فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 88
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 88
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.
(88)
قولُه تعالى شأنه: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} النَفيُ والخِطابُ لِجميعِ المؤمنين، وما فيه مِنْ معنى التَوبيخِ لِبَعضِهم فَمَا لَكُمْ أَصْبَحْتُمْ فِئَتَينِ فِي المُنَافِقِينَ، وَاخْتَلَفْتُمْ فِي كُفْرِهِمْ، مَعَ تَظَاهُرِ الأَدِلَّةِ عَلَيهِ، فَلَيْسَ لَكُمْ أنْ تَخْتَلِفُوا فِي شَأنِهِمْ، وَكَيْفَ تَفْتَرِقُونَ فِي شَأنِهِمْ وَقَدْ صَرَفَهُمُ اللهُ عَنِ الحَقِّ الذِي أَنْتُمْ عَلَيهِ، بِمَا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ، وَاجْتَرَحُوا مِنَ المَعَاصِي.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَقْتُلُهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا، فَنَزَلَتْ "فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ". وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْمَعْنِيُّ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ خَذَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَرَجَعُوا بِعَسْكَرِهِمْ بَعْدَ أَنْ خَرَجُوا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي (آلِ عِمْرَانَ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمٌ بِمَكَّةَ آمَنُوا وَتَرَكُوا الْهِجْرَةَ، قَالَ الضَّحَّاكُ: وَقَالُوا إِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَدْ عَرَفَنَا، وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا. فَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ فِئَتَيْنِ قَوْمٌ يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَقَوْمٌ يَتَبَرَّؤونَ مِنْهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ". وَذَكَرَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، فَأَصَابَهُمْ وَبَاءُ الْمَدِينَةِ وَحُمَّاهَا، فَأُرْكِسُوا فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ؟ فَقَالُوا: أَصَابَنَا وَبَاءُ الْمَدِينَةِ فَاجْتَوَيْنَاهَا أي تجَّنَبْنا الإقامةَ فيها، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُسْوَةٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَافَقُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنَافِقُوا، هُمْ مُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا" الْآيَةَ. حَتَّى جَاءُوا الْمَدِينَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ، ثُمَّ ارْتَدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى مَكَّةَ لِيَأْتُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ يَتَّجِرُونَ فِيهَا، فَاخْتَلَفَ فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ فَقَائِلٌ يَقُولُ: هُمْ مُنَافِقُونَ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: هُمْ مُؤْمِنُونَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى نِفَاقَهُمْ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ. وهَذَانَ الْقَوْلَانِ يُعَضِّدُهُمَا سِيَاقُ آخِرِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُهاجِرُوا}، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ نَقْلًا، وهو اختيارُ البخاري ومسلم والترمذي. "واله أركسهم" وَقَدْ أَرْكَسَهُمُ اللهُ، أَيْ رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَنَكَسَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ نَاكِسي الرُّؤُوس، بِسَبَبِ إيغَالِهِمْ فِي الضَّلالِ، وَبُعْدِهُمْ عَنِ الحَقِّ؟ وَأَنْتُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَيْسَ بِاسْتِطَاعَتِكُمْ أنْ تُبَدِّلُوا سُنَنَ اللهِ، لأنَّ مَنْ قَضَتْ سُنَنُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أنْ يَكُونَ ضَالاً عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ، فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ بِسُلُوكِهَا إلى الحَقِّ.
وَسَبيلُ الفِطْرَةِ أنْ يَعرضَ الإِنْسَانُ جَميعَ أَعْمَالِهِ عَلَى سُنَنِ العَقْلِ، وَيَتْبَعَ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ الحَقِّ الذِي فِيهِ مَنْفَعَتُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنيا. وَأكْثَرُ مَا يَصُدُّ الإِنْسَانَ عَنْ سَبيلِ الفِطْرَةِ هُوَ التَّقْلِيدُ وَالغُرُورُ وَظَنُّ الإِنْسَانِ أنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَا هُوَ أكْمَلُ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَبِهَذَا يَقْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ طَريقَ العَقْلِ وَالنَّظَرِ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، وَالحَقِّ وَالبَاطِلِ.
قولُه: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} أَيْ
تُرْشِدُوهُ إِلَى الثَّوَابِ بِأَنْ يَحْكُمَ لهم بحكم المؤمنين. "فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا" أَيْ طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى وَالرُّشْدِ وَطَلَبِ الْحُجَّةِ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمُ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ هُدَاهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قوله تعالى : {فَمَا لَكُمْ في المنافقين فئتين} فَمَا لَكُمْ: مبتدأ وخبر. و"في المنافقين" متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ وهو "لكم" أي: أيُّ شيءٍ كائنٌ لكم ـ أو مستقِرٌّ لكم ـ في أمرِ المنافقين. أو هو متعلِّقٌ بمعنى فئتين، فإنَّه في قوَّةِ "ما لكم تفترقون في أمور المنافقين" فحُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه. ويمكن أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من "فئتين" لأنَّه في الأصلِ صفةٌ لها، تقديرُه: فئتين مفترقتين في المنافقين، وصفةُ النَكِرةِ إذا قُدِّمتْ عليْها انتصبَتْ حالاً. و"فئتين" حالٌ من الكاف والميم في "لكم"، والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به "لكم" ومثلُه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} المُدَّثِّر: 49، وهذه الحالُ لازمةٌ؛ لأنَّ الكلامَ لا يَتِمُّ دونَها، وهذا مذهبُ البَصريين أو هي نصبٌ على خبرِ "كان" مضمرةً، وهو مذهبُ الكوفيين، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين، وأَجازوا: "ما لك الشاتمَ" أي: ما لَكَ كنتَ الشاتمَ، والبَصريّون لا يُجيزون ذلكَ لأنَّه حالٌ والحالُ لا تتعرَّفُ، ويدلُّ على كونِه حالاً التزامُ مجيئه في هذا التركيب نكرةً، وهذا كما قالوا في "ضربي زيداً قائماً" إنَّ "قائماً" لا يجوز نصبُه على خبرِ "كان" المقدَّرةِ، بل على الحالِ لالتزامِ تَنْكيرِه. وقد تقدَّم اشتقاقُ "الفئة" في البقرة.
قوله: {والله أَرْكَسَهُمْ بما كَسَبوا} الله أَرْكَسَهُمْ: مبتدأ وخبر، وهي جملة: في محلِّ نصبً على الحالٌ: إمَّا من المُنافقين ـ وهو الظاهرُ ـ وإمَّا من المخاطبين، والرابطُ الواوُ، كأنَّه أنكرَ عليهم اختلافَهم في هؤلاء، والحالُ أنَّ اللهَ قد رَدَّهم إلى الكفر. ويمكن: أن تكون جملةً مُستأنفةً أَخبرَ تعالى عنهم بذلك. و"بما كَسَبوا" متعلقٌ بـ "أَرْكَسهم" والباءُ سببيَّةٌ أي: بسببِ كَسْبِهم، و"ما" مصدريةٌ أو موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ على الثاني لا على الأولِ على الصحيح.
والإِركاسُ: الردُّ والرَّجْعُ، ومنه الرِّكْس للرجيع، قال ـ عليه الصلاةُ والسلام في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها: ((إنها رِكْس)) وقال أميَّةُ بْنُ أبي الصَلْتِ:
فَأُرْكِسوا في جحيم النار إنَّهمُ .......... كانوا عصاةً وقالو الإفْكَ والزورا
أي: رُدُّوا، والرِّكْسُ والنِّكْس: الرِّذْلُ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ، لأنَّ النِّكَس ما جُعِل أعلاه أسفلَه، والرِّكس ما صار رجيعاً بعد أنْ كان طعاماً. وقيل: أَرْكسه أَوْبقَه، قال:
بشُؤْمِك أَرْكَسْتَني في الخَنا ...................... وأَرْمَيْتَني بضروبِ العَنا
وقيل: الإِركاسُ: الإِضلالُ، ومنه:
وأَرْكَسْتَنِي عن طريق الهدى ...................... وصَيَّرْتَنِي مَثَلاً للعِدى
وقيل: هو التنكيسُ، ومنه:
رُكِّسوا في فتنةٍ مظلمةٍ ........................ كسوادِ الليلِ يَتْلُوها فِتَنْ
ويقال: أَرْكس وَرَكَّس بالتشديد ورَكَس بالتخفيف: ثلاثُ لُغاتٍ بمعنًى
واحدٍ، وارْتَكَسَ هو أي: رجَعَ. وقرأ عبدُ اللهِ: "ركَسَهم" ثلاثياً، وقرئ "رَكَّسهم ـ رُكِّسوا" بالتشديدِ فيهما. وفيه لغةٌ أخرى "رَكَسه الله" مِنْ غيرِ همزٍ ولا تشديدٍ، وقد تقدَّم أن عبدَ اللهِ قرأ "والله رَكَسَهم" مِنْ غيرِ همزٍ ولا تشديدٍ.
(88)
قولُه تعالى شأنه: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} النَفيُ والخِطابُ لِجميعِ المؤمنين، وما فيه مِنْ معنى التَوبيخِ لِبَعضِهم فَمَا لَكُمْ أَصْبَحْتُمْ فِئَتَينِ فِي المُنَافِقِينَ، وَاخْتَلَفْتُمْ فِي كُفْرِهِمْ، مَعَ تَظَاهُرِ الأَدِلَّةِ عَلَيهِ، فَلَيْسَ لَكُمْ أنْ تَخْتَلِفُوا فِي شَأنِهِمْ، وَكَيْفَ تَفْتَرِقُونَ فِي شَأنِهِمْ وَقَدْ صَرَفَهُمُ اللهُ عَنِ الحَقِّ الذِي أَنْتُمْ عَلَيهِ، بِمَا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ، وَاجْتَرَحُوا مِنَ المَعَاصِي.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ فَرَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَقْتُلُهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا، فَنَزَلَتْ "فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ". وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْمَعْنِيُّ بِالْمُنَافِقِينَ هُنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ خَذَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَرَجَعُوا بِعَسْكَرِهِمْ بَعْدَ أَنْ خَرَجُوا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي (آلِ عِمْرَانَ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمٌ بِمَكَّةَ آمَنُوا وَتَرَكُوا الْهِجْرَةَ، قَالَ الضَّحَّاكُ: وَقَالُوا إِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَدْ عَرَفَنَا، وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا. فَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ فِئَتَيْنِ قَوْمٌ يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَقَوْمٌ يَتَبَرَّؤونَ مِنْهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ". وَذَكَرَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، فَأَصَابَهُمْ وَبَاءُ الْمَدِينَةِ وَحُمَّاهَا، فَأُرْكِسُوا فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالُوا: مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ؟ فَقَالُوا: أَصَابَنَا وَبَاءُ الْمَدِينَةِ فَاجْتَوَيْنَاهَا أي تجَّنَبْنا الإقامةَ فيها، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُسْوَةٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَافَقُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يُنَافِقُوا، هُمْ مُسْلِمُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا" الْآيَةَ. حَتَّى جَاءُوا الْمَدِينَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُهَاجِرُونَ، ثُمَّ ارْتَدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى مَكَّةَ لِيَأْتُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ يَتَّجِرُونَ فِيهَا، فَاخْتَلَفَ فِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ فَقَائِلٌ يَقُولُ: هُمْ مُنَافِقُونَ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: هُمْ مُؤْمِنُونَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى نِفَاقَهُمْ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ. وهَذَانَ الْقَوْلَانِ يُعَضِّدُهُمَا سِيَاقُ آخِرِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُهاجِرُوا}، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ نَقْلًا، وهو اختيارُ البخاري ومسلم والترمذي. "واله أركسهم" وَقَدْ أَرْكَسَهُمُ اللهُ، أَيْ رَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَنَكَسَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ نَاكِسي الرُّؤُوس، بِسَبَبِ إيغَالِهِمْ فِي الضَّلالِ، وَبُعْدِهُمْ عَنِ الحَقِّ؟ وَأَنْتُمْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَيْسَ بِاسْتِطَاعَتِكُمْ أنْ تُبَدِّلُوا سُنَنَ اللهِ، لأنَّ مَنْ قَضَتْ سُنَنُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أنْ يَكُونَ ضَالاً عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ، فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ بِسُلُوكِهَا إلى الحَقِّ.
وَسَبيلُ الفِطْرَةِ أنْ يَعرضَ الإِنْسَانُ جَميعَ أَعْمَالِهِ عَلَى سُنَنِ العَقْلِ، وَيَتْبَعَ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ الحَقِّ الذِي فِيهِ مَنْفَعَتُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنيا. وَأكْثَرُ مَا يَصُدُّ الإِنْسَانَ عَنْ سَبيلِ الفِطْرَةِ هُوَ التَّقْلِيدُ وَالغُرُورُ وَظَنُّ الإِنْسَانِ أنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَا هُوَ أكْمَلُ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَبِهَذَا يَقْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ طَريقَ العَقْلِ وَالنَّظَرِ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، وَالحَقِّ وَالبَاطِلِ.
قولُه: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} أَيْ
تُرْشِدُوهُ إِلَى الثَّوَابِ بِأَنْ يَحْكُمَ لهم بحكم المؤمنين. "فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا" أَيْ طَرِيقًا إِلَى الْهُدَى وَالرُّشْدِ وَطَلَبِ الْحُجَّةِ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمُ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ هُدَاهُمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قوله تعالى : {فَمَا لَكُمْ في المنافقين فئتين} فَمَا لَكُمْ: مبتدأ وخبر. و"في المنافقين" متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ وهو "لكم" أي: أيُّ شيءٍ كائنٌ لكم ـ أو مستقِرٌّ لكم ـ في أمرِ المنافقين. أو هو متعلِّقٌ بمعنى فئتين، فإنَّه في قوَّةِ "ما لكم تفترقون في أمور المنافقين" فحُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه. ويمكن أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من "فئتين" لأنَّه في الأصلِ صفةٌ لها، تقديرُه: فئتين مفترقتين في المنافقين، وصفةُ النَكِرةِ إذا قُدِّمتْ عليْها انتصبَتْ حالاً. و"فئتين" حالٌ من الكاف والميم في "لكم"، والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به "لكم" ومثلُه: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} المُدَّثِّر: 49، وهذه الحالُ لازمةٌ؛ لأنَّ الكلامَ لا يَتِمُّ دونَها، وهذا مذهبُ البَصريين أو هي نصبٌ على خبرِ "كان" مضمرةً، وهو مذهبُ الكوفيين، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين، وأَجازوا: "ما لك الشاتمَ" أي: ما لَكَ كنتَ الشاتمَ، والبَصريّون لا يُجيزون ذلكَ لأنَّه حالٌ والحالُ لا تتعرَّفُ، ويدلُّ على كونِه حالاً التزامُ مجيئه في هذا التركيب نكرةً، وهذا كما قالوا في "ضربي زيداً قائماً" إنَّ "قائماً" لا يجوز نصبُه على خبرِ "كان" المقدَّرةِ، بل على الحالِ لالتزامِ تَنْكيرِه. وقد تقدَّم اشتقاقُ "الفئة" في البقرة.
قوله: {والله أَرْكَسَهُمْ بما كَسَبوا} الله أَرْكَسَهُمْ: مبتدأ وخبر، وهي جملة: في محلِّ نصبً على الحالٌ: إمَّا من المُنافقين ـ وهو الظاهرُ ـ وإمَّا من المخاطبين، والرابطُ الواوُ، كأنَّه أنكرَ عليهم اختلافَهم في هؤلاء، والحالُ أنَّ اللهَ قد رَدَّهم إلى الكفر. ويمكن: أن تكون جملةً مُستأنفةً أَخبرَ تعالى عنهم بذلك. و"بما كَسَبوا" متعلقٌ بـ "أَرْكَسهم" والباءُ سببيَّةٌ أي: بسببِ كَسْبِهم، و"ما" مصدريةٌ أو موصولةٌ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ على الثاني لا على الأولِ على الصحيح.
والإِركاسُ: الردُّ والرَّجْعُ، ومنه الرِّكْس للرجيع، قال ـ عليه الصلاةُ والسلام في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها: ((إنها رِكْس)) وقال أميَّةُ بْنُ أبي الصَلْتِ:
فَأُرْكِسوا في جحيم النار إنَّهمُ .......... كانوا عصاةً وقالو الإفْكَ والزورا
أي: رُدُّوا، والرِّكْسُ والنِّكْس: الرِّذْلُ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ، لأنَّ النِّكَس ما جُعِل أعلاه أسفلَه، والرِّكس ما صار رجيعاً بعد أنْ كان طعاماً. وقيل: أَرْكسه أَوْبقَه، قال:
بشُؤْمِك أَرْكَسْتَني في الخَنا ...................... وأَرْمَيْتَني بضروبِ العَنا
وقيل: الإِركاسُ: الإِضلالُ، ومنه:
وأَرْكَسْتَنِي عن طريق الهدى ...................... وصَيَّرْتَنِي مَثَلاً للعِدى
وقيل: هو التنكيسُ، ومنه:
رُكِّسوا في فتنةٍ مظلمةٍ ........................ كسوادِ الليلِ يَتْلُوها فِتَنْ
ويقال: أَرْكس وَرَكَّس بالتشديد ورَكَس بالتخفيف: ثلاثُ لُغاتٍ بمعنًى
واحدٍ، وارْتَكَسَ هو أي: رجَعَ. وقرأ عبدُ اللهِ: "ركَسَهم" ثلاثياً، وقرئ "رَكَّسهم ـ رُكِّسوا" بالتشديدِ فيهما. وفيه لغةٌ أخرى "رَكَسه الله" مِنْ غيرِ همزٍ ولا تشديدٍ، وقد تقدَّم أن عبدَ اللهِ قرأ "والله رَكَسَهم" مِنْ غيرِ همزٍ ولا تشديدٍ.
مواضيع مماثلة
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 89
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 90
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 95
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 91
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 69
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 90
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 95
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 91
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 69
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود