فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 90
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 90
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا. (90)
قولُه تبارك وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هَؤُلاَءِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ الذِينَ أَوْجَبَ قَتْلَهُمْ، حَيْثُ وَجَدَهُمُ المُسْلِمُونَ، الذِينَ لَجَؤُوا وَانْحَازُوا إلى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وبين المسلمين مِيثَاقُ مُهَادَنَةٍ، أَوْ عَقْدُ ذِمَّةٍ يَمْنَعُ قَتْلَ المُنْتَمِينَ لأحَدِ الفَرِيقَيْنِ، فَاجْعَلُوا حُكْمَهُمْ كَحُكْمِ هَؤُلاءِ. الذين عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم بنو مُدلِج. فقد أخرج ابنُ أبي شَيْبَةَ وغيرُه عن الحسنِ أنَّ سُراقةَ بنَ مالك المُدلجي حدَّثهم قال: لمّا ظهرَ رَسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أهلِ بدرٍ وأُحُدٍ وأَسلمَ مَنْ حولَهم قال سُراقةُ: بلغني أنه ـ عليه الصلاة والسلامُ ـ يُريدُ أنْ يَبعَثَ خالدَ بنَ الوَليدِ إلى قومي مِنْ بَني مُدلِج فأتيتُه فقلت: أَنْشُدُكَ النِعْمَةَ، فقالوا: مَهْ؛ فقال ـ صلى الله عليه وسلم: ((دعوهُ، ما تُريد؟)) قلتُ: بَلَغَني أنَّك تُريد أنْ تبعثَ إلى قومي، وأنَا أُريدُ أنْ تُوادِعَهم، فإنْ أَسلَم قومُكَ أَسلَموا ودخلوا في الإسلامِ، وإنْ لم يُسلِموا لَم تَخْشَ بِقلوبِ قومِكَ عليهم، فأخذَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ بِيَدِ خالد فقال: اذْهَبْ معَهُ فافْعَلْ ما يُريدُ، فصالَحَهم خالد على أنْ لا يُعينوا على رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم، وإنْ أَسلَمَتْ قريش أَسلموا معهم، ومَنْ وَصَلَ إليهم مِن الناسِ كانوا على مثلِ عهدِهم فأنزلَ اللهُ تعالى: {وَدُّواْ} النساء: 89. حتّى بَلَغَ "إِلاَّ الذين يَصِلُونَ" فكان مَنْ وَصَلَ إليْهم كانوا معهم على عهدِهم. وأخرج ابْنُ جَريرٍ وابنُ أبي حاتم مِن طريقِ عِكرِمةَ عنِ ابنِ عبّاسٍ ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنَّ الآيةَ نَزَلتْ في هلال بنِ عُويْمر الأسلمي وسُراقةَ بنِ مالك المُدلجي وفي بَني جُذيْمة بنِ عامر، ولا يجوزُ أنْ يَكون استثناءً من الضمير في {فَلاَ تَتَّخِذُواْ} النساء: 89. وإنْ كان أقربَ لأنَّ اتخاذَ الوليِّ منهم حرامٌ مُطْلَقاً.
وقد زعم أبو عبيدة في مجاز القرآن أنَّ معنى قولِه: "إلا الذين يصلون إلى قوم"، إلّا الذين يتَّصلون في أَنسابِهم لِقومٍ بينَكم وبينَهم ميثاقٌ، مِن قولِهم: "اتَّصلَ الرجلُ"، بمعنى: انْتمى وانتَسَبَ، كما قال الأعشى في صفةِ امرأةٍ انتسبتْ إلى قومٍ:
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ: أَبَكْرَ بنَ وَائِلٍ ........... وَبَكْرٌ سَبَتْهَا وَالأنُوفُ رَوَاغِمُ
يعني بقوله:"اتَّصلتْ"، انتَسَبتْ.
قال أبو جعفر: ولا وجهَ لهذا التأويلِ في هذا المَوضِعِ، لأنَّ الانْتِسابَ إلى قومٍ من أهلِ المُوادَعَةِ أو العهدِ، لو كان يُوجِبُ للمُنتسبين إليهم ما لَهم، إذا لم يَكنْ لهم مِنَ العهدِ والأمانِ ما لَهم، لَما كان رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِيقاتِلَ قريْشًا وهم أنسباءُ السابقينَ الأوَّلين. ولأهلِ الإيمانِ مِنَ الحقِّ بإيمانِهم، أَكثرُ ممّا لأَهلِ العهدِ بعهدِهم. وفي قِتالِ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُشرِكي قريشٍ بتركِها الدُخولَ فيما دَخَلَ فيه أهلُ الإيمان منهم، معَ قربِ أَنسابِهم مِنْ أَنسابِ المؤمنين منهم الدليلُ الواضحُ أنَّ انتسابَ مَن لا عهدَ لَه إلى ذي العهدِ منهم، لم يَكن مُوجِبًا له مِن العهدِ ما لِذي العَهدِ مِنْ انتسابِه.
فإن ظنَّ ذو غفلةٍ أنَّ قتالَ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَن قاتَلَ مِن أنسباءِ المؤمنين مِن مُشرِكي قريشٍ، إنَّما كان بعدَ ما نُسِخَ قولِه: "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، فإنَّ أهلَ التأويلِ أجمعوا على أنَّ ناسخَ ذلك "براءةٌ"، و"براءةٌ" نَزَلَتْ بعدَ فتحِ مكّةَ ودُخولِ قريشٍ في الإسلام.
وقولُه: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} عطف على الصلة أي "و" الذين جاءوكم كافِّيْن عن قتالكم وقتال قومهم، فقد استَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنَ القَتْلِ فِئَةً أُخْرَى مِنَ النَّاسِ جَاءَتْ إلى مَيْدَانِ الحَرْبِ وَصُدُورُهُمْ ضَيِّقَةٌ، وَهُمْ كَارِهُونَ أَنْ يُقَاتِلُوكم، وَلاَ يَهُونُ عَلَيْهِمْ أَيْضاً أَنْ يُقَاتِلوا قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ، بَلْ هُمْ لاَ لَكُمْ وَلاَ عَلَيْكُمْ، وَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِكُمْ أَنْ كَفَّهُمْ عَنْكُمْ، فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ، وَأَرَادُوا مُسَالَمَتَكُمْ فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوهُمْ، وَهَؤُلاَءِ كَالجَمَاعَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ قُرَيشٍ فَحَضَرُوا القِتَالَ وَهُمْ كَارِهُونَ، لِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ عَنْ قَتْلِ العِبَّاسِ ـ رضي اللهُ عنه وَأَمَرَ بِأسْرِهِ.
وقوله: {فَإِنِ اعتزلوكم} يُبيِّنُ حكمَ الكافِّين لِسَبْقِ حُكمِ المُتَّصِلين بهم، فجعل الكفَّ عن القتالِ سبباً لِتركِ التَعَرُّضِ أَوْلى مِن جعلِ الاتِّصالِ بمن يَكفُّ عن القتالِ سبباً "قريباً" لِتركِ التعرُّضِ لأنَّه سببٌ بعيد، على أن المتصلين بالمعاهدين ليسوا معاهدين لكن لهم حكمُهم بخلافِ المتصلين بالكافِّين فإنَّهم إنْ كفوا فهم هم وإلا فلا أَثَرَ لَه.
وقوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم لأنَّ مجيئهم غير مقاتلين و"حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ" أن يقاتلوكم بمعنى واحد، من جهة أن المراد بالمجيء الاتصال وترك المعاندة والمقاتلة لا حقيقة المجيء ، أو من جهة أنه بيان لكيفية المجيء.
قولُه: {أنْ يقاتلوكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ} أي عن أنْ يُقاتلوكم، أو لأنْ، أو كراهةَ أنْ.
قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فلقاتلوكم} بأنْ قوّى قلوبَهم وبَسَطَ صُدورَهم وأَزالَ الرُّعْبَ عنْهم "فلقاتلوكم" عقِبَ ذلك ولم يَكفُّوا عنكم، يوضِّحُ الحقُّ ـ سبحانه: أنَا فعلتُ هذا وألقيتُ الرعبَ في نفوسِهم، ولو شئتُ لَسلطتُهم وجرَّأتُهم عليكم، وقاتلوكم، إذاً فهو ـ سبحانه ـ يَنصُرُنا بالرُّعبِ ويَمنَعَ قِتالَهم لنا. وفي الإعادةِ إشارةٌ إلى أنَّه جوابٌ مستقلٌ والمَقصودُ مِن ذلك الامتنانُ على المؤمنين.
قوله تعالى: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} هو استثناءٌ متصلٌ، والمستثنى منه قولُه {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} والمُسْتَثْنَوْن على هذا قومٌ كفارٌ، ومعنى الوَصْلةِ هنا الوَصْلَةُ بالمعاهَدَةِ والمهادَنَةِ. أو هو استثناءٌ منقطعٌ، وهو قولُ أبي مسلمٍ الأصفهاني، واختيارُ الراغب الأصفهاني، قال أبو مسلم: لَمَّا أوجبَ اللَّهُ الهجرةَ على كلِّ مَنْ أسلمَ استَثنى مَنْ له عذرٌ فقال: "إِلاَّ الذين يَصِلُونَ" وهم قومٌ قصدوا الهجرة إلى الرسولِ ونصرتَه، وكان بينهم وبين المسلمين عَهْدٌ فأقاموا عندهم إلى أن يمكِّنهم الخلاصُ، واستثنى بعد ذلك مَنْ صار إلى الرسول وإلى أصحابِه لأنه يَخافُ اللَّهَ فيه، ولا يقاتِلُ الكفارَ أيضاً لأنهم أقاربُه، أو لأنّه يَخاف على أولاده الذين هم في أيديهم. فعلى هذا القولِ يكون استثناءً منقطعاً، لأن هؤلاء المستثنين لم يدخُلوا تحت قولِه: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} والمستثَنْون على هذا مؤمنون.
وقوله: {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ جرٍّ صفةً لـ "قوم"، ويَجوزُ أنْ يكونَ "بينَكم" وحدَه صفةً لـ "قوم" فيكونَ في محلِّ جرٍّ ويتعلَّقُ بمحذوفٍ، و"ميثاق" على هذا رفعٌ بالفاعليَّة؛ لأنَّ الظرفَ اعتمد على موصوفٍ، وهذا الوجهُ أقربُ؛ لأنَّ الوصفَ بالمفردِ أصلٌ للوصفِ بالجملة.
قوله: {أَوْ جَاؤوكُمْ} عطفٌ على الصلة، كأنَّه قيل: أو إلّا الذين جاؤوكم حَصِرَتْ صدورُهم، فيكون المستثنى صنفين من الناس، أحدُهما واصلٌ إلى قومٍ معاهِدين، والآخر مَنْ جاء غَيْر مقاتِلٍ للمسلمين ولا لقومِه. أو هو عطفٌ على صفةِ "قوم" وهي قولُه "بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ" فيكون
المستثنى صنفاً واحداً يختلف باختلافِ مَنْ يصل إليه من معاهِدٍ وكافرٍ.
والجمهورُ على إثبات "أو"، وفي مصحف أُبَيّ: "جاؤوكم" من غير
"أو" وهي: إمَّا بيان لـ "يَصِلون"، أو بدلٌ منه، أو صفةٌ لقومٍ بعدَ صفة، أو استئنافٌ. وجميعها وجوهٌ محتملةٌ وفي بعضِها ضعفٌ وهو البيانُ والبدلُ، لأنَّ البيانَ لا يكون في الأفعال، ولأنَّ البدلَ لا يتأتَّى لكونِه ليس إيَّاه ولا بعضَه ولا مشتملاً عليه.
قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} فيه سبعة أوجهٍ، أحدُها: أنَّه لا محلَّ لهذه الجملة، بل جيء بالدعاء عليهم بضيقِ صُدورِهم عن القتال، وهذا منقولٌ عن المُبرِّدِ، إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ عليه بأنَّا مأمورُون بأَنْ ندعوَ على الكفارِ بإلقاءِ العداوة بينَهم فنقولُ: "اللهمَّ أَوْقِعِ العداوةَ بين الكفارِ" لكن يكونُ قوله: {أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} نَفْيَ ما اقتضاه دعاءُ المسلمين عليهم. وقد أجابَ عن هذا الردِّ بعضُهم، فقال ابن عطيَّة: يُخَرَّجُ قولُ المبرِّدِ على أنَّ الدعاءَ عليهم بأنْ لا يقاتلوا المسلمين تعجيزٌ لهم، والدعاءُ عليهم بأنْ لا يُقاتِلوا قومَهم تحقيرٌ لهم أي: هم أقلُّ وأحقرُ ومستغنىً عنهم، كما تقول إذا أردت هذا المعنى: "لا جعل الله فلاناً عليَّ ولا معي" المعنى أسْتغنِي عنه وأستقلُّ دونَه" وأجابَ غيرُه بأنه يجوزُ أن يكونَ سؤالاً لموتهم على أنَّ قولَه "قومهم" قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ ليسوا منهم، بل عن مُعادِيهم. الثاني: أنَّ "حَصَرِت" حالٌ من فاعل "جاؤوكم" وإذا وقعت الحال فعلاً ماضياً ففيها خلافٌ: هل يَحْتاج إلى اقترانهِ بـ "قد" أم لا؟ والراجحُ عدمُ الاحتياجِ لكثرة ما جاء منه، فعلى هذا لا تُضْمَرُ "قد" قبل "حَصِرَتْ" ومَنِ اشترط ذلك قَدَّرها هنا. والثالث: أَنَّ "حَصِرَتْ" صفةٌ لحالٍ محذوفةٍ تقديرُه: أو جاؤوكم قوماً حَصِرَتْ صدورُهم. وسَمَّاها أبو البقاء حالاً مُوَطِّئَة، وهذا الوجهُ يُعْزَى للمبرِّدِ أيضاً. الرابع: أن يكون في محل جَرٍّ صفةً لقوم بعد صفة، و"أو جاؤوكم" معترضٌ. قال أبو البقاء: "يَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ أسقط "أو" وهو أُبَيُّ، والذي رأيتُه في إعرابِه إسقاطُ "أو جاؤوكم" جميعه وهذا نَصُّه قال: "أحدهما: هو جَرٌّ صفةً لقوم وما بينهما صفة أيضاً، و"جاؤوكم" معترضٌ، وقد قرأ بعضُ الصحابة بينكم وبينهم ميثاقٌ حصرت صدورهم، بحذف "أو جاؤوكم" هذا نَصُّه، وهو أوفق لهذا الوجهِ.
الخامس: أنْ يكونَ بَدَلاً مِن "جاؤوكم" بدلَ اشتمالٍ لأنَّ المجيءَ مشتملٌ على الحَصْرِ وغيرِهِ. السادس: أنَّه خبرٌ بعدَ خبرٍ، وهذه عبارة الزجّاج، يَعني أنّها جُملةٌ مُستأنَفةٌ، أَخْبر بها عن ضيقِ صدورِ هؤلاءِ عن القتالِ بعدَ الإِخبارِ عنهم بما تقدَّم. السابعُ: أنَّه جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ تقديرُه: إنْ جاؤوكم حَصِرَتْ، وهو رأيُ الجُرجاني، وفيه ضَعْفٌ لعدمِ الدَّلالةِ على ذلك.
وقرأ الجمهورُ: "حَصِرَتْ" فعلاً ماضياً، وقرأ الحسنُ وقَتادة ويعقوب: "حَصِرةً" نصباً على الحالِ بوزنِ "نَبَقَة" وهي تؤيِّدُ كونَ "حَصِرت" حالاً، ونقلها المَهدَوِيُّ عن عاصمٍ في روايةِ حفصٍ، ورُويَ عن
الحَسَنِ أيضاً: "حَصِراتٍ" و"حاصراتٍ".
وهاتان القراءتان تحتملان أن تكونَ "حَصِراتٍ" و"حاصراتٍ" نصباً على الحال، أو جرّاً على الصفة لـ "قوم"، لأنَّ جمعَ المؤنَّثِ السالمِ يَستوي جَرُّه ونصبُه إلّا أنَّ فيهما ضعفاً من حيث إنَّ الوصفَ الرافعَ لِظاهرٍ الفصيحُ فيه أن يُوَحَّدَ كالفعلِ أو يُجْمَعَ جَمْعَ تكسير ويَقِلُّ جمعُه تصحيحاً، تقول: مررتُ بقومٍ ذاهبٌ جواريهم، أو قيامٌ جواريهم، ويَقلُّ: قائماتٍ جواريهم، وقرئ "حَصِرةٌ" بالرفع على أنّه خبرٌ مقدّم، و"صدوُرهم" مبتدأ، والجملةُ حالٌ أيْضاً. وقال أبو البقاء: وإن كان قد قرئ "حَصِرةٌ" بالرفع، فعلى أنَّه خبرٌ، و"صدورهم" مبتدأ، والجملةُ حال.
قوله: {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ} أصلُه: عن أَنْ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجرِّ جَرى الخلافُ المَشهورُ: أهي في محلِّ جَرٍّ أو نصبٍ؟ والحَصْرُ: الضِيقُ، وأصلُه في المكان ثمَّ تُوُسِّع فيه، قال جرير: ولقد تَسَقَّطَني الوشاة فصادَفُوا ............... حَصِراً بسِرِّكِ يا أُميمُ ضَنِيناً
وقوله: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} اللام جواب "لو" لِعطفِه على الجوابِ، وقال ابنُ عطيَّة: هي لامُ المُحاذاةِ والازْدِواجِ بمثابةِ الأولى، لو لم تكن الأُولى كنت تقول: "لقاتلوكم" وهي تسميةٌ غريبةٌ، وقد سبقَه إليْها مكي. والجمهور على "فَلَقاتلوكم" من المُفاعلة. وقرأ مجاهدٌ وجماعة: "فَلقتلوكم" ثلاثيّاً وقرأ الحسنُ والجَحدريُّ: "فلقتَّلوكم" بالتشديد وقرأ الجحدري: "السَّلْم" بفتحِ السين وسكوِنِ اللّامِ، وقرأ الحَسَنُ بكسرِها
وسكونِ اللامِ.
قوله: {فَمَا جَعَلَ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} "لكم" متعلِّقٌ بـ "جَعَل" و"سبيلاً" مفعولُ "جَعَل « و » عليهم حالٌ من « سبيلاً » لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّمَ عليها، ويَجوزُ أنْ تَكونَ "جعل" بمعنى "صَيَّر" فيكونُ "سبيلاً" مفعولاً أوَّلَ، و"عليهم" مفعولٌ ثان قُدِّم.
قولُه تبارك وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هَؤُلاَءِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ الذِينَ أَوْجَبَ قَتْلَهُمْ، حَيْثُ وَجَدَهُمُ المُسْلِمُونَ، الذِينَ لَجَؤُوا وَانْحَازُوا إلى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وبين المسلمين مِيثَاقُ مُهَادَنَةٍ، أَوْ عَقْدُ ذِمَّةٍ يَمْنَعُ قَتْلَ المُنْتَمِينَ لأحَدِ الفَرِيقَيْنِ، فَاجْعَلُوا حُكْمَهُمْ كَحُكْمِ هَؤُلاءِ. الذين عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم بنو مُدلِج. فقد أخرج ابنُ أبي شَيْبَةَ وغيرُه عن الحسنِ أنَّ سُراقةَ بنَ مالك المُدلجي حدَّثهم قال: لمّا ظهرَ رَسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أهلِ بدرٍ وأُحُدٍ وأَسلمَ مَنْ حولَهم قال سُراقةُ: بلغني أنه ـ عليه الصلاة والسلامُ ـ يُريدُ أنْ يَبعَثَ خالدَ بنَ الوَليدِ إلى قومي مِنْ بَني مُدلِج فأتيتُه فقلت: أَنْشُدُكَ النِعْمَةَ، فقالوا: مَهْ؛ فقال ـ صلى الله عليه وسلم: ((دعوهُ، ما تُريد؟)) قلتُ: بَلَغَني أنَّك تُريد أنْ تبعثَ إلى قومي، وأنَا أُريدُ أنْ تُوادِعَهم، فإنْ أَسلَم قومُكَ أَسلَموا ودخلوا في الإسلامِ، وإنْ لم يُسلِموا لَم تَخْشَ بِقلوبِ قومِكَ عليهم، فأخذَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ بِيَدِ خالد فقال: اذْهَبْ معَهُ فافْعَلْ ما يُريدُ، فصالَحَهم خالد على أنْ لا يُعينوا على رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم، وإنْ أَسلَمَتْ قريش أَسلموا معهم، ومَنْ وَصَلَ إليهم مِن الناسِ كانوا على مثلِ عهدِهم فأنزلَ اللهُ تعالى: {وَدُّواْ} النساء: 89. حتّى بَلَغَ "إِلاَّ الذين يَصِلُونَ" فكان مَنْ وَصَلَ إليْهم كانوا معهم على عهدِهم. وأخرج ابْنُ جَريرٍ وابنُ أبي حاتم مِن طريقِ عِكرِمةَ عنِ ابنِ عبّاسٍ ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنَّ الآيةَ نَزَلتْ في هلال بنِ عُويْمر الأسلمي وسُراقةَ بنِ مالك المُدلجي وفي بَني جُذيْمة بنِ عامر، ولا يجوزُ أنْ يَكون استثناءً من الضمير في {فَلاَ تَتَّخِذُواْ} النساء: 89. وإنْ كان أقربَ لأنَّ اتخاذَ الوليِّ منهم حرامٌ مُطْلَقاً.
وقد زعم أبو عبيدة في مجاز القرآن أنَّ معنى قولِه: "إلا الذين يصلون إلى قوم"، إلّا الذين يتَّصلون في أَنسابِهم لِقومٍ بينَكم وبينَهم ميثاقٌ، مِن قولِهم: "اتَّصلَ الرجلُ"، بمعنى: انْتمى وانتَسَبَ، كما قال الأعشى في صفةِ امرأةٍ انتسبتْ إلى قومٍ:
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ: أَبَكْرَ بنَ وَائِلٍ ........... وَبَكْرٌ سَبَتْهَا وَالأنُوفُ رَوَاغِمُ
يعني بقوله:"اتَّصلتْ"، انتَسَبتْ.
قال أبو جعفر: ولا وجهَ لهذا التأويلِ في هذا المَوضِعِ، لأنَّ الانْتِسابَ إلى قومٍ من أهلِ المُوادَعَةِ أو العهدِ، لو كان يُوجِبُ للمُنتسبين إليهم ما لَهم، إذا لم يَكنْ لهم مِنَ العهدِ والأمانِ ما لَهم، لَما كان رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِيقاتِلَ قريْشًا وهم أنسباءُ السابقينَ الأوَّلين. ولأهلِ الإيمانِ مِنَ الحقِّ بإيمانِهم، أَكثرُ ممّا لأَهلِ العهدِ بعهدِهم. وفي قِتالِ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُشرِكي قريشٍ بتركِها الدُخولَ فيما دَخَلَ فيه أهلُ الإيمان منهم، معَ قربِ أَنسابِهم مِنْ أَنسابِ المؤمنين منهم الدليلُ الواضحُ أنَّ انتسابَ مَن لا عهدَ لَه إلى ذي العهدِ منهم، لم يَكن مُوجِبًا له مِن العهدِ ما لِذي العَهدِ مِنْ انتسابِه.
فإن ظنَّ ذو غفلةٍ أنَّ قتالَ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَن قاتَلَ مِن أنسباءِ المؤمنين مِن مُشرِكي قريشٍ، إنَّما كان بعدَ ما نُسِخَ قولِه: "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، فإنَّ أهلَ التأويلِ أجمعوا على أنَّ ناسخَ ذلك "براءةٌ"، و"براءةٌ" نَزَلَتْ بعدَ فتحِ مكّةَ ودُخولِ قريشٍ في الإسلام.
وقولُه: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} عطف على الصلة أي "و" الذين جاءوكم كافِّيْن عن قتالكم وقتال قومهم، فقد استَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنَ القَتْلِ فِئَةً أُخْرَى مِنَ النَّاسِ جَاءَتْ إلى مَيْدَانِ الحَرْبِ وَصُدُورُهُمْ ضَيِّقَةٌ، وَهُمْ كَارِهُونَ أَنْ يُقَاتِلُوكم، وَلاَ يَهُونُ عَلَيْهِمْ أَيْضاً أَنْ يُقَاتِلوا قَوْمَهُمْ مَعَكُمْ، بَلْ هُمْ لاَ لَكُمْ وَلاَ عَلَيْكُمْ، وَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِكُمْ أَنْ كَفَّهُمْ عَنْكُمْ، فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ، وَأَرَادُوا مُسَالَمَتَكُمْ فَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تُقَاتِلُوهُمْ، وَهَؤُلاَءِ كَالجَمَاعَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ قُرَيشٍ فَحَضَرُوا القِتَالَ وَهُمْ كَارِهُونَ، لِذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ عَنْ قَتْلِ العِبَّاسِ ـ رضي اللهُ عنه وَأَمَرَ بِأسْرِهِ.
وقوله: {فَإِنِ اعتزلوكم} يُبيِّنُ حكمَ الكافِّين لِسَبْقِ حُكمِ المُتَّصِلين بهم، فجعل الكفَّ عن القتالِ سبباً لِتركِ التَعَرُّضِ أَوْلى مِن جعلِ الاتِّصالِ بمن يَكفُّ عن القتالِ سبباً "قريباً" لِتركِ التعرُّضِ لأنَّه سببٌ بعيد، على أن المتصلين بالمعاهدين ليسوا معاهدين لكن لهم حكمُهم بخلافِ المتصلين بالكافِّين فإنَّهم إنْ كفوا فهم هم وإلا فلا أَثَرَ لَه.
وقوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم لأنَّ مجيئهم غير مقاتلين و"حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ" أن يقاتلوكم بمعنى واحد، من جهة أن المراد بالمجيء الاتصال وترك المعاندة والمقاتلة لا حقيقة المجيء ، أو من جهة أنه بيان لكيفية المجيء.
قولُه: {أنْ يقاتلوكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ} أي عن أنْ يُقاتلوكم، أو لأنْ، أو كراهةَ أنْ.
قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فلقاتلوكم} بأنْ قوّى قلوبَهم وبَسَطَ صُدورَهم وأَزالَ الرُّعْبَ عنْهم "فلقاتلوكم" عقِبَ ذلك ولم يَكفُّوا عنكم، يوضِّحُ الحقُّ ـ سبحانه: أنَا فعلتُ هذا وألقيتُ الرعبَ في نفوسِهم، ولو شئتُ لَسلطتُهم وجرَّأتُهم عليكم، وقاتلوكم، إذاً فهو ـ سبحانه ـ يَنصُرُنا بالرُّعبِ ويَمنَعَ قِتالَهم لنا. وفي الإعادةِ إشارةٌ إلى أنَّه جوابٌ مستقلٌ والمَقصودُ مِن ذلك الامتنانُ على المؤمنين.
قوله تعالى: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} هو استثناءٌ متصلٌ، والمستثنى منه قولُه {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} والمُسْتَثْنَوْن على هذا قومٌ كفارٌ، ومعنى الوَصْلةِ هنا الوَصْلَةُ بالمعاهَدَةِ والمهادَنَةِ. أو هو استثناءٌ منقطعٌ، وهو قولُ أبي مسلمٍ الأصفهاني، واختيارُ الراغب الأصفهاني، قال أبو مسلم: لَمَّا أوجبَ اللَّهُ الهجرةَ على كلِّ مَنْ أسلمَ استَثنى مَنْ له عذرٌ فقال: "إِلاَّ الذين يَصِلُونَ" وهم قومٌ قصدوا الهجرة إلى الرسولِ ونصرتَه، وكان بينهم وبين المسلمين عَهْدٌ فأقاموا عندهم إلى أن يمكِّنهم الخلاصُ، واستثنى بعد ذلك مَنْ صار إلى الرسول وإلى أصحابِه لأنه يَخافُ اللَّهَ فيه، ولا يقاتِلُ الكفارَ أيضاً لأنهم أقاربُه، أو لأنّه يَخاف على أولاده الذين هم في أيديهم. فعلى هذا القولِ يكون استثناءً منقطعاً، لأن هؤلاء المستثنين لم يدخُلوا تحت قولِه: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} والمستثَنْون على هذا مؤمنون.
وقوله: {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ جرٍّ صفةً لـ "قوم"، ويَجوزُ أنْ يكونَ "بينَكم" وحدَه صفةً لـ "قوم" فيكونَ في محلِّ جرٍّ ويتعلَّقُ بمحذوفٍ، و"ميثاق" على هذا رفعٌ بالفاعليَّة؛ لأنَّ الظرفَ اعتمد على موصوفٍ، وهذا الوجهُ أقربُ؛ لأنَّ الوصفَ بالمفردِ أصلٌ للوصفِ بالجملة.
قوله: {أَوْ جَاؤوكُمْ} عطفٌ على الصلة، كأنَّه قيل: أو إلّا الذين جاؤوكم حَصِرَتْ صدورُهم، فيكون المستثنى صنفين من الناس، أحدُهما واصلٌ إلى قومٍ معاهِدين، والآخر مَنْ جاء غَيْر مقاتِلٍ للمسلمين ولا لقومِه. أو هو عطفٌ على صفةِ "قوم" وهي قولُه "بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ" فيكون
المستثنى صنفاً واحداً يختلف باختلافِ مَنْ يصل إليه من معاهِدٍ وكافرٍ.
والجمهورُ على إثبات "أو"، وفي مصحف أُبَيّ: "جاؤوكم" من غير
"أو" وهي: إمَّا بيان لـ "يَصِلون"، أو بدلٌ منه، أو صفةٌ لقومٍ بعدَ صفة، أو استئنافٌ. وجميعها وجوهٌ محتملةٌ وفي بعضِها ضعفٌ وهو البيانُ والبدلُ، لأنَّ البيانَ لا يكون في الأفعال، ولأنَّ البدلَ لا يتأتَّى لكونِه ليس إيَّاه ولا بعضَه ولا مشتملاً عليه.
قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} فيه سبعة أوجهٍ، أحدُها: أنَّه لا محلَّ لهذه الجملة، بل جيء بالدعاء عليهم بضيقِ صُدورِهم عن القتال، وهذا منقولٌ عن المُبرِّدِ، إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ عليه بأنَّا مأمورُون بأَنْ ندعوَ على الكفارِ بإلقاءِ العداوة بينَهم فنقولُ: "اللهمَّ أَوْقِعِ العداوةَ بين الكفارِ" لكن يكونُ قوله: {أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} نَفْيَ ما اقتضاه دعاءُ المسلمين عليهم. وقد أجابَ عن هذا الردِّ بعضُهم، فقال ابن عطيَّة: يُخَرَّجُ قولُ المبرِّدِ على أنَّ الدعاءَ عليهم بأنْ لا يقاتلوا المسلمين تعجيزٌ لهم، والدعاءُ عليهم بأنْ لا يُقاتِلوا قومَهم تحقيرٌ لهم أي: هم أقلُّ وأحقرُ ومستغنىً عنهم، كما تقول إذا أردت هذا المعنى: "لا جعل الله فلاناً عليَّ ولا معي" المعنى أسْتغنِي عنه وأستقلُّ دونَه" وأجابَ غيرُه بأنه يجوزُ أن يكونَ سؤالاً لموتهم على أنَّ قولَه "قومهم" قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ ليسوا منهم، بل عن مُعادِيهم. الثاني: أنَّ "حَصَرِت" حالٌ من فاعل "جاؤوكم" وإذا وقعت الحال فعلاً ماضياً ففيها خلافٌ: هل يَحْتاج إلى اقترانهِ بـ "قد" أم لا؟ والراجحُ عدمُ الاحتياجِ لكثرة ما جاء منه، فعلى هذا لا تُضْمَرُ "قد" قبل "حَصِرَتْ" ومَنِ اشترط ذلك قَدَّرها هنا. والثالث: أَنَّ "حَصِرَتْ" صفةٌ لحالٍ محذوفةٍ تقديرُه: أو جاؤوكم قوماً حَصِرَتْ صدورُهم. وسَمَّاها أبو البقاء حالاً مُوَطِّئَة، وهذا الوجهُ يُعْزَى للمبرِّدِ أيضاً. الرابع: أن يكون في محل جَرٍّ صفةً لقوم بعد صفة، و"أو جاؤوكم" معترضٌ. قال أبو البقاء: "يَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ أسقط "أو" وهو أُبَيُّ، والذي رأيتُه في إعرابِه إسقاطُ "أو جاؤوكم" جميعه وهذا نَصُّه قال: "أحدهما: هو جَرٌّ صفةً لقوم وما بينهما صفة أيضاً، و"جاؤوكم" معترضٌ، وقد قرأ بعضُ الصحابة بينكم وبينهم ميثاقٌ حصرت صدورهم، بحذف "أو جاؤوكم" هذا نَصُّه، وهو أوفق لهذا الوجهِ.
الخامس: أنْ يكونَ بَدَلاً مِن "جاؤوكم" بدلَ اشتمالٍ لأنَّ المجيءَ مشتملٌ على الحَصْرِ وغيرِهِ. السادس: أنَّه خبرٌ بعدَ خبرٍ، وهذه عبارة الزجّاج، يَعني أنّها جُملةٌ مُستأنَفةٌ، أَخْبر بها عن ضيقِ صدورِ هؤلاءِ عن القتالِ بعدَ الإِخبارِ عنهم بما تقدَّم. السابعُ: أنَّه جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ تقديرُه: إنْ جاؤوكم حَصِرَتْ، وهو رأيُ الجُرجاني، وفيه ضَعْفٌ لعدمِ الدَّلالةِ على ذلك.
وقرأ الجمهورُ: "حَصِرَتْ" فعلاً ماضياً، وقرأ الحسنُ وقَتادة ويعقوب: "حَصِرةً" نصباً على الحالِ بوزنِ "نَبَقَة" وهي تؤيِّدُ كونَ "حَصِرت" حالاً، ونقلها المَهدَوِيُّ عن عاصمٍ في روايةِ حفصٍ، ورُويَ عن
الحَسَنِ أيضاً: "حَصِراتٍ" و"حاصراتٍ".
وهاتان القراءتان تحتملان أن تكونَ "حَصِراتٍ" و"حاصراتٍ" نصباً على الحال، أو جرّاً على الصفة لـ "قوم"، لأنَّ جمعَ المؤنَّثِ السالمِ يَستوي جَرُّه ونصبُه إلّا أنَّ فيهما ضعفاً من حيث إنَّ الوصفَ الرافعَ لِظاهرٍ الفصيحُ فيه أن يُوَحَّدَ كالفعلِ أو يُجْمَعَ جَمْعَ تكسير ويَقِلُّ جمعُه تصحيحاً، تقول: مررتُ بقومٍ ذاهبٌ جواريهم، أو قيامٌ جواريهم، ويَقلُّ: قائماتٍ جواريهم، وقرئ "حَصِرةٌ" بالرفع على أنّه خبرٌ مقدّم، و"صدوُرهم" مبتدأ، والجملةُ حالٌ أيْضاً. وقال أبو البقاء: وإن كان قد قرئ "حَصِرةٌ" بالرفع، فعلى أنَّه خبرٌ، و"صدورهم" مبتدأ، والجملةُ حال.
قوله: {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ} أصلُه: عن أَنْ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجرِّ جَرى الخلافُ المَشهورُ: أهي في محلِّ جَرٍّ أو نصبٍ؟ والحَصْرُ: الضِيقُ، وأصلُه في المكان ثمَّ تُوُسِّع فيه، قال جرير: ولقد تَسَقَّطَني الوشاة فصادَفُوا ............... حَصِراً بسِرِّكِ يا أُميمُ ضَنِيناً
وقوله: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} اللام جواب "لو" لِعطفِه على الجوابِ، وقال ابنُ عطيَّة: هي لامُ المُحاذاةِ والازْدِواجِ بمثابةِ الأولى، لو لم تكن الأُولى كنت تقول: "لقاتلوكم" وهي تسميةٌ غريبةٌ، وقد سبقَه إليْها مكي. والجمهور على "فَلَقاتلوكم" من المُفاعلة. وقرأ مجاهدٌ وجماعة: "فَلقتلوكم" ثلاثيّاً وقرأ الحسنُ والجَحدريُّ: "فلقتَّلوكم" بالتشديد وقرأ الجحدري: "السَّلْم" بفتحِ السين وسكوِنِ اللّامِ، وقرأ الحَسَنُ بكسرِها
وسكونِ اللامِ.
قوله: {فَمَا جَعَلَ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} "لكم" متعلِّقٌ بـ "جَعَل" و"سبيلاً" مفعولُ "جَعَل « و » عليهم حالٌ من « سبيلاً » لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّمَ عليها، ويَجوزُ أنْ تَكونَ "جعل" بمعنى "صَيَّر" فيكونُ "سبيلاً" مفعولاً أوَّلَ، و"عليهم" مفعولٌ ثان قُدِّم.
مواضيع مماثلة
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 80
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 98
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 81
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 99
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 82
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 98
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 81
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 99
» فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 82
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود