المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الرابع)
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الرابع)
الباب الرابع:
نظرة الصوفيين إلى المرأة :
ينظرُ السادةُ الصوفيّون إلى المرأةِ كما نظرَ إليها الإسلامُ الحنيف ، وكيف لا وهم أشدُّ الناسِ تمسُّكاً به والتزاماً بتعاليمِهِ ، ظاهراً وباطناً ؟. فهي عندَهم الأمُّ والأُختُ والزوجُ والبنت .. الخ وهي نصفُ المجتمعِ الفاعلُ في بِناءِ الأُسْرةِ والمجتمعِ ، وهي بعضُ الرجلِ الذي لا غِنى له عنه البتَّةَ ، ولذلك فهو دائمُ الحنينِ إليها لأنها أمّهُ التـي وَلَدتْه ، وفي أحشائها تكوَّن ، وفي حِجْرها تربّى ، وفي كنفها نَشَأ وتَرعرعَ . غمرتُه بعطفِها وحنانها ، وحَجَبتْ عنه الأذى وغَذَتْه بلِبانَ صَدْرِها ، وعَلَّمتْه وأَعَدَّتْه لِيَشُقَّ طريقَهُ في الحياةِ ، و في ذلك أَقول :
منكِ ابْتُديتُ وأُسكِنْتُ الحَشا وعلى
دَقّاتِ قلبِكِ غَنّى للجَمَال فَمِي (1)
وهي معشوقـتُهُ ومَصدرُ وَحْيِهِ وإلهامِهِ ، وبها يَكونُ التجلّي الأكملُ للجمالِ ، الجمال الذي قال فيه سُقراط : ((سبب الجمال حبّ النفع)) . (2) وقال فيه أفلاطون : (( الجمال أمرٌ إلهيٌّ أزليٌّ موجودٌ فِي عالم العقل غير قابل للتغير ، قد تمتعت الأرواح به قبل هبوطها إلى الأجسام فلمّا نزلت إلى الأجسام صارت مهما رأت شيئاً على مِثال ما عهِدته في العوالم العقلية وهي عالم المِثال مَالت إليه لأنّه مألوفها من قبل هبوطها)) . (3) وذهب الطبائعيون إلى أنّ الجمال شيء ينشأ عندنا عن الإحساسِ بالحواس .
فالجمالُ مَوجودٌ في الطبيعةِ كلِّها ، لكنَّهُ في المرأةِ أَجْلى وأَوضح ، لأنَّ الإنسانَ أكملُ المخلوقاتِ ، وهو بُغيةُ اللهِ مِنَ الخلقِ ، ففيه التَجَلّي الأكملُ وإليْهِ التوجُّهُ الأتمّ ، وإذا كانت تجليّاتُ الجَلالِ مُتوجِّهةً إلى الرجلِ ، فإنَّ التجليّاتِ الجَمَــاليَّة ، في المرأةِ أتمُّ وأَعَمُّ ، وبها تعذُبُ الحياةُ وتُذلَّلُ صعابُها ويحلو مُرُّ ها ، ولي مِن الشِعرِ في هذا المعنى أيضاً الآتي :
بكِ توَّجَ اللهُ الجَمـــالَ ، بِكِ انْجلى
حُسْنُ القديـــمِ بروعـــــــــــةِ التَلْوينِ
بك صارت الدُنيا أَحَبَّ لمُهجتـي
من جَنَّـــةِ المــــــأْوى مَــــراحِ العِـــينِ
أشقى ..وما أحلى الشقاءَ مع الهوى
إنْ كان منكِ ، مِنَ المنى يُـــدْنينـي
حَـــــــوّاءُ مـا أَدْنا إلى نَفْسي ومـــــــــا
أَنْدى عــلى قلبـي نِـــداءَ التــــــــينِ
بك جمَّلَ الله الوجـــودَ ولو خــــــــلا
مـن مُغْرِياتِكِ ما اشتهتْــــهُ عُيوني
وهي بعد ذلك متمِّمتـي فهي ظاهرُ {كُن} وأَنا باطنُها :
أنا كافُ {كُنْ} والنونُ أنت فمن أنا؟
من أنتِ ؟ يا كَنْزَ النَـدى المكنــونِ
(4)
إذاً فهي نصفُ الكون وأنا نصفُهُ الآخرُ قبلَ أنْ يُظهِرَ اللهُ هذه الموجودات إلى حَيِّزِ الوجود ، أرأيتَ إذا أردتَ أَنْ تَبنـي بيتاً ــ مهما كان هذا البيتُ صغيراً وبسيطاً ــ فإنّكَ تُكلِّفُ مكتباً هندسيّاً لِيُعِدَّ لك مخطّطاً تفصيليّاً لهذا المنزلِ يبيّنُ كلَّ صغيرة وكبيرةٍ فيه ، من غرفة للاستقبالِ وأخرى للجلوس وأخرى للطعام ...إلخ حتى مكان صنبورِ المياه يكون محدّداً على ذلك المخطّط ، وإذا لم تكلِّف مكتباً مـتَخصّصاً بذلك ، لبساطة البناءِ ، فإنَّ ذلك كلَّه يكون حاضراً في ذهنك ــ على الأقلِّ ــ قبل أنْ تباشرَ العمل في البناء ، مع وضوحٍ تامٍّ في الغايةِ والقصدِ من هذا البناء ، فكيفَ إذا كان البناءُ هو هذا الكونُ العظيمُ ؟ وكيف إذا كان بانيه ومهندسُهُ ومصمّمُهُ ومُبْرِزُهُ إلى حَيِّز ِالوُجودِ هو الإلهُ العظيم ؟ أفيُعْقَلُ أنْ يُباشِرَ البناءَ هكذا اعتباطاً ، دون وضوحٍ في القصدِ والرؤية ؟ حاشا للهِ ، تعالى اللهُ عن ذلك علوّاً كبيراً .
وطالما أنّ الهدفَ من خلقِ الكونِ أنْ يوجدَ فيه من يعرفُ الله ، للحديث الذي سبق إيراده (كنتُ كنزاً مَخفيّاً فأحببتُ أنْ أُعرف ..)). (5) وللآية الكريمـة التي سبق أن استشهدنا بها أيضاً : ((وما خلقتُ الإنسَ والجنَّ إلاّ ليعبُدون )) . (6) وطالما أنَّ الموجود الوحيدَ المؤهَّلَ لهذه المعرفةِ هو الإنسانُ ، بما ميّزه اللهُ به مِن نِعمةِ العقلِ ، وهو الذي أهَّلَه لحملِ الأمانةِ التـي عرضها اللهُ {سبحانه} على السموات والأرضِ والجبالِ فأبَيْنَ أنْ يحمِلْنَها وحملَها الإنسانُ، أمانة خِلافَةِ اللهِ في الأرض، ولذلك فإنَّ كلَّ مخلوقٍ في هذا الوجودِ إنّما وُجِدَ لخِدمةِ هذه الغايةِ ولتحقيق ِهذا الهدفِ ، وبالتالي ، من أجلِ هذا الإنسانِ الذي هو الرجُلُ والمرأةُ .
إذاً فالرجلُ كان حاضراً دائماً في كاف {كن} والمرأةُ كانت حاضرةً في نونِها ولذلك أتابعُ فأقول :
أنا شَطْرُ هـذا الكون قبلَ وُجودِهِ والشّطْرُ أنتِ وأنتِ ماءُ مَعيني (7)
ولا سُكون للرجلِ ولا سَكينةَ إلاّ بها ومعها ، ولا وصلَ لهُ ولا عُروجَ إلاّ بها.
يقو الأستاذُ محمّد الراشد:{اعتَبَرَ ابنُ عربي أَنَّ أتمَّ شُهودٍ للحقِّ وأكملَهُ يَتِمُّ في المرأةِ} . (
أقولُ : ذلك لأنَّ الرجلَ يُشاهِدُ الحقَّ في نفسِهِ ، وحَظُّهُ أَوْفَرُ مِن التجليّاتِ الجلاليَّة ، ويُشاهِدُهُ ، في المَرأةِ أيضاً ، ولها الحظُّ الأوفى من التجليّاتِ الجماليّةِ , وبذلك يكون شهودُ الحقِّ فيها أكملَ من سواها.
ونظرةُ الصوفيِّ إلى المرأةِ نظرةُ قداسةٍ لأنَّ الحُبَّ مقدَّسٌ عندَه ، لذلك فهي عنده محبوبةٌ محترمةٌ مقدَّرةٌ .
يذكرُ الشيخُ محي الدين {رضي الله عنه} في مقدّمة ديوانِهِ {ترجمان الأشواق} أنّه عندما نَزَلَ مَكَّةَ المكرَّمَةَ عام/598/ للهجرة النبويّة الشريفة ، لقيَ فيها العالِمَ الإمامَ زاهرَ بنَ رُستُمٍ الأصفهانيَّ ، وأختَهُ شيخةَ الحجازِ ، فسمِع عليه كتابَ الترمذي {رحمه الله} وأجازَهُ به ، وطلب أن يسمعَ مِن أُختِه فاعْتذَرَتْ لمرَضِها وكِبَرِ سِنِّها ، وطلبتْ من أَخيها أَنْ يكتبَ للشيخِ محي الدين إجازةً عنها ، فكتب له ، وكان للعالِمِ الأصفهانيِّ بِنْتٌ عالِمَةٌ أيضاً ، يَصِفُها الشيخُ بقولِه ((بِنتٌ عذراءُ ، طَفيلَةٌ هيفاءُ ، تُقَيِّدُ النَظَرَ ، وتُزيّنُ المَحاضِرَ والمُحاضِرَ ، وتُحَيِّرُ المَناظِرُ.. ، من العابداتِ العالِماتِ السايحاتِ الزاهدات.. ، شَيْخَةُ الحرمين ..ساحرةُ الطَرْفِ عِراقيَّةُ الظَرفِ ، إِنْ أَسْهَبَتْ أَتْعَبَتْ ، وإنْ أَوْجَزَتْ أَعْجَزَتْ ، وإنْ أَفْصَحَتْ أَوْضَحَتْ ... ولولا النفوسُ الضَعيفةُ السَريعَةُ الأمْراضِ ، السيّئةُ الأغراضِ ، لأَخَذْتُ في شرحِ ما أَوْدَعَ اللهُ تعالى في خَلْقِها مِن الحُسْنِ ، وفي خُلُقِها الذي هُو رَوْضَةُ المُزْنِ شمسٌ بين العلماءِ ، رَوْضَةٌ بين الأُدَباءِ ، ..يَتيمةُ دَهرِها ، كريمةُ عَصرِها ..وبيتُها مِن العينِ السوادُ ومِن الصَدْرِ الفؤادُ . أَشْرَقَتْ بها تُهامةْ ، وفتّحَ الروضُ ، لمجاوَرَتِها ، أَكْمامَهْ ، فنَمّتْ أعرافُ المعارِفِ ، بما تحملُه من الرقائقِ واللّطائفِ . فراعينا بصُحْبَتِها كريمَ ذاِتها معَ ما انْضـافَ إلى ذلك من صحبةِ العَمَّةِ والوالدِ ، فقلّدْناها مِن نَظْمِنا في هذا الكتابِ أَحْسَنَ القلائدِ بلسانِ النَسيبِ الرائقِ ، وعباراتِ الغَزَلِ اللائقِ ، ولم أَبلُغْ في ذلك بعضَ ما تجدُه ُالنفسُ ، ويُثيرُهُ الأُنْسُ ، من كريمِ وِدِّها ، وقديمِ عهدِها، ولَطافَةِ مَعْناها ، وطَهارَةِ مَغْناها ، إذْ هي السؤالُ والمأمول ، والعذراءُ البتولُ ولكنْ نَظَمْنا فيها بعضَ خواطِرِ الاشتياقِ ، من تلك الذَخائرِ الأَعلاقِ ، فأعربَتُ عن نَفْسٍ تَوّاقَةٍ ، ونَـبَّهتُ على ما عندنا ِمن العلاقةِ ، اهْتِماماً بالأمرِ القديمِ ، وإيثاراً لمجلِسِها الكريم ، فكلُّ اسْمٍ أَذْكُرُهُ في هذا الجُزْءِ فعَنْها أُكَنِّي ، وكلُّ دارٍ أَنْدُبُها فدارَها أَعْنـي ، ولم أزَلْ فيما نَظَمْتُهُ في هـذا الجزْءِ على الإيماءِ إلى الوارداتِ الإلهيَّة ، والتنَزُّلاتِ الروحانيّة ، والمناسباتِ العُلْويَّة ، جَرْياً على طريقتِنا المُثلى ، فإنَّ الآخرةَ خيرٌ لنا من الأولى ، ولِعِلْمِها {رضي الله عنها} ، بما أُشيرُ إليه .. واللهُ يَعْصِمُ قارئَ هذا الديوان من سَبْقِ خاطرِهِ إلى ما لا يليقُ بالنُفوسِ الأبيَّةِ ، والهِمَمِ العَلِيَّةِ ، المتعلِّقةِ بالأمورِ السَماويَّة)) . (9) وقد قلتُ في قصيدة عنوانُها{حانةُ الروح} منبِّهاً إلى مكانة المرأةِ في الوجود ومكانتها في نفس الرجل :
يا حانَةَ الروحِ في صَحْوي وفي حُلُمِـي
أَنْخابُ عِشقِك تَسْري نَشْـــــــوةً بِدَمي
لا تَسْـــأَلينـي الهـوى ما خافقي بيــدي
قلبـي على وردَتَيْ تُفّـــاحتَيْـــــكِ رُمي
لم يُبقِ لحظُكِ منّي غــــــــــــيرَ مُسْتَلَبٍ
إلاّ على رَوْضِكِ الفَتَّـــــــانِ لم يَهِـــــــــــمِ
مَن أنتِ ؟ صانِعَتـي من لهفــــةٍ ورُؤى
مَنْ أنتِ ؟يا لوحيَ المحفـوظَ..يا قَلَمِي
سِرٌّ مِن اللهِ حَــــــلَّ الطــينَ فارتَعَشتْ
أَوْصـالُــهُ وسَرى الإحســــــاسُ في الأَدَمِ
حَبّاتُ تُرْبٍ بمــــاءِ اللطفِ قد جُبِلتْ
للحُبِّ ، للحُــزنِ ، للأشــــــــــواقِ للألم
فيها انطوى سِرُّ هذا الكونِ واختُصِرتْ
كلُّ العَــوالِـــــمِ مِن نُورٍ ومِن ظُلَــــــــــــــــــمِ
حتى استَحَقَّت سُجودَ العـالمَــينَ بمــــــا
أَبْدى بها اللهُ مِن عِلــــــمٍ ومِن حِكَــــــمِ
أنتِ الخليفةُ ، فالنَّعْمَـــــــاءُ قد كَمُـلَتْ
والعقــــلُ أعظَـمُ ما أُوتيتِ مِن نِعَــــــــمِ
في جِسمِكِ البَضِّ أخْفى اللهُ قُدرَتَـــهُ
فـَقَدَّرَ الخلـقَ والتَكويـنَ في الرَّحِــــــــــــمِ
وأَبدعَ النَهدَ ، وافْتَنَّ الإلــــــــهُ بِــــــــــــهِ
فأَودَعَ اللَّـــبنَ المَعسـولَ في الحَـــلَــــــــــــمِ
في كلِّ عِطفٍ تَبَدَّى حُسنُ صَنعتِــــــــــــهِ
وازَّخرَفَتْ جَنَّــــــــــــةٌ مخْمُورةُ النَّسَــمِ
يا نَبْعَــةَ الخلـقِ ، جَـلَّ اللهُ مُبْـدِعُهــــــا
يا آيةً صاغَها الرحمنُ مِن عَــــــــــدَمِ
منكِ ابْتُدِيتُ وأُسكِنْتُ الحَشـــــا وعلى
دَقَّاتِ قلبِكِ غَنَّى للجَمَـــــــــــــالِ فَمِي
أنتِ الحَنــانُ وقـــد أُرْضِعْتُــهُ لَبَنــــــــــاً
والعطفُ واللطُّفُ مِن مَكْنونِكِ الرَّخِمِ
ديباجُ صَـدرِكِ مَهْـدي ما أَحَبَّ ومـــا
أَهْنــا وما أَسْعَــــــدَ الأَحْـــــلامَ إِنْ أَنَمِ
قد كُنْتِ في جَنَّـــــــــةِ الأَرواحِ سَوْسَنَتي
فوَّاحَـــــــةَ العِطْرِ فيهــا سَـكرةُ القِدَمِ
ثُمَّ افْتَرَقْنا ، تُرى يا حُبُّ تجَمَعُنــــــا؟
وا لَهْفَ نفسي وهل تحَيــا بها رِمَمي ؟
(10)
قلْ لي ، بر بِّــكَ ، هل سمعتَ شعراً أو نَـثراً أو فكراً يفي المرأةَ حقَّها ، مثل ما تقدّم ؟ وهل نظر أحدٌ إلى حقيقتِها كما نَظَرَ إليها الصوفيّون ؟ وهل أَنْصَفَها نظامٌ أو دينٌ كما أَنْصفها الدينُ الإسلامي الحنيف ؟ أولم يأمر الله {سبحانه} في قرآنه العظيم بحسن معاملتهن إذ يقول فيما يتعلق بحسن معاشرة المرأة الزوج : ((.. وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً )) .(11) والمعاشرة بالمعروف تعني حسن الخلق مع العيال فيما ساءك ، وقال : ابن المبارك ( العشرة الصحيحة ، ما لا يورثك الندم عاجلاً ولا آجلاً )) . (12) (( فإن كرهتموهن فاصبروا فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا)) إمّا ولدًا صالحًا أو عاقبة حسنة في الدين. قال ابن عمر {رضي الله عنهما}: إن الرجل يستخير الله فيُخارُ له فيسخط على ربه ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خُيِرَ له )) . (13)
وحكي أنّ أبا الإمام مالك رضي الله عنه تزوج امرأة فدخل عليها فوجدها سوداء ، فبقي متفكرًا ولم يقربها ، فقالت له : هل استخرت ربك ؟ فقال : نعم ، فقالت : أتَتَّهمُ ربك ، فدخل بها ، فحملت بالإمام مالك (رضي الله عنه ) صاحب المذهب المعروف ، فأيُّ خير كان !
وقد جعل الرسولُ الكريم {عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم} حسن معاملة المرأة من مكارم الأخلاق وسوء معاملتها دليلاً على اللؤم وسوء الخلق حيث قال : ((النساء شقائق الرجال، ما أكرمهن إلاّ كريم، وما أهانهن إلاّ لئيم)) . (14) كما جعل مقياس القرب منه يوم القيامة هو لطف الرجل بأهل بيته ، فقال {عليه الصلاة والسلام} : ((أقربكم منـي مجالساً يوم القيامة ، ألطفكم بأهله)) . (15) وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة {رضي الله عنه } أنّ رسول الله {صلى الله عليه وسلم } قال ( لا يَفْرك مؤمنٌ مَؤمنة ـ أي : لا يُبْغِضها ـ إنْ سَخِطَ منها خُلقَا رضي منها آخر )) . (16) وقد قيل : غيّبَ عنك العواقب ؛ لئلا تسكن إلى مألوف ، ولا تفرَّ من مكروه .
وكان لسيّدنا الحسن بن عليٍّ زوجٌ من بنـي تَيْم صعبة المراس ــ يقال أنّ هذا كان شأن نساء بني تيم ــ فطلَّقها وله منها بنت ، فتزوّجها أخوه الحسين (رضي الله عنه وعنهم جميعاً) ليكفلَها وابنتَها ، فتحمّل منها الكثيرَ حتى إنّها ربّما حملت منه ووضعت وهي لا تكلمُه ، كما تقول ابنتُه السيدة سُكينة {رضي الله عنها وأرضاها} إذاً يقول الحقّ {جلّ جلاله} آمراً الرجال بمعاشرة النساء {بالمعروف} بأن يلاطفوهن في المقال ويجمُلوا معهن في الفعال ، ويتزيّنوا لهنّ كما يتزيّنَّ لهم . ليكونوا بمعاشرتهن في مقام الأنس وروح المحبة ، وفرح العشق حيث أنهم مخصّوصون بالتمكين والاستقامة والولاية ، فإن معاشرة النساء لا تليق إلاّ بالمستأنس بالله ، كالنبـي {صلى الله عليه وسلم }وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال ، حيث أخبر {صلى الله عليه وسلم} عن كمال مقام أُنْسِه بالله ورؤيته لجمال مشاهدته فقال : ((حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثَلاث : الطيب ، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة)) . (17)
قال ذو النون المصري (المستأنس بالله يستأنس بكلِّ شيءٍ مليحٍ ووجه صبيح ، وبكلّ صوت طيّبٍ وبكلِّ رائحةٍ طيّبةٍ)) . (18)
وجاء في تفسير حقي في معرض الكلام حول هذا الحديث : ((حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثلاث: الطيبُ والنساء وجعلت قرّةُ عينـي في الصلاة )) قوله : ((فهذا العشق والمحبّة إنمّا يكون لأصحاب النفوس القدسيّة وهم يطالعون في كلَّ شيءٍ ما لا يطالعه غيرهم)) . (19) ونحن في ذلك كلِّه إنّما نقتدي بسيِّدِنا رسولِ اللهِ {عليه وآله الصلاة والسلام}ونَشْرَبُ مِن مَعينِه الثَرِّ الصافي العذبِ . فقولُه : ((حُبِّبَ إليَّ النِساءُ)) إشارةٌ إلى الذاتِ ، ولا خَفاءَ ، لأنَّ المرأة َمخلوقةٌ من ضِلْعِ الرجلِ ، وضِلعُهُ ذاتُهُ بلا خُلْفٍ ، وبلا جُحْدانٍ ، والذات محبوبةٌ بالطبعِ لكلِّ واحدٍ ، تأسيساً، بمحبّةِ الواحدِ الأَحَدِ ، ولِذلك صَحَّ لمحمّدٍ{صلى الله عليه وسلّم} استيعابُ الكَمَالاتِ مِن سائرِ الجهاتِ ، ففاز بكمالاتِ الوُجودِ الخَلْقيِّ ، فإنْ كنتَ مُؤمناً فأنتَ منهُ لقولِه {صلى الله عليه وسلّم } : (( أنا من الله والمؤمنون منـي)) . (20) . فلا تخرجْ عنْهُ . اِطْلُبْ مَطلوبَهُ ، وارْغَبْ مَرْغوبَـهُ ، وأَحْبِبْ محبوبَهُ ، تَشْربْ مَشْروبَـه : ((لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حَسَنَةٌ لمن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخرَ وذكر اللهَ كثيراً .. {21})) . (22)
يقول الأستاذ : محمد الراشد في كتابه ، نظريَّةُ الحبِّ والاتّحاد في التصوّف الإسلامي : ((لكنّما معظم المتصوِّفة كانوا يُسْقِطون عِشْقَهم الأبديَّ هذا على الأنثى الرمزِ .. لا الأنْـثى الواقعِ ، الأنثى التي دخلتَ محرابَ القداسةِ والطُهرِ والتَعالي)) . (23)
ولمولانا جلال الدين الرومي في مَثْنَويّاتهِ قولٌ كريمٌ في المرأة يُبينُ
عن نظرتِهُ إلى المرأَةِ ، ويُظهرُ تعظيمَه لمكانتِها وهو مندرجٌ في هذا
الإطار ، يقولُ:
المرأةُ شعاعٌ من النورِ الأقــــــدسِ
وليستْ بغرضٍ للرغبَــةِ الجِنْسيَّةِ
لذا يجبُ أن يُقالَ هي خـالقـــــــةٌ . (24)
وكذلك ابنُ الفارضِ {رحمه الله }، فقد غَدا عندَه الجمالُ البَشريّ المتَجسِّدُ في المرأةِ بمثابةِ تَعيينٍ للإلهيِّ ، يقول في تائيّته :
وصرّحْ بإطلاقِ الجمالِ ولا تَقُلْ
بتقييدِه ميْلاً لزخرُفِ زينــــــــةِ
فكلُّ مليحٍ حسنُه من جمالهـــا
مُعارٌ لهـا بل حُسنُ كلِّ مليحــة
(25)
فالكلُّ يَعْشَقُ المرأةَ على أنّها رمزُ الأنوثةِ ، لكنَّ الصوفيَّ لا يقفُ
عندَ الصورةَ ، كما هو حـالُ غيرِهِ ، وإنّما يَتعـدّاهُ إلى الروح والمعنى ،
فمن ذلك قولي :
أَبحرتُ في عينيكِ أَسْتَجْلي الذي
خلفَ الجفون ورَفَّـةِ الأجفـــــانِ
فكشفتُ أسراراً وجُبْتُ عوالمـــــاً
جَلَّت عن الأسمــــــــــاء والألوانِ
(26)
فنحن إنّما نتعشّق الجمالَ المطلق ، حيثما لاح هذا الجمال ، متعالين على التعيينات الجزئيَّة ، والصُورِ الحسيَّة ، حيث لم نَرَ في ليلى وعَزَّةَ وسعادَ وبثينَةَ وغيرِهن سوى مَن نحبُّ لأنَّ المحبوبَ هو المتجلي في هذه الصورِ جميعاً . وهنا نجدُ أنْ لا بأسَ بالتذكيرِ بأنَّ ابنَ الفارضِ كان يَعشقُ امرأةً ، قيل إنَّ اسمَها وِصالٌ ، فكانت السببَ في تعلُّقِه بالحقِّ {جَلَّ وعَلا} فقد أوصلَهُ حبُّهُ القويُّ لها إلى التجريدِ وحُبِّ المطلقِ المتَجلي فيها وفي سواها ، ويُقالُ بأنّه أَجابها عندما طلبتْه لنفسِها : يا وِصال لقد كنتِ سببَ الاتصالِ ، فلا تكوني سَبَبَ الانفصالِ، شَأنُه في ذلك شأنُ المجنون {قيسٍ ابنِ المُلَوَّحِ} كما مرَّ مَعَنا ، عندما جاءته ليلى وهو يصيح ليلى .. ليلى ...ويأخذُ الجليدَ فيضعُه على قلبهِ فيذوبَ الجليدُ من شدَّةِ حرارةِ فؤادِهِ ، فسلّمت عليه ، وهو على تلك الحال وقالت له : أنا مطلوبُكَ أنا بُغيتُك أنا محبوبُكَ ، أنا قُرَّةُ عينِكَ .. أنا ليلى ، فالتفت إليها وقال : إليك عنّي فإنَّ حبَّـــك شغلنـي عنك. ولذلك اعتُبِرَ شهيداً ، لما أخرج الخطيب عن أمِّ المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنّ سيّدَنا رسولِ اللهِ {صلى الله عليه وسلم} قال : (( من عشق فعف ثمَّ ماتَ مات شهيداً )) . (27)
وروى الديلميّ عن ابن عبّاس { رضي الله عنهما} أنّه قال : (( خيار أمّتي الذين يعفّون إذا آتاهم الله من البلاء شيئاً ، قالوا وأيّ بلاء؟ قال هو العشق)) . (28)
وقد كان للسلف الصالح نظرة عطفٍ إلى أهل العشق ، من ذلك ما رواه الخرائطي في اعتلال القلوب قال: مرّ أبو بكر الصديق {رضي الله عنه} في خلافته بطريق من طرق المدينة ، فإذا بجاريةٍ تطحن وهي تقول :
وهويته من قبل قطع تمائمي متمايساً مثل القضيب الناعم
وكأن نورَ البدرِ سُنّةَ وجهِـهِ يُومي ويُصعد في ذُؤابةِ هاشم
فدق عليها الباب فخرجت إليه ، فقال: ويلك حرة أو مملوكة ؟ قالت: مملوكة يا خليفة رسول الله ، قال: فمن تهوين فبكت وقالت: يا خليفة رسول الله إلاّ انصرفتَ عنّي بحقِّ القبر ، قال : (( لا وحقِّهِ لا أَريم {أي لا أتحوّل} أو تُعلِمينَـنـي)) قالت :
وأنا التـي لعب الغرامُ بقلبها فبكت لحبِّ محمدٍ بنِ القاسِمِ
فبعث أبو بكرٍ إلى مولاها ، فاشتراها منه ، وبعث بها إلى محمدٍ بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب . {رضي الله عنهم جميعاً} . (29)
أرأيت إلى نظرة الإسلام إلى العشق ورحمتهم بالعشّاق ؟ ومن ذلك أيضاً أنّ الشيخُ عبد العزيز الدباغ {رحمه الله} يقول عند ذِكرِهِ قيساً بنَ الملوَّح ، مجنون ليلى رضي اللهُ عنه ، لأنَّه يعتبره شهيداً بناء على الحديث الشريف السالف الذكر {من عشق فعف ثمَّ ماتَ مات شهيداً}.
بينما كان حبُّ كُثيِّرٍ لعَزّةَ أقلَّ شأناً وأدنى منزلةً لأنّهُ ما بلغ مرتبةَ قيسٍ في صِدقِه وإخلاصِه . فقد حدَّث يحيى بنُ أَكثَمَ أنَّ كُثيّراً اجتمع مع عَزّةَ فتنكّرت له متنقبةً وقالت : من أنتَ ؟ قال: كُثيّرٌ . فقالت : وهل تركتْ عَزّةُ فيك نصيباً لغيرها ؟ فقال : لو أَنَّ عَزّةَ كانت أَمَةً لي لجعلتُها لك . فكشفت البُرقُعَ وقالت : أهذا أيضاً كَذِبُ الوُشاة؟.
(30)
وليس النساء بأقلَّ من الرجال في العشق لكنَّ طبيعة المرأة تمنعها من البوح ، فهي دائماً تحب أن تكون مطلوبة لا طالبة ، الأمر الذي يزيد في شغف الرجل بها وشوقه إليها ، ومن عشق النساء للرجال ما كان من حبّ السيدة زُليخا العنيف لسيدنا يوسف {عليه السلام} وسنوردها مفصَّلة في الفصل الخاص بقصص المحبّين إن شاء الله تعالى ، ولقد كان لصلة ابن حزم بالنساء منذ الطفولة حتى الصبا ، عن طريق المعاشرة والثقافة ، أثر كبير في ذوقه وشخصيته ويظهر ذلك في رأيه في النساء العاشقات وأوصافهن يقول : (( كنّا نظن أنّ العشق في ذوات الحركة والحدة من النساء أكثر ، فوجدنا الأمر بخلاف ذلك ، وهو في الساكنةِ الحركاتِ أكثرَ ما لم يكن ذلك السكونُ بَلَهاً . النفوس المقسومة في هذه الخلقة في أصل عنصرها الرفيع الأعلى )) . (31) وقد سئل عن صَباحة الصُور وأنواعِها فقال :
الحلاوة : رقّة المحاسن ولطف الحركات وخفّة الإشارات وقبول النفس لأعراض الصور وإن لم تكن ثم صفات ظاهرة .
ويقول أيضاً : (( القوام : جمال كل صفة على حدتها وربّ جميلِ الصفات على إنفراد كلِّ صفة منها بارد الطلعة غير مليح ولا حسن ولا رائع ولا حلو .
الروعة : بهاء الأعضاء الظاهرة {مع جمال فيها}وهي أيضًا الفراهة والعنق .
الحسن : هو الشيء ليس له في اللغة اسم يعبر به عنه ولكنه محسوس في النفوس باتّفاق كل مَن رآه وهو بُردٌ مكسوٌّ على الوجه وإشراقٌ يستميل القلوب نحوه فتجتمع الآراء على استحسانه ، وإن لم تكن هناك صفات جميلة فكل من رآه راقه واستحسنَه وقبِله حتى إذا تأمّلتَ الصفات إفراداً لم تَرَ طائلاً وكأنه شيء في نفس المرئي تجده نفس الرائي وهذا أجل مراتب الصَباحة .
ثم تختلف الأهواء بعد هذا فمن مفضِّلٍ للروعة ، ومن مُفضِّلٍ للحلاوة . وما وجدنا أحداً قطُّ يفضِّلُ القوامَ المنفرد.الملاحة:اجتماع شيء بشيء مما ذكرنا)) . (32)
وعن سفيان بن زياد قال قلت لامرأة من بنـي عُذرة ــ وقد رأيت بها هوى غالباً حتى خِفتُ عليها الموت ــ ما بال العشق يقتلكم معاشرَ عُذرة من بين أحياء العرب ؟
قالت : (( إنّ فينا جمالاً وتعفّفاً ، فالجمال يحملنا على العفاف ، والعفافُ يورثنا رقَّةَ القلوب ، والعشقُ يُفنـي آجالنا ، وإنّا نَرى محاجرَ لا تَرونَها)) . (33)
وعن الأصمعي أنه قال: ((لقد أكثر الناس في العشق فما سمعت أوجز ولا أجمل من قول بعض نساء العرب ، وسئلت عن العشق فقالت : ذل وجنون )) . (34)
وفي الحديث الشريف: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أسلَبَ لعقول ذوي الألباب منكن)) . (35)
حضر عند المأمون يوماً يحيى بن أكثم ، وثمُامة بن أشرس ، فقال المأمون ليحيى : خبرني عن حدّ العشق فقال : يا أمير المؤمنين سوانح تسنح للعاشق يؤثرها ويهيم بها تسمى عشقاً. فقال ثمُامة : اسكت يا يحيى ، فإنمّا عليك أن تجيب في مسألة من الفقه ، وهذه صناعتنا . فقال المأمون : أجب يا ثمامة . فقال : يا أمير المؤمنين إذا تقادحت جواهر النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة أثقبت لمحنورٍ ساطعٍ تستضيء به بواطنُ العقل فتهتزُّ لإشراقه طبائع الحياة ، ويتصور من ذلك اللّمحِ نورٌ حاضرٌ بالنفس متّصل بجوهرها فيسمى عشقاَ . (36) ولابن حزم في كلام في دُرُج المحبة وهي عنده خمسة، أولها :
الاستحسان : وهو أن يتمثل الناظر صورة المنظور إليه حسنة أو يستحسن أخلاقه وهذا يدخل في باب التصادق.ثم : الإعجاب به : وهو رغبة الناظر في المنظور إليه. وفي قربه. ثم : الألفة : وهي الوحشة إليه إذا غاب . ثم : الكَلَف : وهو غلبة شغل البال به وهذا النوع يسمى في باب الغزل بالعشق . ثم : الشغف : وهو امتناع النوم والأكل والشرب إلا اليسير من ذلك وربما أدى ذلك إلى المرض أو إلى التوسوس أو إلى الموت وليس وراء هذا منزلة في تناهي المحبة أصلاً . (37)
وحبُّ النساءِ فريضةٌ عند ابنِ عربي {رحمه الله} وله في ذلك حجةٌ تقوم على دليلٍ قويٍّ فلْنَسْتَمِعْ إليه يقول :
((وأَمّا النِسوانُ فنظرُ العارفين فيهنَّ ، وفي أَخْذِ الأَرْفاقِ منهنَّ ، وحنينُ العارفين إليهنَّ حنينُ الكُلِّ إلى جُزئهِ ، كاسْتيحاشِ المنازلَ لساكنيها التي بهم حياتُها ، ولأنَّ المكانَ الذي في الرجلِ ، الذي استُخرجتْ منه المرأةُ عَمَّرَهُ اللهُ بالميلِ إليها ، فحنينُه إلى المرأةِ حنينَ الكبيرِ وحُنُوَّه على الصغيرِ .. ولأنهنَّ محلُّ التكوين لصورةِ الكمالِ ، فحبُّهنَّ فريضةٌ ، اقتداءً به {عليه الصلاة والسلام} ..} . وبعدَ ذكرِه ِحديثَ: (حُبِّبَ إليَّ النساءُ والطيبُ وجُعِلتْ قُرَّةُ عينـي في الصلاة ..) يقول ((وهل حُبِّبَ إليه ما يُبعِدُه عن ربّه ؟ لا واللهِ ، بَلْ حُبِّبَ إليهِ ما يُقَرِّبُه مِن ربِّه )) . (38)
ولقد عَرَفت السيدةُ عائشةُ أمُّ المؤمنين {رضي اللهُ عنها} ما أَخَذَ النِساءُ مِن قلبِ رسول الله {صلى اللهُ عليه وسلّم } حين خَيَّرَهُنَّ فاخْتَرْنَهُ ، فأرادَ اللهُ تعالى جبرهنَّ وإيثارَهُنَّ في الوقت ، ومراعاتهن وإنْ كان بخلافِ مُرادِ رسولِ اللهِ {صلى الله عليه وسلَّم} فقال ( لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُـــكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)) . (39) فأَبْقى على ملك اليمين رحمةً به {صلى الله عليه وسلّم} لمِا جَعَلَ في قلبِه مِنْ حُبِّ النساءِ ، وهَذِهِ أَشَقُّ آيةٍ نَزَلتْ على رسولِ اللهِ {عليه الصلاةُ والسلام} فقالتْ عائشةُ {رضي الله عنها} : ((ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَ قلبَ نَبيِّهِ {صلى اللهُ عليه وسلّم} واللهِ ، ما ماتَ حتّى أَحَلَّ لهُ النساءَ)) .
فمن عَرَفَ قَدْرَ النساءِ وسِرَّهُنَّ لم يَزْهَدْ بحبِّهِنَّ ، بل مِنْ كَمالِ العارِفِ حُبُّهُنَّ ، فإنّه ميراثٌ نبويٌّ وحُبٌّ إلهي)) . (40 )
وحبُّ المرأة ينقّي النفسَ من رعوناتها ويُخفِّف من عَنجَهيَّتها، ويلطّف الطبعَ ، ويهذِّب السلوك ، ويعلّم الكَياسةَ والظَرْفَ ، ويدلّ على مكارم الأخلاق . وفيما يأتي بعضُ الآراء التـي عرضها صاحب كتاب {تزيين الأسواق في أخبار العشاق} ، فيما يتعلّق بهذا الباب :
شكا معلمُ سعيد بن مسلمة ولدَه إليه فقال : إنه مشتغل بالعشق . فقال : دعْه فإنّه يلطّف وينظّف ويظرّف . (41)
وكان أحدهم يبعث أحداثَ أهلِهِ إلى شيخٍ يعلمهم الحكمةَ فقال لهم يوماً: هل فيكم عاشق ؟ قالوا : لا . قال: اعشقوا وإيّاكم والحرام ، فالعشق يُفصّح الفتى ويذَكّى ، ويسخّي البخيل ويبعث على التنظيف وتحسين الملبس ، فلما انصرفوا قال لهم أبوهم : ما استفدتم اليوم ؟ قالوا : كذا وكذا . قال: نعم . وإنّما أخذه مما روي أنّ كسرى {بهرام جور} كان له ابنٌ أهّلَه للمُلك بعدَه ، وكان ساقطَ الهمَّةِ رديءَ النفْسِ سيءَ الخُلُقِ ، فغمَّه ذلك كسرى ووكّل به مَنْ يُعلّمُه ويؤدِّبه ، فلم يكن يتعلم ، فقال معلّمُه : كنّا نرجوه على حالٍ فحدث منه ما أيأسَنا وهو أنّه عشق بنتَ المَرْزُبان فقال : الآن رَجَوْتُ فلاحَه، ثمّ دعا أبا الجارية فقال : إنّي مستسر ٌّإليك سرّاً فلا يَعْدُوَنَّك، اِعلم أنّ ابْنـي عشِق ابنتَك وأريدُ أنْ أزوِّجَها منه ، فمُرْها بأنْ تُطْمِعَه مِن غيرِ أنْ يراها ، فإذا استحكم طمَعُهُ فيها أَعْلَمَتْهُ أنّها راغبةٌ عنْه لقلَّةِ أَدَبِهِ ، ثمّ قال للمعلم : خوِّفْهُ بي وشَجِّعْهُ على مراسلةِ المرأةِ ، ففعلت المرأةُ ما أُمِرَتْ به فقال الغلامُ في نفسِه : أنا أَجتهد في تحصيلِ ما أصِلُ إليها به ، فأخذَ في التَأَدُّب وتعلّمَ الشجاعةَ. ثم قال أبوه للمؤدِّب : شجِّعْهُ على أنْ يَرفعَ أمرَها ويَسْألَنـي أنْ أُزوِّجَها منه ، ففعل فزَوَّجَها من ابنِه ، وقال : لا تَزْدَريَنَّ بها في مراسلتِها إليك فإنّي كنتُ أمرتُها بذلك ، وإنَّ مَن صار سبباً لعقلِكِ فهو أعظمُ الناسِ بركةً عليك . قال العَرْجيُّ :
تجشُّمُ المـــــــــــــرءِ هولاً في الهـــــــــــــــوى كرمُ
وقال آخر:
لا عار في الحبِّ إنَّ الحُبَّ مَكْرُمةٌ
لكنّــه ربمّــــــــــــا أَزْرى بذي الخَطرِ
(42)
وقيل: لو لم يكن في العشق إلا أنّه يشجّع الجبانَ ، ويُصفّي الأذهانَ ويبعثُ حَزْمَ العاجزِ لَكفاهُ شَرَفاً . قال في ذلك أحدُ الشعراء :
الحبُّ شجّعَ قلبَ كلِّ فَروقَةٍ والحبُّ حَمّلَ عاجزاً فأَطاقا
(43)
وإليك بعض ما ورد في ذمّ من لا يعشق وكَدَرِ حياتِه . قال المَرْزُباني : سئل أبو نوفل هل يسلم أحدٌ من العشق ؟ فقال : نعم الجِلْفُ الجافي الذي ليس له فضلٌ ولا عندَه فهم ، فأمّا مَن في طبعِه أدْنى ظَرفٍ أو معه دَماثةُ أهلِ الحجاز ِوظَرْفُ أهلِ العراق فهيهات .
وقال آخر : لا يخلو أحدٌ من صَبْوةٍ إلاّ أنْ يكون جافيَ الخِلقة ناقصاً أو منقوصَ الهمّة ، أو على خلافِ تركيبِ الاعتدال . (44)
واعلم بأنّ العشقَ يَحسُنُ بأهلِ العفّة والوفاء، ويقبحُ بأهل العهر والخَنى وقال أعرابي : مَن لا يَعشقُ فهو رديءُ التركيب جافي الطبعِ كَزُّ المَعاطفِ .وكان ابنُ أبي مُلَيْكةٍ يُؤذّنُ يوماً فسمِع غناءً فطرِب فقال:
إذا أنت لم تطرب ولم تدْرِ ما الهوى
فكن حجراً من يابسِ الصخرِ جَلْمَدا (45)
وقال أيضاً:
مَن عاش في الدنيــــــا بغـــــيرِ حبيبِ
فحياتُه فيهـا حيــــــــاةُ غــــــريبِ
ما تَنْظُرُ العينــــــــــــانُ أحسنَ مَنْظـــراً
مِـن طالبٍ إلْفاً ومِن مطلـــــــوبِ
ما كان في حُـــــــورِ الجِنـــــــــــان لآدمٍ
لو لم تَكُنْ حــــوّاءُ مِنْ مَرْغوبِ
قد كان في الفردوس يشكو وحشــــــــةً
فيهـا ، ولم يأنسْ بغــــيرِ حبيبِ
(46 )
وقال العباس بن الأحنف مخاطباً مَن يَعُدُّ الحبَّ ذنْباً بأنَّه يَعُدُّ الحبَّ طاعةً يَدّخرُها لآخرته :
أستغفرُ اللهَ إلاّ مـِـن محبَّتِـكـم
فإنّها حسنـاتي يـــوم ألقــــــــاه
فإن زعمتَ بأنّ الحُبَّ معصيةٌ
فالحبُّ أحسنُ ما يُعصى به الله
(47)
وجاء في تفسير حقي الآتي : واعلم أنَّ أسبابَ المغفرةِ كثيرةٌ أعظمُها العشقُ والمحبَّةُ فانَّ الله تعالى إنمّا خلق الإنسَ والجِنَّ للعبادة المُوصِلَةِ إلى المعرفة الإلهيَّةِ والجَذْبةِ الرَبّانيَّة . وقال {صلى الله عليه وسلم} : ((جَذْبةٌ من جذبات الحقّ توازي عملَ الثقلين )) . (48) ولي في ذلك :
سقيتُ السُهْـــدَ كوباً بعــــدَ كوب
وما أقسى السُهـــــــــــادَ على القلوبِ
أفيضي مـا استطعتِ الكوبَ إنّي
لَعَمْــــرُك مــا سَكِرْتُ ببنتِ كـوبِ
أتوبُ ! وهل يُعَدُّ الحُبُّ ذنبـــــاً؟
فإنْ شئتِ المَتـــــــــــابَ ألا فتــــوبي
غرامُكِ يا مَليحةُ ألفُ ذنبٍ
تلاحقـني ... ومــــا أحلى ذنـــوبي
(49)
وقيل بـأنّ ذنوبَ العشاق ذنوبُ اضطرارٍ لا اختيار ، ومن كان كذلك لم يستحق عقوبة . وقال عبد الله بن جُنْدُبٍ: خرجتُ فرأيتُ فُسّاقاً فيهنَّ امرأةٌ كأنّها منحوتةٌ من فِضَّةٍ فتمثّلتُ بقول قيسٍ بنِ ذَريح :
خذوا بدمي إن مِتُّ كلَّ خريدةٍ
مريضةِ جَفنِ العينِ والطرفُ فاترُ
فقالت المرأة : يا ابنَ جُندبٍ إنّ قتيلَنا لا يُودى وأسيرَنا لا يُفدى . (50) وقال ابن العباس : قتيلُ الهوى هَدْرٌ ولا عَقْلَ ولا قوَد.((أي لا دِيَةَ له ولا ثأر)).(51) وعن الجنيد{رضي الله عنه} قال أَنفذَني السِريُّ في حاجةٍ فلمّا قضيتُها دَفَعَ إليَّ رُقعةً وقال : قد أَجَزْتُك هذه الرُقعة ففتحتُها فإذا فيها :
ولمّا شَـــــكَوْتُ الحُبَّ قالت : كَذَبْتَنـي
ألستُ أرى منكَ العِظام كواسيــــــا؟
وما الحُبُّ حتّى يَلصَقَ بالجِلْدِ الحشا
وتخرسَ حتّى لا تجيبَ المُنـــــــــــاديا
وتَضعُفَ حتّى لا يُبقي لك الهــــــوى
سوى مقلــــةٍ تَبـكي بها وتُناجيـــــــــا
(52)
وسلطانُ المحبِّةِ أقوى سلطان ، وتاجُ الجمال أعزُّ التيجان ، ومُلكُه هو الأبقى بينما عرشُ المُلوكِ كثيرُ الطامعين والأعداء والأخصام ، بينما عرشُ الجمال مسيجٌ بأرواح المحبّين وقلوب العاشقين وأفئدة النسّاك والمتعبّدين . وفي ذلك أقول :
عرشُ الجمالِ أعزُّ عرشٍ في الدُنا
والملْكُ ــ إلاّ ما مَلَكتِ ــ مُهـانُ
ولكُلِّ مَلْكٍ في الورى أعــــــــداؤهُ ؛
تبّـاً لملْكٍ ليس فيـه أمـــــــــــانُ
أمّا الجمـــالُ ففي القلوبِ متوَّجٌ
ومسيَّـجٌ بالعاشقـين مُصــــانُ
والناسُ فيــــــــه مَــذاهـبٌ فمنعَّمٌ
ومعذَّبٌ متلهِّفٌ حَـــــــــــرّانُ
ومتيّمٌ يرجــو الوصـــــالَ ويتَّقي
هَجْرَ الحبيبِ وللهوى أشجانُ
وبِـــهِ يرى النُسّاكُ مجـــلا رَبِّهم
فبِهِ تجلّى المبدعُ الرحمن (53)
قيل بأنّه كان للخليفة العبّاسي هارون الرشيد {رحمه اللهُ} ثلاثُ جوارٍ اشتدَّ شَغَفُه بهنّ فقال :
مَلَكَ الثلاثُ الآنساتُ عِناني وحَلَلْنَ من قلبي بكلِّ مكانِ
مالي تُطاوعُنـي البريّةُ كلُّها وأطيعُهنَّ وهُنَّ في عِصيـاني
ما ذاك إلاّ أنَّ سلطانَ الهوى وبـه قَوِينَ،أَعـزُّ مِن سُلطاني
(54)
وقال عروة :
وكم من كريمٍ قد أضرَّ به الهوى
فعوَّدَه مـــــــــــــــــا لم يَكنْ يَتعَوَّدُ
أمّا كُثيّرُ عزَّة فيقول:
ضَعائفُ يقتلْنَ الرجالَ بلا دَمٍ
فيـــا عَجَباً للقاتلات الضعائفِ
وللخيزارزي في نفس الموضوع :
ولربّ عبـــــــدٍ في الهوى يَسْتَعْبِدُ الحُرَّ المطاعـــــــا
أمّا عن عذاب الهوى وما يلاقيه العشّاق من لوعة الفراق وألَمِ السهدِ ولواعِجِ الغرام والأسقام . فقد قيل لرجل: إنّ ابنَك قد عشق . فقال: لقد عذَّب قلبَه وأبكى عينَه وأطال سَقَمَه . وقال ابنُ الروميِّ :
أَهْوى الهوى كلَّ ذي لُبٍّ فلستُ أَرى
إلاّ صحيحاً له أفعـــــــــــــــالُ مجنونِ
ومِن لازِمِ المحبّة الصادقةِ الإخلاصُ فيها ، وعلامتُه دوامُ ذكر ِالمحبوبةِ والنظرُ إليها على أنّها الأجملُ والأكملُ من بين نساء الأرض حتى ولو كان للناس فيها رأيٌ آخر . يقول المجنون :
وقالوا عنكِ سوداءُ حبشيّـــــــــةٌ
ولولا سوادُ المسكِ ما انْباع غاليا
أمّا أبو تمّام فيقول في ثبات القلب على حبِّه الأول مهما رأت
عيناه من حسن:
نَقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى
مـــــــــــــا الحُبُّ إلاّ للحبيـبِ الأوّلِ
كم منزلٍ في الأرض يألفُـــــــه الفتى
وحنينُـــــــه أبـــــداً لأوّلِ منـزل !
وقد نقضَه ديكُ الجنّ ، الحمصيُّ فقال :
نقل فؤادك حيثُ شئتَ فلن ترى
كهوًى جديدٍ أو كوصلٍ مُقْبِــــــلِ
وقد قلتُ في هذا الموضوع إنّما كان لي رأيٌ مختلفٌ باختلاف النظرةِ إلى الحبِّ :
يا غيمةَ الصيفِ : حَسْبي منكِ مُكْتَسَبا
مَرُّ الظــــلالِ على قلبٍ قد التَهَبــــــا
مَن قال ــ يَحْسَبُ أنَّ الأمــــــرَ في يَدِهِ ــ
لا يعشقُ القلْبُ إلاَّ واحداً .... كَذَبـــــــــا
ما سُمِّيَ القلبُ إلاّ مِــن تَقَـلُّبِـــــــــــــــــه
فلْيَسْألِ القلبَ عــن بَلْواهُ مَنْ رَغِبـــــــــــا
في كلِّ سانحــــــةٍ يُجْلى الجمـــالُ لنــا
في قَدِّ ذي هَيَفٍ سبحان مَـن وَهَبــــــــــا
يُلْقي إلى القلبِ من أهــــدابه شَـــــركاً
هلْ يعشق القلبُ إلاّ الأغيدَ الرَطِبا (55)
ذلك لأنّنـي أعشق الجمال المطلق المتجلّي في كلِّ وجهٍ وصورة ولا أعبدُ مخلوقاً بعينه كائناً من كان . أمّا ابنُ أبي طاهر فيقول :
عدِمتُ فؤادي من فؤادٍ ، فمـا أشقى
وأكثـــرَ مَن يَهوى وأعظمَ مــــــا يلقى
فلو كان يهوى واحداً لعذرتُــــــــهُ
ولكنّه مـن جهلِه يعشقُ الخلقـــا
ثمانون لي في كلِّ يومٍ أُحِبُّهـــــــم
وما في فؤادي واحدٌ منهمُ يبقى
وما أحسن ما قال أبو العتاهية في التفاني بالإخلاص :
ولي فؤادٌ إذا طال العــــــــذابُ به
هام اشتياقاً إلى لُقيــا معَذِّبِه
يفديك بالنفس صَبٌّ لو يكون لـــه
أعزُّ من نفسِه شيءٌ فَداك به
ولابن ميّادةَ في انشغاله بمن يحب من حسن القول :
فما مسَّ جنبـي الأرضَ إلاّ ذكرتُها
وإلاّ وجدتُ ريحَها في ثيابيــــــــــــــا
وللبحتريّ في نفس الموضوع :
كاسٌ تذكّرني الحبيبَ بلونِها وبشمِّها وبطعمِها وحَبابِها
ولعاشقٍ آخر قوله :
أريد لأنسى ذكرها فكأنمّا تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ سبيلِ
أمّا جميلُ بثينة فيقول في استحضار محبوبته باستمرارٍ :
وإنّي لأستحييكِ حتّى كأنمّا
عليَّ بظهرِ الغيبِ منكِ رقيبُ
وفي نفس المعنى يقولُ أشجع :
ويمنعني من لذَّة العيش أنّني أخاف إذا قارفتُ لهواً ترانيا
أمّا مجنون بنـي عامرٍ،فإنَّ ليلاه تشغَلُه حتّى في صلاته حيث لا يدري كم صلى، يقول :
أصلي فما أدري إذا ما ذكرتُها
اثنتين صلّيتُ الضُحى أم ثمانيــا
ومثلُه الخبزارزي ، بل هو أكثر انشغالاً بمن يحب في صلاته يقول :
أَلِفْتُ هواك حتى صرتُ أَهْذي
بذكركِ في الركوع وفي السجودِ
ويقول آخر :
وإنّي لَتَعْروني لذكراكِ هِـــــزّةٌ
لها بين جِلدي والعظامِ دبيبُ
وهو من جيد الشعر في تصوير عمق مشاعر الحبِّ ، لكن
الأجودَ منه قولُ أبي الشيص حيث أجمع الأدباء على تفضيله ، وهو قولُه :
وقَفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي
متأَخَّرٌ عنــــــــه ولا متقــــــــــــــــــــدَّمُ
أَجِـــــــــــــــــدُ المَلامَةَ في هواكِ لذيذةً
حبّاً لذكرِكِ فلْيَلُمْنـي اللُّــــــــــــــــــــوَّم
أشبهتِ أعــــــــدائي فصِـرْتُ أُحبّهم
إذ كان حظّي منكِ حظّي منهــــــــــمُ
وأَهَنْتِنـي فأهنتُ نفسي صـــــــــاغراً
ما مَــــن يهـون عليــــكِ ممـن يَكْرُمُ
(56)
أمّا ما أوجبه الله من حقوق للمرأة فحدّث ولا حرج ، سواءً أ كانت أمّا أو زوجاً أو رحماً . أوَ لم يوجب اللحقُّ {سبحانه} طاعتها ــ والأب ــ وجعل ترتيب طاعتها بعد طاعته مباشرةً بقوله(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً )) . (57)
و عن أبي هريرة {رضي الله عنه} قال : جاء رجلٌ إلى النبـي {صلى الله عليه وسلم} فقال : يا رسول الله ، مَنْ أحَقُّ الناس بِحُسْن صَحابتـي ؟ قال : ((أمُّك)) قال : ثم مَنْ ؟ قال : ((أمُّك)) ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : ((أمُّك)) ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : ((أبُوك)) . وفي رواية قال : ((أمَّك ، ثم أمك ، ثم أباك ، ثم أدناكَ أدناك)) . (58) وعن أنس قال : قال رسول الله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه ، ويُنسأ له في أثره ، فلْيَصِلْ رحمَه)) . (59)
ثانياً : من وصلها وصله الله . كما في حديث: ((من وصلنـي وصله الله)) . ثالثاً : من أسباب دخول الجنة .عن أبي أيوب أن رجلاً قال : يا رسول الله ، أخبرني بعمل يدخلنـي الجنة ويباعدني من النار ، فقال النبـيّ : ((تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم)) . (60 )
كما جعل النبـيُّ {عليه الصلاة والسلام} السعي على العيال من أفضل العمل وأجره من أعظم الأجر ، قال : ((وَمَنْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِمَّنْ سَعَى فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ ، وَمَنْ ضَيَّعَ أَهْلَهُ ، وَقَطَعَ رَحِمَهُ حَرَمَهُ الله حُسْنَ الْجَزَاءِ يَوْمَ يَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَصَيَّرَهُ مَعَ الْهَالِكِينَ )) . (61)
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } قَال : قَالَ رَسُولُ اللهِ {صلى الله عليه وسلم} : ((نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ)). (62)
وعنه أيضاً قال: قال النبـي {صلى الله عليه و سلم } : ((إذا أنفق الرجلُ على أهله نفقةً و هو يحتسبها فهي له صدقة)) . (63)
وجاء الوعيد على من ضيّع مَن يعول ، فقد جاء في صحيح مسلم ((كفى بالمرء إثـمــاً أن يحبس عمّن يملك قوتَه)) ، وجاء في رواية الترمذي ((كفى بالمرء إثـمـــاً أن يُضيّعَ مَن يَقوت)) .
وتربية ثلاث بنات أو أخوات تربية حسنة ورعايتهن تكسب صاحبها جوار النبي الكريم في جنات عدن يوم القيامة ، يقول {عليه الصلاة والسلام} فيما رواه كل من الإمام أحمد وأبو يعلى عن أنس بن مالك {رضي الله عنه} : ((مَن كان له ثلاثُ بنات أو ثلاثُ أخَوات فاتّقى اللهَ وقامَ عليهِنَّ ، كان معي في الجنَّة كهذا ، وأشار بأصابعه الأربع)) . (64)
وانظر إلى رحمة النبـي {عليه الصلاة والسلام} بالمرأة وتلطفه بها إذ نهى الرجل المسافر عن الدخول على عياله ليلاً فيفاجئها بعودته من السفر ، وأمره بأن ينتظر طلوع الفجر ليدخل بيته حيث تكون زوجه قد استيقظت واستعدّت للقائه . فعن ابن عباس {رضي الله عنهما} : أنّ رسول الله {صلى الله عليه و سلم} قال : ((لا تطرقوا النساء ليلا)) يعنـي إذا قدم أحدكم من سفر لا يأتي أهله إلاّ نهاراً . (65) بل لقد عدّ الرحمة المهداة {عليه الصلاةُ والسلام} لَهْوَ الرجلِ مع زوجه وملاعبتَها ومداعبتَها طاعةً يؤجر المرءُ عليها فقد روى الإمام الطبراني في المعجم الكبير عن جابر الأنصاري أنه سمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول : ((كل شيء ليس من ذكر الله عزَّ و جل فهو لَهْوٌ أو سهوٌ إلا أربعَ خصالٍ ، مشيُ الرجلِ بين الغرضين وتأديبُه فرسَه وملاعبةُ أهله وتعلُّم السباحة)). (66) بل علّمنا {صلى الله عليه وسلم} حسن معاشرتها في أمرٍ دقيق جدّاً من العلاقة الزوجيّة يغفل عنه الكثير من الرجال حيث يقضي وطره منها ويروي غريزته دون الاكتراث بزوجه وحاجاتها الجنسية ، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، {رضي الله عنه} قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله {صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم} : (( إِذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَصْدُقْهَا ، ثُمَّ إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ ، فَلاَ يَعْجَلْهَا حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا )) . (67)
ثم إنَّ اللّذةُ في الحبِّ ــ بحدِّ ذاتها ــ مطلبٌ شرعي بحدودِهِ ، سواءً أكان ذلك في النظر إلى الجميل ، أو في التلذّذ بسماع الأصوات الحسنة ، أو في غير ذلك من الجمالات المعنويّة ، أو كان ذلك في المأكل أو المشربِ أو المنكح ، قال تعالى : ((..كلوا من طيّبات ما رزقناكم)) . (68) وقال : ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع)) . (69) وفي النهي عن ترك هذه الطيبات ، أو تحريمها قال : ((قُلْ مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق )) .(70) فمن هذا الذي يحرّم ما أحلَّ الله ! ولا يجرؤ على ذلك إلاّ زنديق ملحد ، وأما زهد بعض الحكماء بالمرأة كأبي العلاء المعريِّ وغيره ممن أوتو
نظرة الصوفيين إلى المرأة :
ينظرُ السادةُ الصوفيّون إلى المرأةِ كما نظرَ إليها الإسلامُ الحنيف ، وكيف لا وهم أشدُّ الناسِ تمسُّكاً به والتزاماً بتعاليمِهِ ، ظاهراً وباطناً ؟. فهي عندَهم الأمُّ والأُختُ والزوجُ والبنت .. الخ وهي نصفُ المجتمعِ الفاعلُ في بِناءِ الأُسْرةِ والمجتمعِ ، وهي بعضُ الرجلِ الذي لا غِنى له عنه البتَّةَ ، ولذلك فهو دائمُ الحنينِ إليها لأنها أمّهُ التـي وَلَدتْه ، وفي أحشائها تكوَّن ، وفي حِجْرها تربّى ، وفي كنفها نَشَأ وتَرعرعَ . غمرتُه بعطفِها وحنانها ، وحَجَبتْ عنه الأذى وغَذَتْه بلِبانَ صَدْرِها ، وعَلَّمتْه وأَعَدَّتْه لِيَشُقَّ طريقَهُ في الحياةِ ، و في ذلك أَقول :
منكِ ابْتُديتُ وأُسكِنْتُ الحَشا وعلى
دَقّاتِ قلبِكِ غَنّى للجَمَال فَمِي (1)
وهي معشوقـتُهُ ومَصدرُ وَحْيِهِ وإلهامِهِ ، وبها يَكونُ التجلّي الأكملُ للجمالِ ، الجمال الذي قال فيه سُقراط : ((سبب الجمال حبّ النفع)) . (2) وقال فيه أفلاطون : (( الجمال أمرٌ إلهيٌّ أزليٌّ موجودٌ فِي عالم العقل غير قابل للتغير ، قد تمتعت الأرواح به قبل هبوطها إلى الأجسام فلمّا نزلت إلى الأجسام صارت مهما رأت شيئاً على مِثال ما عهِدته في العوالم العقلية وهي عالم المِثال مَالت إليه لأنّه مألوفها من قبل هبوطها)) . (3) وذهب الطبائعيون إلى أنّ الجمال شيء ينشأ عندنا عن الإحساسِ بالحواس .
فالجمالُ مَوجودٌ في الطبيعةِ كلِّها ، لكنَّهُ في المرأةِ أَجْلى وأَوضح ، لأنَّ الإنسانَ أكملُ المخلوقاتِ ، وهو بُغيةُ اللهِ مِنَ الخلقِ ، ففيه التَجَلّي الأكملُ وإليْهِ التوجُّهُ الأتمّ ، وإذا كانت تجليّاتُ الجَلالِ مُتوجِّهةً إلى الرجلِ ، فإنَّ التجليّاتِ الجَمَــاليَّة ، في المرأةِ أتمُّ وأَعَمُّ ، وبها تعذُبُ الحياةُ وتُذلَّلُ صعابُها ويحلو مُرُّ ها ، ولي مِن الشِعرِ في هذا المعنى أيضاً الآتي :
بكِ توَّجَ اللهُ الجَمـــالَ ، بِكِ انْجلى
حُسْنُ القديـــمِ بروعـــــــــــةِ التَلْوينِ
بك صارت الدُنيا أَحَبَّ لمُهجتـي
من جَنَّـــةِ المــــــأْوى مَــــراحِ العِـــينِ
أشقى ..وما أحلى الشقاءَ مع الهوى
إنْ كان منكِ ، مِنَ المنى يُـــدْنينـي
حَـــــــوّاءُ مـا أَدْنا إلى نَفْسي ومـــــــــا
أَنْدى عــلى قلبـي نِـــداءَ التــــــــينِ
بك جمَّلَ الله الوجـــودَ ولو خــــــــلا
مـن مُغْرِياتِكِ ما اشتهتْــــهُ عُيوني
وهي بعد ذلك متمِّمتـي فهي ظاهرُ {كُن} وأَنا باطنُها :
أنا كافُ {كُنْ} والنونُ أنت فمن أنا؟
من أنتِ ؟ يا كَنْزَ النَـدى المكنــونِ
(4)
إذاً فهي نصفُ الكون وأنا نصفُهُ الآخرُ قبلَ أنْ يُظهِرَ اللهُ هذه الموجودات إلى حَيِّزِ الوجود ، أرأيتَ إذا أردتَ أَنْ تَبنـي بيتاً ــ مهما كان هذا البيتُ صغيراً وبسيطاً ــ فإنّكَ تُكلِّفُ مكتباً هندسيّاً لِيُعِدَّ لك مخطّطاً تفصيليّاً لهذا المنزلِ يبيّنُ كلَّ صغيرة وكبيرةٍ فيه ، من غرفة للاستقبالِ وأخرى للجلوس وأخرى للطعام ...إلخ حتى مكان صنبورِ المياه يكون محدّداً على ذلك المخطّط ، وإذا لم تكلِّف مكتباً مـتَخصّصاً بذلك ، لبساطة البناءِ ، فإنَّ ذلك كلَّه يكون حاضراً في ذهنك ــ على الأقلِّ ــ قبل أنْ تباشرَ العمل في البناء ، مع وضوحٍ تامٍّ في الغايةِ والقصدِ من هذا البناء ، فكيفَ إذا كان البناءُ هو هذا الكونُ العظيمُ ؟ وكيف إذا كان بانيه ومهندسُهُ ومصمّمُهُ ومُبْرِزُهُ إلى حَيِّز ِالوُجودِ هو الإلهُ العظيم ؟ أفيُعْقَلُ أنْ يُباشِرَ البناءَ هكذا اعتباطاً ، دون وضوحٍ في القصدِ والرؤية ؟ حاشا للهِ ، تعالى اللهُ عن ذلك علوّاً كبيراً .
وطالما أنّ الهدفَ من خلقِ الكونِ أنْ يوجدَ فيه من يعرفُ الله ، للحديث الذي سبق إيراده (كنتُ كنزاً مَخفيّاً فأحببتُ أنْ أُعرف ..)). (5) وللآية الكريمـة التي سبق أن استشهدنا بها أيضاً : ((وما خلقتُ الإنسَ والجنَّ إلاّ ليعبُدون )) . (6) وطالما أنَّ الموجود الوحيدَ المؤهَّلَ لهذه المعرفةِ هو الإنسانُ ، بما ميّزه اللهُ به مِن نِعمةِ العقلِ ، وهو الذي أهَّلَه لحملِ الأمانةِ التـي عرضها اللهُ {سبحانه} على السموات والأرضِ والجبالِ فأبَيْنَ أنْ يحمِلْنَها وحملَها الإنسانُ، أمانة خِلافَةِ اللهِ في الأرض، ولذلك فإنَّ كلَّ مخلوقٍ في هذا الوجودِ إنّما وُجِدَ لخِدمةِ هذه الغايةِ ولتحقيق ِهذا الهدفِ ، وبالتالي ، من أجلِ هذا الإنسانِ الذي هو الرجُلُ والمرأةُ .
إذاً فالرجلُ كان حاضراً دائماً في كاف {كن} والمرأةُ كانت حاضرةً في نونِها ولذلك أتابعُ فأقول :
أنا شَطْرُ هـذا الكون قبلَ وُجودِهِ والشّطْرُ أنتِ وأنتِ ماءُ مَعيني (7)
ولا سُكون للرجلِ ولا سَكينةَ إلاّ بها ومعها ، ولا وصلَ لهُ ولا عُروجَ إلاّ بها.
يقو الأستاذُ محمّد الراشد:{اعتَبَرَ ابنُ عربي أَنَّ أتمَّ شُهودٍ للحقِّ وأكملَهُ يَتِمُّ في المرأةِ} . (
أقولُ : ذلك لأنَّ الرجلَ يُشاهِدُ الحقَّ في نفسِهِ ، وحَظُّهُ أَوْفَرُ مِن التجليّاتِ الجلاليَّة ، ويُشاهِدُهُ ، في المَرأةِ أيضاً ، ولها الحظُّ الأوفى من التجليّاتِ الجماليّةِ , وبذلك يكون شهودُ الحقِّ فيها أكملَ من سواها.
ونظرةُ الصوفيِّ إلى المرأةِ نظرةُ قداسةٍ لأنَّ الحُبَّ مقدَّسٌ عندَه ، لذلك فهي عنده محبوبةٌ محترمةٌ مقدَّرةٌ .
يذكرُ الشيخُ محي الدين {رضي الله عنه} في مقدّمة ديوانِهِ {ترجمان الأشواق} أنّه عندما نَزَلَ مَكَّةَ المكرَّمَةَ عام/598/ للهجرة النبويّة الشريفة ، لقيَ فيها العالِمَ الإمامَ زاهرَ بنَ رُستُمٍ الأصفهانيَّ ، وأختَهُ شيخةَ الحجازِ ، فسمِع عليه كتابَ الترمذي {رحمه الله} وأجازَهُ به ، وطلب أن يسمعَ مِن أُختِه فاعْتذَرَتْ لمرَضِها وكِبَرِ سِنِّها ، وطلبتْ من أَخيها أَنْ يكتبَ للشيخِ محي الدين إجازةً عنها ، فكتب له ، وكان للعالِمِ الأصفهانيِّ بِنْتٌ عالِمَةٌ أيضاً ، يَصِفُها الشيخُ بقولِه ((بِنتٌ عذراءُ ، طَفيلَةٌ هيفاءُ ، تُقَيِّدُ النَظَرَ ، وتُزيّنُ المَحاضِرَ والمُحاضِرَ ، وتُحَيِّرُ المَناظِرُ.. ، من العابداتِ العالِماتِ السايحاتِ الزاهدات.. ، شَيْخَةُ الحرمين ..ساحرةُ الطَرْفِ عِراقيَّةُ الظَرفِ ، إِنْ أَسْهَبَتْ أَتْعَبَتْ ، وإنْ أَوْجَزَتْ أَعْجَزَتْ ، وإنْ أَفْصَحَتْ أَوْضَحَتْ ... ولولا النفوسُ الضَعيفةُ السَريعَةُ الأمْراضِ ، السيّئةُ الأغراضِ ، لأَخَذْتُ في شرحِ ما أَوْدَعَ اللهُ تعالى في خَلْقِها مِن الحُسْنِ ، وفي خُلُقِها الذي هُو رَوْضَةُ المُزْنِ شمسٌ بين العلماءِ ، رَوْضَةٌ بين الأُدَباءِ ، ..يَتيمةُ دَهرِها ، كريمةُ عَصرِها ..وبيتُها مِن العينِ السوادُ ومِن الصَدْرِ الفؤادُ . أَشْرَقَتْ بها تُهامةْ ، وفتّحَ الروضُ ، لمجاوَرَتِها ، أَكْمامَهْ ، فنَمّتْ أعرافُ المعارِفِ ، بما تحملُه من الرقائقِ واللّطائفِ . فراعينا بصُحْبَتِها كريمَ ذاِتها معَ ما انْضـافَ إلى ذلك من صحبةِ العَمَّةِ والوالدِ ، فقلّدْناها مِن نَظْمِنا في هذا الكتابِ أَحْسَنَ القلائدِ بلسانِ النَسيبِ الرائقِ ، وعباراتِ الغَزَلِ اللائقِ ، ولم أَبلُغْ في ذلك بعضَ ما تجدُه ُالنفسُ ، ويُثيرُهُ الأُنْسُ ، من كريمِ وِدِّها ، وقديمِ عهدِها، ولَطافَةِ مَعْناها ، وطَهارَةِ مَغْناها ، إذْ هي السؤالُ والمأمول ، والعذراءُ البتولُ ولكنْ نَظَمْنا فيها بعضَ خواطِرِ الاشتياقِ ، من تلك الذَخائرِ الأَعلاقِ ، فأعربَتُ عن نَفْسٍ تَوّاقَةٍ ، ونَـبَّهتُ على ما عندنا ِمن العلاقةِ ، اهْتِماماً بالأمرِ القديمِ ، وإيثاراً لمجلِسِها الكريم ، فكلُّ اسْمٍ أَذْكُرُهُ في هذا الجُزْءِ فعَنْها أُكَنِّي ، وكلُّ دارٍ أَنْدُبُها فدارَها أَعْنـي ، ولم أزَلْ فيما نَظَمْتُهُ في هـذا الجزْءِ على الإيماءِ إلى الوارداتِ الإلهيَّة ، والتنَزُّلاتِ الروحانيّة ، والمناسباتِ العُلْويَّة ، جَرْياً على طريقتِنا المُثلى ، فإنَّ الآخرةَ خيرٌ لنا من الأولى ، ولِعِلْمِها {رضي الله عنها} ، بما أُشيرُ إليه .. واللهُ يَعْصِمُ قارئَ هذا الديوان من سَبْقِ خاطرِهِ إلى ما لا يليقُ بالنُفوسِ الأبيَّةِ ، والهِمَمِ العَلِيَّةِ ، المتعلِّقةِ بالأمورِ السَماويَّة)) . (9) وقد قلتُ في قصيدة عنوانُها{حانةُ الروح} منبِّهاً إلى مكانة المرأةِ في الوجود ومكانتها في نفس الرجل :
يا حانَةَ الروحِ في صَحْوي وفي حُلُمِـي
أَنْخابُ عِشقِك تَسْري نَشْـــــــوةً بِدَمي
لا تَسْـــأَلينـي الهـوى ما خافقي بيــدي
قلبـي على وردَتَيْ تُفّـــاحتَيْـــــكِ رُمي
لم يُبقِ لحظُكِ منّي غــــــــــــيرَ مُسْتَلَبٍ
إلاّ على رَوْضِكِ الفَتَّـــــــانِ لم يَهِـــــــــــمِ
مَن أنتِ ؟ صانِعَتـي من لهفــــةٍ ورُؤى
مَنْ أنتِ ؟يا لوحيَ المحفـوظَ..يا قَلَمِي
سِرٌّ مِن اللهِ حَــــــلَّ الطــينَ فارتَعَشتْ
أَوْصـالُــهُ وسَرى الإحســــــاسُ في الأَدَمِ
حَبّاتُ تُرْبٍ بمــــاءِ اللطفِ قد جُبِلتْ
للحُبِّ ، للحُــزنِ ، للأشــــــــــواقِ للألم
فيها انطوى سِرُّ هذا الكونِ واختُصِرتْ
كلُّ العَــوالِـــــمِ مِن نُورٍ ومِن ظُلَــــــــــــــــــمِ
حتى استَحَقَّت سُجودَ العـالمَــينَ بمــــــا
أَبْدى بها اللهُ مِن عِلــــــمٍ ومِن حِكَــــــمِ
أنتِ الخليفةُ ، فالنَّعْمَـــــــاءُ قد كَمُـلَتْ
والعقــــلُ أعظَـمُ ما أُوتيتِ مِن نِعَــــــــمِ
في جِسمِكِ البَضِّ أخْفى اللهُ قُدرَتَـــهُ
فـَقَدَّرَ الخلـقَ والتَكويـنَ في الرَّحِــــــــــــمِ
وأَبدعَ النَهدَ ، وافْتَنَّ الإلــــــــهُ بِــــــــــــهِ
فأَودَعَ اللَّـــبنَ المَعسـولَ في الحَـــلَــــــــــــمِ
في كلِّ عِطفٍ تَبَدَّى حُسنُ صَنعتِــــــــــــهِ
وازَّخرَفَتْ جَنَّــــــــــــةٌ مخْمُورةُ النَّسَــمِ
يا نَبْعَــةَ الخلـقِ ، جَـلَّ اللهُ مُبْـدِعُهــــــا
يا آيةً صاغَها الرحمنُ مِن عَــــــــــدَمِ
منكِ ابْتُدِيتُ وأُسكِنْتُ الحَشـــــا وعلى
دَقَّاتِ قلبِكِ غَنَّى للجَمَـــــــــــــالِ فَمِي
أنتِ الحَنــانُ وقـــد أُرْضِعْتُــهُ لَبَنــــــــــاً
والعطفُ واللطُّفُ مِن مَكْنونِكِ الرَّخِمِ
ديباجُ صَـدرِكِ مَهْـدي ما أَحَبَّ ومـــا
أَهْنــا وما أَسْعَــــــدَ الأَحْـــــلامَ إِنْ أَنَمِ
قد كُنْتِ في جَنَّـــــــــةِ الأَرواحِ سَوْسَنَتي
فوَّاحَـــــــةَ العِطْرِ فيهــا سَـكرةُ القِدَمِ
ثُمَّ افْتَرَقْنا ، تُرى يا حُبُّ تجَمَعُنــــــا؟
وا لَهْفَ نفسي وهل تحَيــا بها رِمَمي ؟
(10)
قلْ لي ، بر بِّــكَ ، هل سمعتَ شعراً أو نَـثراً أو فكراً يفي المرأةَ حقَّها ، مثل ما تقدّم ؟ وهل نظر أحدٌ إلى حقيقتِها كما نَظَرَ إليها الصوفيّون ؟ وهل أَنْصَفَها نظامٌ أو دينٌ كما أَنْصفها الدينُ الإسلامي الحنيف ؟ أولم يأمر الله {سبحانه} في قرآنه العظيم بحسن معاملتهن إذ يقول فيما يتعلق بحسن معاشرة المرأة الزوج : ((.. وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً )) .(11) والمعاشرة بالمعروف تعني حسن الخلق مع العيال فيما ساءك ، وقال : ابن المبارك ( العشرة الصحيحة ، ما لا يورثك الندم عاجلاً ولا آجلاً )) . (12) (( فإن كرهتموهن فاصبروا فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا)) إمّا ولدًا صالحًا أو عاقبة حسنة في الدين. قال ابن عمر {رضي الله عنهما}: إن الرجل يستخير الله فيُخارُ له فيسخط على ربه ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خُيِرَ له )) . (13)
وحكي أنّ أبا الإمام مالك رضي الله عنه تزوج امرأة فدخل عليها فوجدها سوداء ، فبقي متفكرًا ولم يقربها ، فقالت له : هل استخرت ربك ؟ فقال : نعم ، فقالت : أتَتَّهمُ ربك ، فدخل بها ، فحملت بالإمام مالك (رضي الله عنه ) صاحب المذهب المعروف ، فأيُّ خير كان !
وقد جعل الرسولُ الكريم {عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم} حسن معاملة المرأة من مكارم الأخلاق وسوء معاملتها دليلاً على اللؤم وسوء الخلق حيث قال : ((النساء شقائق الرجال، ما أكرمهن إلاّ كريم، وما أهانهن إلاّ لئيم)) . (14) كما جعل مقياس القرب منه يوم القيامة هو لطف الرجل بأهل بيته ، فقال {عليه الصلاة والسلام} : ((أقربكم منـي مجالساً يوم القيامة ، ألطفكم بأهله)) . (15) وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة {رضي الله عنه } أنّ رسول الله {صلى الله عليه وسلم } قال ( لا يَفْرك مؤمنٌ مَؤمنة ـ أي : لا يُبْغِضها ـ إنْ سَخِطَ منها خُلقَا رضي منها آخر )) . (16) وقد قيل : غيّبَ عنك العواقب ؛ لئلا تسكن إلى مألوف ، ولا تفرَّ من مكروه .
وكان لسيّدنا الحسن بن عليٍّ زوجٌ من بنـي تَيْم صعبة المراس ــ يقال أنّ هذا كان شأن نساء بني تيم ــ فطلَّقها وله منها بنت ، فتزوّجها أخوه الحسين (رضي الله عنه وعنهم جميعاً) ليكفلَها وابنتَها ، فتحمّل منها الكثيرَ حتى إنّها ربّما حملت منه ووضعت وهي لا تكلمُه ، كما تقول ابنتُه السيدة سُكينة {رضي الله عنها وأرضاها} إذاً يقول الحقّ {جلّ جلاله} آمراً الرجال بمعاشرة النساء {بالمعروف} بأن يلاطفوهن في المقال ويجمُلوا معهن في الفعال ، ويتزيّنوا لهنّ كما يتزيّنَّ لهم . ليكونوا بمعاشرتهن في مقام الأنس وروح المحبة ، وفرح العشق حيث أنهم مخصّوصون بالتمكين والاستقامة والولاية ، فإن معاشرة النساء لا تليق إلاّ بالمستأنس بالله ، كالنبـي {صلى الله عليه وسلم }وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال ، حيث أخبر {صلى الله عليه وسلم} عن كمال مقام أُنْسِه بالله ورؤيته لجمال مشاهدته فقال : ((حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثَلاث : الطيب ، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة)) . (17)
قال ذو النون المصري (المستأنس بالله يستأنس بكلِّ شيءٍ مليحٍ ووجه صبيح ، وبكلّ صوت طيّبٍ وبكلِّ رائحةٍ طيّبةٍ)) . (18)
وجاء في تفسير حقي في معرض الكلام حول هذا الحديث : ((حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثلاث: الطيبُ والنساء وجعلت قرّةُ عينـي في الصلاة )) قوله : ((فهذا العشق والمحبّة إنمّا يكون لأصحاب النفوس القدسيّة وهم يطالعون في كلَّ شيءٍ ما لا يطالعه غيرهم)) . (19) ونحن في ذلك كلِّه إنّما نقتدي بسيِّدِنا رسولِ اللهِ {عليه وآله الصلاة والسلام}ونَشْرَبُ مِن مَعينِه الثَرِّ الصافي العذبِ . فقولُه : ((حُبِّبَ إليَّ النِساءُ)) إشارةٌ إلى الذاتِ ، ولا خَفاءَ ، لأنَّ المرأة َمخلوقةٌ من ضِلْعِ الرجلِ ، وضِلعُهُ ذاتُهُ بلا خُلْفٍ ، وبلا جُحْدانٍ ، والذات محبوبةٌ بالطبعِ لكلِّ واحدٍ ، تأسيساً، بمحبّةِ الواحدِ الأَحَدِ ، ولِذلك صَحَّ لمحمّدٍ{صلى الله عليه وسلّم} استيعابُ الكَمَالاتِ مِن سائرِ الجهاتِ ، ففاز بكمالاتِ الوُجودِ الخَلْقيِّ ، فإنْ كنتَ مُؤمناً فأنتَ منهُ لقولِه {صلى الله عليه وسلّم } : (( أنا من الله والمؤمنون منـي)) . (20) . فلا تخرجْ عنْهُ . اِطْلُبْ مَطلوبَهُ ، وارْغَبْ مَرْغوبَـهُ ، وأَحْبِبْ محبوبَهُ ، تَشْربْ مَشْروبَـه : ((لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حَسَنَةٌ لمن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخرَ وذكر اللهَ كثيراً .. {21})) . (22)
يقول الأستاذ : محمد الراشد في كتابه ، نظريَّةُ الحبِّ والاتّحاد في التصوّف الإسلامي : ((لكنّما معظم المتصوِّفة كانوا يُسْقِطون عِشْقَهم الأبديَّ هذا على الأنثى الرمزِ .. لا الأنْـثى الواقعِ ، الأنثى التي دخلتَ محرابَ القداسةِ والطُهرِ والتَعالي)) . (23)
ولمولانا جلال الدين الرومي في مَثْنَويّاتهِ قولٌ كريمٌ في المرأة يُبينُ
عن نظرتِهُ إلى المرأَةِ ، ويُظهرُ تعظيمَه لمكانتِها وهو مندرجٌ في هذا
الإطار ، يقولُ:
المرأةُ شعاعٌ من النورِ الأقــــــدسِ
وليستْ بغرضٍ للرغبَــةِ الجِنْسيَّةِ
لذا يجبُ أن يُقالَ هي خـالقـــــــةٌ . (24)
وكذلك ابنُ الفارضِ {رحمه الله }، فقد غَدا عندَه الجمالُ البَشريّ المتَجسِّدُ في المرأةِ بمثابةِ تَعيينٍ للإلهيِّ ، يقول في تائيّته :
وصرّحْ بإطلاقِ الجمالِ ولا تَقُلْ
بتقييدِه ميْلاً لزخرُفِ زينــــــــةِ
فكلُّ مليحٍ حسنُه من جمالهـــا
مُعارٌ لهـا بل حُسنُ كلِّ مليحــة
(25)
فالكلُّ يَعْشَقُ المرأةَ على أنّها رمزُ الأنوثةِ ، لكنَّ الصوفيَّ لا يقفُ
عندَ الصورةَ ، كما هو حـالُ غيرِهِ ، وإنّما يَتعـدّاهُ إلى الروح والمعنى ،
فمن ذلك قولي :
أَبحرتُ في عينيكِ أَسْتَجْلي الذي
خلفَ الجفون ورَفَّـةِ الأجفـــــانِ
فكشفتُ أسراراً وجُبْتُ عوالمـــــاً
جَلَّت عن الأسمــــــــــاء والألوانِ
(26)
فنحن إنّما نتعشّق الجمالَ المطلق ، حيثما لاح هذا الجمال ، متعالين على التعيينات الجزئيَّة ، والصُورِ الحسيَّة ، حيث لم نَرَ في ليلى وعَزَّةَ وسعادَ وبثينَةَ وغيرِهن سوى مَن نحبُّ لأنَّ المحبوبَ هو المتجلي في هذه الصورِ جميعاً . وهنا نجدُ أنْ لا بأسَ بالتذكيرِ بأنَّ ابنَ الفارضِ كان يَعشقُ امرأةً ، قيل إنَّ اسمَها وِصالٌ ، فكانت السببَ في تعلُّقِه بالحقِّ {جَلَّ وعَلا} فقد أوصلَهُ حبُّهُ القويُّ لها إلى التجريدِ وحُبِّ المطلقِ المتَجلي فيها وفي سواها ، ويُقالُ بأنّه أَجابها عندما طلبتْه لنفسِها : يا وِصال لقد كنتِ سببَ الاتصالِ ، فلا تكوني سَبَبَ الانفصالِ، شَأنُه في ذلك شأنُ المجنون {قيسٍ ابنِ المُلَوَّحِ} كما مرَّ مَعَنا ، عندما جاءته ليلى وهو يصيح ليلى .. ليلى ...ويأخذُ الجليدَ فيضعُه على قلبهِ فيذوبَ الجليدُ من شدَّةِ حرارةِ فؤادِهِ ، فسلّمت عليه ، وهو على تلك الحال وقالت له : أنا مطلوبُكَ أنا بُغيتُك أنا محبوبُكَ ، أنا قُرَّةُ عينِكَ .. أنا ليلى ، فالتفت إليها وقال : إليك عنّي فإنَّ حبَّـــك شغلنـي عنك. ولذلك اعتُبِرَ شهيداً ، لما أخرج الخطيب عن أمِّ المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنّ سيّدَنا رسولِ اللهِ {صلى الله عليه وسلم} قال : (( من عشق فعف ثمَّ ماتَ مات شهيداً )) . (27)
وروى الديلميّ عن ابن عبّاس { رضي الله عنهما} أنّه قال : (( خيار أمّتي الذين يعفّون إذا آتاهم الله من البلاء شيئاً ، قالوا وأيّ بلاء؟ قال هو العشق)) . (28)
وقد كان للسلف الصالح نظرة عطفٍ إلى أهل العشق ، من ذلك ما رواه الخرائطي في اعتلال القلوب قال: مرّ أبو بكر الصديق {رضي الله عنه} في خلافته بطريق من طرق المدينة ، فإذا بجاريةٍ تطحن وهي تقول :
وهويته من قبل قطع تمائمي متمايساً مثل القضيب الناعم
وكأن نورَ البدرِ سُنّةَ وجهِـهِ يُومي ويُصعد في ذُؤابةِ هاشم
فدق عليها الباب فخرجت إليه ، فقال: ويلك حرة أو مملوكة ؟ قالت: مملوكة يا خليفة رسول الله ، قال: فمن تهوين فبكت وقالت: يا خليفة رسول الله إلاّ انصرفتَ عنّي بحقِّ القبر ، قال : (( لا وحقِّهِ لا أَريم {أي لا أتحوّل} أو تُعلِمينَـنـي)) قالت :
وأنا التـي لعب الغرامُ بقلبها فبكت لحبِّ محمدٍ بنِ القاسِمِ
فبعث أبو بكرٍ إلى مولاها ، فاشتراها منه ، وبعث بها إلى محمدٍ بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب . {رضي الله عنهم جميعاً} . (29)
أرأيت إلى نظرة الإسلام إلى العشق ورحمتهم بالعشّاق ؟ ومن ذلك أيضاً أنّ الشيخُ عبد العزيز الدباغ {رحمه الله} يقول عند ذِكرِهِ قيساً بنَ الملوَّح ، مجنون ليلى رضي اللهُ عنه ، لأنَّه يعتبره شهيداً بناء على الحديث الشريف السالف الذكر {من عشق فعف ثمَّ ماتَ مات شهيداً}.
بينما كان حبُّ كُثيِّرٍ لعَزّةَ أقلَّ شأناً وأدنى منزلةً لأنّهُ ما بلغ مرتبةَ قيسٍ في صِدقِه وإخلاصِه . فقد حدَّث يحيى بنُ أَكثَمَ أنَّ كُثيّراً اجتمع مع عَزّةَ فتنكّرت له متنقبةً وقالت : من أنتَ ؟ قال: كُثيّرٌ . فقالت : وهل تركتْ عَزّةُ فيك نصيباً لغيرها ؟ فقال : لو أَنَّ عَزّةَ كانت أَمَةً لي لجعلتُها لك . فكشفت البُرقُعَ وقالت : أهذا أيضاً كَذِبُ الوُشاة؟.
(30)
وليس النساء بأقلَّ من الرجال في العشق لكنَّ طبيعة المرأة تمنعها من البوح ، فهي دائماً تحب أن تكون مطلوبة لا طالبة ، الأمر الذي يزيد في شغف الرجل بها وشوقه إليها ، ومن عشق النساء للرجال ما كان من حبّ السيدة زُليخا العنيف لسيدنا يوسف {عليه السلام} وسنوردها مفصَّلة في الفصل الخاص بقصص المحبّين إن شاء الله تعالى ، ولقد كان لصلة ابن حزم بالنساء منذ الطفولة حتى الصبا ، عن طريق المعاشرة والثقافة ، أثر كبير في ذوقه وشخصيته ويظهر ذلك في رأيه في النساء العاشقات وأوصافهن يقول : (( كنّا نظن أنّ العشق في ذوات الحركة والحدة من النساء أكثر ، فوجدنا الأمر بخلاف ذلك ، وهو في الساكنةِ الحركاتِ أكثرَ ما لم يكن ذلك السكونُ بَلَهاً . النفوس المقسومة في هذه الخلقة في أصل عنصرها الرفيع الأعلى )) . (31) وقد سئل عن صَباحة الصُور وأنواعِها فقال :
الحلاوة : رقّة المحاسن ولطف الحركات وخفّة الإشارات وقبول النفس لأعراض الصور وإن لم تكن ثم صفات ظاهرة .
ويقول أيضاً : (( القوام : جمال كل صفة على حدتها وربّ جميلِ الصفات على إنفراد كلِّ صفة منها بارد الطلعة غير مليح ولا حسن ولا رائع ولا حلو .
الروعة : بهاء الأعضاء الظاهرة {مع جمال فيها}وهي أيضًا الفراهة والعنق .
الحسن : هو الشيء ليس له في اللغة اسم يعبر به عنه ولكنه محسوس في النفوس باتّفاق كل مَن رآه وهو بُردٌ مكسوٌّ على الوجه وإشراقٌ يستميل القلوب نحوه فتجتمع الآراء على استحسانه ، وإن لم تكن هناك صفات جميلة فكل من رآه راقه واستحسنَه وقبِله حتى إذا تأمّلتَ الصفات إفراداً لم تَرَ طائلاً وكأنه شيء في نفس المرئي تجده نفس الرائي وهذا أجل مراتب الصَباحة .
ثم تختلف الأهواء بعد هذا فمن مفضِّلٍ للروعة ، ومن مُفضِّلٍ للحلاوة . وما وجدنا أحداً قطُّ يفضِّلُ القوامَ المنفرد.الملاحة:اجتماع شيء بشيء مما ذكرنا)) . (32)
وعن سفيان بن زياد قال قلت لامرأة من بنـي عُذرة ــ وقد رأيت بها هوى غالباً حتى خِفتُ عليها الموت ــ ما بال العشق يقتلكم معاشرَ عُذرة من بين أحياء العرب ؟
قالت : (( إنّ فينا جمالاً وتعفّفاً ، فالجمال يحملنا على العفاف ، والعفافُ يورثنا رقَّةَ القلوب ، والعشقُ يُفنـي آجالنا ، وإنّا نَرى محاجرَ لا تَرونَها)) . (33)
وعن الأصمعي أنه قال: ((لقد أكثر الناس في العشق فما سمعت أوجز ولا أجمل من قول بعض نساء العرب ، وسئلت عن العشق فقالت : ذل وجنون )) . (34)
وفي الحديث الشريف: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أسلَبَ لعقول ذوي الألباب منكن)) . (35)
حضر عند المأمون يوماً يحيى بن أكثم ، وثمُامة بن أشرس ، فقال المأمون ليحيى : خبرني عن حدّ العشق فقال : يا أمير المؤمنين سوانح تسنح للعاشق يؤثرها ويهيم بها تسمى عشقاً. فقال ثمُامة : اسكت يا يحيى ، فإنمّا عليك أن تجيب في مسألة من الفقه ، وهذه صناعتنا . فقال المأمون : أجب يا ثمامة . فقال : يا أمير المؤمنين إذا تقادحت جواهر النفوس المتقاطعة بوصل المشاكلة أثقبت لمحنورٍ ساطعٍ تستضيء به بواطنُ العقل فتهتزُّ لإشراقه طبائع الحياة ، ويتصور من ذلك اللّمحِ نورٌ حاضرٌ بالنفس متّصل بجوهرها فيسمى عشقاَ . (36) ولابن حزم في كلام في دُرُج المحبة وهي عنده خمسة، أولها :
الاستحسان : وهو أن يتمثل الناظر صورة المنظور إليه حسنة أو يستحسن أخلاقه وهذا يدخل في باب التصادق.ثم : الإعجاب به : وهو رغبة الناظر في المنظور إليه. وفي قربه. ثم : الألفة : وهي الوحشة إليه إذا غاب . ثم : الكَلَف : وهو غلبة شغل البال به وهذا النوع يسمى في باب الغزل بالعشق . ثم : الشغف : وهو امتناع النوم والأكل والشرب إلا اليسير من ذلك وربما أدى ذلك إلى المرض أو إلى التوسوس أو إلى الموت وليس وراء هذا منزلة في تناهي المحبة أصلاً . (37)
وحبُّ النساءِ فريضةٌ عند ابنِ عربي {رحمه الله} وله في ذلك حجةٌ تقوم على دليلٍ قويٍّ فلْنَسْتَمِعْ إليه يقول :
((وأَمّا النِسوانُ فنظرُ العارفين فيهنَّ ، وفي أَخْذِ الأَرْفاقِ منهنَّ ، وحنينُ العارفين إليهنَّ حنينُ الكُلِّ إلى جُزئهِ ، كاسْتيحاشِ المنازلَ لساكنيها التي بهم حياتُها ، ولأنَّ المكانَ الذي في الرجلِ ، الذي استُخرجتْ منه المرأةُ عَمَّرَهُ اللهُ بالميلِ إليها ، فحنينُه إلى المرأةِ حنينَ الكبيرِ وحُنُوَّه على الصغيرِ .. ولأنهنَّ محلُّ التكوين لصورةِ الكمالِ ، فحبُّهنَّ فريضةٌ ، اقتداءً به {عليه الصلاة والسلام} ..} . وبعدَ ذكرِه ِحديثَ: (حُبِّبَ إليَّ النساءُ والطيبُ وجُعِلتْ قُرَّةُ عينـي في الصلاة ..) يقول ((وهل حُبِّبَ إليه ما يُبعِدُه عن ربّه ؟ لا واللهِ ، بَلْ حُبِّبَ إليهِ ما يُقَرِّبُه مِن ربِّه )) . (38)
ولقد عَرَفت السيدةُ عائشةُ أمُّ المؤمنين {رضي اللهُ عنها} ما أَخَذَ النِساءُ مِن قلبِ رسول الله {صلى اللهُ عليه وسلّم } حين خَيَّرَهُنَّ فاخْتَرْنَهُ ، فأرادَ اللهُ تعالى جبرهنَّ وإيثارَهُنَّ في الوقت ، ومراعاتهن وإنْ كان بخلافِ مُرادِ رسولِ اللهِ {صلى الله عليه وسلَّم} فقال ( لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُـــكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)) . (39) فأَبْقى على ملك اليمين رحمةً به {صلى الله عليه وسلّم} لمِا جَعَلَ في قلبِه مِنْ حُبِّ النساءِ ، وهَذِهِ أَشَقُّ آيةٍ نَزَلتْ على رسولِ اللهِ {عليه الصلاةُ والسلام} فقالتْ عائشةُ {رضي الله عنها} : ((ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَ قلبَ نَبيِّهِ {صلى اللهُ عليه وسلّم} واللهِ ، ما ماتَ حتّى أَحَلَّ لهُ النساءَ)) .
فمن عَرَفَ قَدْرَ النساءِ وسِرَّهُنَّ لم يَزْهَدْ بحبِّهِنَّ ، بل مِنْ كَمالِ العارِفِ حُبُّهُنَّ ، فإنّه ميراثٌ نبويٌّ وحُبٌّ إلهي)) . (40 )
وحبُّ المرأة ينقّي النفسَ من رعوناتها ويُخفِّف من عَنجَهيَّتها، ويلطّف الطبعَ ، ويهذِّب السلوك ، ويعلّم الكَياسةَ والظَرْفَ ، ويدلّ على مكارم الأخلاق . وفيما يأتي بعضُ الآراء التـي عرضها صاحب كتاب {تزيين الأسواق في أخبار العشاق} ، فيما يتعلّق بهذا الباب :
شكا معلمُ سعيد بن مسلمة ولدَه إليه فقال : إنه مشتغل بالعشق . فقال : دعْه فإنّه يلطّف وينظّف ويظرّف . (41)
وكان أحدهم يبعث أحداثَ أهلِهِ إلى شيخٍ يعلمهم الحكمةَ فقال لهم يوماً: هل فيكم عاشق ؟ قالوا : لا . قال: اعشقوا وإيّاكم والحرام ، فالعشق يُفصّح الفتى ويذَكّى ، ويسخّي البخيل ويبعث على التنظيف وتحسين الملبس ، فلما انصرفوا قال لهم أبوهم : ما استفدتم اليوم ؟ قالوا : كذا وكذا . قال: نعم . وإنّما أخذه مما روي أنّ كسرى {بهرام جور} كان له ابنٌ أهّلَه للمُلك بعدَه ، وكان ساقطَ الهمَّةِ رديءَ النفْسِ سيءَ الخُلُقِ ، فغمَّه ذلك كسرى ووكّل به مَنْ يُعلّمُه ويؤدِّبه ، فلم يكن يتعلم ، فقال معلّمُه : كنّا نرجوه على حالٍ فحدث منه ما أيأسَنا وهو أنّه عشق بنتَ المَرْزُبان فقال : الآن رَجَوْتُ فلاحَه، ثمّ دعا أبا الجارية فقال : إنّي مستسر ٌّإليك سرّاً فلا يَعْدُوَنَّك، اِعلم أنّ ابْنـي عشِق ابنتَك وأريدُ أنْ أزوِّجَها منه ، فمُرْها بأنْ تُطْمِعَه مِن غيرِ أنْ يراها ، فإذا استحكم طمَعُهُ فيها أَعْلَمَتْهُ أنّها راغبةٌ عنْه لقلَّةِ أَدَبِهِ ، ثمّ قال للمعلم : خوِّفْهُ بي وشَجِّعْهُ على مراسلةِ المرأةِ ، ففعلت المرأةُ ما أُمِرَتْ به فقال الغلامُ في نفسِه : أنا أَجتهد في تحصيلِ ما أصِلُ إليها به ، فأخذَ في التَأَدُّب وتعلّمَ الشجاعةَ. ثم قال أبوه للمؤدِّب : شجِّعْهُ على أنْ يَرفعَ أمرَها ويَسْألَنـي أنْ أُزوِّجَها منه ، ففعل فزَوَّجَها من ابنِه ، وقال : لا تَزْدَريَنَّ بها في مراسلتِها إليك فإنّي كنتُ أمرتُها بذلك ، وإنَّ مَن صار سبباً لعقلِكِ فهو أعظمُ الناسِ بركةً عليك . قال العَرْجيُّ :
تجشُّمُ المـــــــــــــرءِ هولاً في الهـــــــــــــــوى كرمُ
وقال آخر:
لا عار في الحبِّ إنَّ الحُبَّ مَكْرُمةٌ
لكنّــه ربمّــــــــــــا أَزْرى بذي الخَطرِ
(42)
وقيل: لو لم يكن في العشق إلا أنّه يشجّع الجبانَ ، ويُصفّي الأذهانَ ويبعثُ حَزْمَ العاجزِ لَكفاهُ شَرَفاً . قال في ذلك أحدُ الشعراء :
الحبُّ شجّعَ قلبَ كلِّ فَروقَةٍ والحبُّ حَمّلَ عاجزاً فأَطاقا
(43)
وإليك بعض ما ورد في ذمّ من لا يعشق وكَدَرِ حياتِه . قال المَرْزُباني : سئل أبو نوفل هل يسلم أحدٌ من العشق ؟ فقال : نعم الجِلْفُ الجافي الذي ليس له فضلٌ ولا عندَه فهم ، فأمّا مَن في طبعِه أدْنى ظَرفٍ أو معه دَماثةُ أهلِ الحجاز ِوظَرْفُ أهلِ العراق فهيهات .
وقال آخر : لا يخلو أحدٌ من صَبْوةٍ إلاّ أنْ يكون جافيَ الخِلقة ناقصاً أو منقوصَ الهمّة ، أو على خلافِ تركيبِ الاعتدال . (44)
واعلم بأنّ العشقَ يَحسُنُ بأهلِ العفّة والوفاء، ويقبحُ بأهل العهر والخَنى وقال أعرابي : مَن لا يَعشقُ فهو رديءُ التركيب جافي الطبعِ كَزُّ المَعاطفِ .وكان ابنُ أبي مُلَيْكةٍ يُؤذّنُ يوماً فسمِع غناءً فطرِب فقال:
إذا أنت لم تطرب ولم تدْرِ ما الهوى
فكن حجراً من يابسِ الصخرِ جَلْمَدا (45)
وقال أيضاً:
مَن عاش في الدنيــــــا بغـــــيرِ حبيبِ
فحياتُه فيهـا حيــــــــاةُ غــــــريبِ
ما تَنْظُرُ العينــــــــــــانُ أحسنَ مَنْظـــراً
مِـن طالبٍ إلْفاً ومِن مطلـــــــوبِ
ما كان في حُـــــــورِ الجِنـــــــــــان لآدمٍ
لو لم تَكُنْ حــــوّاءُ مِنْ مَرْغوبِ
قد كان في الفردوس يشكو وحشــــــــةً
فيهـا ، ولم يأنسْ بغــــيرِ حبيبِ
(46 )
وقال العباس بن الأحنف مخاطباً مَن يَعُدُّ الحبَّ ذنْباً بأنَّه يَعُدُّ الحبَّ طاعةً يَدّخرُها لآخرته :
أستغفرُ اللهَ إلاّ مـِـن محبَّتِـكـم
فإنّها حسنـاتي يـــوم ألقــــــــاه
فإن زعمتَ بأنّ الحُبَّ معصيةٌ
فالحبُّ أحسنُ ما يُعصى به الله
(47)
وجاء في تفسير حقي الآتي : واعلم أنَّ أسبابَ المغفرةِ كثيرةٌ أعظمُها العشقُ والمحبَّةُ فانَّ الله تعالى إنمّا خلق الإنسَ والجِنَّ للعبادة المُوصِلَةِ إلى المعرفة الإلهيَّةِ والجَذْبةِ الرَبّانيَّة . وقال {صلى الله عليه وسلم} : ((جَذْبةٌ من جذبات الحقّ توازي عملَ الثقلين )) . (48) ولي في ذلك :
سقيتُ السُهْـــدَ كوباً بعــــدَ كوب
وما أقسى السُهـــــــــــادَ على القلوبِ
أفيضي مـا استطعتِ الكوبَ إنّي
لَعَمْــــرُك مــا سَكِرْتُ ببنتِ كـوبِ
أتوبُ ! وهل يُعَدُّ الحُبُّ ذنبـــــاً؟
فإنْ شئتِ المَتـــــــــــابَ ألا فتــــوبي
غرامُكِ يا مَليحةُ ألفُ ذنبٍ
تلاحقـني ... ومــــا أحلى ذنـــوبي
(49)
وقيل بـأنّ ذنوبَ العشاق ذنوبُ اضطرارٍ لا اختيار ، ومن كان كذلك لم يستحق عقوبة . وقال عبد الله بن جُنْدُبٍ: خرجتُ فرأيتُ فُسّاقاً فيهنَّ امرأةٌ كأنّها منحوتةٌ من فِضَّةٍ فتمثّلتُ بقول قيسٍ بنِ ذَريح :
خذوا بدمي إن مِتُّ كلَّ خريدةٍ
مريضةِ جَفنِ العينِ والطرفُ فاترُ
فقالت المرأة : يا ابنَ جُندبٍ إنّ قتيلَنا لا يُودى وأسيرَنا لا يُفدى . (50) وقال ابن العباس : قتيلُ الهوى هَدْرٌ ولا عَقْلَ ولا قوَد.((أي لا دِيَةَ له ولا ثأر)).(51) وعن الجنيد{رضي الله عنه} قال أَنفذَني السِريُّ في حاجةٍ فلمّا قضيتُها دَفَعَ إليَّ رُقعةً وقال : قد أَجَزْتُك هذه الرُقعة ففتحتُها فإذا فيها :
ولمّا شَـــــكَوْتُ الحُبَّ قالت : كَذَبْتَنـي
ألستُ أرى منكَ العِظام كواسيــــــا؟
وما الحُبُّ حتّى يَلصَقَ بالجِلْدِ الحشا
وتخرسَ حتّى لا تجيبَ المُنـــــــــــاديا
وتَضعُفَ حتّى لا يُبقي لك الهــــــوى
سوى مقلــــةٍ تَبـكي بها وتُناجيـــــــــا
(52)
وسلطانُ المحبِّةِ أقوى سلطان ، وتاجُ الجمال أعزُّ التيجان ، ومُلكُه هو الأبقى بينما عرشُ المُلوكِ كثيرُ الطامعين والأعداء والأخصام ، بينما عرشُ الجمال مسيجٌ بأرواح المحبّين وقلوب العاشقين وأفئدة النسّاك والمتعبّدين . وفي ذلك أقول :
عرشُ الجمالِ أعزُّ عرشٍ في الدُنا
والملْكُ ــ إلاّ ما مَلَكتِ ــ مُهـانُ
ولكُلِّ مَلْكٍ في الورى أعــــــــداؤهُ ؛
تبّـاً لملْكٍ ليس فيـه أمـــــــــــانُ
أمّا الجمـــالُ ففي القلوبِ متوَّجٌ
ومسيَّـجٌ بالعاشقـين مُصــــانُ
والناسُ فيــــــــه مَــذاهـبٌ فمنعَّمٌ
ومعذَّبٌ متلهِّفٌ حَـــــــــــرّانُ
ومتيّمٌ يرجــو الوصـــــالَ ويتَّقي
هَجْرَ الحبيبِ وللهوى أشجانُ
وبِـــهِ يرى النُسّاكُ مجـــلا رَبِّهم
فبِهِ تجلّى المبدعُ الرحمن (53)
قيل بأنّه كان للخليفة العبّاسي هارون الرشيد {رحمه اللهُ} ثلاثُ جوارٍ اشتدَّ شَغَفُه بهنّ فقال :
مَلَكَ الثلاثُ الآنساتُ عِناني وحَلَلْنَ من قلبي بكلِّ مكانِ
مالي تُطاوعُنـي البريّةُ كلُّها وأطيعُهنَّ وهُنَّ في عِصيـاني
ما ذاك إلاّ أنَّ سلطانَ الهوى وبـه قَوِينَ،أَعـزُّ مِن سُلطاني
(54)
وقال عروة :
وكم من كريمٍ قد أضرَّ به الهوى
فعوَّدَه مـــــــــــــــــا لم يَكنْ يَتعَوَّدُ
أمّا كُثيّرُ عزَّة فيقول:
ضَعائفُ يقتلْنَ الرجالَ بلا دَمٍ
فيـــا عَجَباً للقاتلات الضعائفِ
وللخيزارزي في نفس الموضوع :
ولربّ عبـــــــدٍ في الهوى يَسْتَعْبِدُ الحُرَّ المطاعـــــــا
أمّا عن عذاب الهوى وما يلاقيه العشّاق من لوعة الفراق وألَمِ السهدِ ولواعِجِ الغرام والأسقام . فقد قيل لرجل: إنّ ابنَك قد عشق . فقال: لقد عذَّب قلبَه وأبكى عينَه وأطال سَقَمَه . وقال ابنُ الروميِّ :
أَهْوى الهوى كلَّ ذي لُبٍّ فلستُ أَرى
إلاّ صحيحاً له أفعـــــــــــــــالُ مجنونِ
ومِن لازِمِ المحبّة الصادقةِ الإخلاصُ فيها ، وعلامتُه دوامُ ذكر ِالمحبوبةِ والنظرُ إليها على أنّها الأجملُ والأكملُ من بين نساء الأرض حتى ولو كان للناس فيها رأيٌ آخر . يقول المجنون :
وقالوا عنكِ سوداءُ حبشيّـــــــــةٌ
ولولا سوادُ المسكِ ما انْباع غاليا
أمّا أبو تمّام فيقول في ثبات القلب على حبِّه الأول مهما رأت
عيناه من حسن:
نَقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى
مـــــــــــــا الحُبُّ إلاّ للحبيـبِ الأوّلِ
كم منزلٍ في الأرض يألفُـــــــه الفتى
وحنينُـــــــه أبـــــداً لأوّلِ منـزل !
وقد نقضَه ديكُ الجنّ ، الحمصيُّ فقال :
نقل فؤادك حيثُ شئتَ فلن ترى
كهوًى جديدٍ أو كوصلٍ مُقْبِــــــلِ
وقد قلتُ في هذا الموضوع إنّما كان لي رأيٌ مختلفٌ باختلاف النظرةِ إلى الحبِّ :
يا غيمةَ الصيفِ : حَسْبي منكِ مُكْتَسَبا
مَرُّ الظــــلالِ على قلبٍ قد التَهَبــــــا
مَن قال ــ يَحْسَبُ أنَّ الأمــــــرَ في يَدِهِ ــ
لا يعشقُ القلْبُ إلاَّ واحداً .... كَذَبـــــــــا
ما سُمِّيَ القلبُ إلاّ مِــن تَقَـلُّبِـــــــــــــــــه
فلْيَسْألِ القلبَ عــن بَلْواهُ مَنْ رَغِبـــــــــــا
في كلِّ سانحــــــةٍ يُجْلى الجمـــالُ لنــا
في قَدِّ ذي هَيَفٍ سبحان مَـن وَهَبــــــــــا
يُلْقي إلى القلبِ من أهــــدابه شَـــــركاً
هلْ يعشق القلبُ إلاّ الأغيدَ الرَطِبا (55)
ذلك لأنّنـي أعشق الجمال المطلق المتجلّي في كلِّ وجهٍ وصورة ولا أعبدُ مخلوقاً بعينه كائناً من كان . أمّا ابنُ أبي طاهر فيقول :
عدِمتُ فؤادي من فؤادٍ ، فمـا أشقى
وأكثـــرَ مَن يَهوى وأعظمَ مــــــا يلقى
فلو كان يهوى واحداً لعذرتُــــــــهُ
ولكنّه مـن جهلِه يعشقُ الخلقـــا
ثمانون لي في كلِّ يومٍ أُحِبُّهـــــــم
وما في فؤادي واحدٌ منهمُ يبقى
وما أحسن ما قال أبو العتاهية في التفاني بالإخلاص :
ولي فؤادٌ إذا طال العــــــــذابُ به
هام اشتياقاً إلى لُقيــا معَذِّبِه
يفديك بالنفس صَبٌّ لو يكون لـــه
أعزُّ من نفسِه شيءٌ فَداك به
ولابن ميّادةَ في انشغاله بمن يحب من حسن القول :
فما مسَّ جنبـي الأرضَ إلاّ ذكرتُها
وإلاّ وجدتُ ريحَها في ثيابيــــــــــــــا
وللبحتريّ في نفس الموضوع :
كاسٌ تذكّرني الحبيبَ بلونِها وبشمِّها وبطعمِها وحَبابِها
ولعاشقٍ آخر قوله :
أريد لأنسى ذكرها فكأنمّا تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ سبيلِ
أمّا جميلُ بثينة فيقول في استحضار محبوبته باستمرارٍ :
وإنّي لأستحييكِ حتّى كأنمّا
عليَّ بظهرِ الغيبِ منكِ رقيبُ
وفي نفس المعنى يقولُ أشجع :
ويمنعني من لذَّة العيش أنّني أخاف إذا قارفتُ لهواً ترانيا
أمّا مجنون بنـي عامرٍ،فإنَّ ليلاه تشغَلُه حتّى في صلاته حيث لا يدري كم صلى، يقول :
أصلي فما أدري إذا ما ذكرتُها
اثنتين صلّيتُ الضُحى أم ثمانيــا
ومثلُه الخبزارزي ، بل هو أكثر انشغالاً بمن يحب في صلاته يقول :
أَلِفْتُ هواك حتى صرتُ أَهْذي
بذكركِ في الركوع وفي السجودِ
ويقول آخر :
وإنّي لَتَعْروني لذكراكِ هِـــــزّةٌ
لها بين جِلدي والعظامِ دبيبُ
وهو من جيد الشعر في تصوير عمق مشاعر الحبِّ ، لكن
الأجودَ منه قولُ أبي الشيص حيث أجمع الأدباء على تفضيله ، وهو قولُه :
وقَفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي
متأَخَّرٌ عنــــــــه ولا متقــــــــــــــــــــدَّمُ
أَجِـــــــــــــــــدُ المَلامَةَ في هواكِ لذيذةً
حبّاً لذكرِكِ فلْيَلُمْنـي اللُّــــــــــــــــــــوَّم
أشبهتِ أعــــــــدائي فصِـرْتُ أُحبّهم
إذ كان حظّي منكِ حظّي منهــــــــــمُ
وأَهَنْتِنـي فأهنتُ نفسي صـــــــــاغراً
ما مَــــن يهـون عليــــكِ ممـن يَكْرُمُ
(56)
أمّا ما أوجبه الله من حقوق للمرأة فحدّث ولا حرج ، سواءً أ كانت أمّا أو زوجاً أو رحماً . أوَ لم يوجب اللحقُّ {سبحانه} طاعتها ــ والأب ــ وجعل ترتيب طاعتها بعد طاعته مباشرةً بقوله(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً )) . (57)
و عن أبي هريرة {رضي الله عنه} قال : جاء رجلٌ إلى النبـي {صلى الله عليه وسلم} فقال : يا رسول الله ، مَنْ أحَقُّ الناس بِحُسْن صَحابتـي ؟ قال : ((أمُّك)) قال : ثم مَنْ ؟ قال : ((أمُّك)) ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : ((أمُّك)) ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : ((أبُوك)) . وفي رواية قال : ((أمَّك ، ثم أمك ، ثم أباك ، ثم أدناكَ أدناك)) . (58) وعن أنس قال : قال رسول الله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه ، ويُنسأ له في أثره ، فلْيَصِلْ رحمَه)) . (59)
ثانياً : من وصلها وصله الله . كما في حديث: ((من وصلنـي وصله الله)) . ثالثاً : من أسباب دخول الجنة .عن أبي أيوب أن رجلاً قال : يا رسول الله ، أخبرني بعمل يدخلنـي الجنة ويباعدني من النار ، فقال النبـيّ : ((تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم)) . (60 )
كما جعل النبـيُّ {عليه الصلاة والسلام} السعي على العيال من أفضل العمل وأجره من أعظم الأجر ، قال : ((وَمَنْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِمَّنْ سَعَى فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ ، وَمَنْ ضَيَّعَ أَهْلَهُ ، وَقَطَعَ رَحِمَهُ حَرَمَهُ الله حُسْنَ الْجَزَاءِ يَوْمَ يَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَصَيَّرَهُ مَعَ الْهَالِكِينَ )) . (61)
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } قَال : قَالَ رَسُولُ اللهِ {صلى الله عليه وسلم} : ((نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ صَدَقَةٌ)). (62)
وعنه أيضاً قال: قال النبـي {صلى الله عليه و سلم } : ((إذا أنفق الرجلُ على أهله نفقةً و هو يحتسبها فهي له صدقة)) . (63)
وجاء الوعيد على من ضيّع مَن يعول ، فقد جاء في صحيح مسلم ((كفى بالمرء إثـمــاً أن يحبس عمّن يملك قوتَه)) ، وجاء في رواية الترمذي ((كفى بالمرء إثـمـــاً أن يُضيّعَ مَن يَقوت)) .
وتربية ثلاث بنات أو أخوات تربية حسنة ورعايتهن تكسب صاحبها جوار النبي الكريم في جنات عدن يوم القيامة ، يقول {عليه الصلاة والسلام} فيما رواه كل من الإمام أحمد وأبو يعلى عن أنس بن مالك {رضي الله عنه} : ((مَن كان له ثلاثُ بنات أو ثلاثُ أخَوات فاتّقى اللهَ وقامَ عليهِنَّ ، كان معي في الجنَّة كهذا ، وأشار بأصابعه الأربع)) . (64)
وانظر إلى رحمة النبـي {عليه الصلاة والسلام} بالمرأة وتلطفه بها إذ نهى الرجل المسافر عن الدخول على عياله ليلاً فيفاجئها بعودته من السفر ، وأمره بأن ينتظر طلوع الفجر ليدخل بيته حيث تكون زوجه قد استيقظت واستعدّت للقائه . فعن ابن عباس {رضي الله عنهما} : أنّ رسول الله {صلى الله عليه و سلم} قال : ((لا تطرقوا النساء ليلا)) يعنـي إذا قدم أحدكم من سفر لا يأتي أهله إلاّ نهاراً . (65) بل لقد عدّ الرحمة المهداة {عليه الصلاةُ والسلام} لَهْوَ الرجلِ مع زوجه وملاعبتَها ومداعبتَها طاعةً يؤجر المرءُ عليها فقد روى الإمام الطبراني في المعجم الكبير عن جابر الأنصاري أنه سمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول : ((كل شيء ليس من ذكر الله عزَّ و جل فهو لَهْوٌ أو سهوٌ إلا أربعَ خصالٍ ، مشيُ الرجلِ بين الغرضين وتأديبُه فرسَه وملاعبةُ أهله وتعلُّم السباحة)). (66) بل علّمنا {صلى الله عليه وسلم} حسن معاشرتها في أمرٍ دقيق جدّاً من العلاقة الزوجيّة يغفل عنه الكثير من الرجال حيث يقضي وطره منها ويروي غريزته دون الاكتراث بزوجه وحاجاتها الجنسية ، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، {رضي الله عنه} قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله {صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم} : (( إِذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَصْدُقْهَا ، ثُمَّ إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَ ، فَلاَ يَعْجَلْهَا حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَهَا )) . (67)
ثم إنَّ اللّذةُ في الحبِّ ــ بحدِّ ذاتها ــ مطلبٌ شرعي بحدودِهِ ، سواءً أكان ذلك في النظر إلى الجميل ، أو في التلذّذ بسماع الأصوات الحسنة ، أو في غير ذلك من الجمالات المعنويّة ، أو كان ذلك في المأكل أو المشربِ أو المنكح ، قال تعالى : ((..كلوا من طيّبات ما رزقناكم)) . (68) وقال : ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع)) . (69) وفي النهي عن ترك هذه الطيبات ، أو تحريمها قال : ((قُلْ مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرزق )) .(70) فمن هذا الذي يحرّم ما أحلَّ الله ! ولا يجرؤ على ذلك إلاّ زنديق ملحد ، وأما زهد بعض الحكماء بالمرأة كأبي العلاء المعريِّ وغيره ممن أوتو
مواضيع مماثلة
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الثاني)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الثالث)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الخامس /1/)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الخامس /2/)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب السادس)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الثالث)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الخامس /1/)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب الخامس /2/)
» المرأة في الغزل الصوفي ( الباب السادس)
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود