الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 63
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 63
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا (63)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قالَ اذْهَبْ} أَيْ: قالَ الحقُّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، لإِبْلِيسَ اللَّعِينِ "اذْهَبْ"، أَيْ امْضِ لِشَأْنِكَ الذي اخْتَرْتَهُ، وَالذَّهَابُ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ الِانْصِرَافُ بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعَمَلِ، أَيِ امْضِ لِشَأْنِكَ الَّذِي نَوَيْتَهُ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الشاعرِ النَّبْهَانِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ................ وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ
وهَذَا جَوَابٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، عَنْ سُؤَالِ إِبْلِيسَ التَّأْخِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ "قالَ" عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ، وَهوَ طَرْدٌ لَهُ واسْتِدْرَاجٌ، وتَخْلِيَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ، وَلَيْسَ المُرَادُ بِهِ حَقيقَةَ الأَمْرِ بالذَّهَابِ الذي هُوَ ضِدَّ المَجِيءِ، بَلِ المُرادُ تَخْلِيَتَهُ وَمَا سَوَّلَتْهُ نَفْسُهُ إِهَانَةً لَهُ، وهوَ كَمَا تَقولُ لِمَنْ يُخالِفُكَ: افْعَلْ مَا تُريدُ، وهَذا غايةٌ في التَّهْدِيد، وهوَ مَكْرٌ واسْتِدْراجٌ، لَا إِنْعامٌ وَإِكْرَامٌ. أَيْ: افْعَلْ مَا أَمْكَنَكَ، فَلَا تَأْثِيرَ لِفِعْلِكَ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى.
وقِيلَ: يَجوزُ أَنْ يَكونَ "اذْهَبْ" مِنَ الذَّهابِ الذي هُوَ ضِدُّ المَجِيءِ، فَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الحِجْر: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} الآيَةَ: 34، وَقِيلَ. هُوَ طَرْدٌ وَتَخْلِيَةٌ، وَيَلْزَمُ عَلَى ظَاهِرِهِ الجَمْعُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجَازِ، وَالقائلُ مِمَّنْ يَرَ جَوَازَهُ؛ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ المُرَادُ مِنْهُ ما هوَ ضِدُّ المَجيءِ، تَعْقِيبُهُ بالوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ ـ سُبْحَانَهُ: "فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ"، وَضَلَّ عَنِ الحَقِّ، "فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ"، أَيْ: جَزَاؤُكَ وَجَزَاؤُهُمْ، فَغَلَّبَ المُخَاطَبَّ عَلى الغَائِبِ رِعَايَةً لِحَقِّ المَتْبُوعِيَّةِ، وَقد جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ ـ وَتَبِعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، أَنْ يَكونَ الخِطابُ للتَّابِعِينَ عَلَى الالْتِفاتِ مِنْ غَيْبَةِ المُظْهَرِ إِلى الخِطابِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ هِشَامٍ، في (التَذْكِرَةِ) فَقَالَ: عِنْدِي أَنَّهُ فَاسِدٌ لِخُلُوِّ الجَوابِ، أَوِ الخَبَرِ عَنِ الرَّابِطِ فَإِنَّ ضَميرَ الخِطَابِ لَا يَكونُ رَابِطًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِتَقْديرِ فَيُقالُ لَهُمْ: إِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤكم، ورُدَّ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ حِينَئِذٍ عَنِ الالْتِفاتِ.
قوْلُهُ: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} فَمَنْ تَبِعَكَ: أَيْ: فَمَنْ أَطاعَكَ، أَوْ أَطَاعَ ذرِّيتَكَ، مِنْ أَبْنَاءِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذُرِّيَّتِهِ، وَاتَّبَعَ أَوَامِرَكَ وَوَساوسَكَ في سُلُوكِ سُبُلِ الشَرِّ، ومعصيةِ الحقِّ ـ عَزَّ وَجَلَّ. وهوَ تَفْرِيعٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ وَالزَّجْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ طَهَ: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ} الآية: 97.
قولُهُ: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا} أَيْ: فإِنَّ نَصِيبَكَ من عَذَابِ جهنَّمَ ـ أَنْتَ وَذُرِّيَّتَكَ وَمَنْ اتَّبَعَكُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ "جَزَاءً مَّوفُورًا"، أَيْ: نَصِيبًا وافِرًا كمِلًا لا يَفْتُرُ عَنْكمْ ولا ينقُصُ.
ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ الخِطابُ في "جَزَاؤُكم" عَلَى التَّغْلِيبِ لأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: "فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ" غَائِبٌ وَمُخَاطَبٌ، فَغُلِّبَ المُخَاطَبُ، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ أَرادَ بِالخِطابِ "مَنْ" خَاصَّةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبيلِ الالْتِفَاتِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "جَزَاءً مَوْفُورًا" قَالَ: وافِرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكمْ جَزَاءً مَوْفُورًا" يَقُولُ: يُوَفِّرُ عَذَابَهَا للْكَافِرِ فَلَا يُدَّخَرُ عَنْهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي أُوعِدَ بِهِ إِبْلِيسُ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَيَّنَهُ ـ سُبْحانَه، فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَيْضًا مِنْ كتابِهِ العزيزِ، كَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الشُعراء: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} الآيتان: (94 و 95)، وَكقَوْلِهِ مِنْ سورةِ (ص): {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} الآيَتَانِ: (84 و 85)، إِلَى غَيْرِها مِنَ الْآيَاتِ المُبَارَكاتِ.
وَ "مَوْفُورًا" أَيْ: كاملًا مُكَمَّلًا، لَا يَنْقُصُ، ولا يُدَّخَرُ مِنْهُ شَيْءٌ ـ كَمَا قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وهُوَ اسمُ مفعولٍ مِنْ وَفَرْتُه، ويُسْتَعْمَلُ "وَفَرَ" مُتَعدِّيًا، مِنْ فِرْ لِصاحِبِكَ عِرْضَهُ فِرَةً، ـ كَ "عِدْ عِدَةً"، أَيْ: كَمَّلْ لِصَاحِبِكَ عِرْضَهُ. وَعَلَيْهِ قوْلُ الشَّاعِرِ زُهَيْرِ ابْنِ أَبي سُلْمَى:
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْروفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ .... يَفِرْهُ، وَمَنْ لَا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
والآيةُ الكريمةُ من هذا، وقَدْ جاءَ الفعلُ "وَفَرَ" لازِمًا نَحْوَ: (وَفَرَ المَالُ يَفِرُ وُفُورًا)، أَيْ: كَمُلَ وَكَثُرَ. ويُسْتَعْمَلُ هذا الفعلُ لازِمًا أَيْضًا فيُقالُ: وَفَرَ المالُ.
قولُهُ تَعَالَى: {قالَ اذْهَبْ} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيه جوازًا، تقديرُهُ (هو)، يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، والجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هذهِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ. وَ "اذْهَبْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا، تقديرُهُ (أنتَ)، يَعُودُ عَلَى إِبْليسَ ـ لَعَنَهُ اللهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ لِـ "قالَ".
قوْلُهُ: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} الفاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، وَ "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جازِمٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ، وخَبَرُهُ جُمْلَةُ الجَوَابِ، أَوِ الشَّرْطِ، أَوْ هُمَا مَعًا. و "تَبِعَكَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، وَ كافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلى المَفْعُوليَّةِ، فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مِنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. و "مِنْهُمْ" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ ضَمِيرِ الفَاعِلِ فِي "تَبِعَكَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والمِيمُ للجمعِ المُذكَّرِ.
قولُهُ: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ. وَ "إِنْ" حرفٌ نَاصِبُ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. وَ "جَهَنَّمَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. وَ "جَزَاؤكم" خَبَرُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافَةِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّر. وجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "جَزاءً" مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ بِالمَصْدَرِ المَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: تُجْزَوْنَ جَزَاءً، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ المَصْدَرِ الأَوَّلِ. أَوْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى المَصْدَرِ أَيْضًا، لَكنْ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: يُجازَوْنَ جَزَاءً. أَوْ أَنَّهُ حَالٌ مُوَطِّئَةٌ كَ: جاءَ زَيْدٌ رَجُلًا صالِحًا. أَوْ أَنَّهُ تَمْيِيزٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَقَّلٍ. وَ "مَوْفُورًا" صِفَةٌ لِـ "جَزاءً" مَنْصُوبَةٌ مِثْلُهُ.
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قالَ اذْهَبْ} أَيْ: قالَ الحقُّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، لإِبْلِيسَ اللَّعِينِ "اذْهَبْ"، أَيْ امْضِ لِشَأْنِكَ الذي اخْتَرْتَهُ، وَالذَّهَابُ لَيْسَ مُرَادًا بِهِ الِانْصِرَافُ بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعَمَلِ، أَيِ امْضِ لِشَأْنِكَ الَّذِي نَوَيْتَهُ. وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِ الشاعرِ النَّبْهَانِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ................ وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ
وهَذَا جَوَابٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، عَنْ سُؤَالِ إِبْلِيسَ التَّأْخِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ "قالَ" عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ، وَهوَ طَرْدٌ لَهُ واسْتِدْرَاجٌ، وتَخْلِيَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ، وَلَيْسَ المُرَادُ بِهِ حَقيقَةَ الأَمْرِ بالذَّهَابِ الذي هُوَ ضِدَّ المَجِيءِ، بَلِ المُرادُ تَخْلِيَتَهُ وَمَا سَوَّلَتْهُ نَفْسُهُ إِهَانَةً لَهُ، وهوَ كَمَا تَقولُ لِمَنْ يُخالِفُكَ: افْعَلْ مَا تُريدُ، وهَذا غايةٌ في التَّهْدِيد، وهوَ مَكْرٌ واسْتِدْراجٌ، لَا إِنْعامٌ وَإِكْرَامٌ. أَيْ: افْعَلْ مَا أَمْكَنَكَ، فَلَا تَأْثِيرَ لِفِعْلِكَ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى.
وقِيلَ: يَجوزُ أَنْ يَكونَ "اذْهَبْ" مِنَ الذَّهابِ الذي هُوَ ضِدُّ المَجِيءِ، فَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الحِجْر: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} الآيَةَ: 34، وَقِيلَ. هُوَ طَرْدٌ وَتَخْلِيَةٌ، وَيَلْزَمُ عَلَى ظَاهِرِهِ الجَمْعُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجَازِ، وَالقائلُ مِمَّنْ يَرَ جَوَازَهُ؛ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ المُرَادُ مِنْهُ ما هوَ ضِدُّ المَجيءِ، تَعْقِيبُهُ بالوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ ـ سُبْحَانَهُ: "فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ"، وَضَلَّ عَنِ الحَقِّ، "فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ"، أَيْ: جَزَاؤُكَ وَجَزَاؤُهُمْ، فَغَلَّبَ المُخَاطَبَّ عَلى الغَائِبِ رِعَايَةً لِحَقِّ المَتْبُوعِيَّةِ، وَقد جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ ـ وَتَبِعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، أَنْ يَكونَ الخِطابُ للتَّابِعِينَ عَلَى الالْتِفاتِ مِنْ غَيْبَةِ المُظْهَرِ إِلى الخِطابِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ هِشَامٍ، في (التَذْكِرَةِ) فَقَالَ: عِنْدِي أَنَّهُ فَاسِدٌ لِخُلُوِّ الجَوابِ، أَوِ الخَبَرِ عَنِ الرَّابِطِ فَإِنَّ ضَميرَ الخِطَابِ لَا يَكونُ رَابِطًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِتَقْديرِ فَيُقالُ لَهُمْ: إِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤكم، ورُدَّ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ حِينَئِذٍ عَنِ الالْتِفاتِ.
قوْلُهُ: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} فَمَنْ تَبِعَكَ: أَيْ: فَمَنْ أَطاعَكَ، أَوْ أَطَاعَ ذرِّيتَكَ، مِنْ أَبْنَاءِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذُرِّيَّتِهِ، وَاتَّبَعَ أَوَامِرَكَ وَوَساوسَكَ في سُلُوكِ سُبُلِ الشَرِّ، ومعصيةِ الحقِّ ـ عَزَّ وَجَلَّ. وهوَ تَفْرِيعٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ وَالزَّجْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ طَهَ: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ} الآية: 97.
قولُهُ: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا} أَيْ: فإِنَّ نَصِيبَكَ من عَذَابِ جهنَّمَ ـ أَنْتَ وَذُرِّيَّتَكَ وَمَنْ اتَّبَعَكُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ "جَزَاءً مَّوفُورًا"، أَيْ: نَصِيبًا وافِرًا كمِلًا لا يَفْتُرُ عَنْكمْ ولا ينقُصُ.
ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ الخِطابُ في "جَزَاؤُكم" عَلَى التَّغْلِيبِ لأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: "فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ" غَائِبٌ وَمُخَاطَبٌ، فَغُلِّبَ المُخَاطَبُ، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ أَرادَ بِالخِطابِ "مَنْ" خَاصَّةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبيلِ الالْتِفَاتِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "جَزَاءً مَوْفُورًا" قَالَ: وافِرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكمْ جَزَاءً مَوْفُورًا" يَقُولُ: يُوَفِّرُ عَذَابَهَا للْكَافِرِ فَلَا يُدَّخَرُ عَنْهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي أُوعِدَ بِهِ إِبْلِيسُ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَيَّنَهُ ـ سُبْحانَه، فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَيْضًا مِنْ كتابِهِ العزيزِ، كَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الشُعراء: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} الآيتان: (94 و 95)، وَكقَوْلِهِ مِنْ سورةِ (ص): {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} الآيَتَانِ: (84 و 85)، إِلَى غَيْرِها مِنَ الْآيَاتِ المُبَارَكاتِ.
وَ "مَوْفُورًا" أَيْ: كاملًا مُكَمَّلًا، لَا يَنْقُصُ، ولا يُدَّخَرُ مِنْهُ شَيْءٌ ـ كَمَا قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وهُوَ اسمُ مفعولٍ مِنْ وَفَرْتُه، ويُسْتَعْمَلُ "وَفَرَ" مُتَعدِّيًا، مِنْ فِرْ لِصاحِبِكَ عِرْضَهُ فِرَةً، ـ كَ "عِدْ عِدَةً"، أَيْ: كَمَّلْ لِصَاحِبِكَ عِرْضَهُ. وَعَلَيْهِ قوْلُ الشَّاعِرِ زُهَيْرِ ابْنِ أَبي سُلْمَى:
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْروفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ .... يَفِرْهُ، وَمَنْ لَا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ
والآيةُ الكريمةُ من هذا، وقَدْ جاءَ الفعلُ "وَفَرَ" لازِمًا نَحْوَ: (وَفَرَ المَالُ يَفِرُ وُفُورًا)، أَيْ: كَمُلَ وَكَثُرَ. ويُسْتَعْمَلُ هذا الفعلُ لازِمًا أَيْضًا فيُقالُ: وَفَرَ المالُ.
قولُهُ تَعَالَى: {قالَ اذْهَبْ} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيه جوازًا، تقديرُهُ (هو)، يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، والجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هذهِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ. وَ "اذْهَبْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا، تقديرُهُ (أنتَ)، يَعُودُ عَلَى إِبْليسَ ـ لَعَنَهُ اللهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ لِـ "قالَ".
قوْلُهُ: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} الفاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، وَ "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جازِمٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ، وخَبَرُهُ جُمْلَةُ الجَوَابِ، أَوِ الشَّرْطِ، أَوْ هُمَا مَعًا. و "تَبِعَكَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، وَ كافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلى المَفْعُوليَّةِ، فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مِنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. و "مِنْهُمْ" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ ضَمِيرِ الفَاعِلِ فِي "تَبِعَكَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والمِيمُ للجمعِ المُذكَّرِ.
قولُهُ: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُورًا} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ. وَ "إِنْ" حرفٌ نَاصِبُ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. وَ "جَهَنَّمَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. وَ "جَزَاؤكم" خَبَرُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافَةِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّر. وجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "جَزاءً" مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ بِالمَصْدَرِ المَذْكُورِ قَبْلَهُ، أَوْ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: تُجْزَوْنَ جَزَاءً، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُبَيِّنٌ لِنَوْعِ المَصْدَرِ الأَوَّلِ. أَوْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى المَصْدَرِ أَيْضًا، لَكنْ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: يُجازَوْنَ جَزَاءً. أَوْ أَنَّهُ حَالٌ مُوَطِّئَةٌ كَ: جاءَ زَيْدٌ رَجُلًا صالِحًا. أَوْ أَنَّهُ تَمْيِيزٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَقَّلٍ. وَ "مَوْفُورًا" صِفَةٌ لِـ "جَزاءً" مَنْصُوبَةٌ مِثْلُهُ.
مواضيع مماثلة
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 3
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 17
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 32
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 44
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 60
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 17
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 32
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 44
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 60
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود