عبرة ودعوة من صاحب خبرة
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
عبرة ودعوة من صاحب خبرة
ذهبت سنة ست وأربعين إلى مصر وكان الطريق على فلسطين، فأقمت فيها عشرة أيام، وكان لي فيها أصدقاء من الوطنيين العاملين، فلُمتهم على قعودهم وإهمالهم جمعَ المال وشراء السلاح وقيام اليهود، فقالوا إن الأيدي مقبوضة والنفوس شحيحة. قلت: لا، بل أنتم المقصرون. قالوا هذا تاجر من أغنى التجار، فهلمّ بنا إليه تنظر ماذا نأخذ منه.
وذهبت معهم إليه في مخزن كبير حافل بالشارين، وحوله ولدان له شابان يتفجران صحة ورجولة وجمالاً. وكلمناه، وحشدت له كل ما أقدر عليه من شواهد الدين وأدلة المنطق ومثيرات الشعور، فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية، ما أحسّت بها فضلاً عن أن ترتجّ منها. وقال: أنا لا أقصر، أعرف واجبي وأدفع كل مرة الذي أقدر عليه. قلت: وهل أعطيت مثل الذي يعطي تجار اليهود؟ قال: وهل تمثّلني بتجار اليهود؟ قلت: وهل أعطيت مرة مالك كله؟
فشُده وفتح عينيه، وظنّ أن الذي يخاطبه مجنون وقال: مالي كله؟! ولماذا أعطي مالي كله؟ قلت: إن أببا بكر لما سُئل التبرع للتسلح أعطى ماله كله. قال ذاك أببو بكر، وهل أنا مثل أبي بكر؟ قلت: عمر أعطى نصف ماله، وعثمان جهز ألفاً...
فلم يدعني أكمل وقال، يا أخي أولئك صحابة رسول الله، الله يرضى عنهم. أين نحن منهم؟ قلت: ألا ترى أن البلاد في خطر وأننا إذا لم نعط القليل ذهب القليل والكثيير؟ قال: يا أخي الله يرضى عليك اتركني بحالي. أنا رجل بيّاع شرّاء لا أفهم في السياسة وليس لي بها صلة، وهذا مالي حصّلته بعرق جبيني وكدّ يميني، ما سرقته سرقة، فهل تريد أن أدفعه وأبقى أنا وأولادي وأحفادي بلا شيء؟ قلت: ما نطلب منك مالك كله ولكن نطلب عُشره.
قال: دفعت ما عليّ، ما قصرت. وأعرض عنا وأقبل على عمله.
ومرّت سبع سنوات، وذهبت من سنتين (أي سنة 1953) إلى المؤتمر الإسلامي في القدس، ومررنا في الطريق بمخيّم اللاجئين، وأقبل الناس يسلّمون علينا، وإذا أنا بشيخ أبيض اللحية محنيّ الظهر غائر الصدغين رثّ الثياب، أحسست لما التقت العينان كأن قد برقت عيناه برقة خاطفة وكاد يفتح فمه بالتحية، ثم تماسك وأغضى وارتبك كأنه يريد الفرار. فلما انتهى السلام راغ مني ودخل في غمار الناس. ولبثت أفكر فيه من هو وأين قابلته، فما لبثت أن ذكرته، وتكشّف لي المنسيّ فجأة كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور.
إنه هو، هو يا سادة، وكلمته فتجاهلني، فلما ألححت عليه اعترف. ولم أشمت به، ومعاذ الله أن يراني أنحدر إلى هذه الدرك. ولم أُزعجه بلوم أو عتاب، ولكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام، لذلك استبقني فقال: لا تقل شيئاً، هذا هو القدرن ولو كان لله إرادة لألهمني وألهم إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك. قلت: أولم يبقَ لك شيء؟ فابتسم ابتسامة حزينة يقطر من حواشيها الدمع وقال: بلى، بقي الكثير؛ بقيت الصحة والثقة في الله، وبقي هؤلاء. وأشار إلى امرأة عجوز وطفل صغير.
قلت: لا تيأس من رحمة الله. قال الحمد لله أن جعلنا عبرة، ولكن أرجو أن يكون إخواننا في الشام ومصر والأردن قد اعتبروا بنا. ونظرت إلى الطفل فسمعت العجوز تقول له: قبّل يد عمك فجاء وجسده المحمارّ من البرد يبجو من ثقوب الثوب كزرّ من الورد أخذَت تتفتح عنه الأكمام. كان بثوبب رقيق ممزق وأنا في المعطف الثقيل والعباءة من فوقي وأحس البرد يقرص عظامي.
وأحسست بقلبي يتمزق كتمزق هذه الأسمال، ولم يكن معي ما أساعده به إلا أن نزعت العباءة فلففته بها، وقلت لنفسي فليُسعد النطق إن لم يُسعد الحالُ. ورحت أكلمه فلم أجد إلا أن قلت له: أتحب بابا؟ أحسب أن الشيخ أبوه، فقالت العجوز للولد: قول له: بابا في الجنة. قال: بابا في الجنة. أعادها بلهجته كأنه ببغاء ليس يدري ما يقول، فسكتُّ حائراً ملتاعاً. ثم أردت أن أقطع حبل الصمت بأي كلام فقلت: ماذا تصنع الآن؟ قال: إنني أوفّر لأشتري السكين لأذبح اليهود كما ذبحوا بابا. وسكت ونطقت العيون؛ لقد بكيت وبكى الحاضرون جميعاً، ومشيت وأنا لا أبصر من الدموع طريقي.
ذكريات الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله ج 7
وذهبت معهم إليه في مخزن كبير حافل بالشارين، وحوله ولدان له شابان يتفجران صحة ورجولة وجمالاً. وكلمناه، وحشدت له كل ما أقدر عليه من شواهد الدين وأدلة المنطق ومثيرات الشعور، فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية، ما أحسّت بها فضلاً عن أن ترتجّ منها. وقال: أنا لا أقصر، أعرف واجبي وأدفع كل مرة الذي أقدر عليه. قلت: وهل أعطيت مثل الذي يعطي تجار اليهود؟ قال: وهل تمثّلني بتجار اليهود؟ قلت: وهل أعطيت مرة مالك كله؟
فشُده وفتح عينيه، وظنّ أن الذي يخاطبه مجنون وقال: مالي كله؟! ولماذا أعطي مالي كله؟ قلت: إن أببا بكر لما سُئل التبرع للتسلح أعطى ماله كله. قال ذاك أببو بكر، وهل أنا مثل أبي بكر؟ قلت: عمر أعطى نصف ماله، وعثمان جهز ألفاً...
فلم يدعني أكمل وقال، يا أخي أولئك صحابة رسول الله، الله يرضى عنهم. أين نحن منهم؟ قلت: ألا ترى أن البلاد في خطر وأننا إذا لم نعط القليل ذهب القليل والكثيير؟ قال: يا أخي الله يرضى عليك اتركني بحالي. أنا رجل بيّاع شرّاء لا أفهم في السياسة وليس لي بها صلة، وهذا مالي حصّلته بعرق جبيني وكدّ يميني، ما سرقته سرقة، فهل تريد أن أدفعه وأبقى أنا وأولادي وأحفادي بلا شيء؟ قلت: ما نطلب منك مالك كله ولكن نطلب عُشره.
قال: دفعت ما عليّ، ما قصرت. وأعرض عنا وأقبل على عمله.
ومرّت سبع سنوات، وذهبت من سنتين (أي سنة 1953) إلى المؤتمر الإسلامي في القدس، ومررنا في الطريق بمخيّم اللاجئين، وأقبل الناس يسلّمون علينا، وإذا أنا بشيخ أبيض اللحية محنيّ الظهر غائر الصدغين رثّ الثياب، أحسست لما التقت العينان كأن قد برقت عيناه برقة خاطفة وكاد يفتح فمه بالتحية، ثم تماسك وأغضى وارتبك كأنه يريد الفرار. فلما انتهى السلام راغ مني ودخل في غمار الناس. ولبثت أفكر فيه من هو وأين قابلته، فما لبثت أن ذكرته، وتكشّف لي المنسيّ فجأة كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور.
إنه هو، هو يا سادة، وكلمته فتجاهلني، فلما ألححت عليه اعترف. ولم أشمت به، ومعاذ الله أن يراني أنحدر إلى هذه الدرك. ولم أُزعجه بلوم أو عتاب، ولكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام، لذلك استبقني فقال: لا تقل شيئاً، هذا هو القدرن ولو كان لله إرادة لألهمني وألهم إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك. قلت: أولم يبقَ لك شيء؟ فابتسم ابتسامة حزينة يقطر من حواشيها الدمع وقال: بلى، بقي الكثير؛ بقيت الصحة والثقة في الله، وبقي هؤلاء. وأشار إلى امرأة عجوز وطفل صغير.
قلت: لا تيأس من رحمة الله. قال الحمد لله أن جعلنا عبرة، ولكن أرجو أن يكون إخواننا في الشام ومصر والأردن قد اعتبروا بنا. ونظرت إلى الطفل فسمعت العجوز تقول له: قبّل يد عمك فجاء وجسده المحمارّ من البرد يبجو من ثقوب الثوب كزرّ من الورد أخذَت تتفتح عنه الأكمام. كان بثوبب رقيق ممزق وأنا في المعطف الثقيل والعباءة من فوقي وأحس البرد يقرص عظامي.
وأحسست بقلبي يتمزق كتمزق هذه الأسمال، ولم يكن معي ما أساعده به إلا أن نزعت العباءة فلففته بها، وقلت لنفسي فليُسعد النطق إن لم يُسعد الحالُ. ورحت أكلمه فلم أجد إلا أن قلت له: أتحب بابا؟ أحسب أن الشيخ أبوه، فقالت العجوز للولد: قول له: بابا في الجنة. قال: بابا في الجنة. أعادها بلهجته كأنه ببغاء ليس يدري ما يقول، فسكتُّ حائراً ملتاعاً. ثم أردت أن أقطع حبل الصمت بأي كلام فقلت: ماذا تصنع الآن؟ قال: إنني أوفّر لأشتري السكين لأذبح اليهود كما ذبحوا بابا. وسكت ونطقت العيون؛ لقد بكيت وبكى الحاضرون جميعاً، ومشيت وأنا لا أبصر من الدموع طريقي.
ذكريات الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله ج 7
رد: عبرة ودعوة من صاحب خبرة
كلنا مقصرون في حق الله وفي حق الوطن وفي حق أنفسنا
حسبنا الله ونعم الوكيل
حسبنا الله ونعم الوكيل
بياع الورد- أرمنازي مميز
- عدد المساهمات : 335
نقاط : 908
السٌّمعَة : 18
تاريخ التسجيل : 13/11/2008
العمر : 46
مواضيع مماثلة
» عبرة ودعاء
» وهذه عبرة في قصة - أين تبذل الجهد في حياتك
» حوار بين اصابع اليد الخمسة؟؟فيها عبرة
» خبر عاجل :سوف يتم تعذيب صاحب المنتدى
» تعلم من البهائم يا صاحب القلم الهائم
» وهذه عبرة في قصة - أين تبذل الجهد في حياتك
» حوار بين اصابع اليد الخمسة؟؟فيها عبرة
» خبر عاجل :سوف يتم تعذيب صاحب المنتدى
» تعلم من البهائم يا صاحب القلم الهائم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود