "خَطَأً" ـ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ. وَهو من "الْخَطَأِ" ضِدِّ الصَّوَابِ، أَيْ أَنَّ قَتْلَهُمْ مَحْضُ خَطَأٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يُعْذَرُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ. وقدْ خَرَّجَ الزَجَّاجُ هذهِ القراءَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا مِنْ أَخْطَأَ يُخْطِئُ خَطَأً، أَيْ: إِخْطاءً، إِذا لَمْ يُصِبْ. والثاني: أَنْ يَكونَ مَصْدَرَ خَطِئَ يَخْطَأُ خَطَأً، إِذا لَمْ يُصِبْ أَيْضًا، وأَنْشَدَ لِعُبَيْدِ بْنِ الأَبْرَصِ الأَسَدِيِّ:
والناسُ يَلْحَوْن الأَميرَ إِذا هُمُ ......... خَطِئوا الصَّوابَ ولا يُلامُ المُرْشِدُ
والمَعْنَى عَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ: أَنَّ قَتْلَهُمْ كانَ غيْرَ صَوَابٍ. واسْتَبْعَدَ قومٌ هَذِهِ القَرَاءَةَ، قالوا: لأَنَّ الخَطَأَ مَا لَمْ يُتَعَمَّدْ فَلَا يَصِحُّ مَعْنَاهُ هَهُنَا. وقد خَفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى أَخْطَأَ، أَوْ أَنَّهُ يُقالُ: "خَطِئ" إِذا لَمْ يُصِبْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "خِطَاءً" بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَفَتْحِ الطَّاءِ، وَأَلِفٍ بَعْدَ الطَّاءِ، بَعْدَهُ هَمْزَةٌ مَمْدُودًا. وَهُوَ عَلَى وَزْنِ "فِعالٍ"، مِنْ خَطِئَ إِذَا أَجْرَمَ، وَهُوَ لُغَةٌ فِي "الخِطْءِ"، وَكَأَنَّ الْفِعَالَ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ. فَهِيَ مَصْدَرُ "خَاطَأَ، يُخَاطِئُ، خِطاءً" مِثْلُ: "قاتَلَ، يُقاتِلُ، قِتالًا". قالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسِيُّ: هِيَ مَصْدَرُ: "خاطَأَ، يُخاطِئ"، وإِنْ كُنَّا لَمْ نَجِدْ "خاطَأَ"، ولكنْ وَجَدْنا "تخاطَأَ"، وهوَ مُطاوِعُ "خاطَأَ"، فَدَلَّنا عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الجاهليِّ أَوْفَى بْنِ مَطَرٍ المَازِنِيِّ:
أَلَا أَبْلِغَا خِلَّتِي جابِرًا ............................ بِأَنَّ خَليلَكَ لَمْ يُقْتَلِ
تخاطَأَتِ النَّبْلُ أَحْشاءَهُ ........................ وأَخَّرَ يَوْمِي فَلَمْ يَعْجَلِ
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ البسْرِيِّ. في مَهَاةٍ:
تَخَاطَأَهُ الْقَنَّاصُ حَتَّى وَجَدْتُهُ .......... وَخُرْطُومُهُ فِي مَنْقَعِ الْمَاءِ رَاسِبُ
فكأَنَّ هؤلاءِ الذين يَقْتُلُون أَوْلَادَهم يُخاطِئُون الحقَّ والعَدْلَ. وقَدْ طَعَنَ قومٌ عَلَى هَذِهِ القِرَاءَةِ حَتَّى قالَ أَبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: لا أَعْرِفُ لِهَذِهِ القِرَاءةِ وَجْهًا. ولِذَلِكَ جَعَلَهَا أَبو حاتِمٍ غَلَطًا. قالَ السَمينُ الحلبيُّ: قَدْ عَرَفَهُ غَيْرُهُما وللهِ الحَمْدُ. وقَرَأَ الحَسَنُ: "خَطَاءَ"، بِفَتْحِ الخاءِ ومَدِّ الطّاءِ، وهوَ اسْمُ مَصْدَرِ "أَخْطَأَ" كالعَطاءِ اسْمٌ للإِعْطاءِ. وقرَأَ أَيْضًا: "خَطَا" بِالقَصْرِ، وأَصْلُهُ "خَطَأ" كَقِراءَةِ ابْنِ ذَكْوانٍ، إِلَّا أَنَّهُ سَهَّلَ الهَمْزَةَ بِإِبْدالِهَا أَلِفًا فَحُذِفَتْ كَ "عَصا". وقرأَ أَبو رَجاءٍ، والزُّهْريُّ، كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُما كَسَرَا الخاءَ كَ "زِنَى" وكلاهُما مِنْ "خَطِئ في الدِّينِ"، و "أَخْطَأَ في الرَّأْيِ"، وقد يُقامُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَقامَ الآخَر. وقرَأَ ابْنُ عامِرٍ فِي رِوَايةٍ "خَطْئًا" بالفَتْحِ والسُّكونِ والهَمْزِ، وهو مَصْدَرُ "خَطِئَ" بالكَسْرِ.
قرأَ العامَّةُ: {تَقْتُلوا، وَخَشْيَةَ}. وَقَرَأَ يَحْيَى ابْنُ وَثَّابٍ، والأَعْمَشُ: "تُقَتِّلوا"، و "خِشْيَةَ" بِكَسْرِ الخاءِ.
مواضيع مماثلة
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 16 (1)
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 30
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 42
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 58
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 75
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 30
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 42
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 58
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 75
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود