المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الثاني)
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الثاني)
الباب الثاني :
نظرة السادة الصوفية إلى الكون
اِسْتَمَدَّ السادةُ الصوفيّون نَظرتَهم إلى الكونِ من الشرعِ الحنيفِ ، فهو (أي الكون) ما خُلِقَ إلاّ لِتَظْهَرَ عليه تجليّاتُ الخالقِ {سبحانَه} ولِتَظهرَ فيه أَسرارُ حِكمَتِه وبَديعُ صَنعتِه ، وإلاّ فليس له أَيَّةُ قيمةٍ بذاتِه فظهورُ الحقِّ فيه عِلَّةُ وجودِه ، وهو قائمٌ بقيّوميَّتِه {سبحانَه وتعالى} مستمرٌّ بمدَدِهِ .
يقول جلّ مِن قائلٍ في كتابه العزيز : (هو الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ) (1) فإذا كان الحقُّ {سبحانه} هو الظاهرُ وهو الباطنُ وهو الأوّلُ وهو الآخر ، فهل ثمَّة وجودٌ ــ على الحقيقةِ ــ لشيءٍ معه أو قبله أو بعده ؟ وهل بعد الأوّلِ والآخِرِ والظاهرِ والباطنِ من شيءٍ ؟ وماذا بعــد الحقِّ إلاّ الضلال ؟ إذاً فالكونُ ، بما فيه ، مجَازيُّ الوُجودِ حاثٌ زائل .
يقول العارف بالله أحمدُ بن عجيبة ، شـارح الحكـم العطائيّـــة لابن عطــاء الله السكندري ، في شرحه لحكمة ابن عطاء التـي يقول فيها : {الكونُ كلُّه ظُلمةٌ وإنّما أناره ظهورُ الحقّ فيه} : ( الكون من حيث كونِيَّتِه وظهورِ حِسِّهِ ، كلُّه ظلمةٌ لأنّهُ حِجابٌ لمن وَقَفَ معَ ظاهرِهِ عنْ شُهودِ رَبِّـه) . (2)
ويقول الشيخ الجليل السيد عبد الكر يم الجيلي ، وهو حفيدُ الشيخ السيد عبد القادر الجيلاني {رضي الله عنهما} : (الحمد لمن قام بحقِّ حمدِهِ اسمُ اللهِ ، فتَجلّى في كلِّ كمالٍ اسْتَحقَّهُ واسْتوفاه ، حقيقةِ الوُجودِ المطلقِ ... مَحْتِدِ العالَمِ الظاهرِ على صورةِ آدمَ ... روحِ صُوَرِ المخترَعاتِ ، الموجودِ بكمالهِ ، من غيرِ حُلولٍ ، في كلِّ ذرَّة ٍ ، اللائحُ جمالُ وجهِهِ في كلِّ غُرَّةٍ ... بصفاتِهِ جَمُلَ الجمالُ وعَمَّ ، وبذاِتهِ كمُلَ الكمالُ فَتَمَّ ، لاحَتْ محَاسِنُـهُ على صَفَحاتِ خُدودِ الصِفاتِ واستقامتْ بِقَيُّوميَّةِ أحديَّتِهِ قُدودُ الذاتِ ..كما يَشاءُ ظَهَرَ في كلِّ ذاتٍ بكلِّ خَلْقٍ ). (3) وفي كتابه المسمّى{نسيم السحر}يقول الجيليُّ {رضي الله عنه} (ألا ترى أنَّ الحقَّ {سبحانَهُ وتَعالى} لمّا أَرادَ ظُهورَهُ مِن عِلْمِهِ بالعَيْنِ ، خَلَقَ العالمَ َوصَوَّرَهُ على صُورَتِهِ في حَضْرَةِ الأَيْنِ ، ثُمَّ تجلّى على العالم بأسمائه وصِفاتِهِ فَعَرَفَهُ كلُّ ذي سَمْعٍ وعَيْنٍ ، فالمَعْرِفَةُ نتيجةُ التَناكُحِ المَعْنَوِيِّ ، أَيْ دُخولِ حُكْم الأَسْماءِ الإلهيَّةِ والصِفاتِ الرَ بّانيَّةِ في حقائقِ العالمَ ِ، فكانَ العالَمُ مخلوقاً مِنْهُ كما خُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ آدمَ) .
ثم يقولُ في ذاتِ الموضوعِ والمَعنى شِعْراً نَقْتَطٍفُ منـــه هذيْن البيْتَيْن :
تَلوينُ هَـذا الحُسْنِ في وَجَنـاتِهِ
أَبَداً ولا تَلوينَ في طَلَعـــــــــــــاتِــهِ
فإذا تَرَكَّبَ حُسْنُ طَلْعَةِ شادنٍ
مِنْ كلِّ حُسْنٍ فهو واحدُ ذاتِهِ
(4)
فالحُسنُ إذاً ، كما يرى السيّدُ الجِيليُّ ، مَصْدَرُهُ واحدٌ وإنْ تَعَدَّدتْ مظاهرُه ، فالجميلُ واحدٌ ، وهو الحقُّ {جلَّ شأنُهُ} ولكنَّ تجليّاتِهُ متعدِّدةٌ ، وكذلك مَظاهرُهُ ، فلو قُدِّرَ لجميلٍ أنْ تجتَمعَ فيه كلُّ مظاهرِ الحُسْنِ والجمالِ ، لكان هذا الجميلُ هُوَ اللهُ الواحدُ ذاتُه بلا شكٍّ ولا ريبٍ ، لأنّه سيكون عندها كاملاً ولا كاملَ سوى الحقِّ {جلّ وعلا}. وكمـــا سيتجلّى {سبحانه} على عبادِهِ في الآخرةِ بصورٍ مختلفةٍ
ــ كما ورد في صحيح مسلم عن سيدِنا رسول الله {صلى الله عليه وسلَّم } ــ فإنَّه يتجلى لقلوبِ عبادِهِ المؤمنين في الدنيا بصورٍ مختلفةٍ ، كما ينبغي لذاتِه ، مِن غيرِ تشبيهٍ ولا تكييفٍ . والعارفون يرونَه في الدنيا في جميعِ الصورِ والتجليّاتِ ، في حين يحجب عنها أهلُ الحجاب ، ألم يَرَه سيّدُنا موسى {عليه السلام} في الجبل لمّا تجلى له في الجبلِ فصَعِق موسى لعظمة تجلّيه {سبحانه} ؟ ولكنّ المؤمنين الذين سينعم اللهُ عليهم برؤيتِه في الجنّة سوف يؤتَوْن في الآخرةِ طاقةَ احتمالِ مشاهدةِ هذه العَظَمَةِ ، متجلّياً عليهم بجماله ــ جعلنا اللهُ منهم ــ أمّا في الدنيا فإنَّ الأبصارَ مهيئةٌ لمشاهدة المخلوقاتِ وحسب ، ولذلك فلا سبيلَ إلى مشاهدتِه إلاّ في المظاهرِ الماديّةِ لهذه التجلّيات . يقول الشيخ إبراهيم الدسوقي {رضي الله عنه}:
سقانيَ محبـوبي بكأسِ المحبَّـةِ
فتِهتُ على العُشّـاقِ سُكراً بخلوتي
ولاح لنا نورُ الجَلالةِ ؛ لو أَضا
لِشُمِّ الجبـــالِ الراسيــــــــاتِ لَدُكَّتِ
وكنتُ أنا الساقي لمن كان حاضراً
أَطـوفُ عليهم كرَّةً بعـــــــــــدَ كـرَّةِ
تجلّى ليَ المحبوبُ في كلِّ وُجْهَةٍ
فشاهدْتُـهُ في كلِّ مَعنًى وصُورةِ
(5)
وكلُّ ما في الوجود هو مظاهرُ لتجلّياتِ الذاتِ الإلهيّةِ . يقولُ ربُّنا {جلَّ في عُلاه} ((ولله المشرق والمغربُ فأينما تُولّوا فثَمَّ وجهُ اللهِ إنّ اللهَ واسعٌ عليم)) . (6) فمن أنت أيُّها الإنسانُ لتغتر َّبنفسِكَ فترى لكَ ، أو لغيرك من الموجودات ، وجوداً مستقلاًّ عنه ؟ فا ستمعْ إلى ربِّك : (الذي خلقك فسوّاك فعَدَلَكَ ، في أيِّ صورةٍ ما شاءَ ركَّبَكَ) . (7) واشهدْهُ في جميعِ مظاهرِه واحداً أَحَداً لا نِدَّ له ولا شريكَ له في وجودِه ، يقول أحدُ العارفين :
إياك تشْهـــــدَ غيرَه ودعِ العَنا
لا أنت في هذا الوجود ولا أنا
إنَّ الوجودَ هو الحقيقيُّ الذي
كنّـا بـه وبِـهِ نعودُ إلى الفَنــــــــا
واستمعْ إليه يُذَكِّرُكَ بمبدأِ خلقِكَ وحقيقةِ نفسِكَ ، إذ يقولُ في محكمِ كتابِه العزيز : (هل أتى على الإنسانِ حينٌ منَ الدهرِ لم يكن شيئاً مذكوراً * إنّا خَلَقْنا الإنسانَ مِنْ نُطفةٍ ، أَمْشاجٍ نَبْتليه فجعلناه سميعاً بصيراً *) . (
ولم يَدَعْكَ ربُّك بعد أنْ خَلقك هكذا ، بل إنّه {سبحانه وتعالى} يُمِدُّكَ بالحياة في الأنفاسِ و اللّحظات : (كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاءِ من عطاءِ ربِّكَ ، وما كان عطاءُ ربِّكَ محظوراً). (9) ولا أنت ببعيدٍ عنه ، ولا هو عنك بغافل : (ولقد خلَقنا الإنسانَ ونعلمُ ما توسوسُ به نفسُهُ ونحنُ أقربُ إليه من حَبْلِ الوريد) . (10) وهو معيدُك ومحاسبك يوم القيامة، وقد أقام عليك الحجّةَ والشهود :
((إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قَعيد * ما يَلْفِظُ مِن قولٍ إلاّ لديْه رقيبٌ عَتيد * وجاءت سكرةُ الموت بالحقِّ ، ذلك ما كنتَ من تحَيد*)) . (11) إذاً أين هو منكَ وأين أنتَ منه ، إذا كان أقربَ إليكَ مِن حَبْلِ وريدِك ، ذاك الشريان الذي يخرج من قلبك ليتفرع في جسمك ، ووهو (سبحانه) يعلمُ ما تُحدِّثُكَ به نفسُك ؟ فاحذرْ أنْ تغترَّ َبنفسك فتعصيه ، وإنَّ مِن أعظمِ الذنبِ وأفظعِ المعصيَةِ أنْ تَرى لنفسِكَ أو لغيرِك من المخلوقات أيَّ وجودٍ مستقلٍ عنه ، ومالك من عَمَلِكَ إلاَّ النيَّةُ أو الاختيارُ أو التوجُّه ، الذي إنّما عليه وحَسْبُ تُحاسَبُ .
يقولُ الرسولُ الكريم {عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم} : (إنّما الأعمالُ بالنيّاتِ وإنّما لكلِّ امْرئٍ ما نَوى) . (12) فأنت ليس لك من العملِ إلاّ النيَّةُ فقط ، لأنَّ العملَ مخلوقٌ من خلقِ اللهِ ، مثلُك : (واللهُ خَلَقكم وما تَعملون) . (13) وكلُّ ما في الكونَ مِن خلقِ الله وتدبـيرِهِ {جلَّ شأنه} فإيّاكَ ثمَّ إيّاكَ أنْ تَرى لكَ ، أو لغيرك من الخلقِ ، أيَّ وجودٍ معه ، فهو من الشِرْكُ و : (إنَّ اللهَ لا يَغفِرُ أنْ يُشرَكَ به ويَغفِرُ ما دون ذلكَ لمن يشاء) .
(14)
ولنُقرِّبَ إلى أفهامِنا هذه المسألةَ ، في تَعدُّدِ المظاهرِ لِذاتٍ واحدةٍ نَضرِبُ المثالَ الآتي ــ ولله المثلُ الأعلى : إذْ إنَّ التَيّارَ الكَهربائيَّ يَسْري في الأَسْلاكِ فيَظهرُ بمظاهرَ مخـتلفةٍ ، متنوِّعةٍ بتنوُّعِ الأجسامِ التـي يظهرُ فيها ، فيَكون في المِصباحِ نُوراً مُتوهِّجاً بلونٍ أَبيضَ ، أو أخضرَ ، أو أحمرَ ، أو أصفرَ ، أو أزرقَ ، أو غيرَ ذلك ، بحسَب لونِ الزُجاجةِ ويسري في التلفازِ ، فيكونُ لهُ مَظهرٌ مخـتلفٌ آخر , من صوتٍ وصـورةٍ ، أمّا في المِذْياع ، فيكونُ صَـوْتاً وحسْب ، فإذا سَرى في آلةٍ أُخرى : مِكْنَسَةٍ ، أو غَسّالةٍ ، أو مِروحَةٍ ، أو مِدْفأةٍ ، ظَهَرَ هذا التيّارُ بما يُناسبُ الآلةَ التي سَرى فيها ، حيث يكون حركةً أو حرارةً أو ... وهَكذا ، والتيّارُ واحد .
وكذلك الشمسُ تُرْسِلُ أشِعَّتَها فتَرْفعُ من درجةِ حرارةِ الأرضِ باعثةً فيها الدفءَ والخِصْبَ والحياةَ ، فتُنبتُ الزرعَ ، وتُحرِّكُ الهواءَ ، وتُساهمُ في تَكوين غِذاءِ النباتاتِ ، وتقتلُ الكثيرَ مِن الجراثيمِ والحشراتِ والبكترياتِ ، وتبثُّ الحياةَ في مخلوقاتٍ أُخرى بِمشيئتِهِ وقدرته ، {سبحانَه} .
وتَسْقُطُ أَشعّتُها على سطحِ الماءِ ، في المحيطاتِ والبِحارِ ، فتُبخِّرُ منهُ ما شاءَ ربُّها لتَتَشَكّلَ الغيومُ التـي تـتساقطُ على الأرضِ قَطراتٍ تحيي مَواتَها ، وهي قبلَ هذا وبعدَه مصدرُ الضوءِ في النَّهار ، وفي الليلِ حيث تَنْعَكِسُ أَشِعَّتُها على سَطْحِ القَمرِ فيكونُ لها ضوءٌ آخر مختلفٌ عن ضوءِ النهارِ .
كلُّ هذهِ المظاهِرِ وغيرُها كثيرٌ ، يَصْعُبُ حَصْرُهُ ، لِجُرْمٍ واحدٍ هو الشَمْسُ ، مَظاهرُ وفوائدُ لا يُحصيها إلاّ خالقُها {جَلَّ وعَلا} الذي خلَقَ الخلائقَ وقَدَّرَ الأقدار .
وهذه كلُّها أَمثلةٌ لتقريبِ المسألــةِ وتَبْسيطِهـا للأذهان ، ولكنْ شَتّانَ ما بين الخلقِ والخالقِ الذي ليس كَمِثلِهِ شيءٌ ، إنّما هي من الملموسِ المحسوسِ الذي يمكنُ للعقل إدراكُهُ واستيعابُه وفهمُه ، فنحن نُعاين ذلك ونلمَسُهُ ونُحِسُّ به كلَّ يومِ .
وهذه المظاهرُ هي في الخلقِ عاريةٌ مُستَرَدّةٌ ، ليُعْرَفَ اللهُ ، فالجميلُ منها ليَدُلَّ على الجَميلِ ، وما فيها من مَظاهرِ القوَّةِ ليَـدُلَّ على القويِّ ، وسمعُها يَدُلُّ على السَميعِ ، وكذلك بَصرُها ، وقُدرتُها ، وعلمُها ، وسائرُ صفاتِها ومَظاهِرِها ، فلولا الجمالُ الظاهرُ المجازيُّ ما عَرَفْنا الجمالَ المطلقَ الأبديَّ الأزليَّ ، ولولا هذا البصرُ الحادثُ ما عُرِفَ كيف يكون الإبصارُ ، وهكذا...
تَصوّرْ أنَّ أحداً مّا حَدَّثَ الناسَ عن جهازِ الحاسوبِ أو التلفـــــازِ أو الهاتف المحمول قبلَ ألفِ عامٍ ، مثلاً ، مَنْ مِنَ الخلقِ كان يمكنُ له إدراكُ هــذه الآلاتِ المُعْجِزةِ ؟ فأنّى للعقلِ البشريِّ ، إذاً ، أنْ يُدرِكَ ذاتَ الحقِّ الذي ليس كمثلِه شيءٌ ؟!
لذلك ، كان لا بدَّ من مخلوقاتٍ حِسيَّةٍ تظهرُ فيها صفاتُ الذاتِ الإلهيَّة ، فـ {خلقَ اللُه آدم على صورتِه ..} . (15) وأهَّلـَهُ لمعرفتِه {وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدون}. (16) ويعبدون : أي يَعرِفون ، كما قال عددٌ من المفسِّرين منهم عبدُ الله بنُ عبّاس ، والإمامُ سفيان الثوريّ {رضي الله عنهم} إذِ المعرفةُ أَعْلى درجاتِ العِبادةِ . فقد جاءَ عن الحبيب المصطفى{صلّى الله عليه وسلَّم} أنّه قال : (تَفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادةِ سبعين عاماً) . (17) أَيْ ما يَعدِلُ عُمرَ ابنِ آدمَ كلَّهُ يَقضيه في العبادة . وأخرجه الديلمي مرفوعاً عن أنس أنه {صلى الله عليه وسلّم}قال: ((تفكّرُ ساعةٍ في اختلافِ الليلِ والنهارِ خيرٌ من عبادةِ ثمانين سنةً)).
(18)
وسئل{عليه الصلاة والسلام} : أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ ؟قال (العلْمُ بالله)) قيلَ : يا رسُولَ الله سَأَلْنَاكَ عن العَمَل ؟ فقال : ((العلمُ بالله)) ثم قال {صلى الله عليه وسلم} : ((إذا حَصَلَ العلمُ بالله كَفَى قلِيلُ العَملِ)) أو كما قال . (19) وكان أبو الدرداء {رضي الله تعالى عنه} يقول : ((تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من قيامِ ليلةٍ)) . (20) وإنَّ المخلوقاتِ جميعَها تَعْرِفُ اللهََ بالفطرةِ، لقوله {سبحانَه}: ((وإنْ مِنْ شيءٍ إلاّ يُسبِّحُ بحمدِهِ ولكنْ لا تَفقهون تسبيحَهم)) . (21) إلاّ ابنَ آدمَ ، فإنَّ اشْتِغالَ عقلِه وحواسِّه بالمحسوسات يُبْعِدُه عن فِطرته {التـي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها}. (22) ولذلك كان بحاجةٍ إلى النظرِ والاسْتِدلالِ ليعرِفَ الصانِعَ{سبحانَه} بِصَنعتِه : قال {جلَّ من قائلٍ} : (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبِهم ، ويتفكَّرون في خلقِ السموات والأرض ، ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقِنا عذابَ النار) . (23) و قال : (أَفَلا يَنظُرونَ إلى الإبِلِ كيف خُلِقَتْ * وإلى السمـاءِ كيف رُفِعَتْ * وإلى الجِبالِ كيف نُصِبَتْ * وإلى الأَرضِ كيف سُطِحَتْ). (24)
ثمّ ليأخذْ نفسَهُ بالرياضةِ والذِكْرِ ليعودَ إلى فِطرتِهِ ، وبِذلك يحقِّقُ سببَ وجوده والحكمةَ مِنْ خلقِه فيَفْضُلُ جميعَ المخلوقاتِ ، ويجزى على ذلك الجَزاءَ الأوْفى ، فقد جاء في الحديثِ القُدسيِّ : (كنتُ كَنزاً مخْفيّاً ، فأحبَبْتُ أنْ أُعْرَفَ ، فخلقتُ الخلقَ وتعرَّفتُ إليهم ، فعَرَفوني) . (25) وهذه المظاهرُ ستؤدي وظيفتَها ، وسَتَزولُ ، ولكنَّ اللهَ باقٍ لا يَحولُ ولا يزول ، يقول الجِيليُّ :
كلُّ ما في عَوَالِمي من جَمادٍ ونَبــاتٍ وذاتِ روحٍ مُعاري
صُــوَرٌ لي تَعَـرَّضتْ وإذا مــا أَزَلْتُها لا أَزولُ وهي جَواري
(26)
والصوفيَّةُ يُدْرِكونَ هذا كلَّه ، ويُبصرونَهُ ، لكنّهم يُبصرون الظاهرَ في هذهِ المَظاهرِ ، فلا يَقفونَ عندَها ، ولا يُحْجَبون بها ، فوظيفتُها أَنْ تَدُلهَّم على ربِّهم ، وتُوصِلَهم إلى الحقِّ وحَسْبُ ، وهم في ذلك إنّما يتّبعون الرسولَ الكريم {عليه الصلاةُ والسلام} الذي يقول : (لم أنظرْ قَطُّ إلى شيءٍ إلاّ أبصرتُ اللهَ فيه) أو (إلا رأيتُ اللهَ أقربَ إليَّ منه) . (27) ويقتدون بصحابتِهِ الكرام {رضي الله عنهم وأرضاهم} فهاهو أبو بكرٍ الصِدّيقُ {رضي الله عنه} يقول ما رأيتُ شيئاً قطُّ إلاّ رأيتُ اللهَ قبلَهُ) . (28) وسُئلَ بِمَ عَرَفْتَ ربَّك ؟ فأجاب عَرَفْتُ رَبِّي بِرَبّي ، ولولا ربّي لما عَرَفْتُ ربّي) (29) وأمّا الفاروقُ عمرُ بنُ الخطّابِ {رضي الله عنه} فإنّه يقول : (ما رأيتُ شيئاً إلاّ رَأيتُ اللهَ فيه) . (30) وأمّا سيّدُنا عُثمانُ ابنُ عفّانَ ، ذو النورين {رضي اللهُ عنه} فيقول ما رأيتُ شيئاً قَطُّ إلاّ رأيتُ اللهَ بعدَهُ) . (31) وسُئلَ سيّدُنا عليٌّ {كرَّم الله وجهَه} بمَ عَرَفتَ ربَّك ؟ فقال : (عَرَفْتُ ربّي بما عَرَّفَني به نفسي ، لا يُدْرَكُ بالحواسِّ ولا يُقاسُ بالناسِ ، قريبٌ في بُعْدِه ، بعيدٌ في قُرْبِهِ ، فوق كلِّ شيءٍ ولا يُقالُ تحتَهُ شيءٌ ، فسبحان مَنْ هو هكذا ولا هكذا غيرُه) . (32)
وبناءً على ذلك يقول ابنُ عطاءِ اللهِ السكندريُّ في إحدى حِكَمـهِ
(فمن رأى الكونَ ولم يشهدْهُ فيه ، أو عندَهُ ، أو قبلَهُ ، أو بعدَهُ فقد أَعْوَزَهُ وُجـودُ الأَنوارِ ، وحُجِبَتْ عنه المعارفُ بِسُحُبِ الآثارِ) . (33) ويقول الإمامُ الجِيليُّ :
اِجْنِ الثمــارَ فإنّمـــــــــــا غُرِستْ لكي تجَنيهــــا
واشربْ من الثغرِ المــــُدا...................... مَ فَخَمْرُ فيها .. فيهـا
وأدِرْ كؤوسَكَ راشـــــــداً رغــمَ الذي يَطويهـــــــا
أَبْدَتْ محَاسنَها سُعــــــــ ..................... ـــادُ فلا تكنْ مُخْفيهــا
ودَعِ اغْتِــرارَك بالسِوى ليسَ السِوى يَدْريهـــــــا وكُلِ اللُّبابةَ وارْمِ بالـــــــ ....................... ـــقِشْرَةِ الذي يُبْديهــــا
ثمَّ فصّلَ الشيخُ الجيليُّ ، في ذلك ،وبيّنَ مصدَرَه ومرجِعَه فقال : ((والاسمُ الظاهرُ في المرتَـبَةِ الرحمانيّةِ هو الرحمنُ ، وهو اسمٌ يَرْجِعُ إلى أسمائِه الذاتيَّة وأَوصافِهِ النَفْسيَّةِ ، وهي سبعةٌ : الحياةُ ، والعلمُ ، والقُدْرَةُ ، والإرادةُ، والكلامُ ، والسمعُ ، والبصرُ ، والأسماء الذاتيّة كالأحديّةِ والواحديّةِ والصَمَديّةِ والعظمةِ والقُدّوسيّةِ وأَمثـالهِا ، ولا يكونُ ذلك إلاّ ــ واختصاصُ هذه المرتبةِ بهذا الاسمِ ــ للرحمةِ الشاملةِ لكلِّ المراتِبِ الخَلْقيَّةِ ، فصارتِ الرحمةُ عامَّةً في جميعِ الموجوداتِ ، مِن الحضرةِ الرحمانيَّةِ ، فأوّلُ رحمةٍ رَحِمَ اللهُ بها الموجوداتِ أَنْ أَوْجَدَ العالَمَ مِنْ نفسِه، قال تعالى : (وسخّرَ لكم ما في السمواتِ وما في الأرضِ جميعاً مِنْهُ) . (34) ولهذا سَرَى ظُهورُهُ في الموجوداتِ فظَهَرَ كمالُهُ في كلِّ جُزءٍ وفَردٍ مِن أَفرادِ وأَجزاءِ العالَمِ ، ولم يتعدّدْ بتعدُّدِ مَظاهِرِهِ ، بل هو واحدٌ في جميعِ تلك المظاهرِ ، أَحَدٌ على ما تَقْتَضيهِ ذاتُهُ الكريمةُ في نفسِها...وسِرُّ هذا السَريانِ أَنْ خَلَقَ العالَمَ من نفسِه ، وهو لا يَتَجَزّأُ فكلُّ شيءٍ مِن العالَمِ هو بكمالِهِ ، واسمُ الخَليقةِ على ذلك الشيءِ بحُكْمِ العارِيَةِ ... فمَثَلُ العالَمِ مَثَلُ الثَلجِ ، والحَقُّ {سُبْحانَه وتَعالى} الماءُ الذي هو أصلُ هذا الثلجِ فاسْمُ تِلْكَ الثَلْجَةِ على ذلك المُنْعَقِدِ مُعارٌ ، واسْمُ المائيَّة عليهِ حَقيقةٌ) . (35) ثمَّ يقولُ في ذلك المعنى نظماً :
ما أنتَ إلاّ واحـــدُ الحُسْنِ الذي
تمَّ الكَمَـــــــــالُ لهُ بِلا نُقصـــــــــانِ
فلئن بَطنْتَ وإنْ ظَهَرْتَ فأنتَ في
ما تَسْتَحِقُّ مِن العُـلا السُبْحــــاني
(36)
وله في نفس المعنى نظمٌ آخر ، يقول :
تجلّيتَ في الأشياءِ حين خَلَقْتَها
فهاهي مِيطَتْ عنكَ فيها البَراقِـــعُ
وما الخلقُ في التِمْثالِ إلاّ كَثَلْجَةٍ
وأَنْتَ بها الماءُ الذي هو نافـــــــــــعُ
ولكن بِذَوْبِ الثلجِ يُرْفَعُ حُكْمُهُ
ويُوضَعُ حُكْمُ الماءِ والأَمـرُ واقــــعُ
تجمَّعتِ الأضدادُ في واحدِ البَها
وفيهِ تَلاشَتْ وهو عَنْهُنَّ سَاطِــعُ
محاسنُ مَن أنشـــــاه ذلك كلّـــــــــــــه
فوحّـدْ ولا تُشركْ بهِ فهـو واسِــعُ
وأَطْلِقْ عِنــــــانَ الحَقِّ في كلِّ ما تَرى
فتلكَ تجليّـــــاتُ مَنْ هو صـانـــعُ
(37)
أمّا ابنُ الفارِضِ {رحمه الله} فإنَّه يقولُ في تائيَّتِهِ الكبرى من ديوانه، مُؤكِّداً هذا المعنى ، ولكن بأسلوبٍ آخرَ :
وسِرُّ جمالٍ منكَ ، كلُّ مَـــــــــلاحــةٍ
بِـــــــــهِ ظَهَــــــــرَتْ للعــالَمينَ فَتَمَّتِ
جَلَتْ في تجلّيها الوُجودَ لنــــــــاظِري
ففي كلِّ مَرْئيٍّ أَراهـــــا بِرُؤيَـــــــــــــة
وطاحَ وُجودي في شُهودي وبِنْتُ عن
وُجودِ شُهـودي ماحِيــــــاً غيرَ مُثْبِتِ
وصَرّحْ بإطلاقِ الجَمـــــــــــــــــالِ ولا تَقُلْ
بِتَقْييـــدِهِ مَيْلاً لِزُخْـــــرُفِ زِينَـــــــــــــةِ
فكلُّ مليــــحٍ حُسنُــــــــهُ من حُسْنِـهــــــــا
مُعـــارٌ لهـا ، بل حُسْنُ كلِّ مليحَــــــــةِ
بها قيسُ لُبْنى هــــــــامَ بلْ كلُّ عاشـــــــقٍ
كَمَجْنونِ ليـــلى أَوْ كُثَيِّرِ عَـــــــــــــــــزَّةِ
وتَظهرُ للعُشّــــــــــــــــــاق في كلِّ مَظْهــــــرٍ
من اللَّبْسِ في أَشكالِ حُسْنٍ بَديعـــــــــةِ
ففي مَـرَّةٍ قَيْســــاً وأُخـرى بُثَيْنَـــــــــــــــــةً
وآوِنَـــــــــــة تُـــدْعى بِعَـــــزَّةَ عَــــــــزَّتِ
وما ذاك إلاّ أنْ بَدَتْ بمظـــــــاهــــــــــــــــرٍ
فَظَنّــوا سِواهــــــــا وهي فيهـــــا تجَلَّـتِ
وما القومُ غيري في هواهـا وإنمـّــــــــــــــــا
ظَهَــرَتْ لهــــم للَّبْسِ في كلِّ هيئـــــــــــةِ
بَدَتْ باحتجـــــابٍ واخْتَفَتْ بمظـــــــاهرٍ
على صِبَـــغِ التَلوينِ في كلِّ بَـــــــــــــرْزَةِ
(38)
يشير إلى ظهور هذا الجمال المطلق وسَريانِه في كلِّ التعيينات الجميلة ، مع بقائه هو على ما هو عليه من الإطلاق ، وهذا الذوقُ هو الذي يكشف ، لمن تحقّقَ به ، أنَّ الوجودَ الواحدَ المطلقَ قد تَعَشَّقَ ذاتَه، وسرى في عين العاشقِ وعين المعشوق ، فهو لُبْنى وبثينةٌ وعَزَّةٌ ، وهو قيسٌ وكثيِّرٌ وجميلٌ . وأنشدوا في هذا المعنى أيضاً :
اللهُ اللهُ ..لا عقـلٌ يُصــــــــــوِّرُهُ والكونُ يُثْبِتُــهُ في سائرِ الصُـوَرِ
والشرعُ يُطلقُهُ وقتاً ويَحْصُرُهُ والوهْــمُ يَعبُدُه في صورةِ البَشَرِ
(39)
وأنشدوا أيضاً في نفس هذا المعنى:
فمَا تَرى عينُ ذي عينٍ سِوى عَدَمٍ
فَصَـــــــحَّ أَنَّ الوُجــودَ المُــــدْرَكَ اللهُ
وما يَـــــــرى اللهَ غــيرُ اللهِ فاعتَبِروا
قَوْلي لِيُعْلَمَ مَنْحــــــــــــاهُ ومَغْــــــزاهُ
(40)
وكان أبو يزيدٍ البَسْطاميُّ {رضي الله عنه} يقول : (الحقُّ عَيْنُ ما ظَهَرَ ، وليس ما ظَهَرَ عَيْنُ الحقِّ) . (41) وقد شبَّهَ أبو الحسنِ الشاذليُّ {رضي الله عنه} الخلقَ بالينابيب التي تَبْدو لِعَيْنِكَ صاعدةً هابطةً في حَرَكَةٍ دائبةٍ ، إذا ما نظرتَ إلى نافِذَةٍ تدخلُ أشعّةُ الشمسِ منها ، يقول : (إياك أنْ تَشهدَ معَ اللهِ خلقّاً ، وإنْ كان لا بُدَّ من شهودكِ لهم ، فاشْهَدْهم كالينابيبِ التي في كُوَّةِ الشَمْسِ ، تَراهم مُتحرّكين صاعدين وهابطين ، وإذا قَبَضْتَ عليهم لم تجدْهم ، مَشهودون في الشُهودِ مفقودون في الوُجود) . (42) ولنا في هذا المعنى :
راودتُ قلبي على السلوانِ فاعتــــــذرا
وقال : ما حيلتي إذْ لم أكُنْ حَجَرا؟
قلبٌ أنا للهـــوى والعشــقِ أوجَــــــــدَهُ
ربُّ الجمَالِ الذي قد أَبْــدعَ الصُوَرا
مَن لَوّن الحُسْنَ إغْراءً لعاشقِــــــــهِ؟
مَنْ ألْهَبَ القلبَ أمْ مَنْ أَطْلَقَ البَصَرا
مَن رَعْرَعَ الوَرْدَ مَزْهُوّاً بوجنتِــــهِ؟
أمْ مَن أَعارَ الدُجا مِن حُسْنِهِ قَمَرا
(43)
وفي هذا المعنى يقول العلاّمة أحمد حيدر : (إنَّ الصِفاتِ الإبداعيَّةَ هي مَظاهرُ أفعالِ اللهِ ، ولا قِوامَ لها إلا بموجدِها) . (44)
وأقوالُ السادةِ الصوفيَّةِ في ذلك أكثر من أن تُحصى ، شعراً كانت أو نثراً، إذ إنَّ مهمّةَ التصوفِ الأولى هي تدريبُ النفس على رؤية الحقِّ {تبارك وتعالى} واحداً في وجوده ، وإزالةُ جميعِ الحُجُبِ عن عين البصيرة لشهودِ وحدانيّتِهِ {جلَّ في علاه } ، يقولُ الإمام الغزالي (رضي الله عنه ) بعد أن سرد حكاية هجر عمله في المدرسة النظامية ببغداد ، والتخفّي والاعتكاف مدّة عامين في مئذنة العروس في الجامع الأمويِّ بدمشق وكان يدعو بهذا الدعاء (اللهم عرّفنـي إليك ودلّنـي على من يدلُّنـي عليك ) يقول : (( فلمّا علِمَ الله {تبارك وتعالى} صدقي دلّنـي على شيخي يوسف النسّاج ، فما زال يصقل مِرآةَ قلبـي حتّى رأيتُ اللهَ {تبارك وتعالى} في المنام ، فقال لي يا أبا حامد دع شواغلك واصحبْ قوماً جعلتُهم في أرضي محلُّ نظري ، فقلتُ : بِعِزّتك إلاّ أذقتنـي بردَ حُسْنِ الظنِّ بهم ، فقال : قد فَعَلتُ )) . (45) فلما استيقظتُ قَصصتُ رؤياي هذه على شيخي يوسف النسّاج فقال لي : يا أبا حامد هذه ألواحُنا في البداية ..) والقصّة بكامل تفاصيلها موجودة في كتابه المسمّى (المنقذ من الضلال) . وهذه هي ثمرةُ التصوّف وغايته ، وهذه هي وظيفةُ الشيخ : أن يسير بك حتى يزجّ بك في أنوار الحضرة الربّانيّة، ثم يقول (ها أنت وربّك) فإذا أصبحت ترى الله متجلّياً في كلِّ شيءٍ حسّاً وشهوداً فقد و صلتَ وكَمُلَ إيمانُك .
يقول أبو يزيدٍ البسطاميّ {رضي الله عنه} : (لـو أنَّ العرشَ وما حواهُ مليون مرَّةٍ في زاويةٍ من زوايا قلب العارف ، ما أحسَّ به) . (46) وكيف يحِسُّ بمخلوق قلب وسع الخالق العظيم ؟! يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي : (( لم يَسعْنـي أرضي ولا سمائي، ووسعنـي قلب عبدي المؤمن اللّين الوادع )) . (47)
يقول الجنيد {رضي الله عنه} : (إنَّ المُحْدَثَ إذا قُرنَ بالقديمِ لم يبق له أَثَرٌ وقلبٌ يَسَعُ القديمَ كيف يُحِسُّ بالمُحْدَثِ موجوداً ؟!) . (48)
ويقول أبو الحسن الشاذلي {رضي الله عنه} : (إنّا لننظر إلى الله ببصائر الإيمان ، فأغنانا ذلك عن الدليل والبرهان ، وإنّا لا نرى أحداً من الخلق، هل في الوجود أحدٌ سوى الملك الحقّ ؟) . (49) وثمّةَ مقامٌ يسميه العارفون مقامَ جمعِ الجمعِ، يَفنى فيه العبدُ بحضرة ربِّه فناءً كلِّيّاً ، فإذا نظرَ فإلى ربّهِ,وإذا سمعَ فإنما يسمَعُ ربَّهُ وإذا تحرك فبه وهكذا .
يقولُ الشيخُ الأكبرُ {قدّس اللهُ سِرَّه } : (واعلمْ أنَّ كلَّ حُبٍّ لا يحكمُ على صاحبِهِ بحيثُ أنْ يُصِمَّهُ عن كلِّ مسموعٍ ، سِوى ما يَسمَعُ من كلامِ محبوبِهِ ، ويُعْميهِ عن كلِّ مَنْظورٍ ، سوى وَجْهِ محبوبِهِ ، ويُخرسُهُ عن كلِّ كلامٍ إلاّ عن ذكرِ محبوبِهِ وذكرِ مَن يُحِبُّ محبوبُهُ ، ويَخْـتِمُ على قلبِهِ فلا يَدخُلُ فيهِ سوى حُبِّ محبوبِهِ ، وَيرْمي قُفْلَهُ على خِزانَةِ خَيالِهِ فلا يَتَخَيَّلُ سوى صورةِ محبوبِهِ ، إمّا عن رؤْيةٍ تَقَدَّمتْهُ ، وإمّا عن وصْفٍ يُنشئُ مِنْهُ الخيالُ صورةً ، فيكونُ كما قيلَ:
خيالُكَ في عينـي وذكرُك في فمي
ومَثْـواكَ في قـــــلبـي فأين تغيبُ ؟
فبه يسمعُ ولهُ يسمعُ ، وبه يبصرُ ولهُ يبصِرُ ، وبه يتكلَّمُ ولهُ يتكلّم ... ويتابعُ الشيخُ : ولقد بلغَ بي قوَّةُ الخيالِ أنْ كان حُبّي يُجَسِّدُ لي محبوبي من خارجٍ لعينـي كما كان يتجسَّدُ جبريلُ لرسولِ الله {صلّى اللهُ عليه وسلَّم} فلا أقدِرُ أنْظُرَ إليه ، ويخاطبنـي وأُصغي إليهِ وأفهمُ عنهُ ، وقد تركنـي أيّاماً لا أُسيغُ طعاماً، كلَّما قُدِّمتْ لي المائدةُ يَقِفُ على حَرْفِها وينظرُ إليَّ ويقولُ لي بلسانٍ أسمعُهُ بأُذنيَّ : تأكُلُ وأنتَ تُشاهدُني ؟! فأمتنعُ مِن الطعامِ ولا أجدُ جوعاً وأمتلئُ منهُ، وقد سمنتُ وعَبَلْتُ من نظري إليه ، فقامَ لي مقامَ الغذاءِ وكان أصحابي وأهلُ بيتـي يتعجَّبون من سِمَنـي مع عدم الغذاءِ ، لأنّي كنتُ أبقى الأيامَ الكثيرةَ لا أذوقُ ذَواقاً ، ولا أجِدُ جوعاً ولا عطَشاً ، لكنَّه كان لا يبرَحُ نُصْبَ عينـي في قيامي وقعودي وحركتـي وسُكوني .. ثم يضيفُ : واعلم أنَّه لا يستغرقُ الحُبُّ المُحِبَّ كلَّهُ إلاّ إذا كان محبوبَهُ الحقُّ تعالى).
(50)
وقد سمعتُ من شيخِنا ، العارفِ بالله ، المرشدِ الكاملِ ، الشيخ عبد الرحمن الشاغوري {رحمه الله تعالى} : أنَّ هذه الحالُ من السُكْرِ ، أو البُهْتِ ، دامـتْ على الشيخِ الأكبرِ (قُدِّس سِرُّه) ذات مرَّةٍ ستَّةَ أشهُرٍ ، ولمّا أَفاقَ مِنْ سُكْرِهِ سأل مَنْ حولَه إنْ كانوا قد لاحظوا تَغَيُّراً في سلوكِهِ خلالَ هذه الفترة ، فقالوا لاشيءَ سوى أنّهم كانوا ينظرون في عينيْه فيرونهما جامدتين لا تتحرَّكان وقد كان يقوم بأعمالِهِ وواجباتِه المعتادة على أكملِ وجْهٍ ، وذلك لأنّه كان قد حفِظَ اللهَ في صَحْوِهِ فحفِظَهُ في سُكْرِهِ . وإلى هذا الركنِ الركين استندتُ حينمَا قلتُ :
قلبـي لِعِـــــــزِّكَ يخشَـــــــعُ ولكَ الجَـــوارحُ تَخْضَـــــــعُ
يا مَن وَعَتْـــــــهُ مَسـامِعي في كلِّ صَـــــوْتٍ يُسْمَــــــعُ
يا مَنْ رأَتْـــــــهُ بَصــــــيرتي في كلِّ نُـــــــــورٍ يَسْطـــــــعُ
في الشمْسِ إمّـــــــا أَشرَقتْ والبـــــــدرِ إمّــــــــــا يَطْلــــــعُ
في كلِّ وَجْــــــــهٍ مُشْـــــرقٍ نَضِرٍ تَجَـــــــــلّى المُبْـــــــــدِعُ
في الزَهرِ يَبْسِـم للنَـــــــــدى وأَريجُــــــــــــــهُ يَتَضــــــــــوَّعُ
في كلِّ غُصْــــنٍ مُـزْهِـــــــرٍ فـــــوق الرُبا يَتَرَعْـــــــــــــرعُ
في الطَيرِ يَغْــــدو جائعـــــاً ويَـــــــروحُ إمّــــــا يَشْبَــــــــعُ
فَتَــراهُ يَشْـــــدو داعيــــــــــاً فـــــوق الغُصونِ يُرَجِّـــــــــعُ
كلٌّ دَرى تَسْبيحَـــــــــــــــــهُ ولِربِّـــــهِ يَتَضَـــــــــــــــــــــــرَّعُ
(51)
وقلتُ أيضاً في ذات المشهد :
في كلِّ نَفْحَــــــــةِ عِطْــــرِ في كلِّ نَسْمَةِ فَجْـــــــــرِ
في كلِّ وَجْنَـــــــةِ زَهْــــــرٍ في كلِّ بَسمَــةِ بَـــــــدْرِ
في كلِّ لحـــــــنٍ أَثــــــــيرٍ وكلِّ وجْــــــهٍ أَغَـــــــرِّ
منْكَ الجَمَـــــــالُ تَجَـلّى ومهدُ حسْنِكَ صَدْري
* * *
في الطيرِ إنْ راح يَشدو في الغصنِ يَحْنـو عَلَيْـهِ
في الوَرْدِ إنْ ماس يزهو في القلبِ يَهفو إليْــــــهِ
في النهْرِ والمــــاءُ يجري والخيرُ في راحَتيْـــــــهِ
منكَ الجَمَـــــالُ تَجَــلّى ومَهْدُ حُسْنِكَ صَدْري
(52)
قال ابنُ عجيبة (أحسنَ الله إليه): (جمعُ الجمعِ وهو غايةُ المعرفةِ ، فأوّلُ المعرفةِ دِلالةُ الصُنعةِ على الصانِعِ ووسَطُها دِلالةُ الصانعِ على الصنعةِ، وغايتُها تلاشي كلِّ ما دون الحقِّ {كلُّ مَنْ عليها فان * ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجلالِ والإكرامِ}) . (53)
وقال في البحر المديد : ((و للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث . فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزّةِ الرحمن ، وسطوات عظمته ، حتى لا يبقى أثرها . ثم قال: ومِن حيث الجمع باشَرَ نورُ الصفةِ نورَ العقلِ ، ونورُ الصفةِ قائمٌ بالذات ، فيتجلّى بنورِه لفعلِه من ذاتِه وصفاتِه ، ثم يتجلّى من الفعلِ ، فترى جميعَ الوجوهِ مرآةَ وجودِه ، وهو ظاهر لكل شيءٍ ، من كل شيءٍ للعمومِ بالفعلِ ، وللخصوصِ بالاسمِ والنَعتِ ، ولخصوصِ الخصوصِ بالصفةِ ، وللقائمين بمشاهدةِ ذاتِه بالذات ، فهو تعالى منزّهٌ عن البيْنونةِ والحلولِ والافتراقِ والاجتماعِ ، وإنما هو ذوقُ العِشْقِ ، ولا يعلم تأويلَه إلاّ العاشقون.
وحاصل كلامه : أنّك إن نظرت للوحدةِ لم يبقَ مَن تَحْصُلُ معه المَعيَّةُ ؛ إذْ لا شيءَ معَه ، وإنْ نظرتَ من حيثُ الجمعِ والفَرْقِ أُثْبِتَ الفرقُ في عينِ الجمعِ فتَحصلُ المَعِيَّةُ منه له جمْعاً ، ومنْه لأَثَرِهِ فَرْقاً ، ولا فرقَ حقيقةً ، فافهم ، ولا يفهم هذا إلاّ أهلُ العشقِ الكاملِ ، وهم أهلُ الفناء )) . (54)
كما قال ابنُ الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانيــــــــــــــاً
ولم تَفْنَ ما لم تجْتَــــلِ فيكَ صورتي
(55)
وللشيخ عبد الغني النابلسي{رحمه الله تعالى} في هذا المعنى :
ظهر الوُجودُ بسائرِ الأشياءِ متجلِّياً جَهْراً بغير خَفـاءِ
والكلُّ فيه هالكٌ قد قال إلاّ ..وجهَـــهُ الباقي عظيم بَقـــاءِ
واعلم بأنّك لا ترى منه ســــوى ما أنتَ رائيـــــهِ مِـنَ الأشياءِ
إذْ أنت شيءٌ هــــالكٌ في نُورِهِ والنــورُ يحــرُقُ حلَّـةَ الظَلْمَــــــــاءِ
والفيءُ يكشفُ أَنَّ ثمةَ شاخصاً متحكِّمـــاً فيهِ بغيرِ مِــــــــــــــــراءِ
(56)
إذاً هم ينظرون إلى الخلق بعين الحقِّ ، ولولا إثباتُ الحقّ للخلق بخطابِهِ لهم ما ثَبُتَ عندَهم وجودُ الخلقِ البَتَّةَ ، فعِلَّةُ العِلَلِ عندَهم رؤيةُ الخلق يقول الشَشْتُري {رحمه الله تعالى}:
طهّرِ العينَ بالمدامعِ سَكْباً
من شهودِ السِّوى تَزُلْ كلُّ عِلَّــهْ
ويقول آخر:
والـمَـــــــــــــــرْءُ غفـلتُــهُ عن ربِّـــه جَلَّ , مِن أدْهى المُصيبــــاتِ
ويقولُ ابن الفارض {رحمه الله تعالى }:
إذا أنعمتْ نُعْـــمٌ عليَّ بنظــــــــــــرةٍ
فلا أسعدتْ سُعدى ولا أجملتْ جُمْلُ
وقد صدئت عيني برُؤيةِ غيرِهــــــــــا
ولَثْمُ جُفوني تُرْبَهـــا للصَـــدى يجلــــــو
(57)
يقول الغوث أبو مَدين {قدَّس اللهُ سرِّه }:
وفي السرِّ أسرارٌ دِقــاقٌ لطيفـــــةٌ تُراق دِمانا جَهرةً لو بِها بُحْنـا
أَمّا الإمامُ السُهْرَ وَرْديّ فيقول( رحمه الله) :
بالسرِّ إن باحوا تُباحُ دماؤهـــــم وكذا دماءُ البائحينَ تُبـــــــــــــاحُ
وما أجمل قول نزار قبّاني الذي لم يستطع البوح باسمِ مَن يُحب صراحةً فباح به رمْزاً بصورٍ لا أبدعَ ولا أجملَ ، يقول :
لا تَسْألوني ما اسمُــــــــهُ حبيبـي أخشى عليكم ضَوْعَةَ الطيـوب
واللهِ لو بُحْتُ بأيِّ حَرْفٍ تَكَـدَّسَ اللّيلَكُ في الدُروبِ
ترونهُ في ضِحْكةِ السـواقي وفي عَطاءِ الديمةِ السَكوبِ
في الليلِ في تَنَفُّس المَـــراعي وفي غِنــــــاءِ كلِّ عَنـــــدليبِ
(58)
وهذه الأسرار هي أسرارُ الذاتِ وأنوارُ الصفات التـي تجَلّى الحقُّ بها في مَظْاهرِ الأَكْوان .
وفي هذا المقام قال أبو بكر الصديق {رضي الله عنه } ــ كما سلف أنْ أوردَناــ: (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيتُ الله قبلَه) أمّا أهلُ الحجابِ ، من أهلِ الدليلِ والبرهانِ ، فإنّهم يشهدون الكونَ ولا يشهدون المكوِّنَ ، لأنّهم إنّما يستدلّون على وجودِهِ بوجودِ خلقِهِ ، فقد حُجِبوا عن شموسِ المعارفِ بغيومِ الآثارِ ، لكنْ لا بُدَّ للحسناء من نِقاب ، يقول سيّدي أبو العبّاس المرسي (رضي الله عنه):
وما احتجبَتْ إلاّ بِرفعِ حِجابِها ومِنْ عَجَبٍ أنَّ الظُهورَ تَسَتُّرُ
يقول أميرُ المؤمنينَ عليٌّ {رضي الله عنه}( الحمدُ للهِ المتجلّي لخلقِه بخلقِه) . (59) لأنَّ ذاتَ الحقِّ ، {جلَّ وعَلا} ، لا يمكنُ إدراكُها , فعقلُنا لا يُدرك إلاّ ما تعطيهِ إيّاهُ حَواسُّهُ التـي لا تُحِسُّ إلاّ بالمادةِ المخلوقةِ ، واللهُ ، {سُبْحانَهُ} ، ليس بمادَّةٍ ليُدرَكَ ، ولذلك كان لا بدَّ من أَنْ يَظهرَ لنا في ما صَنَعَ، لأنَّ الصنعةَ تَدُلُّ عل الصانِعِ ، وبها يُعرَفُ ، ونحنُ لا يمكنُ أَنْ نَـتَعَرَّفَ على روحِ إنسانٍ إلاّ مِن خلالِ الجسدِ الذي هو مَظهرُها ، فكيفَ بخالقِها ؟ ويَقول أيضاً {رضي الله عنه وكرّم وجهه } بها تَجلّى صانعُها للعُقول وبها امْتَنَع عن نظر العيون).(60 )
فإن ظَهَرَ الصُوَريُّ فالمَعْنويُّ مُظْهِرٌ له ، وإن ظهرَ المَعْنويُّ فالصُوَريُّ مَظْهَرٌ له . لذلك فإذا تَغَزَّلَ شُعراءُ المتصوِّفَةِ بالجمَال فهم يُمَجِّدونَ اللهَ في جميلِ خَلْقِهِ، وهم بَعيدونَ عن كلِّ مَقْصِدٍ مُخالِفٍ للشرعِ الحَنيفِ ، يقولُ الشيخ أمين الجندي{رحمهُ اللهُ}:
أَميــلُ إلى شكلِ المَليحِ إذا بدا يلوحُ بخَـــدٍّ قَـــــــــدْ شَجاني تَــوَرُّدُهُ
وما مَقْصِدي فِعْلُ القبيحِ وإنَّمــــــا أَرَدْتُ بِذا تَسبيحَ مَن هو مُوجِـدُهُ
وما أنا في ذا الفعلِ باغٍ وإنّمــــــا أُشـاهـدُ صُنـعَ اللهِ ثمَّ أوحِّـــــــــدُهُ
(61)
والجمالُ الإلهيُّ له مَعانٍ وهي الأسماءُ والصفاتُ الإلهيَّةُ ، ولَهُ صورةٌ ، وهي تجليّاتُ تلك المعاني فيما يَقع عليه المحسـوسُ ، أوِ المَعقولُ ، فالمحسوسُ كما في قولِهِ {صلى الله عليه وسلَّم} : ( رأيتُ ربّي في أحسنِ صورةٍ) . (62) وفي إحدى الروايات زاد{ شابّاً أمرداً }.
والمعقول كالحـديث القدسي : ( أنا عندَ ظنِّ عبدي المؤمنِ فلْيَظُنَّ بي ما يشاء) .(63)
يقول محمّــد الراشد : (فحينما يصرخ الصوفيُّ : لا موجودَ إلاّ الله يعنـي ما تَعنيه الفيزياءُ والرياضيّاتُ الحديثة ُ، من كون العالم كحقيقة ، مجرّدُ وَهْمٍ أو شيءٍ منْ هذا القبيل ) . ثمَّ يُضيف : (تُرى ما هي الطاقة ؟ الطاقة تُشكِّل الكون كلّه .. باعتبار كلِّ شيءٍ قابلٌ للتحوُّلِ إلى طاقة ، والعكسُ صحيحٌ بالضرورةِ .. تُرى هل الطاقةُ ذلك الإشعاعُ أوْ التجلّي الإلهي أي ذلك الصدورُ للذاتِ الإلهيَّة ؟) . (64)
و في الختام لا بدّ من : ( أنْ أُنَبِّهَ إلى أمرٍ غاية في الأهميّة ، وهو أنّ كلّ الذين درسوا الشعر الصوفي وغزل المتصوفة ، قد اتخذوا التأويل منهجاً لفهم تَغَزُّلِ شعراءِ السادةِ الصوفيَّةِ بالمرأَةِ ، فعوَّلوا ـ أحياناً ـ على رُموزٍ ما أظنُّها خَطَرَتْ ببالِ هؤلاءِ الشُعراء وهم يبدعون قصائدهم معبرين عن مواجدهم ، ومترجمين أشواقهم وأحوالهم التـي مرّوا بها وهم يرتقون في مدارج الكمال .
فالأمر بسيطٌ جداً لا يحتاج منّا كلَّ هذا التعقيد ، لأنّ الصوفيَّ الحَقَّ إنّما يَنظرُ إلى المخلوقاتِ جميعاً على أَنّها صُنعَةُ الخالقِ { سبحانه } التـي أبدعَها لتكونَ مظاهرَ تَجلّيهِ وسبيلَ معرفتِهِ ، لأنّه يَستحيلُ على الحادثِ العاجزِ أَنْ يَعرِفَ حقيقةَ القديمِ المُطلَقِ (لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وهو يُدركُ الأبصارَ وهو اللطيفُ الخبير). (65)
فاقتضتِ الحكمةُ أنْ يَتَجلّى القديمُ في الحادثِ ، والمطلقُ في المحدودِ ، لتَظهَرَ عليه صِفاتُهُ {جلَّ وعلا } إنّما بشكلٍ مَجازيٍّ . فأنْتَ تُوصَفُ بالعِلْمِ ، والعِلْمُ من صِفاتِهِ { تبارك وتعالى } ، كما أنّكَ تُوصَفُ بالقُدْرَةِ والإرادةِ والحياةِ والسمعِ والرحمةِ والجَمالِ والجَلالِ ..كلُّها صفاتُهُ (جَلَّ في عُلاهُ) ولكن أين صِفاتُك الحادثةُ الفانيَةُ المحدودةُ من صفاتِهِ القديمةِ الباقيةِ المُطلَقَةِ ؟ (خَلَقَ اللهُ آدمَ على صُورَتِهِ ) . أي مِثالاً ومَظهراً لصفاتِهِ فالكَوْنُ ، كلُّ الكونِ، والمخلوقاتُ ، جميعُ المخلوقاتِ ، قائمةٌ بقَيوميَّتِهِ ، ظاهرةٌ فيها صفاتُهُ ساريةٌ فيها أسماؤهُ وأفعالُهُ ، فبها نَعرِفُهُ وتلك هي الغايةُ من خلقِناوما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا ليَعْبُدون). (66) والمعرفةُ قِمَّةُ العِبادةِ لأنَّ العبادةَ بدونِها جِسْمٌ لا روحَ فيه.
جاء في الحديثِ القُدسيِّ ( كنتُ كنزاً مَخْفِيّاً فأحببتُ أنْ أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ وتعرَّفْتُ إليهم فبـي عَرَفوني ).(67)
لذلك أقسم سيد الطائفتن الجنيد { قدس سره } بأنه ( ما عرف الله إلا الله).( 68 ) لأنّ العارفَ به {سبحانه} إنّما هو السِرُّ الإلهيُّ الذي أَوْدَعَهُ في خلقِهِ ، فما (عَرَفَ اللهَ إلاّ اللهُ) .
أمّا الذاتُ الإلهيَّةُ فمِنَ المُستحيلِ إدْراكُها . ألم تَرَ إلى سيدِنا موسى {عليه السلام} عندما طَلَبَ النَظَرَ إليه {سبحانَه} كيف أُجيبَ بـ (لن تراني). (69) وَوُجِّهَ إلى الجبلِ ليَنْظُرَ إليهِ حيثُ ظَهَرَ عليهِ التَجَلّي الإلهيِّ .
قال في عرائس البيان كان موسى {عليه السلام} في بداية حاله في مقام العشق والمحبة وكان أكثر أحوال مكاشفته في مقام الالتباس ، فلما كان بدو كشفه جعل تعالى الشجرة والنار مرآة فعليّة فتجلى بجلاله وجماله من ذاته لموسى ، وأوقعه في رسوم الإنسانية حتى لا يفزع ويدنو من النار والشجرة ، ثم ناداه فيها بعد أن كاشف له مشاهدةَ جلالِه ، ولولا ذلك لفني موسى في أوّل سَطوات عظمتِه وعزّتِه .
وهكذا نَرى الحقَّ ـ {جلّ وعلا} يُرْشِدُنا إلى ما باسْتِطاعَتِنا إدراكُهُ للنَنظُرَ فيه فَنُدرِكَ عَظَمَةَ الخالقِ بعظمةِ صُنْعِهِ فنتعرّفَ عليه بها لأنَّ عَظَمةَ الصنعةِ خيرُ دليلٍ على عظمةِ الصانع (أفَلا يَنظرون إلى الإبِلِ كيف خُلِقَتْ ، وإلى السَمَــاءِ كيف رُفِعَتْ ، وإلى الجبالِ كيف نُصِبَتْ ، وإلى الأرضِ كيف سُطِحَتْ )) . (70)
كما وصف{سبحانه} عبادَهُ وخاصَّتَهُ مِنْ خَلْقِه في مُحكَمِ كتابِهِ بقولِهِ (الذين يَذْكرون اللهَ قِياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِهمْ ويَتَفَكّرون في خَلقِ السَمَواتِ والأرضِ، ربَّنا ما خلَقتَ هذا باطلاً سبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النار ).(71)
ولم يَقُلْ ويَتفكرون في خالقِ السمواتِ والأرضِ ، لأنَّ عقولَنا مَجالهُا الحِسّيُّ المَلموسُ ، ويَستحيلُ عليها مَعرِفةُ المُطلَقِ الذي تَستحيلُ الإحاطةُ به ، وإنّما نَعرفُهُ مِن صِفاتِهِ وأفعالِهِ ، الظاهرُ في خَلْقِهِ ظِلُّها ومِثالُها .
والمرأةُ هي إحْدى هذه المَجالي،بلْ أكثرُها جَذْباً،لأنّها السالبُ لموجِبِهم ، وتلكَ هي العلاقةُ التي قام عليها الوجودُ كلُّهُ (سالبٌ ومُوجِبٌ) .
فالذي يشدّ الكواكبَ والأجرامَ السَـمَاوِيَّةَ ــ بعضَها إلى بعضِها الآخر ــ هي الشُحناتُ السالِبَةُ والمُوجِبَةُ ، والسالبُ والمُوجِبُ ، أَوِ المُذَكّرُ والمُؤنّثُ ، هو سِرُّ استمرارِ الحياةِ في الكائنات الحيَّةِ جميعاً ، حتّى الذرّةُ ــ أصغرُ المَوْجوداتِ ــ فالسالبُ والمُوجِبُ سِرُّ وُجودِها وأساسُ حياتِها , والدمارُ والخرابُ إنّما يكون باختلالِ هذه العلاقةِ الجاذبيّةِ وبتدميرِها .
بعدُ ، لا بُدَّ لنا من التَنْبيهِ إلى الفرقِ الأساسيِّ بين غَزَلِ الصوفيّينَ وغَزَلِ غيرِهم ، وهذا الفارقُ هو نَفْسُهُ ما بين نَظرةِ كلٍّ منهم إلى الوُجودِ .
فالصُوفيُّ يَنظُرُ إلى المَوْجوداتِ على أنّها مَظْهَرُ تَجليّاتِ الحقِّ {سبحانه} فتكون سبيلَهُ إلى التعرُّفِ بخالقِهِ ، أوْ هَـمْـزةَ الوصْلِ بينَه وبين خالقِه {جَلَّ سَناؤهُ} بينـمَــا يَقفُ غيرُهُ عندَ هذه المَظاهرِ ، ثـمَّ إنّهُ ثمَّة حدودٌ شَرعيّةٌ يَلتزم بها، ويَقِفُ عندها بينـمَــا قــد يَتعدّاها غيرُهُ ) (72) .
وقبل أن نختم هذا الباب نحب أن نعود إلى حديثخلق الله آدم على صورته) لنقف على ما جاء في سفر التكوين من التوراة الحاليّة حيث جاء فيهوقال الله : لنصنع الإنسانَ على صورتنا كمثالنا و ليتسلط على أسماك البحر و طيور السماء و البهائم و جميع وحوش الأر
نظرة السادة الصوفية إلى الكون
اِسْتَمَدَّ السادةُ الصوفيّون نَظرتَهم إلى الكونِ من الشرعِ الحنيفِ ، فهو (أي الكون) ما خُلِقَ إلاّ لِتَظْهَرَ عليه تجليّاتُ الخالقِ {سبحانَه} ولِتَظهرَ فيه أَسرارُ حِكمَتِه وبَديعُ صَنعتِه ، وإلاّ فليس له أَيَّةُ قيمةٍ بذاتِه فظهورُ الحقِّ فيه عِلَّةُ وجودِه ، وهو قائمٌ بقيّوميَّتِه {سبحانَه وتعالى} مستمرٌّ بمدَدِهِ .
يقول جلّ مِن قائلٍ في كتابه العزيز : (هو الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ) (1) فإذا كان الحقُّ {سبحانه} هو الظاهرُ وهو الباطنُ وهو الأوّلُ وهو الآخر ، فهل ثمَّة وجودٌ ــ على الحقيقةِ ــ لشيءٍ معه أو قبله أو بعده ؟ وهل بعد الأوّلِ والآخِرِ والظاهرِ والباطنِ من شيءٍ ؟ وماذا بعــد الحقِّ إلاّ الضلال ؟ إذاً فالكونُ ، بما فيه ، مجَازيُّ الوُجودِ حاثٌ زائل .
يقول العارف بالله أحمدُ بن عجيبة ، شـارح الحكـم العطائيّـــة لابن عطــاء الله السكندري ، في شرحه لحكمة ابن عطاء التـي يقول فيها : {الكونُ كلُّه ظُلمةٌ وإنّما أناره ظهورُ الحقّ فيه} : ( الكون من حيث كونِيَّتِه وظهورِ حِسِّهِ ، كلُّه ظلمةٌ لأنّهُ حِجابٌ لمن وَقَفَ معَ ظاهرِهِ عنْ شُهودِ رَبِّـه) . (2)
ويقول الشيخ الجليل السيد عبد الكر يم الجيلي ، وهو حفيدُ الشيخ السيد عبد القادر الجيلاني {رضي الله عنهما} : (الحمد لمن قام بحقِّ حمدِهِ اسمُ اللهِ ، فتَجلّى في كلِّ كمالٍ اسْتَحقَّهُ واسْتوفاه ، حقيقةِ الوُجودِ المطلقِ ... مَحْتِدِ العالَمِ الظاهرِ على صورةِ آدمَ ... روحِ صُوَرِ المخترَعاتِ ، الموجودِ بكمالهِ ، من غيرِ حُلولٍ ، في كلِّ ذرَّة ٍ ، اللائحُ جمالُ وجهِهِ في كلِّ غُرَّةٍ ... بصفاتِهِ جَمُلَ الجمالُ وعَمَّ ، وبذاِتهِ كمُلَ الكمالُ فَتَمَّ ، لاحَتْ محَاسِنُـهُ على صَفَحاتِ خُدودِ الصِفاتِ واستقامتْ بِقَيُّوميَّةِ أحديَّتِهِ قُدودُ الذاتِ ..كما يَشاءُ ظَهَرَ في كلِّ ذاتٍ بكلِّ خَلْقٍ ). (3) وفي كتابه المسمّى{نسيم السحر}يقول الجيليُّ {رضي الله عنه} (ألا ترى أنَّ الحقَّ {سبحانَهُ وتَعالى} لمّا أَرادَ ظُهورَهُ مِن عِلْمِهِ بالعَيْنِ ، خَلَقَ العالمَ َوصَوَّرَهُ على صُورَتِهِ في حَضْرَةِ الأَيْنِ ، ثُمَّ تجلّى على العالم بأسمائه وصِفاتِهِ فَعَرَفَهُ كلُّ ذي سَمْعٍ وعَيْنٍ ، فالمَعْرِفَةُ نتيجةُ التَناكُحِ المَعْنَوِيِّ ، أَيْ دُخولِ حُكْم الأَسْماءِ الإلهيَّةِ والصِفاتِ الرَ بّانيَّةِ في حقائقِ العالمَ ِ، فكانَ العالَمُ مخلوقاً مِنْهُ كما خُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ آدمَ) .
ثم يقولُ في ذاتِ الموضوعِ والمَعنى شِعْراً نَقْتَطٍفُ منـــه هذيْن البيْتَيْن :
تَلوينُ هَـذا الحُسْنِ في وَجَنـاتِهِ
أَبَداً ولا تَلوينَ في طَلَعـــــــــــــاتِــهِ
فإذا تَرَكَّبَ حُسْنُ طَلْعَةِ شادنٍ
مِنْ كلِّ حُسْنٍ فهو واحدُ ذاتِهِ
(4)
فالحُسنُ إذاً ، كما يرى السيّدُ الجِيليُّ ، مَصْدَرُهُ واحدٌ وإنْ تَعَدَّدتْ مظاهرُه ، فالجميلُ واحدٌ ، وهو الحقُّ {جلَّ شأنُهُ} ولكنَّ تجليّاتِهُ متعدِّدةٌ ، وكذلك مَظاهرُهُ ، فلو قُدِّرَ لجميلٍ أنْ تجتَمعَ فيه كلُّ مظاهرِ الحُسْنِ والجمالِ ، لكان هذا الجميلُ هُوَ اللهُ الواحدُ ذاتُه بلا شكٍّ ولا ريبٍ ، لأنّه سيكون عندها كاملاً ولا كاملَ سوى الحقِّ {جلّ وعلا}. وكمـــا سيتجلّى {سبحانه} على عبادِهِ في الآخرةِ بصورٍ مختلفةٍ
ــ كما ورد في صحيح مسلم عن سيدِنا رسول الله {صلى الله عليه وسلَّم } ــ فإنَّه يتجلى لقلوبِ عبادِهِ المؤمنين في الدنيا بصورٍ مختلفةٍ ، كما ينبغي لذاتِه ، مِن غيرِ تشبيهٍ ولا تكييفٍ . والعارفون يرونَه في الدنيا في جميعِ الصورِ والتجليّاتِ ، في حين يحجب عنها أهلُ الحجاب ، ألم يَرَه سيّدُنا موسى {عليه السلام} في الجبل لمّا تجلى له في الجبلِ فصَعِق موسى لعظمة تجلّيه {سبحانه} ؟ ولكنّ المؤمنين الذين سينعم اللهُ عليهم برؤيتِه في الجنّة سوف يؤتَوْن في الآخرةِ طاقةَ احتمالِ مشاهدةِ هذه العَظَمَةِ ، متجلّياً عليهم بجماله ــ جعلنا اللهُ منهم ــ أمّا في الدنيا فإنَّ الأبصارَ مهيئةٌ لمشاهدة المخلوقاتِ وحسب ، ولذلك فلا سبيلَ إلى مشاهدتِه إلاّ في المظاهرِ الماديّةِ لهذه التجلّيات . يقول الشيخ إبراهيم الدسوقي {رضي الله عنه}:
سقانيَ محبـوبي بكأسِ المحبَّـةِ
فتِهتُ على العُشّـاقِ سُكراً بخلوتي
ولاح لنا نورُ الجَلالةِ ؛ لو أَضا
لِشُمِّ الجبـــالِ الراسيــــــــاتِ لَدُكَّتِ
وكنتُ أنا الساقي لمن كان حاضراً
أَطـوفُ عليهم كرَّةً بعـــــــــــدَ كـرَّةِ
تجلّى ليَ المحبوبُ في كلِّ وُجْهَةٍ
فشاهدْتُـهُ في كلِّ مَعنًى وصُورةِ
(5)
وكلُّ ما في الوجود هو مظاهرُ لتجلّياتِ الذاتِ الإلهيّةِ . يقولُ ربُّنا {جلَّ في عُلاه} ((ولله المشرق والمغربُ فأينما تُولّوا فثَمَّ وجهُ اللهِ إنّ اللهَ واسعٌ عليم)) . (6) فمن أنت أيُّها الإنسانُ لتغتر َّبنفسِكَ فترى لكَ ، أو لغيرك من الموجودات ، وجوداً مستقلاًّ عنه ؟ فا ستمعْ إلى ربِّك : (الذي خلقك فسوّاك فعَدَلَكَ ، في أيِّ صورةٍ ما شاءَ ركَّبَكَ) . (7) واشهدْهُ في جميعِ مظاهرِه واحداً أَحَداً لا نِدَّ له ولا شريكَ له في وجودِه ، يقول أحدُ العارفين :
إياك تشْهـــــدَ غيرَه ودعِ العَنا
لا أنت في هذا الوجود ولا أنا
إنَّ الوجودَ هو الحقيقيُّ الذي
كنّـا بـه وبِـهِ نعودُ إلى الفَنــــــــا
واستمعْ إليه يُذَكِّرُكَ بمبدأِ خلقِكَ وحقيقةِ نفسِكَ ، إذ يقولُ في محكمِ كتابِه العزيز : (هل أتى على الإنسانِ حينٌ منَ الدهرِ لم يكن شيئاً مذكوراً * إنّا خَلَقْنا الإنسانَ مِنْ نُطفةٍ ، أَمْشاجٍ نَبْتليه فجعلناه سميعاً بصيراً *) . (
ولم يَدَعْكَ ربُّك بعد أنْ خَلقك هكذا ، بل إنّه {سبحانه وتعالى} يُمِدُّكَ بالحياة في الأنفاسِ و اللّحظات : (كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاءِ من عطاءِ ربِّكَ ، وما كان عطاءُ ربِّكَ محظوراً). (9) ولا أنت ببعيدٍ عنه ، ولا هو عنك بغافل : (ولقد خلَقنا الإنسانَ ونعلمُ ما توسوسُ به نفسُهُ ونحنُ أقربُ إليه من حَبْلِ الوريد) . (10) وهو معيدُك ومحاسبك يوم القيامة، وقد أقام عليك الحجّةَ والشهود :
((إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قَعيد * ما يَلْفِظُ مِن قولٍ إلاّ لديْه رقيبٌ عَتيد * وجاءت سكرةُ الموت بالحقِّ ، ذلك ما كنتَ من تحَيد*)) . (11) إذاً أين هو منكَ وأين أنتَ منه ، إذا كان أقربَ إليكَ مِن حَبْلِ وريدِك ، ذاك الشريان الذي يخرج من قلبك ليتفرع في جسمك ، ووهو (سبحانه) يعلمُ ما تُحدِّثُكَ به نفسُك ؟ فاحذرْ أنْ تغترَّ َبنفسك فتعصيه ، وإنَّ مِن أعظمِ الذنبِ وأفظعِ المعصيَةِ أنْ تَرى لنفسِكَ أو لغيرِك من المخلوقات أيَّ وجودٍ مستقلٍ عنه ، ومالك من عَمَلِكَ إلاَّ النيَّةُ أو الاختيارُ أو التوجُّه ، الذي إنّما عليه وحَسْبُ تُحاسَبُ .
يقولُ الرسولُ الكريم {عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم} : (إنّما الأعمالُ بالنيّاتِ وإنّما لكلِّ امْرئٍ ما نَوى) . (12) فأنت ليس لك من العملِ إلاّ النيَّةُ فقط ، لأنَّ العملَ مخلوقٌ من خلقِ اللهِ ، مثلُك : (واللهُ خَلَقكم وما تَعملون) . (13) وكلُّ ما في الكونَ مِن خلقِ الله وتدبـيرِهِ {جلَّ شأنه} فإيّاكَ ثمَّ إيّاكَ أنْ تَرى لكَ ، أو لغيرك من الخلقِ ، أيَّ وجودٍ معه ، فهو من الشِرْكُ و : (إنَّ اللهَ لا يَغفِرُ أنْ يُشرَكَ به ويَغفِرُ ما دون ذلكَ لمن يشاء) .
(14)
ولنُقرِّبَ إلى أفهامِنا هذه المسألةَ ، في تَعدُّدِ المظاهرِ لِذاتٍ واحدةٍ نَضرِبُ المثالَ الآتي ــ ولله المثلُ الأعلى : إذْ إنَّ التَيّارَ الكَهربائيَّ يَسْري في الأَسْلاكِ فيَظهرُ بمظاهرَ مخـتلفةٍ ، متنوِّعةٍ بتنوُّعِ الأجسامِ التـي يظهرُ فيها ، فيَكون في المِصباحِ نُوراً مُتوهِّجاً بلونٍ أَبيضَ ، أو أخضرَ ، أو أحمرَ ، أو أصفرَ ، أو أزرقَ ، أو غيرَ ذلك ، بحسَب لونِ الزُجاجةِ ويسري في التلفازِ ، فيكونُ لهُ مَظهرٌ مخـتلفٌ آخر , من صوتٍ وصـورةٍ ، أمّا في المِذْياع ، فيكونُ صَـوْتاً وحسْب ، فإذا سَرى في آلةٍ أُخرى : مِكْنَسَةٍ ، أو غَسّالةٍ ، أو مِروحَةٍ ، أو مِدْفأةٍ ، ظَهَرَ هذا التيّارُ بما يُناسبُ الآلةَ التي سَرى فيها ، حيث يكون حركةً أو حرارةً أو ... وهَكذا ، والتيّارُ واحد .
وكذلك الشمسُ تُرْسِلُ أشِعَّتَها فتَرْفعُ من درجةِ حرارةِ الأرضِ باعثةً فيها الدفءَ والخِصْبَ والحياةَ ، فتُنبتُ الزرعَ ، وتُحرِّكُ الهواءَ ، وتُساهمُ في تَكوين غِذاءِ النباتاتِ ، وتقتلُ الكثيرَ مِن الجراثيمِ والحشراتِ والبكترياتِ ، وتبثُّ الحياةَ في مخلوقاتٍ أُخرى بِمشيئتِهِ وقدرته ، {سبحانَه} .
وتَسْقُطُ أَشعّتُها على سطحِ الماءِ ، في المحيطاتِ والبِحارِ ، فتُبخِّرُ منهُ ما شاءَ ربُّها لتَتَشَكّلَ الغيومُ التـي تـتساقطُ على الأرضِ قَطراتٍ تحيي مَواتَها ، وهي قبلَ هذا وبعدَه مصدرُ الضوءِ في النَّهار ، وفي الليلِ حيث تَنْعَكِسُ أَشِعَّتُها على سَطْحِ القَمرِ فيكونُ لها ضوءٌ آخر مختلفٌ عن ضوءِ النهارِ .
كلُّ هذهِ المظاهِرِ وغيرُها كثيرٌ ، يَصْعُبُ حَصْرُهُ ، لِجُرْمٍ واحدٍ هو الشَمْسُ ، مَظاهرُ وفوائدُ لا يُحصيها إلاّ خالقُها {جَلَّ وعَلا} الذي خلَقَ الخلائقَ وقَدَّرَ الأقدار .
وهذه كلُّها أَمثلةٌ لتقريبِ المسألــةِ وتَبْسيطِهـا للأذهان ، ولكنْ شَتّانَ ما بين الخلقِ والخالقِ الذي ليس كَمِثلِهِ شيءٌ ، إنّما هي من الملموسِ المحسوسِ الذي يمكنُ للعقل إدراكُهُ واستيعابُه وفهمُه ، فنحن نُعاين ذلك ونلمَسُهُ ونُحِسُّ به كلَّ يومِ .
وهذه المظاهرُ هي في الخلقِ عاريةٌ مُستَرَدّةٌ ، ليُعْرَفَ اللهُ ، فالجميلُ منها ليَدُلَّ على الجَميلِ ، وما فيها من مَظاهرِ القوَّةِ ليَـدُلَّ على القويِّ ، وسمعُها يَدُلُّ على السَميعِ ، وكذلك بَصرُها ، وقُدرتُها ، وعلمُها ، وسائرُ صفاتِها ومَظاهِرِها ، فلولا الجمالُ الظاهرُ المجازيُّ ما عَرَفْنا الجمالَ المطلقَ الأبديَّ الأزليَّ ، ولولا هذا البصرُ الحادثُ ما عُرِفَ كيف يكون الإبصارُ ، وهكذا...
تَصوّرْ أنَّ أحداً مّا حَدَّثَ الناسَ عن جهازِ الحاسوبِ أو التلفـــــازِ أو الهاتف المحمول قبلَ ألفِ عامٍ ، مثلاً ، مَنْ مِنَ الخلقِ كان يمكنُ له إدراكُ هــذه الآلاتِ المُعْجِزةِ ؟ فأنّى للعقلِ البشريِّ ، إذاً ، أنْ يُدرِكَ ذاتَ الحقِّ الذي ليس كمثلِه شيءٌ ؟!
لذلك ، كان لا بدَّ من مخلوقاتٍ حِسيَّةٍ تظهرُ فيها صفاتُ الذاتِ الإلهيَّة ، فـ {خلقَ اللُه آدم على صورتِه ..} . (15) وأهَّلـَهُ لمعرفتِه {وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاّ ليعبدون}. (16) ويعبدون : أي يَعرِفون ، كما قال عددٌ من المفسِّرين منهم عبدُ الله بنُ عبّاس ، والإمامُ سفيان الثوريّ {رضي الله عنهم} إذِ المعرفةُ أَعْلى درجاتِ العِبادةِ . فقد جاءَ عن الحبيب المصطفى{صلّى الله عليه وسلَّم} أنّه قال : (تَفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادةِ سبعين عاماً) . (17) أَيْ ما يَعدِلُ عُمرَ ابنِ آدمَ كلَّهُ يَقضيه في العبادة . وأخرجه الديلمي مرفوعاً عن أنس أنه {صلى الله عليه وسلّم}قال: ((تفكّرُ ساعةٍ في اختلافِ الليلِ والنهارِ خيرٌ من عبادةِ ثمانين سنةً)).
(18)
وسئل{عليه الصلاة والسلام} : أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ ؟قال (العلْمُ بالله)) قيلَ : يا رسُولَ الله سَأَلْنَاكَ عن العَمَل ؟ فقال : ((العلمُ بالله)) ثم قال {صلى الله عليه وسلم} : ((إذا حَصَلَ العلمُ بالله كَفَى قلِيلُ العَملِ)) أو كما قال . (19) وكان أبو الدرداء {رضي الله تعالى عنه} يقول : ((تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من قيامِ ليلةٍ)) . (20) وإنَّ المخلوقاتِ جميعَها تَعْرِفُ اللهََ بالفطرةِ، لقوله {سبحانَه}: ((وإنْ مِنْ شيءٍ إلاّ يُسبِّحُ بحمدِهِ ولكنْ لا تَفقهون تسبيحَهم)) . (21) إلاّ ابنَ آدمَ ، فإنَّ اشْتِغالَ عقلِه وحواسِّه بالمحسوسات يُبْعِدُه عن فِطرته {التـي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها}. (22) ولذلك كان بحاجةٍ إلى النظرِ والاسْتِدلالِ ليعرِفَ الصانِعَ{سبحانَه} بِصَنعتِه : قال {جلَّ من قائلٍ} : (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبِهم ، ويتفكَّرون في خلقِ السموات والأرض ، ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقِنا عذابَ النار) . (23) و قال : (أَفَلا يَنظُرونَ إلى الإبِلِ كيف خُلِقَتْ * وإلى السمـاءِ كيف رُفِعَتْ * وإلى الجِبالِ كيف نُصِبَتْ * وإلى الأَرضِ كيف سُطِحَتْ). (24)
ثمّ ليأخذْ نفسَهُ بالرياضةِ والذِكْرِ ليعودَ إلى فِطرتِهِ ، وبِذلك يحقِّقُ سببَ وجوده والحكمةَ مِنْ خلقِه فيَفْضُلُ جميعَ المخلوقاتِ ، ويجزى على ذلك الجَزاءَ الأوْفى ، فقد جاء في الحديثِ القُدسيِّ : (كنتُ كَنزاً مخْفيّاً ، فأحبَبْتُ أنْ أُعْرَفَ ، فخلقتُ الخلقَ وتعرَّفتُ إليهم ، فعَرَفوني) . (25) وهذه المظاهرُ ستؤدي وظيفتَها ، وسَتَزولُ ، ولكنَّ اللهَ باقٍ لا يَحولُ ولا يزول ، يقول الجِيليُّ :
كلُّ ما في عَوَالِمي من جَمادٍ ونَبــاتٍ وذاتِ روحٍ مُعاري
صُــوَرٌ لي تَعَـرَّضتْ وإذا مــا أَزَلْتُها لا أَزولُ وهي جَواري
(26)
والصوفيَّةُ يُدْرِكونَ هذا كلَّه ، ويُبصرونَهُ ، لكنّهم يُبصرون الظاهرَ في هذهِ المَظاهرِ ، فلا يَقفونَ عندَها ، ولا يُحْجَبون بها ، فوظيفتُها أَنْ تَدُلهَّم على ربِّهم ، وتُوصِلَهم إلى الحقِّ وحَسْبُ ، وهم في ذلك إنّما يتّبعون الرسولَ الكريم {عليه الصلاةُ والسلام} الذي يقول : (لم أنظرْ قَطُّ إلى شيءٍ إلاّ أبصرتُ اللهَ فيه) أو (إلا رأيتُ اللهَ أقربَ إليَّ منه) . (27) ويقتدون بصحابتِهِ الكرام {رضي الله عنهم وأرضاهم} فهاهو أبو بكرٍ الصِدّيقُ {رضي الله عنه} يقول ما رأيتُ شيئاً قطُّ إلاّ رأيتُ اللهَ قبلَهُ) . (28) وسُئلَ بِمَ عَرَفْتَ ربَّك ؟ فأجاب عَرَفْتُ رَبِّي بِرَبّي ، ولولا ربّي لما عَرَفْتُ ربّي) (29) وأمّا الفاروقُ عمرُ بنُ الخطّابِ {رضي الله عنه} فإنّه يقول : (ما رأيتُ شيئاً إلاّ رَأيتُ اللهَ فيه) . (30) وأمّا سيّدُنا عُثمانُ ابنُ عفّانَ ، ذو النورين {رضي اللهُ عنه} فيقول ما رأيتُ شيئاً قَطُّ إلاّ رأيتُ اللهَ بعدَهُ) . (31) وسُئلَ سيّدُنا عليٌّ {كرَّم الله وجهَه} بمَ عَرَفتَ ربَّك ؟ فقال : (عَرَفْتُ ربّي بما عَرَّفَني به نفسي ، لا يُدْرَكُ بالحواسِّ ولا يُقاسُ بالناسِ ، قريبٌ في بُعْدِه ، بعيدٌ في قُرْبِهِ ، فوق كلِّ شيءٍ ولا يُقالُ تحتَهُ شيءٌ ، فسبحان مَنْ هو هكذا ولا هكذا غيرُه) . (32)
وبناءً على ذلك يقول ابنُ عطاءِ اللهِ السكندريُّ في إحدى حِكَمـهِ
(فمن رأى الكونَ ولم يشهدْهُ فيه ، أو عندَهُ ، أو قبلَهُ ، أو بعدَهُ فقد أَعْوَزَهُ وُجـودُ الأَنوارِ ، وحُجِبَتْ عنه المعارفُ بِسُحُبِ الآثارِ) . (33) ويقول الإمامُ الجِيليُّ :
اِجْنِ الثمــارَ فإنّمـــــــــــا غُرِستْ لكي تجَنيهــــا
واشربْ من الثغرِ المــــُدا...................... مَ فَخَمْرُ فيها .. فيهـا
وأدِرْ كؤوسَكَ راشـــــــداً رغــمَ الذي يَطويهـــــــا
أَبْدَتْ محَاسنَها سُعــــــــ ..................... ـــادُ فلا تكنْ مُخْفيهــا
ودَعِ اغْتِــرارَك بالسِوى ليسَ السِوى يَدْريهـــــــا وكُلِ اللُّبابةَ وارْمِ بالـــــــ ....................... ـــقِشْرَةِ الذي يُبْديهــــا
ثمَّ فصّلَ الشيخُ الجيليُّ ، في ذلك ،وبيّنَ مصدَرَه ومرجِعَه فقال : ((والاسمُ الظاهرُ في المرتَـبَةِ الرحمانيّةِ هو الرحمنُ ، وهو اسمٌ يَرْجِعُ إلى أسمائِه الذاتيَّة وأَوصافِهِ النَفْسيَّةِ ، وهي سبعةٌ : الحياةُ ، والعلمُ ، والقُدْرَةُ ، والإرادةُ، والكلامُ ، والسمعُ ، والبصرُ ، والأسماء الذاتيّة كالأحديّةِ والواحديّةِ والصَمَديّةِ والعظمةِ والقُدّوسيّةِ وأَمثـالهِا ، ولا يكونُ ذلك إلاّ ــ واختصاصُ هذه المرتبةِ بهذا الاسمِ ــ للرحمةِ الشاملةِ لكلِّ المراتِبِ الخَلْقيَّةِ ، فصارتِ الرحمةُ عامَّةً في جميعِ الموجوداتِ ، مِن الحضرةِ الرحمانيَّةِ ، فأوّلُ رحمةٍ رَحِمَ اللهُ بها الموجوداتِ أَنْ أَوْجَدَ العالَمَ مِنْ نفسِه، قال تعالى : (وسخّرَ لكم ما في السمواتِ وما في الأرضِ جميعاً مِنْهُ) . (34) ولهذا سَرَى ظُهورُهُ في الموجوداتِ فظَهَرَ كمالُهُ في كلِّ جُزءٍ وفَردٍ مِن أَفرادِ وأَجزاءِ العالَمِ ، ولم يتعدّدْ بتعدُّدِ مَظاهِرِهِ ، بل هو واحدٌ في جميعِ تلك المظاهرِ ، أَحَدٌ على ما تَقْتَضيهِ ذاتُهُ الكريمةُ في نفسِها...وسِرُّ هذا السَريانِ أَنْ خَلَقَ العالَمَ من نفسِه ، وهو لا يَتَجَزّأُ فكلُّ شيءٍ مِن العالَمِ هو بكمالِهِ ، واسمُ الخَليقةِ على ذلك الشيءِ بحُكْمِ العارِيَةِ ... فمَثَلُ العالَمِ مَثَلُ الثَلجِ ، والحَقُّ {سُبْحانَه وتَعالى} الماءُ الذي هو أصلُ هذا الثلجِ فاسْمُ تِلْكَ الثَلْجَةِ على ذلك المُنْعَقِدِ مُعارٌ ، واسْمُ المائيَّة عليهِ حَقيقةٌ) . (35) ثمَّ يقولُ في ذلك المعنى نظماً :
ما أنتَ إلاّ واحـــدُ الحُسْنِ الذي
تمَّ الكَمَـــــــــالُ لهُ بِلا نُقصـــــــــانِ
فلئن بَطنْتَ وإنْ ظَهَرْتَ فأنتَ في
ما تَسْتَحِقُّ مِن العُـلا السُبْحــــاني
(36)
وله في نفس المعنى نظمٌ آخر ، يقول :
تجلّيتَ في الأشياءِ حين خَلَقْتَها
فهاهي مِيطَتْ عنكَ فيها البَراقِـــعُ
وما الخلقُ في التِمْثالِ إلاّ كَثَلْجَةٍ
وأَنْتَ بها الماءُ الذي هو نافـــــــــــعُ
ولكن بِذَوْبِ الثلجِ يُرْفَعُ حُكْمُهُ
ويُوضَعُ حُكْمُ الماءِ والأَمـرُ واقــــعُ
تجمَّعتِ الأضدادُ في واحدِ البَها
وفيهِ تَلاشَتْ وهو عَنْهُنَّ سَاطِــعُ
محاسنُ مَن أنشـــــاه ذلك كلّـــــــــــــه
فوحّـدْ ولا تُشركْ بهِ فهـو واسِــعُ
وأَطْلِقْ عِنــــــانَ الحَقِّ في كلِّ ما تَرى
فتلكَ تجليّـــــاتُ مَنْ هو صـانـــعُ
(37)
أمّا ابنُ الفارِضِ {رحمه الله} فإنَّه يقولُ في تائيَّتِهِ الكبرى من ديوانه، مُؤكِّداً هذا المعنى ، ولكن بأسلوبٍ آخرَ :
وسِرُّ جمالٍ منكَ ، كلُّ مَـــــــــلاحــةٍ
بِـــــــــهِ ظَهَــــــــرَتْ للعــالَمينَ فَتَمَّتِ
جَلَتْ في تجلّيها الوُجودَ لنــــــــاظِري
ففي كلِّ مَرْئيٍّ أَراهـــــا بِرُؤيَـــــــــــــة
وطاحَ وُجودي في شُهودي وبِنْتُ عن
وُجودِ شُهـودي ماحِيــــــاً غيرَ مُثْبِتِ
وصَرّحْ بإطلاقِ الجَمـــــــــــــــــالِ ولا تَقُلْ
بِتَقْييـــدِهِ مَيْلاً لِزُخْـــــرُفِ زِينَـــــــــــــةِ
فكلُّ مليــــحٍ حُسنُــــــــهُ من حُسْنِـهــــــــا
مُعـــارٌ لهـا ، بل حُسْنُ كلِّ مليحَــــــــةِ
بها قيسُ لُبْنى هــــــــامَ بلْ كلُّ عاشـــــــقٍ
كَمَجْنونِ ليـــلى أَوْ كُثَيِّرِ عَـــــــــــــــــزَّةِ
وتَظهرُ للعُشّــــــــــــــــــاق في كلِّ مَظْهــــــرٍ
من اللَّبْسِ في أَشكالِ حُسْنٍ بَديعـــــــــةِ
ففي مَـرَّةٍ قَيْســــاً وأُخـرى بُثَيْنَـــــــــــــــــةً
وآوِنَـــــــــــة تُـــدْعى بِعَـــــزَّةَ عَــــــــزَّتِ
وما ذاك إلاّ أنْ بَدَتْ بمظـــــــاهــــــــــــــــرٍ
فَظَنّــوا سِواهــــــــا وهي فيهـــــا تجَلَّـتِ
وما القومُ غيري في هواهـا وإنمـّــــــــــــــــا
ظَهَــرَتْ لهــــم للَّبْسِ في كلِّ هيئـــــــــــةِ
بَدَتْ باحتجـــــابٍ واخْتَفَتْ بمظـــــــاهرٍ
على صِبَـــغِ التَلوينِ في كلِّ بَـــــــــــــرْزَةِ
(38)
يشير إلى ظهور هذا الجمال المطلق وسَريانِه في كلِّ التعيينات الجميلة ، مع بقائه هو على ما هو عليه من الإطلاق ، وهذا الذوقُ هو الذي يكشف ، لمن تحقّقَ به ، أنَّ الوجودَ الواحدَ المطلقَ قد تَعَشَّقَ ذاتَه، وسرى في عين العاشقِ وعين المعشوق ، فهو لُبْنى وبثينةٌ وعَزَّةٌ ، وهو قيسٌ وكثيِّرٌ وجميلٌ . وأنشدوا في هذا المعنى أيضاً :
اللهُ اللهُ ..لا عقـلٌ يُصــــــــــوِّرُهُ والكونُ يُثْبِتُــهُ في سائرِ الصُـوَرِ
والشرعُ يُطلقُهُ وقتاً ويَحْصُرُهُ والوهْــمُ يَعبُدُه في صورةِ البَشَرِ
(39)
وأنشدوا أيضاً في نفس هذا المعنى:
فمَا تَرى عينُ ذي عينٍ سِوى عَدَمٍ
فَصَـــــــحَّ أَنَّ الوُجــودَ المُــــدْرَكَ اللهُ
وما يَـــــــرى اللهَ غــيرُ اللهِ فاعتَبِروا
قَوْلي لِيُعْلَمَ مَنْحــــــــــــاهُ ومَغْــــــزاهُ
(40)
وكان أبو يزيدٍ البَسْطاميُّ {رضي الله عنه} يقول : (الحقُّ عَيْنُ ما ظَهَرَ ، وليس ما ظَهَرَ عَيْنُ الحقِّ) . (41) وقد شبَّهَ أبو الحسنِ الشاذليُّ {رضي الله عنه} الخلقَ بالينابيب التي تَبْدو لِعَيْنِكَ صاعدةً هابطةً في حَرَكَةٍ دائبةٍ ، إذا ما نظرتَ إلى نافِذَةٍ تدخلُ أشعّةُ الشمسِ منها ، يقول : (إياك أنْ تَشهدَ معَ اللهِ خلقّاً ، وإنْ كان لا بُدَّ من شهودكِ لهم ، فاشْهَدْهم كالينابيبِ التي في كُوَّةِ الشَمْسِ ، تَراهم مُتحرّكين صاعدين وهابطين ، وإذا قَبَضْتَ عليهم لم تجدْهم ، مَشهودون في الشُهودِ مفقودون في الوُجود) . (42) ولنا في هذا المعنى :
راودتُ قلبي على السلوانِ فاعتــــــذرا
وقال : ما حيلتي إذْ لم أكُنْ حَجَرا؟
قلبٌ أنا للهـــوى والعشــقِ أوجَــــــــدَهُ
ربُّ الجمَالِ الذي قد أَبْــدعَ الصُوَرا
مَن لَوّن الحُسْنَ إغْراءً لعاشقِــــــــهِ؟
مَنْ ألْهَبَ القلبَ أمْ مَنْ أَطْلَقَ البَصَرا
مَن رَعْرَعَ الوَرْدَ مَزْهُوّاً بوجنتِــــهِ؟
أمْ مَن أَعارَ الدُجا مِن حُسْنِهِ قَمَرا
(43)
وفي هذا المعنى يقول العلاّمة أحمد حيدر : (إنَّ الصِفاتِ الإبداعيَّةَ هي مَظاهرُ أفعالِ اللهِ ، ولا قِوامَ لها إلا بموجدِها) . (44)
وأقوالُ السادةِ الصوفيَّةِ في ذلك أكثر من أن تُحصى ، شعراً كانت أو نثراً، إذ إنَّ مهمّةَ التصوفِ الأولى هي تدريبُ النفس على رؤية الحقِّ {تبارك وتعالى} واحداً في وجوده ، وإزالةُ جميعِ الحُجُبِ عن عين البصيرة لشهودِ وحدانيّتِهِ {جلَّ في علاه } ، يقولُ الإمام الغزالي (رضي الله عنه ) بعد أن سرد حكاية هجر عمله في المدرسة النظامية ببغداد ، والتخفّي والاعتكاف مدّة عامين في مئذنة العروس في الجامع الأمويِّ بدمشق وكان يدعو بهذا الدعاء (اللهم عرّفنـي إليك ودلّنـي على من يدلُّنـي عليك ) يقول : (( فلمّا علِمَ الله {تبارك وتعالى} صدقي دلّنـي على شيخي يوسف النسّاج ، فما زال يصقل مِرآةَ قلبـي حتّى رأيتُ اللهَ {تبارك وتعالى} في المنام ، فقال لي يا أبا حامد دع شواغلك واصحبْ قوماً جعلتُهم في أرضي محلُّ نظري ، فقلتُ : بِعِزّتك إلاّ أذقتنـي بردَ حُسْنِ الظنِّ بهم ، فقال : قد فَعَلتُ )) . (45) فلما استيقظتُ قَصصتُ رؤياي هذه على شيخي يوسف النسّاج فقال لي : يا أبا حامد هذه ألواحُنا في البداية ..) والقصّة بكامل تفاصيلها موجودة في كتابه المسمّى (المنقذ من الضلال) . وهذه هي ثمرةُ التصوّف وغايته ، وهذه هي وظيفةُ الشيخ : أن يسير بك حتى يزجّ بك في أنوار الحضرة الربّانيّة، ثم يقول (ها أنت وربّك) فإذا أصبحت ترى الله متجلّياً في كلِّ شيءٍ حسّاً وشهوداً فقد و صلتَ وكَمُلَ إيمانُك .
يقول أبو يزيدٍ البسطاميّ {رضي الله عنه} : (لـو أنَّ العرشَ وما حواهُ مليون مرَّةٍ في زاويةٍ من زوايا قلب العارف ، ما أحسَّ به) . (46) وكيف يحِسُّ بمخلوق قلب وسع الخالق العظيم ؟! يقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي : (( لم يَسعْنـي أرضي ولا سمائي، ووسعنـي قلب عبدي المؤمن اللّين الوادع )) . (47)
يقول الجنيد {رضي الله عنه} : (إنَّ المُحْدَثَ إذا قُرنَ بالقديمِ لم يبق له أَثَرٌ وقلبٌ يَسَعُ القديمَ كيف يُحِسُّ بالمُحْدَثِ موجوداً ؟!) . (48)
ويقول أبو الحسن الشاذلي {رضي الله عنه} : (إنّا لننظر إلى الله ببصائر الإيمان ، فأغنانا ذلك عن الدليل والبرهان ، وإنّا لا نرى أحداً من الخلق، هل في الوجود أحدٌ سوى الملك الحقّ ؟) . (49) وثمّةَ مقامٌ يسميه العارفون مقامَ جمعِ الجمعِ، يَفنى فيه العبدُ بحضرة ربِّه فناءً كلِّيّاً ، فإذا نظرَ فإلى ربّهِ,وإذا سمعَ فإنما يسمَعُ ربَّهُ وإذا تحرك فبه وهكذا .
يقولُ الشيخُ الأكبرُ {قدّس اللهُ سِرَّه } : (واعلمْ أنَّ كلَّ حُبٍّ لا يحكمُ على صاحبِهِ بحيثُ أنْ يُصِمَّهُ عن كلِّ مسموعٍ ، سِوى ما يَسمَعُ من كلامِ محبوبِهِ ، ويُعْميهِ عن كلِّ مَنْظورٍ ، سوى وَجْهِ محبوبِهِ ، ويُخرسُهُ عن كلِّ كلامٍ إلاّ عن ذكرِ محبوبِهِ وذكرِ مَن يُحِبُّ محبوبُهُ ، ويَخْـتِمُ على قلبِهِ فلا يَدخُلُ فيهِ سوى حُبِّ محبوبِهِ ، وَيرْمي قُفْلَهُ على خِزانَةِ خَيالِهِ فلا يَتَخَيَّلُ سوى صورةِ محبوبِهِ ، إمّا عن رؤْيةٍ تَقَدَّمتْهُ ، وإمّا عن وصْفٍ يُنشئُ مِنْهُ الخيالُ صورةً ، فيكونُ كما قيلَ:
خيالُكَ في عينـي وذكرُك في فمي
ومَثْـواكَ في قـــــلبـي فأين تغيبُ ؟
فبه يسمعُ ولهُ يسمعُ ، وبه يبصرُ ولهُ يبصِرُ ، وبه يتكلَّمُ ولهُ يتكلّم ... ويتابعُ الشيخُ : ولقد بلغَ بي قوَّةُ الخيالِ أنْ كان حُبّي يُجَسِّدُ لي محبوبي من خارجٍ لعينـي كما كان يتجسَّدُ جبريلُ لرسولِ الله {صلّى اللهُ عليه وسلَّم} فلا أقدِرُ أنْظُرَ إليه ، ويخاطبنـي وأُصغي إليهِ وأفهمُ عنهُ ، وقد تركنـي أيّاماً لا أُسيغُ طعاماً، كلَّما قُدِّمتْ لي المائدةُ يَقِفُ على حَرْفِها وينظرُ إليَّ ويقولُ لي بلسانٍ أسمعُهُ بأُذنيَّ : تأكُلُ وأنتَ تُشاهدُني ؟! فأمتنعُ مِن الطعامِ ولا أجدُ جوعاً وأمتلئُ منهُ، وقد سمنتُ وعَبَلْتُ من نظري إليه ، فقامَ لي مقامَ الغذاءِ وكان أصحابي وأهلُ بيتـي يتعجَّبون من سِمَنـي مع عدم الغذاءِ ، لأنّي كنتُ أبقى الأيامَ الكثيرةَ لا أذوقُ ذَواقاً ، ولا أجِدُ جوعاً ولا عطَشاً ، لكنَّه كان لا يبرَحُ نُصْبَ عينـي في قيامي وقعودي وحركتـي وسُكوني .. ثم يضيفُ : واعلم أنَّه لا يستغرقُ الحُبُّ المُحِبَّ كلَّهُ إلاّ إذا كان محبوبَهُ الحقُّ تعالى).
(50)
وقد سمعتُ من شيخِنا ، العارفِ بالله ، المرشدِ الكاملِ ، الشيخ عبد الرحمن الشاغوري {رحمه الله تعالى} : أنَّ هذه الحالُ من السُكْرِ ، أو البُهْتِ ، دامـتْ على الشيخِ الأكبرِ (قُدِّس سِرُّه) ذات مرَّةٍ ستَّةَ أشهُرٍ ، ولمّا أَفاقَ مِنْ سُكْرِهِ سأل مَنْ حولَه إنْ كانوا قد لاحظوا تَغَيُّراً في سلوكِهِ خلالَ هذه الفترة ، فقالوا لاشيءَ سوى أنّهم كانوا ينظرون في عينيْه فيرونهما جامدتين لا تتحرَّكان وقد كان يقوم بأعمالِهِ وواجباتِه المعتادة على أكملِ وجْهٍ ، وذلك لأنّه كان قد حفِظَ اللهَ في صَحْوِهِ فحفِظَهُ في سُكْرِهِ . وإلى هذا الركنِ الركين استندتُ حينمَا قلتُ :
قلبـي لِعِـــــــزِّكَ يخشَـــــــعُ ولكَ الجَـــوارحُ تَخْضَـــــــعُ
يا مَن وَعَتْـــــــهُ مَسـامِعي في كلِّ صَـــــوْتٍ يُسْمَــــــعُ
يا مَنْ رأَتْـــــــهُ بَصــــــيرتي في كلِّ نُـــــــــورٍ يَسْطـــــــعُ
في الشمْسِ إمّـــــــا أَشرَقتْ والبـــــــدرِ إمّــــــــــا يَطْلــــــعُ
في كلِّ وَجْــــــــهٍ مُشْـــــرقٍ نَضِرٍ تَجَـــــــــلّى المُبْـــــــــدِعُ
في الزَهرِ يَبْسِـم للنَـــــــــدى وأَريجُــــــــــــــهُ يَتَضــــــــــوَّعُ
في كلِّ غُصْــــنٍ مُـزْهِـــــــرٍ فـــــوق الرُبا يَتَرَعْـــــــــــــرعُ
في الطَيرِ يَغْــــدو جائعـــــاً ويَـــــــروحُ إمّــــــا يَشْبَــــــــعُ
فَتَــراهُ يَشْـــــدو داعيــــــــــاً فـــــوق الغُصونِ يُرَجِّـــــــــعُ
كلٌّ دَرى تَسْبيحَـــــــــــــــــهُ ولِربِّـــــهِ يَتَضَـــــــــــــــــــــــرَّعُ
(51)
وقلتُ أيضاً في ذات المشهد :
في كلِّ نَفْحَــــــــةِ عِطْــــرِ في كلِّ نَسْمَةِ فَجْـــــــــرِ
في كلِّ وَجْنَـــــــةِ زَهْــــــرٍ في كلِّ بَسمَــةِ بَـــــــدْرِ
في كلِّ لحـــــــنٍ أَثــــــــيرٍ وكلِّ وجْــــــهٍ أَغَـــــــرِّ
منْكَ الجَمَـــــــالُ تَجَـلّى ومهدُ حسْنِكَ صَدْري
* * *
في الطيرِ إنْ راح يَشدو في الغصنِ يَحْنـو عَلَيْـهِ
في الوَرْدِ إنْ ماس يزهو في القلبِ يَهفو إليْــــــهِ
في النهْرِ والمــــاءُ يجري والخيرُ في راحَتيْـــــــهِ
منكَ الجَمَـــــالُ تَجَــلّى ومَهْدُ حُسْنِكَ صَدْري
(52)
قال ابنُ عجيبة (أحسنَ الله إليه): (جمعُ الجمعِ وهو غايةُ المعرفةِ ، فأوّلُ المعرفةِ دِلالةُ الصُنعةِ على الصانِعِ ووسَطُها دِلالةُ الصانعِ على الصنعةِ، وغايتُها تلاشي كلِّ ما دون الحقِّ {كلُّ مَنْ عليها فان * ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجلالِ والإكرامِ}) . (53)
وقال في البحر المديد : ((و للعارفين في هذا مقامان : مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث . فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزّةِ الرحمن ، وسطوات عظمته ، حتى لا يبقى أثرها . ثم قال: ومِن حيث الجمع باشَرَ نورُ الصفةِ نورَ العقلِ ، ونورُ الصفةِ قائمٌ بالذات ، فيتجلّى بنورِه لفعلِه من ذاتِه وصفاتِه ، ثم يتجلّى من الفعلِ ، فترى جميعَ الوجوهِ مرآةَ وجودِه ، وهو ظاهر لكل شيءٍ ، من كل شيءٍ للعمومِ بالفعلِ ، وللخصوصِ بالاسمِ والنَعتِ ، ولخصوصِ الخصوصِ بالصفةِ ، وللقائمين بمشاهدةِ ذاتِه بالذات ، فهو تعالى منزّهٌ عن البيْنونةِ والحلولِ والافتراقِ والاجتماعِ ، وإنما هو ذوقُ العِشْقِ ، ولا يعلم تأويلَه إلاّ العاشقون.
وحاصل كلامه : أنّك إن نظرت للوحدةِ لم يبقَ مَن تَحْصُلُ معه المَعيَّةُ ؛ إذْ لا شيءَ معَه ، وإنْ نظرتَ من حيثُ الجمعِ والفَرْقِ أُثْبِتَ الفرقُ في عينِ الجمعِ فتَحصلُ المَعِيَّةُ منه له جمْعاً ، ومنْه لأَثَرِهِ فَرْقاً ، ولا فرقَ حقيقةً ، فافهم ، ولا يفهم هذا إلاّ أهلُ العشقِ الكاملِ ، وهم أهلُ الفناء )) . (54)
كما قال ابنُ الفارض :
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانيــــــــــــــاً
ولم تَفْنَ ما لم تجْتَــــلِ فيكَ صورتي
(55)
وللشيخ عبد الغني النابلسي{رحمه الله تعالى} في هذا المعنى :
ظهر الوُجودُ بسائرِ الأشياءِ متجلِّياً جَهْراً بغير خَفـاءِ
والكلُّ فيه هالكٌ قد قال إلاّ ..وجهَـــهُ الباقي عظيم بَقـــاءِ
واعلم بأنّك لا ترى منه ســــوى ما أنتَ رائيـــــهِ مِـنَ الأشياءِ
إذْ أنت شيءٌ هــــالكٌ في نُورِهِ والنــورُ يحــرُقُ حلَّـةَ الظَلْمَــــــــاءِ
والفيءُ يكشفُ أَنَّ ثمةَ شاخصاً متحكِّمـــاً فيهِ بغيرِ مِــــــــــــــــراءِ
(56)
إذاً هم ينظرون إلى الخلق بعين الحقِّ ، ولولا إثباتُ الحقّ للخلق بخطابِهِ لهم ما ثَبُتَ عندَهم وجودُ الخلقِ البَتَّةَ ، فعِلَّةُ العِلَلِ عندَهم رؤيةُ الخلق يقول الشَشْتُري {رحمه الله تعالى}:
طهّرِ العينَ بالمدامعِ سَكْباً
من شهودِ السِّوى تَزُلْ كلُّ عِلَّــهْ
ويقول آخر:
والـمَـــــــــــــــرْءُ غفـلتُــهُ عن ربِّـــه جَلَّ , مِن أدْهى المُصيبــــاتِ
ويقولُ ابن الفارض {رحمه الله تعالى }:
إذا أنعمتْ نُعْـــمٌ عليَّ بنظــــــــــــرةٍ
فلا أسعدتْ سُعدى ولا أجملتْ جُمْلُ
وقد صدئت عيني برُؤيةِ غيرِهــــــــــا
ولَثْمُ جُفوني تُرْبَهـــا للصَـــدى يجلــــــو
(57)
يقول الغوث أبو مَدين {قدَّس اللهُ سرِّه }:
وفي السرِّ أسرارٌ دِقــاقٌ لطيفـــــةٌ تُراق دِمانا جَهرةً لو بِها بُحْنـا
أَمّا الإمامُ السُهْرَ وَرْديّ فيقول( رحمه الله) :
بالسرِّ إن باحوا تُباحُ دماؤهـــــم وكذا دماءُ البائحينَ تُبـــــــــــــاحُ
وما أجمل قول نزار قبّاني الذي لم يستطع البوح باسمِ مَن يُحب صراحةً فباح به رمْزاً بصورٍ لا أبدعَ ولا أجملَ ، يقول :
لا تَسْألوني ما اسمُــــــــهُ حبيبـي أخشى عليكم ضَوْعَةَ الطيـوب
واللهِ لو بُحْتُ بأيِّ حَرْفٍ تَكَـدَّسَ اللّيلَكُ في الدُروبِ
ترونهُ في ضِحْكةِ السـواقي وفي عَطاءِ الديمةِ السَكوبِ
في الليلِ في تَنَفُّس المَـــراعي وفي غِنــــــاءِ كلِّ عَنـــــدليبِ
(58)
وهذه الأسرار هي أسرارُ الذاتِ وأنوارُ الصفات التـي تجَلّى الحقُّ بها في مَظْاهرِ الأَكْوان .
وفي هذا المقام قال أبو بكر الصديق {رضي الله عنه } ــ كما سلف أنْ أوردَناــ: (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيتُ الله قبلَه) أمّا أهلُ الحجابِ ، من أهلِ الدليلِ والبرهانِ ، فإنّهم يشهدون الكونَ ولا يشهدون المكوِّنَ ، لأنّهم إنّما يستدلّون على وجودِهِ بوجودِ خلقِهِ ، فقد حُجِبوا عن شموسِ المعارفِ بغيومِ الآثارِ ، لكنْ لا بُدَّ للحسناء من نِقاب ، يقول سيّدي أبو العبّاس المرسي (رضي الله عنه):
وما احتجبَتْ إلاّ بِرفعِ حِجابِها ومِنْ عَجَبٍ أنَّ الظُهورَ تَسَتُّرُ
يقول أميرُ المؤمنينَ عليٌّ {رضي الله عنه}( الحمدُ للهِ المتجلّي لخلقِه بخلقِه) . (59) لأنَّ ذاتَ الحقِّ ، {جلَّ وعَلا} ، لا يمكنُ إدراكُها , فعقلُنا لا يُدرك إلاّ ما تعطيهِ إيّاهُ حَواسُّهُ التـي لا تُحِسُّ إلاّ بالمادةِ المخلوقةِ ، واللهُ ، {سُبْحانَهُ} ، ليس بمادَّةٍ ليُدرَكَ ، ولذلك كان لا بدَّ من أَنْ يَظهرَ لنا في ما صَنَعَ، لأنَّ الصنعةَ تَدُلُّ عل الصانِعِ ، وبها يُعرَفُ ، ونحنُ لا يمكنُ أَنْ نَـتَعَرَّفَ على روحِ إنسانٍ إلاّ مِن خلالِ الجسدِ الذي هو مَظهرُها ، فكيفَ بخالقِها ؟ ويَقول أيضاً {رضي الله عنه وكرّم وجهه } بها تَجلّى صانعُها للعُقول وبها امْتَنَع عن نظر العيون).(60 )
فإن ظَهَرَ الصُوَريُّ فالمَعْنويُّ مُظْهِرٌ له ، وإن ظهرَ المَعْنويُّ فالصُوَريُّ مَظْهَرٌ له . لذلك فإذا تَغَزَّلَ شُعراءُ المتصوِّفَةِ بالجمَال فهم يُمَجِّدونَ اللهَ في جميلِ خَلْقِهِ، وهم بَعيدونَ عن كلِّ مَقْصِدٍ مُخالِفٍ للشرعِ الحَنيفِ ، يقولُ الشيخ أمين الجندي{رحمهُ اللهُ}:
أَميــلُ إلى شكلِ المَليحِ إذا بدا يلوحُ بخَـــدٍّ قَـــــــــدْ شَجاني تَــوَرُّدُهُ
وما مَقْصِدي فِعْلُ القبيحِ وإنَّمــــــا أَرَدْتُ بِذا تَسبيحَ مَن هو مُوجِـدُهُ
وما أنا في ذا الفعلِ باغٍ وإنّمــــــا أُشـاهـدُ صُنـعَ اللهِ ثمَّ أوحِّـــــــــدُهُ
(61)
والجمالُ الإلهيُّ له مَعانٍ وهي الأسماءُ والصفاتُ الإلهيَّةُ ، ولَهُ صورةٌ ، وهي تجليّاتُ تلك المعاني فيما يَقع عليه المحسـوسُ ، أوِ المَعقولُ ، فالمحسوسُ كما في قولِهِ {صلى الله عليه وسلَّم} : ( رأيتُ ربّي في أحسنِ صورةٍ) . (62) وفي إحدى الروايات زاد{ شابّاً أمرداً }.
والمعقول كالحـديث القدسي : ( أنا عندَ ظنِّ عبدي المؤمنِ فلْيَظُنَّ بي ما يشاء) .(63)
يقول محمّــد الراشد : (فحينما يصرخ الصوفيُّ : لا موجودَ إلاّ الله يعنـي ما تَعنيه الفيزياءُ والرياضيّاتُ الحديثة ُ، من كون العالم كحقيقة ، مجرّدُ وَهْمٍ أو شيءٍ منْ هذا القبيل ) . ثمَّ يُضيف : (تُرى ما هي الطاقة ؟ الطاقة تُشكِّل الكون كلّه .. باعتبار كلِّ شيءٍ قابلٌ للتحوُّلِ إلى طاقة ، والعكسُ صحيحٌ بالضرورةِ .. تُرى هل الطاقةُ ذلك الإشعاعُ أوْ التجلّي الإلهي أي ذلك الصدورُ للذاتِ الإلهيَّة ؟) . (64)
و في الختام لا بدّ من : ( أنْ أُنَبِّهَ إلى أمرٍ غاية في الأهميّة ، وهو أنّ كلّ الذين درسوا الشعر الصوفي وغزل المتصوفة ، قد اتخذوا التأويل منهجاً لفهم تَغَزُّلِ شعراءِ السادةِ الصوفيَّةِ بالمرأَةِ ، فعوَّلوا ـ أحياناً ـ على رُموزٍ ما أظنُّها خَطَرَتْ ببالِ هؤلاءِ الشُعراء وهم يبدعون قصائدهم معبرين عن مواجدهم ، ومترجمين أشواقهم وأحوالهم التـي مرّوا بها وهم يرتقون في مدارج الكمال .
فالأمر بسيطٌ جداً لا يحتاج منّا كلَّ هذا التعقيد ، لأنّ الصوفيَّ الحَقَّ إنّما يَنظرُ إلى المخلوقاتِ جميعاً على أَنّها صُنعَةُ الخالقِ { سبحانه } التـي أبدعَها لتكونَ مظاهرَ تَجلّيهِ وسبيلَ معرفتِهِ ، لأنّه يَستحيلُ على الحادثِ العاجزِ أَنْ يَعرِفَ حقيقةَ القديمِ المُطلَقِ (لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وهو يُدركُ الأبصارَ وهو اللطيفُ الخبير). (65)
فاقتضتِ الحكمةُ أنْ يَتَجلّى القديمُ في الحادثِ ، والمطلقُ في المحدودِ ، لتَظهَرَ عليه صِفاتُهُ {جلَّ وعلا } إنّما بشكلٍ مَجازيٍّ . فأنْتَ تُوصَفُ بالعِلْمِ ، والعِلْمُ من صِفاتِهِ { تبارك وتعالى } ، كما أنّكَ تُوصَفُ بالقُدْرَةِ والإرادةِ والحياةِ والسمعِ والرحمةِ والجَمالِ والجَلالِ ..كلُّها صفاتُهُ (جَلَّ في عُلاهُ) ولكن أين صِفاتُك الحادثةُ الفانيَةُ المحدودةُ من صفاتِهِ القديمةِ الباقيةِ المُطلَقَةِ ؟ (خَلَقَ اللهُ آدمَ على صُورَتِهِ ) . أي مِثالاً ومَظهراً لصفاتِهِ فالكَوْنُ ، كلُّ الكونِ، والمخلوقاتُ ، جميعُ المخلوقاتِ ، قائمةٌ بقَيوميَّتِهِ ، ظاهرةٌ فيها صفاتُهُ ساريةٌ فيها أسماؤهُ وأفعالُهُ ، فبها نَعرِفُهُ وتلك هي الغايةُ من خلقِناوما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا ليَعْبُدون). (66) والمعرفةُ قِمَّةُ العِبادةِ لأنَّ العبادةَ بدونِها جِسْمٌ لا روحَ فيه.
جاء في الحديثِ القُدسيِّ ( كنتُ كنزاً مَخْفِيّاً فأحببتُ أنْ أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ وتعرَّفْتُ إليهم فبـي عَرَفوني ).(67)
لذلك أقسم سيد الطائفتن الجنيد { قدس سره } بأنه ( ما عرف الله إلا الله).( 68 ) لأنّ العارفَ به {سبحانه} إنّما هو السِرُّ الإلهيُّ الذي أَوْدَعَهُ في خلقِهِ ، فما (عَرَفَ اللهَ إلاّ اللهُ) .
أمّا الذاتُ الإلهيَّةُ فمِنَ المُستحيلِ إدْراكُها . ألم تَرَ إلى سيدِنا موسى {عليه السلام} عندما طَلَبَ النَظَرَ إليه {سبحانَه} كيف أُجيبَ بـ (لن تراني). (69) وَوُجِّهَ إلى الجبلِ ليَنْظُرَ إليهِ حيثُ ظَهَرَ عليهِ التَجَلّي الإلهيِّ .
قال في عرائس البيان كان موسى {عليه السلام} في بداية حاله في مقام العشق والمحبة وكان أكثر أحوال مكاشفته في مقام الالتباس ، فلما كان بدو كشفه جعل تعالى الشجرة والنار مرآة فعليّة فتجلى بجلاله وجماله من ذاته لموسى ، وأوقعه في رسوم الإنسانية حتى لا يفزع ويدنو من النار والشجرة ، ثم ناداه فيها بعد أن كاشف له مشاهدةَ جلالِه ، ولولا ذلك لفني موسى في أوّل سَطوات عظمتِه وعزّتِه .
وهكذا نَرى الحقَّ ـ {جلّ وعلا} يُرْشِدُنا إلى ما باسْتِطاعَتِنا إدراكُهُ للنَنظُرَ فيه فَنُدرِكَ عَظَمَةَ الخالقِ بعظمةِ صُنْعِهِ فنتعرّفَ عليه بها لأنَّ عَظَمةَ الصنعةِ خيرُ دليلٍ على عظمةِ الصانع (أفَلا يَنظرون إلى الإبِلِ كيف خُلِقَتْ ، وإلى السَمَــاءِ كيف رُفِعَتْ ، وإلى الجبالِ كيف نُصِبَتْ ، وإلى الأرضِ كيف سُطِحَتْ )) . (70)
كما وصف{سبحانه} عبادَهُ وخاصَّتَهُ مِنْ خَلْقِه في مُحكَمِ كتابِهِ بقولِهِ (الذين يَذْكرون اللهَ قِياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِهمْ ويَتَفَكّرون في خَلقِ السَمَواتِ والأرضِ، ربَّنا ما خلَقتَ هذا باطلاً سبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النار ).(71)
ولم يَقُلْ ويَتفكرون في خالقِ السمواتِ والأرضِ ، لأنَّ عقولَنا مَجالهُا الحِسّيُّ المَلموسُ ، ويَستحيلُ عليها مَعرِفةُ المُطلَقِ الذي تَستحيلُ الإحاطةُ به ، وإنّما نَعرفُهُ مِن صِفاتِهِ وأفعالِهِ ، الظاهرُ في خَلْقِهِ ظِلُّها ومِثالُها .
والمرأةُ هي إحْدى هذه المَجالي،بلْ أكثرُها جَذْباً،لأنّها السالبُ لموجِبِهم ، وتلكَ هي العلاقةُ التي قام عليها الوجودُ كلُّهُ (سالبٌ ومُوجِبٌ) .
فالذي يشدّ الكواكبَ والأجرامَ السَـمَاوِيَّةَ ــ بعضَها إلى بعضِها الآخر ــ هي الشُحناتُ السالِبَةُ والمُوجِبَةُ ، والسالبُ والمُوجِبُ ، أَوِ المُذَكّرُ والمُؤنّثُ ، هو سِرُّ استمرارِ الحياةِ في الكائنات الحيَّةِ جميعاً ، حتّى الذرّةُ ــ أصغرُ المَوْجوداتِ ــ فالسالبُ والمُوجِبُ سِرُّ وُجودِها وأساسُ حياتِها , والدمارُ والخرابُ إنّما يكون باختلالِ هذه العلاقةِ الجاذبيّةِ وبتدميرِها .
بعدُ ، لا بُدَّ لنا من التَنْبيهِ إلى الفرقِ الأساسيِّ بين غَزَلِ الصوفيّينَ وغَزَلِ غيرِهم ، وهذا الفارقُ هو نَفْسُهُ ما بين نَظرةِ كلٍّ منهم إلى الوُجودِ .
فالصُوفيُّ يَنظُرُ إلى المَوْجوداتِ على أنّها مَظْهَرُ تَجليّاتِ الحقِّ {سبحانه} فتكون سبيلَهُ إلى التعرُّفِ بخالقِهِ ، أوْ هَـمْـزةَ الوصْلِ بينَه وبين خالقِه {جَلَّ سَناؤهُ} بينـمَــا يَقفُ غيرُهُ عندَ هذه المَظاهرِ ، ثـمَّ إنّهُ ثمَّة حدودٌ شَرعيّةٌ يَلتزم بها، ويَقِفُ عندها بينـمَــا قــد يَتعدّاها غيرُهُ ) (72) .
وقبل أن نختم هذا الباب نحب أن نعود إلى حديثخلق الله آدم على صورته) لنقف على ما جاء في سفر التكوين من التوراة الحاليّة حيث جاء فيهوقال الله : لنصنع الإنسانَ على صورتنا كمثالنا و ليتسلط على أسماك البحر و طيور السماء و البهائم و جميع وحوش الأر
مواضيع مماثلة
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الثالث)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الرابع)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الخامس /1/)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الخامس /2/)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب السادس)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الرابع)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الخامس /1/)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الخامس /2/)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب السادس)
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود