فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 64
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 64
وقالتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
(64)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}. أَصلُ الغُلِّ: تَوَسُّطُ الشيءِ وتَدَرُّعُه، والغُلُّ ما يُقيَّدُ بِه الشَخصُ ويَجعَلُ الأطرافَ وَسَطَه، وقيلَ للبَخيلِ هو مَغْلولُ اليَديْن، وكأنَّما قيَّدَ أَحَدٌ يَدَيْهِ فلا يستطيعُ إخراجَ المالِ ولا النَفَقَةَ، فقد وَصَفَ اليهودُ اللهَ هنا بِأنَّهُ بَخِيلٌ كَمَا وَصَفُوهُ في غيرِ هذا المَوضِعِ بِأنَّهُ فَقِيرٌ، وَأنَّهُمُ الأَغْنِيَاءُ.
قال ابْنُ عبَّاسٍ وعِكْرِمَةُ والضَحَّاكُ وقَتادَةُ: إنَّ الله كان قدْ بَسَطَ على اليَهودِ حتَّى كانوا مِنْ أكثرِ النَّاسِ مالًا وأَخْصَبِهم ناحيةً، فلمَّا عَصَوُا الله في محمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ وكذَّبوا بِهِ كَفَّ اللهُ عنهم ما بَسطَ عليهم مِنَ السَعَةِ فعندَ ذلك قالَ فنحاصُ بْنُ عازورا: "يَدُ اللهِ مغلولةٌ" لم يُريدوا إلى عُنُقِهِ ولكنَّهم أَرادوا إنَّها مَقْبوضَةٌ بمَعْنى مُمْسِكَةٌ عَنِ الرِّزْقِ فنَسَبوهُ إلى البُخْلِ. فغُلُّ اليَدِ كِنايةٌ عَنِ البُخْلِ، وبَسْطُها كِنايةٌ عنِ الجُودِ ومنْه قولُهُ ـ تعالى في سورة الإسراء: {ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلولَةً} أيْ لا تَبْخَلْ كُلَّ البُخْلِ، {ولا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ} أيْ لا تَجُدْ كُلَّ الجُودِ. {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} 29. وغَلُّ اليَدِ وبَسْطُها هُنا استعارةٌ للبُخلِ والجُودِ، وإنْ كان ليس ثَمَّ يَدٌ ولا جارِحةٌ، وكلامُ العربِ ملآنُ مِنْ ذلك. قالتِ العَرَبُ: فلانٌ يُنفِقُ بِكِلْتا يَدَيْهَ قال الأعشى:
يداك يدا مجدٍ ، فكفٌّ مفيدةٌ ............. وكفٌ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ
وقال أبو تمَّام:
تعوَّد بَسْطَ الكفِّ حتى لَوَ أنَّه .............. دعاها لقَبْضٍ لم تُطِعْه أنامِلُهْ
وقد استعارت العربُ ذلك حيثُ لا يَدَ البَتَّةَ، ومنه قولُ لَبيدٍ:
وغداة ريححٍ قد كشفتُ وقِرَّةٍ ........... إذْ أصبحَتْ بيدِ الشَمالِ زِمامُها
وقال آخر:
جادَ الحِمَى بَسْطُ اليدين بوابلٍ .............. شَكَرتْ نداه تِلاعُه ووِهادُهْ
وقالوا: "بَسَطَ اليأسُ كفَّيْهِ في صدري" واليأسُ معنًى لا عينٌ، وقد جعلوا لَهُ كَفَّيْن مجازًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى يَدُ اللهِ مَقْبُوضَةٌ عَنْ عَذَابِنَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي فَقْرٍ وَقِلَّةِ مَالٍ وَسَمِعُوا قولَهُ ـ تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} وَرَأَوُا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ كَانَ يَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي الدِّيَاتِ قَالُوا: إِنَّ إِلَهَ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ، وقالوا: بَخِيلٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: "يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ" فَهَذَا عَلَى التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ} الإسراء: 29. وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: جَعْدُ الْأَنَامِلِ، وَمَقْبُوضُ الْكَفِّ، وَكَزُّ الْأَصَابِعِ، وَمَغْلُولُ الْيَدِ، قَالَ الشَّاعِرُ نهار بْنُ تَوْسِعَةَ بْنِ أَبي عتبان، مِن بَكْرٍ بْنِ وائلٍ، وكان أشعرَهم بخُراسان، فقد هَجا قُتَيْبَة بْنَ مُسْلِمٍ مادحًا سلفَهُ يزيدَ عليها فقال:
كَانَتْ خُرَاسَانُ أَرْضًا إِذْ يَزِيدُ بِهَا .......... وَكُلُّ بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوحُ
فَاسْتَبْدَلَتْ بَعْدَهُ جَعْدًا أَنَامِلُهُ ................. كَأَنَّمَا وَجْهَهُ بِالْخَلِّ مَنْضُوحٌ
وَالْيَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَكُونُ لِلْجَارِحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} ص: 44. وَتَكُونُ اليدُ لِلنِّعْمَةِ أيضًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: كَمْ يَدٍ لِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَيْ كَمْ مِنْ نِعْمَةٍ لِي قَدْ أَسْدَيْتُهَا لَهُ، وَتَكُونُ لِلْقُوَّةِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُودَ ذَا الْأَيْدِ} ص: 17، أيْ ذا القُوَّةِ، وتَكونُ يَدَ المُلكِ وَالْقُدْرَةِ، قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} آل عمران: 73. وَتَكُونُ بِمَعْنَى الصِّلَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: "مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً} يس: 71. أيْ مما عَمِلْنا نَحْنُ. وقال: {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ} الْبَقَرَةِ: 237. أَيِ الذِي لَهُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. وَتَكُونُ بِمَعْنَى التَّأْيِيدِ وَالنُّصْرَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((يَدُ اللهِ مَعَ الْقَاضِي حَتَّى يَقْضِيَ وَالْقَاسِمِ حَتَّى يَقْسِمَ)). وَتَكُونُ لإضافةِ الفعلِ إلى المُخْبَرِ عنه تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ص: 75. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْجَارِحَةِ، لِأَنَّ الْبَارِيَ جَلَّ وَعلا وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَبْعيضُ، ولا على القوَّةِ والمُلْكِ وَالنِّعْمَةِ وَالصِّلَةِ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يَقَعُ حِينَئِذٍ بَيْنَ وَلِيِّهِ آدَمَ وَعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ، وَيَبْطُلُ مَا ذُكِرَ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ، لِبُطْلَانِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ عَلَى صِفَتَيْنِ تَعَلَّقَتَا بِخَلْقِ آدَمَ تَشْرِيفًا لَهُ دُونَ خَلْقِ إِبْلِيسَ تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ، لَا مِنْ طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمُمَاسَّةُ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ أنَّه ـ تعالى ـ كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ دَارَ الْكَرَامَةِ بِيَدِه لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ تَعَلُّقُ الصِّفَةِ بِمُقْتَضَاهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا} حُذِفَتِ الضَّمَّةُ مِنَ الْيَاءِ لِثِقَلِهَا، أَيْ غُلَّتْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهِمْ، وَكَذَا "وَلُعِنُوا بِما قالُوا" وَالْمَقْصُودُ تَعْلِيمُنَا كَمَا قَالَ: "لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ" الفتح: 27، عَلَّمَنَا الِاسْتِثْنَاءَ كَمَا عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ عَلَى أَبِي لَهَبٍ بقولِه: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ} المَسَد: 1. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَبْخَلُ الْخَلْقِ، فَلَا تَرَى يَهُودِيًّا غَيْرَ لَئِيمٍ. وَفِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِضْمَارُ الْوَاوِ، أَيْ قَالُوا: يَدُ اللهِ مغلولةٌ وغُلَّتْ أَيديهم. واللَّعنُ بالابْعادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} ثُنِّيتِ اليَدُ هنا وهي في "يَدُ اللهِ مغلولةٌ" مفردةٌ؟ ليكونَ ردُّ قولِهم وإنكارُه أَبلغَ وأَدَلَّ على إثباتِ غايةِ السخاءِ لَهُ ـ سبحانه ـ ونَفْيِ البُخْلِ عنْهُ، وذلك أنَّ غايةَ ما يَبْذُلُه السَخِيُّ مِنْ مالِه بِنَفْسِه أَنْ يُعطيَه بِيَديْه جَميعًا فبَنى المَجازَ على ذلك. أَيْ بَلْ نِعْمَتُهُ مَبْسُوطَةٌ، فَالْيَدُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا غَلَطٌ، لِقَوْلِهِ: "بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ" فَنِعَمُ اللهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى فَكَيْفَ تَكُونُ بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَثْنِيَةَ جِنْسٍ لَا تَثْنِيَةَ وَاحِدٍ مُفْرَدٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ)). أي المترددة بيْنَ قَطيعيْن، لا تَدْري أيُّهما تَتبعُ. فَأَحَدُ الْجِنْسَيْنِ نِعْمَةُ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي نِعْمَةُ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: نِعْمَتَا الدُّنْيَا النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ وَالنِّعْمَةُ الْبَاطِنَةُ، كَمَا قَالَ: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً} لقمان: 20. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: ((النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ مَا حَسُنَ مِنْ خُلُقِكَ، وَالْبَاطِنَةُ مَا سُتِرَ عَلَيْكَ مِنْ سَيِّئِ عَمَلِكَ)). وَقِيلَ: نِعْمَتَاهُ الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ اللَّتَانِ النِّعْمَةُ بِهِمَا وَمِنْهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّ النِّعْمَةَ لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ) وَلَيْسَ يُرِيدُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: ما لي بهذا الأمْرِ يَدٌ أو قُوَّةٌ. قَالَ السُّدِّيُّ، مَعْنَى قَوْلِهِ "يَداهُ" قُوَّتَاهُ بالثَوابِ وَالْعِقَابِ، بِخِلَافِ مَا قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ يَدَهُ مَقْبُوضَةٌ عَنْ عَذَابِهِمْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِي أَنْفِقْ أُنْفِقُ عَلَيْكَ)). وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَمِينُ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ ـ قَالَ ـ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْضُ يَرفَعُ ويَخفِضُ)). السَحُّ الصَّبُّ الكثير. ويَغيضُ يَنْقُصُ، وَنَظِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ} البقرة: ويُقَالُ: يَدٌ بُسْطَةٌ، أَيْ مُنْطَلِقَةٌ مُنْبَسِطَةٌ. "يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ" أَيْ يَرْزُقُ كَمَا يُرِيدُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، أَيْ قُدْرَتُهُ شَامِلَةٌ، فَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ وَإِنْ شَاءَ قَتَّرَ.
قولُه: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْرًا} اللامُ لَامُ قَسَمٍ، أَيْ والله لَيَزيدَنَّ ما أَنْزَلَ إليكَ رَبُّكَ مِنَ القرآنِ كثيرًا مِنْ علماءِ اليهودِ والنَّصارى ورؤسائهم طغيانًا وكفرًا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ. فإذا نَزَلَ شيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَفَرُوا به فازْدَادَ كُفْرُهُمْ.
قولُه: {وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ} المائدة: 51. والعداوةُ ملموسٌة فيما بينَهم وبين النَّصارى من ذلك ما جاء في خطابِ (بِنيامين فرانكلين) في المؤتمر الدستوري التأسيسي المُنعقد في فيلادِلْفيا بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1787م: "في كلِّ بَلَدٍ اسْتَوْطَنَه اليَهودُ. انْحَطَّتِ القِيَمُ الأَخلاقِيَّةُ إلى الدَّرْكِ الأسفلِ، وشاعتِ الفَوضى واللَّامَسْؤوليَّةُ والاحتيالُ في معاملات أَبنائه التِجاريَّةِ. هذا بَينَما يَنْعَزِلُ اليَهودُ مُتَقَوْقِعينَ على أَنْفُسِهم في كُتَلٍ وعِصاباتٍ، لمْ نَتَمَكَّنْ مِنَ القَضاءِ عليها ولا دَمْجِها في مُجْتَمَعِنا. لقد هَزِئَ اليهودُ مِنْ قِيمِ دِيانَتِنا المَسيحيَّةِ التي تَقومُ دَوْلَتُنا عليْها وتَعيشُ بِها، مُتجاهلين كُلَّ أَنْظِمِتِنا ومَحظُوراتِنا، فَمَكَّنَهم ذلك مِنْ إقامةِ دَوْلَةٍ لَهم داخلَ دَوْلَتِنا" إلى أنْ يقول: "إنَّكم إنْ لم تَطرُدوهم عَنْ دِيارِنا فلَنْ يَمْضِيَ أَكثرُ مِنْ مِئَتَيْ سَنَةٍ حتَّى يُصبحَ أَحفادُنا خَدَمًا في حقولِهم يُمِدُّونَهم بِثَرواتِ بِلادِنا. إنَّ اليهودَ يُشَكِّلونَ خَطَرًا عَظيمًا على هذه البلاد، وإنَّني أُؤَكِّدُ على ضَرورَةِ طَرْدِهم مِنْها ومَنْعِهم مِنْ الدُخولِ إليْها أوِ الإقامةِ فيها، بمُوجِبِ نُصوصٍ دُسْتُوريَّةٍ صَريحةٍ". ولقد تحققتْ نبوءةُ فرنكلين فهاهم اليهود يسيطرون على مراكز اتخاذِ القرارِ في هذه الدولة الأقوى في العالم، هذه الأيامِ، ويسخرون هذه القوة في تنفيذِ مخطّطاتهم الدنيئة.
وَقِيلَ: في تفسيرِ قولِه: "وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" أيْ أَلْقَيْنَا العداوةَ والبغضاءَ بَيْنَ طَوَائِفِ الْيَهُودِ، كَمَا قال ـ سبحانه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} الحشر: 14. فهم مُتَباغِضونَ فيما بينهم، كما هُمْ أَبْغَضُ خَلْقِ اللهِ إِلَى النَّاسِ. والعداوةُ أَخَصُّ مِنَ البَغضاءِ لأنَّ كلَّ عَدُوٍّ مُبْغِضٌ وقد يُبْغِضُ مَنْ لَيسَ بِعَدُوٍّ.
قولُه: {كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} يريد اليهود. أَيْ كُلَّمَا جَمَعُوا وَأَعَدُّوا شَتَّتَ اللهُ جَمْعَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَفْسَدُوا وَخَالَفُوا كتاب الله ـ التوراة ـ أَرسَلَ اللهُ عليهِم "بُخْتَنَصَّرَ"، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ "بُطْرُسَ الرُّومِيَّ"، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْمَجُوسَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَبَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا كُلَّمَا اسْتَقَامَ أَمْرُهُمْ شَتَّتَهُمُ اللهُ، وكُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا أَيْ أَهَاجُوا شَرًّا، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى حَرْبِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فـ "أَطْفَأَهَا اللهُ" وَقَهَرَهُمْ وَوَهَّنَ أَمْرَهُمْ فَذِكْرُ النَّارِ مُسْتَعَارٌ والآيةُ مُشتَمِلَةٌ على استعارةٍ بَليغةٍ وأُسلوبٍ بديعٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّارِ هُنَا نَارُ الْغَضَبِ، أَيْ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارَ الْغَضَبِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَتَجَمَّعُوا بِأَبْدَانِهِمْ وَقُوَّةِ النُّفُوسِ مِنْهُمْ بِاحْتِدَامِ نَارِ الْغَضَبِ أَطْفَأَهَا اللهُ حَتَّى يَضْعُفُوا وَذَلِكَ بِمَا جَعَلَهُ مِنَ الرُّعْبِ نُصْرَةً بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقَالَ قَتَادَةُ: أَذَلَّهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَلَقَدْ بَعَثَ اللهُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُمْ تَحْتَ أَيْدِي المَجوسِ.
قولُه: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا} أَيْ يَجتَهِدون في فِعلِ ما فيه فَسادٌ وقيل يَسْعَوْنَ فِي إِبْطَالِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُه: {واللهُ لا يُحبُّ المُفسِدين} وَضَعَ الظاهِرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ بيانًا لشِدَّةِ فَسادِهم وكونِهم لا يَنفَكُّون عنْه.
رُوِيَ في أَسبابِ نُزولِها أَنَّ اليَهودَ أَصابَتْهم سَنَةُ جُهْدٍ فقالوا هذه المَقالَةَ الشَنيعَةَ، فقد قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ رأسُ يهودِ قَيْنُقاعَ وَأَصْحَابُهُ، وفي رواية عنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنهما ـ النبّاشُ بْنُ قَيْسٍ لَعَنَهُمُ اللهُ، ، وَكَانَ لَهُمْ أَمْوَالٌ فَلَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قلَّ مالُهم، فقالوا: إنَّ اللهَ بَخيلٌ، ويَدُ اللهِ مَقْبُوضَةٌ عَنَّا فِي الْعَطَاءِ، فَالْآيَةُ خَاصَّةً فِي بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ قَوْمٌ هَذَا وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَاقُونَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ قَالُوا هَذَا.
قولُهُ تعالى: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} حِكايةً عن اليهودِ، مبتدأٌ وخبرٌ. وزَعَمَ بعضُهم تقديرَ همزةِ استفهامٍ أيْ: "أيدُ اللهِ مغلولةٌ"؟ ولا يحتاجون إلى هذا التقدير.
وقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بما قالوا} يَحتملُ الخبرَ المَحضَ، ويَحتمِلُ أنْ يُرادَ بِهِ الدُعاءُ عليهم. والظاهرُ أنَّ الضميرَ في "لُعِنوا" عائدٌ على الأحبارِ والرُّهبانِ، ويَجوزُ أنْ يعودَ على المُتَقدِّمين. و"بما قالوا" الباءُ للسببيَّةِ، أيْ: لُعِنوا بسببِ قولِهم، و"ما" مَصدريَّةٌ، ويَجوزُ أنْ تَكونَ مَوصولةً اسْمِيَّةً والعائدُ مَحذوفٌ.
وقَرَأَ أبو السمَّال: "ولُعْنوا" بسكون العين، وحَسَّنَ تخفيفَها هنا كونُها كَسْرةً بيْن ضمَّتين، ومثلُه قولُ أبي النجم:
خَوْدٌ يُغَطِّي الفَرعُ منها المؤتَزَرْ ....... لو عُصْرَ منه البانُ والمسكُ انعصَرْ
وقبلَه:
كأنَّما في نَشْرِها إذا نَشَرْ .................... فَغْمَةُ رَوضاتٍ تَرَدَّيْنَ الزَّهَرْ
هَيَّجَها نَضْحٌ مِنَ الطَلِّ سَحَرْ .............. وهَزَّتِ الريحُ النَدى حتَّى قَطَرْ
قولُه: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتان} وفي مُصحَفِ عَبدِ اللهِ: "بُسُطان" يُقال: "يدٌ بُسُط" على زِنَةِ "ناقة سُرُح" و"أُحُد" و"مِشْية سُجُع"، أي: مَبسوطةٌ بالمعروف، وقرأ عبد الله : « بسيطتان » يقال : يد بسيطة أي : مُطْلَقَةٌ بالمعروف .
قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} في هذه الجملة خمسةُ أوجه، أوَّلُها وأظهرها: أنْ لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ لأنَّها مُستأنَفَةٌ. والثاني: أنَّها في محلِّ رفعٍ لأنَّها خبرٌ ثانٍ لـ "يداه". والثالث: أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنَ الضَميرِ المُسْتَكِنِّ في "مبسوطتان" وعلى هذيْن الوجهيْن فلا بُدَّ من ضميرٍ مقدَّرٍ عائدٍ على المُبتدأِ، أو على ذي الحالِ، أي: يُنفِقُ بِهِما، وحَذْفُ مثلِ ذلك قليلٌ.
وقال أبو البقاء: "يُنفِقُ كيف يَشاءُ" مُسأنَفٌ، ولا يَجوزُ أنْ يَكونَ حالًا مِنَ الهاءَ ـ يَعني في "يداه" ـ لشيئيْن، أَحَدُهُما: أنَّ الهاءَ مُضافٌ إليْها. والثاني: أنَّ الخبرَ يَفْصِل بينهما: ولا يَجوزُ أَنْ تَكونَ حالًا مِنَ اليَديْن، إذْ ليس فيها ضميرٌ يَعودُ إليْهِما، قلتُ: قولُه: "أَحدُهُما": أَنَّ الهاءَ مُضافٌ إليِها" ليس ذلك بمانِعٍ؛ لأنَّ المَمنوعَ إنَّما هُو مَجيءُ الحالِ مِنَ المُضافِ إليه إذا لم يَكُنِ المُضافُ جُزْءً مِنَ المُضافِ إليْه أوْ كَجُزْئِهِ أو عاملًا فيه، وهذا مِنَ النوعِ الأوَّلِ فلا مانِعَ فيه. وقولُه: "والثاني: أنَّ الخبرَ يَفْصِلُ بينَهُما" هذا أيْضًا ليس بِمانِعٍ، ومنه: {وهذا بَعْلِي شَيْخًا} هود: 72. إذا قلنا إنَّ "شيخًا" حالٌ مِنِ اسْمِ الإِشارةِ، والعاملُ فيه التَنبيهُ. وقولُه: "إذ ليس فيها ضمير" قد تقدَّم أنَّ العائِدَ يُقَدَّرُ، أي: "يُنْفِقُ بهما".
الرابع: أنَّها حالٌ من "يداه" وفيه خلافٌ ـ أَعْني مَجيءَ الحالِ مِنَ المُبتَدأِ ـ ووجهُ المَنْعِ أَنَّ العاملَ في الحالِ هو العاملُ في صاحبِها، والعاملُ في صاحبها أَمْرٌ مَعنويٌّ لا لَفْظِيٌ وهو الابْتِداءُ، وهذا على أحدِ الأقوالِ في العاملِ في الابتداء. الخامس: أنَّها حالٌ مِنَ الهاءِ في "يداه" ولا اعتبارَ بما منَعَهُ أبو البَقاءِ لِمَا تقدَّمَ مِنْ إيضاحِ ذلك.
وقولُه: {كيف} في مثلِ هذا التركيبِ شرطيَّةٌ نحو: "كيف تكون أكون" ومفعولُ المُشبَّهِ محذوفٌ، وكذلك جوابُ هذا الشرطِ أيضًا مَحذوفٌ مَدلولٌ عليْه بالفعلِ السابقِ لـ "كيف" والمعنى: يُنفِقُ كما يَشاءُ أنْ يُنفِقَ يُنْفِقُ، ويَبْسُطُ في السماءِ كيف يَشاءُ أنْ يَبْسُطَه يَبْسُطُهُ، فحذفِ مفعول "يَشاءُ" وهو"أَنْ" وما بعدَها، وقد تقدَّم أنَّ مفعولَ "يَشاءُ" و"يريد" لا يُذْكران إلَّا لِغَرابَتِهِما، وحَذَفَ أيْضًا جوابَ "كيف" وهو "ينفق" المُتَأَخِّرُ "ويبسُطُ" المُتَأَخِّرُ لدَلالةِ "يُنفِقُ" و"يَبْسُطُ" الأوَّليْنِ، وهو نظيرُ قولِك: أَقومُ إنْ يَقُمْ زَيدٌ"، ولا جائزٌ أنْ يَكونَ "يُنفِقُ" المُتَقَدِّمُ عاملًا في "كيف" لأنَّ لها صَدْرَ الكلامِ، وما لَه صدرُ الكَلامِ لا يَعمَلُ فيه إلَّا حرفُ الجَرِّ أوْ المُضافُ. وقال الحُوفِيُّ: "كيف" سؤالٌ عن حالٍ، وهي نصبٌ بـ "يَشاءُ" قال الشيخ: "ولا يُعْقَلُ هنا كونُها سؤالًا عن حالٍ" قلتُ: وقد تقدَّمَ الكلامُ عليها مُشْبَعًا عندَ قولِه: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ} آل عمران: 6، وذَكَرْنا عِبارةَ الناسِ فيها.
قولُه: {ما أُنزِلَ} ما: هنا موصولةٌ اسْمِيَّةٌ في مَحَلِّ رَفْعٍ، لأنَّها فاعلٌ بقولِه: {وَلَيَزِيدَنَّ} ولا يَجوزُ أنْ تَكونَ "ما" مصدريَّةً، و"إليك" قائمٌ مقامَ الفاعلِ لـ "أُنْزل" ويكونُ التقديرُ: "ولَيَزيدَنَّ كثيرًا الإِنزالُ إليك" لأنَّه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّل، والذي يزيدهم إنَّما هو المُنَزَّلُ لا نفسُ الإِنزالِ.
وقولُه: {منهم} صفةٌ لـ "كثيرًا" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و"طغيانًا" مفعولٌ ثانٍ لـ "يَزيد".
وقولُه: {إلى يَوْمِ القيامة} متعلِّقٌ بـ "أَلْقينا"، ويَجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بقولِه: "والبغضاء" أي: إنَّ التباغضَ بينَهم إلى يومِ القيامةِ، ولا يَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بالعَداوةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالأجنبي وهو المعطوفُ، وعلى هذا فلا يَجوزُ أنْ تكونَ المسألةُ مِنَ التَنازُعِ، لأنَّ شرطَه تَسَلُّطُ كلٍ مِنَ العامليْن، والعاملُ الأوَّلُ هُنا لو سُلِّطَ على المُتنازَعِ فيه لم يَجُزْ للمحذورِ المَذكورِ. وقد نَقَلَ بعضُهم أَنَّه يَجوزُ التَنازُعُ في فِعْلَي التَعجُّبِ مَعَ التِزامِ إعْمالِ الثاني؛ لأنَّه لا يُفْصَلِّ بيْنَ فِعْلِ التَعَجُّبِ ومعمولِه، وهذا مثلُهُ، أَيْ: يُلْتَزَمُ إعْمالُ العاملِ الثاني، وهو خارجٌ عنْ قياسِ التَنَازُعِ، وتقدَّمَ نَظيرُه.
قولُه: {كلما أوقدوا نارًا للْحَرْبِ أطفأها الله} متعلِّقٌ بـ "أوقدوا" أي: أَوْقدوها لأَجلِ الحربِ. أو هو صفةٌ لـ "نارًا" فيتعلق بمحذوفٍ. و"أطفأها اللهُ" جوابُ "كلما".
وقولُه: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} فسادًا: قد تقدَّمَ نظيرُه في المائدة : 33، وأنَّه يَجوزُ أنْ يَكونَ مصدرًا من المعنى، وحينئذٍ لك اعتباران، أَحَدُهُما: ردُّ الفعلِ لِمَعنى المَصدر. والثاني: ردُّ المَصدرِ لِمَعنى الفعلِ، وأنْ يَكون حالًا، أي: يَسْعَوْن سَعْيَ فَسادٍ، أو: يُفسِدونَ بِسَعيِهِمْ فَسادًا، أوْ: يَسْعَوْن مُفْسِدين، وأنْ يَكونَ مَفعولًا مِنْ أَجْلِهِ: أي: يَسْعَوْن لأَجْلِ الفَسادِ. والضميرُ في "بينَهُم ..." يَجوزُ أنْ يعودَ على اليهودِ وحدَهم لأنَّهم فِرَقٌ مختلفةٌ وطوائفُ متشعبةٌ، وأَنْ يعودَ على اليهود والنصارى لتقدُّمِ ذِكرِهم في قولِه تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى} المائدة: 51، ولانْدِراجِ الصِنْفيْن في قوله: {قُلْ يا أهلَ الكتاب} المائدة: 59، والألفُ واللَّامُ في "الأرض" يَجوزُ أنْ تَكونَ للجِنْسِ وأَنْ تَكونَ للعَهْدِ.
(64)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}. أَصلُ الغُلِّ: تَوَسُّطُ الشيءِ وتَدَرُّعُه، والغُلُّ ما يُقيَّدُ بِه الشَخصُ ويَجعَلُ الأطرافَ وَسَطَه، وقيلَ للبَخيلِ هو مَغْلولُ اليَديْن، وكأنَّما قيَّدَ أَحَدٌ يَدَيْهِ فلا يستطيعُ إخراجَ المالِ ولا النَفَقَةَ، فقد وَصَفَ اليهودُ اللهَ هنا بِأنَّهُ بَخِيلٌ كَمَا وَصَفُوهُ في غيرِ هذا المَوضِعِ بِأنَّهُ فَقِيرٌ، وَأنَّهُمُ الأَغْنِيَاءُ.
قال ابْنُ عبَّاسٍ وعِكْرِمَةُ والضَحَّاكُ وقَتادَةُ: إنَّ الله كان قدْ بَسَطَ على اليَهودِ حتَّى كانوا مِنْ أكثرِ النَّاسِ مالًا وأَخْصَبِهم ناحيةً، فلمَّا عَصَوُا الله في محمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ وكذَّبوا بِهِ كَفَّ اللهُ عنهم ما بَسطَ عليهم مِنَ السَعَةِ فعندَ ذلك قالَ فنحاصُ بْنُ عازورا: "يَدُ اللهِ مغلولةٌ" لم يُريدوا إلى عُنُقِهِ ولكنَّهم أَرادوا إنَّها مَقْبوضَةٌ بمَعْنى مُمْسِكَةٌ عَنِ الرِّزْقِ فنَسَبوهُ إلى البُخْلِ. فغُلُّ اليَدِ كِنايةٌ عَنِ البُخْلِ، وبَسْطُها كِنايةٌ عنِ الجُودِ ومنْه قولُهُ ـ تعالى في سورة الإسراء: {ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلولَةً} أيْ لا تَبْخَلْ كُلَّ البُخْلِ، {ولا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ} أيْ لا تَجُدْ كُلَّ الجُودِ. {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} 29. وغَلُّ اليَدِ وبَسْطُها هُنا استعارةٌ للبُخلِ والجُودِ، وإنْ كان ليس ثَمَّ يَدٌ ولا جارِحةٌ، وكلامُ العربِ ملآنُ مِنْ ذلك. قالتِ العَرَبُ: فلانٌ يُنفِقُ بِكِلْتا يَدَيْهَ قال الأعشى:
يداك يدا مجدٍ ، فكفٌّ مفيدةٌ ............. وكفٌ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ
وقال أبو تمَّام:
تعوَّد بَسْطَ الكفِّ حتى لَوَ أنَّه .............. دعاها لقَبْضٍ لم تُطِعْه أنامِلُهْ
وقد استعارت العربُ ذلك حيثُ لا يَدَ البَتَّةَ، ومنه قولُ لَبيدٍ:
وغداة ريححٍ قد كشفتُ وقِرَّةٍ ........... إذْ أصبحَتْ بيدِ الشَمالِ زِمامُها
وقال آخر:
جادَ الحِمَى بَسْطُ اليدين بوابلٍ .............. شَكَرتْ نداه تِلاعُه ووِهادُهْ
وقالوا: "بَسَطَ اليأسُ كفَّيْهِ في صدري" واليأسُ معنًى لا عينٌ، وقد جعلوا لَهُ كَفَّيْن مجازًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى يَدُ اللهِ مَقْبُوضَةٌ عَنْ عَذَابِنَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي فَقْرٍ وَقِلَّةِ مَالٍ وَسَمِعُوا قولَهُ ـ تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} وَرَأَوُا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ كَانَ يَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي الدِّيَاتِ قَالُوا: إِنَّ إِلَهَ مُحَمَّدٍ فَقِيرٌ، وقالوا: بَخِيلٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: "يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ" فَهَذَا عَلَى التَّمْثِيلِ كَقَوْلِهِ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ} الإسراء: 29. وَيُقَالُ لِلْبَخِيلِ: جَعْدُ الْأَنَامِلِ، وَمَقْبُوضُ الْكَفِّ، وَكَزُّ الْأَصَابِعِ، وَمَغْلُولُ الْيَدِ، قَالَ الشَّاعِرُ نهار بْنُ تَوْسِعَةَ بْنِ أَبي عتبان، مِن بَكْرٍ بْنِ وائلٍ، وكان أشعرَهم بخُراسان، فقد هَجا قُتَيْبَة بْنَ مُسْلِمٍ مادحًا سلفَهُ يزيدَ عليها فقال:
كَانَتْ خُرَاسَانُ أَرْضًا إِذْ يَزِيدُ بِهَا .......... وَكُلُّ بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوحُ
فَاسْتَبْدَلَتْ بَعْدَهُ جَعْدًا أَنَامِلُهُ ................. كَأَنَّمَا وَجْهَهُ بِالْخَلِّ مَنْضُوحٌ
وَالْيَدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَكُونُ لِلْجَارِحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} ص: 44. وَتَكُونُ اليدُ لِلنِّعْمَةِ أيضًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: كَمْ يَدٍ لِي عِنْدَ فُلَانٍ، أَيْ كَمْ مِنْ نِعْمَةٍ لِي قَدْ أَسْدَيْتُهَا لَهُ، وَتَكُونُ لِلْقُوَّةِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُودَ ذَا الْأَيْدِ} ص: 17، أيْ ذا القُوَّةِ، وتَكونُ يَدَ المُلكِ وَالْقُدْرَةِ، قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} آل عمران: 73. وَتَكُونُ بِمَعْنَى الصِّلَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: "مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً} يس: 71. أيْ مما عَمِلْنا نَحْنُ. وقال: {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ} الْبَقَرَةِ: 237. أَيِ الذِي لَهُ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. وَتَكُونُ بِمَعْنَى التَّأْيِيدِ وَالنُّصْرَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((يَدُ اللهِ مَعَ الْقَاضِي حَتَّى يَقْضِيَ وَالْقَاسِمِ حَتَّى يَقْسِمَ)). وَتَكُونُ لإضافةِ الفعلِ إلى المُخْبَرِ عنه تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ص: 75. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْجَارِحَةِ، لِأَنَّ الْبَارِيَ جَلَّ وَعلا وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَبْعيضُ، ولا على القوَّةِ والمُلْكِ وَالنِّعْمَةِ وَالصِّلَةِ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يَقَعُ حِينَئِذٍ بَيْنَ وَلِيِّهِ آدَمَ وَعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ، وَيَبْطُلُ مَا ذُكِرَ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ، لِبُطْلَانِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ عَلَى صِفَتَيْنِ تَعَلَّقَتَا بِخَلْقِ آدَمَ تَشْرِيفًا لَهُ دُونَ خَلْقِ إِبْلِيسَ تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ، لَا مِنْ طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمُمَاسَّةُ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ أنَّه ـ تعالى ـ كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ دَارَ الْكَرَامَةِ بِيَدِه لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ تَعَلُّقُ الصِّفَةِ بِمُقْتَضَاهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا} حُذِفَتِ الضَّمَّةُ مِنَ الْيَاءِ لِثِقَلِهَا، أَيْ غُلَّتْ فِي الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهِمْ، وَكَذَا "وَلُعِنُوا بِما قالُوا" وَالْمَقْصُودُ تَعْلِيمُنَا كَمَا قَالَ: "لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ" الفتح: 27، عَلَّمَنَا الِاسْتِثْنَاءَ كَمَا عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ عَلَى أَبِي لَهَبٍ بقولِه: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ} المَسَد: 1. وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَبْخَلُ الْخَلْقِ، فَلَا تَرَى يَهُودِيًّا غَيْرَ لَئِيمٍ. وَفِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِضْمَارُ الْوَاوِ، أَيْ قَالُوا: يَدُ اللهِ مغلولةٌ وغُلَّتْ أَيديهم. واللَّعنُ بالابْعادِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} ثُنِّيتِ اليَدُ هنا وهي في "يَدُ اللهِ مغلولةٌ" مفردةٌ؟ ليكونَ ردُّ قولِهم وإنكارُه أَبلغَ وأَدَلَّ على إثباتِ غايةِ السخاءِ لَهُ ـ سبحانه ـ ونَفْيِ البُخْلِ عنْهُ، وذلك أنَّ غايةَ ما يَبْذُلُه السَخِيُّ مِنْ مالِه بِنَفْسِه أَنْ يُعطيَه بِيَديْه جَميعًا فبَنى المَجازَ على ذلك. أَيْ بَلْ نِعْمَتُهُ مَبْسُوطَةٌ، فَالْيَدُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا غَلَطٌ، لِقَوْلِهِ: "بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ" فَنِعَمُ اللهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى فَكَيْفَ تَكُونُ بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَثْنِيَةَ جِنْسٍ لَا تَثْنِيَةَ وَاحِدٍ مُفْرَدٍ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ)). أي المترددة بيْنَ قَطيعيْن، لا تَدْري أيُّهما تَتبعُ. فَأَحَدُ الْجِنْسَيْنِ نِعْمَةُ الدُّنْيَا، وَالثَّانِي نِعْمَةُ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: نِعْمَتَا الدُّنْيَا النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ وَالنِّعْمَةُ الْبَاطِنَةُ، كَمَا قَالَ: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً} لقمان: 20. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: ((النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ مَا حَسُنَ مِنْ خُلُقِكَ، وَالْبَاطِنَةُ مَا سُتِرَ عَلَيْكَ مِنْ سَيِّئِ عَمَلِكَ)). وَقِيلَ: نِعْمَتَاهُ الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ اللَّتَانِ النِّعْمَةُ بِهِمَا وَمِنْهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّ النِّعْمَةَ لِلْمُبَالَغَةِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ) وَلَيْسَ يُرِيدُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: ما لي بهذا الأمْرِ يَدٌ أو قُوَّةٌ. قَالَ السُّدِّيُّ، مَعْنَى قَوْلِهِ "يَداهُ" قُوَّتَاهُ بالثَوابِ وَالْعِقَابِ، بِخِلَافِ مَا قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ يَدَهُ مَقْبُوضَةٌ عَنْ عَذَابِهِمْ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِي أَنْفِقْ أُنْفِقُ عَلَيْكَ)). وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَمِينُ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ ـ قَالَ ـ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْضُ يَرفَعُ ويَخفِضُ)). السَحُّ الصَّبُّ الكثير. ويَغيضُ يَنْقُصُ، وَنَظِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ} البقرة: ويُقَالُ: يَدٌ بُسْطَةٌ، أَيْ مُنْطَلِقَةٌ مُنْبَسِطَةٌ. "يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ" أَيْ يَرْزُقُ كَمَا يُرِيدُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، أَيْ قُدْرَتُهُ شَامِلَةٌ، فَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ وَإِنْ شَاءَ قَتَّرَ.
قولُه: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْرًا} اللامُ لَامُ قَسَمٍ، أَيْ والله لَيَزيدَنَّ ما أَنْزَلَ إليكَ رَبُّكَ مِنَ القرآنِ كثيرًا مِنْ علماءِ اليهودِ والنَّصارى ورؤسائهم طغيانًا وكفرًا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ. فإذا نَزَلَ شيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَفَرُوا به فازْدَادَ كُفْرُهُمْ.
قولُه: {وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ} المائدة: 51. والعداوةُ ملموسٌة فيما بينَهم وبين النَّصارى من ذلك ما جاء في خطابِ (بِنيامين فرانكلين) في المؤتمر الدستوري التأسيسي المُنعقد في فيلادِلْفيا بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1787م: "في كلِّ بَلَدٍ اسْتَوْطَنَه اليَهودُ. انْحَطَّتِ القِيَمُ الأَخلاقِيَّةُ إلى الدَّرْكِ الأسفلِ، وشاعتِ الفَوضى واللَّامَسْؤوليَّةُ والاحتيالُ في معاملات أَبنائه التِجاريَّةِ. هذا بَينَما يَنْعَزِلُ اليَهودُ مُتَقَوْقِعينَ على أَنْفُسِهم في كُتَلٍ وعِصاباتٍ، لمْ نَتَمَكَّنْ مِنَ القَضاءِ عليها ولا دَمْجِها في مُجْتَمَعِنا. لقد هَزِئَ اليهودُ مِنْ قِيمِ دِيانَتِنا المَسيحيَّةِ التي تَقومُ دَوْلَتُنا عليْها وتَعيشُ بِها، مُتجاهلين كُلَّ أَنْظِمِتِنا ومَحظُوراتِنا، فَمَكَّنَهم ذلك مِنْ إقامةِ دَوْلَةٍ لَهم داخلَ دَوْلَتِنا" إلى أنْ يقول: "إنَّكم إنْ لم تَطرُدوهم عَنْ دِيارِنا فلَنْ يَمْضِيَ أَكثرُ مِنْ مِئَتَيْ سَنَةٍ حتَّى يُصبحَ أَحفادُنا خَدَمًا في حقولِهم يُمِدُّونَهم بِثَرواتِ بِلادِنا. إنَّ اليهودَ يُشَكِّلونَ خَطَرًا عَظيمًا على هذه البلاد، وإنَّني أُؤَكِّدُ على ضَرورَةِ طَرْدِهم مِنْها ومَنْعِهم مِنْ الدُخولِ إليْها أوِ الإقامةِ فيها، بمُوجِبِ نُصوصٍ دُسْتُوريَّةٍ صَريحةٍ". ولقد تحققتْ نبوءةُ فرنكلين فهاهم اليهود يسيطرون على مراكز اتخاذِ القرارِ في هذه الدولة الأقوى في العالم، هذه الأيامِ، ويسخرون هذه القوة في تنفيذِ مخطّطاتهم الدنيئة.
وَقِيلَ: في تفسيرِ قولِه: "وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ" أيْ أَلْقَيْنَا العداوةَ والبغضاءَ بَيْنَ طَوَائِفِ الْيَهُودِ، كَمَا قال ـ سبحانه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} الحشر: 14. فهم مُتَباغِضونَ فيما بينهم، كما هُمْ أَبْغَضُ خَلْقِ اللهِ إِلَى النَّاسِ. والعداوةُ أَخَصُّ مِنَ البَغضاءِ لأنَّ كلَّ عَدُوٍّ مُبْغِضٌ وقد يُبْغِضُ مَنْ لَيسَ بِعَدُوٍّ.
قولُه: {كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} يريد اليهود. أَيْ كُلَّمَا جَمَعُوا وَأَعَدُّوا شَتَّتَ اللهُ جَمْعَهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَفْسَدُوا وَخَالَفُوا كتاب الله ـ التوراة ـ أَرسَلَ اللهُ عليهِم "بُخْتَنَصَّرَ"، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ "بُطْرُسَ الرُّومِيَّ"، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْمَجُوسَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَبَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانُوا كُلَّمَا اسْتَقَامَ أَمْرُهُمْ شَتَّتَهُمُ اللهُ، وكُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا أَيْ أَهَاجُوا شَرًّا، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى حَرْبِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فـ "أَطْفَأَهَا اللهُ" وَقَهَرَهُمْ وَوَهَّنَ أَمْرَهُمْ فَذِكْرُ النَّارِ مُسْتَعَارٌ والآيةُ مُشتَمِلَةٌ على استعارةٍ بَليغةٍ وأُسلوبٍ بديعٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّارِ هُنَا نَارُ الْغَضَبِ، أَيْ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارَ الْغَضَبِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَتَجَمَّعُوا بِأَبْدَانِهِمْ وَقُوَّةِ النُّفُوسِ مِنْهُمْ بِاحْتِدَامِ نَارِ الْغَضَبِ أَطْفَأَهَا اللهُ حَتَّى يَضْعُفُوا وَذَلِكَ بِمَا جَعَلَهُ مِنَ الرُّعْبِ نُصْرَةً بَيْنَ يَدَيْ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقَالَ قَتَادَةُ: أَذَلَّهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَلَقَدْ بَعَثَ اللهُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُمْ تَحْتَ أَيْدِي المَجوسِ.
قولُه: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا} أَيْ يَجتَهِدون في فِعلِ ما فيه فَسادٌ وقيل يَسْعَوْنَ فِي إِبْطَالِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُه: {واللهُ لا يُحبُّ المُفسِدين} وَضَعَ الظاهِرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ بيانًا لشِدَّةِ فَسادِهم وكونِهم لا يَنفَكُّون عنْه.
رُوِيَ في أَسبابِ نُزولِها أَنَّ اليَهودَ أَصابَتْهم سَنَةُ جُهْدٍ فقالوا هذه المَقالَةَ الشَنيعَةَ، فقد قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ رأسُ يهودِ قَيْنُقاعَ وَأَصْحَابُهُ، وفي رواية عنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عنهما ـ النبّاشُ بْنُ قَيْسٍ لَعَنَهُمُ اللهُ، ، وَكَانَ لَهُمْ أَمْوَالٌ فَلَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قلَّ مالُهم، فقالوا: إنَّ اللهَ بَخيلٌ، ويَدُ اللهِ مَقْبُوضَةٌ عَنَّا فِي الْعَطَاءِ، فَالْآيَةُ خَاصَّةً فِي بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ قَوْمٌ هَذَا وَلَمْ يُنْكِرِ الْبَاقُونَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ قَالُوا هَذَا.
قولُهُ تعالى: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} حِكايةً عن اليهودِ، مبتدأٌ وخبرٌ. وزَعَمَ بعضُهم تقديرَ همزةِ استفهامٍ أيْ: "أيدُ اللهِ مغلولةٌ"؟ ولا يحتاجون إلى هذا التقدير.
وقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بما قالوا} يَحتملُ الخبرَ المَحضَ، ويَحتمِلُ أنْ يُرادَ بِهِ الدُعاءُ عليهم. والظاهرُ أنَّ الضميرَ في "لُعِنوا" عائدٌ على الأحبارِ والرُّهبانِ، ويَجوزُ أنْ يعودَ على المُتَقدِّمين. و"بما قالوا" الباءُ للسببيَّةِ، أيْ: لُعِنوا بسببِ قولِهم، و"ما" مَصدريَّةٌ، ويَجوزُ أنْ تَكونَ مَوصولةً اسْمِيَّةً والعائدُ مَحذوفٌ.
وقَرَأَ أبو السمَّال: "ولُعْنوا" بسكون العين، وحَسَّنَ تخفيفَها هنا كونُها كَسْرةً بيْن ضمَّتين، ومثلُه قولُ أبي النجم:
خَوْدٌ يُغَطِّي الفَرعُ منها المؤتَزَرْ ....... لو عُصْرَ منه البانُ والمسكُ انعصَرْ
وقبلَه:
كأنَّما في نَشْرِها إذا نَشَرْ .................... فَغْمَةُ رَوضاتٍ تَرَدَّيْنَ الزَّهَرْ
هَيَّجَها نَضْحٌ مِنَ الطَلِّ سَحَرْ .............. وهَزَّتِ الريحُ النَدى حتَّى قَطَرْ
قولُه: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتان} وفي مُصحَفِ عَبدِ اللهِ: "بُسُطان" يُقال: "يدٌ بُسُط" على زِنَةِ "ناقة سُرُح" و"أُحُد" و"مِشْية سُجُع"، أي: مَبسوطةٌ بالمعروف، وقرأ عبد الله : « بسيطتان » يقال : يد بسيطة أي : مُطْلَقَةٌ بالمعروف .
قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} في هذه الجملة خمسةُ أوجه، أوَّلُها وأظهرها: أنْ لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ لأنَّها مُستأنَفَةٌ. والثاني: أنَّها في محلِّ رفعٍ لأنَّها خبرٌ ثانٍ لـ "يداه". والثالث: أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنَ الضَميرِ المُسْتَكِنِّ في "مبسوطتان" وعلى هذيْن الوجهيْن فلا بُدَّ من ضميرٍ مقدَّرٍ عائدٍ على المُبتدأِ، أو على ذي الحالِ، أي: يُنفِقُ بِهِما، وحَذْفُ مثلِ ذلك قليلٌ.
وقال أبو البقاء: "يُنفِقُ كيف يَشاءُ" مُسأنَفٌ، ولا يَجوزُ أنْ يَكونَ حالًا مِنَ الهاءَ ـ يَعني في "يداه" ـ لشيئيْن، أَحَدُهُما: أنَّ الهاءَ مُضافٌ إليْها. والثاني: أنَّ الخبرَ يَفْصِل بينهما: ولا يَجوزُ أَنْ تَكونَ حالًا مِنَ اليَديْن، إذْ ليس فيها ضميرٌ يَعودُ إليْهِما، قلتُ: قولُه: "أَحدُهُما": أَنَّ الهاءَ مُضافٌ إليِها" ليس ذلك بمانِعٍ؛ لأنَّ المَمنوعَ إنَّما هُو مَجيءُ الحالِ مِنَ المُضافِ إليه إذا لم يَكُنِ المُضافُ جُزْءً مِنَ المُضافِ إليْه أوْ كَجُزْئِهِ أو عاملًا فيه، وهذا مِنَ النوعِ الأوَّلِ فلا مانِعَ فيه. وقولُه: "والثاني: أنَّ الخبرَ يَفْصِلُ بينَهُما" هذا أيْضًا ليس بِمانِعٍ، ومنه: {وهذا بَعْلِي شَيْخًا} هود: 72. إذا قلنا إنَّ "شيخًا" حالٌ مِنِ اسْمِ الإِشارةِ، والعاملُ فيه التَنبيهُ. وقولُه: "إذ ليس فيها ضمير" قد تقدَّم أنَّ العائِدَ يُقَدَّرُ، أي: "يُنْفِقُ بهما".
الرابع: أنَّها حالٌ من "يداه" وفيه خلافٌ ـ أَعْني مَجيءَ الحالِ مِنَ المُبتَدأِ ـ ووجهُ المَنْعِ أَنَّ العاملَ في الحالِ هو العاملُ في صاحبِها، والعاملُ في صاحبها أَمْرٌ مَعنويٌّ لا لَفْظِيٌ وهو الابْتِداءُ، وهذا على أحدِ الأقوالِ في العاملِ في الابتداء. الخامس: أنَّها حالٌ مِنَ الهاءِ في "يداه" ولا اعتبارَ بما منَعَهُ أبو البَقاءِ لِمَا تقدَّمَ مِنْ إيضاحِ ذلك.
وقولُه: {كيف} في مثلِ هذا التركيبِ شرطيَّةٌ نحو: "كيف تكون أكون" ومفعولُ المُشبَّهِ محذوفٌ، وكذلك جوابُ هذا الشرطِ أيضًا مَحذوفٌ مَدلولٌ عليْه بالفعلِ السابقِ لـ "كيف" والمعنى: يُنفِقُ كما يَشاءُ أنْ يُنفِقَ يُنْفِقُ، ويَبْسُطُ في السماءِ كيف يَشاءُ أنْ يَبْسُطَه يَبْسُطُهُ، فحذفِ مفعول "يَشاءُ" وهو"أَنْ" وما بعدَها، وقد تقدَّم أنَّ مفعولَ "يَشاءُ" و"يريد" لا يُذْكران إلَّا لِغَرابَتِهِما، وحَذَفَ أيْضًا جوابَ "كيف" وهو "ينفق" المُتَأَخِّرُ "ويبسُطُ" المُتَأَخِّرُ لدَلالةِ "يُنفِقُ" و"يَبْسُطُ" الأوَّليْنِ، وهو نظيرُ قولِك: أَقومُ إنْ يَقُمْ زَيدٌ"، ولا جائزٌ أنْ يَكونَ "يُنفِقُ" المُتَقَدِّمُ عاملًا في "كيف" لأنَّ لها صَدْرَ الكلامِ، وما لَه صدرُ الكَلامِ لا يَعمَلُ فيه إلَّا حرفُ الجَرِّ أوْ المُضافُ. وقال الحُوفِيُّ: "كيف" سؤالٌ عن حالٍ، وهي نصبٌ بـ "يَشاءُ" قال الشيخ: "ولا يُعْقَلُ هنا كونُها سؤالًا عن حالٍ" قلتُ: وقد تقدَّمَ الكلامُ عليها مُشْبَعًا عندَ قولِه: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ} آل عمران: 6، وذَكَرْنا عِبارةَ الناسِ فيها.
قولُه: {ما أُنزِلَ} ما: هنا موصولةٌ اسْمِيَّةٌ في مَحَلِّ رَفْعٍ، لأنَّها فاعلٌ بقولِه: {وَلَيَزِيدَنَّ} ولا يَجوزُ أنْ تَكونَ "ما" مصدريَّةً، و"إليك" قائمٌ مقامَ الفاعلِ لـ "أُنْزل" ويكونُ التقديرُ: "ولَيَزيدَنَّ كثيرًا الإِنزالُ إليك" لأنَّه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّل، والذي يزيدهم إنَّما هو المُنَزَّلُ لا نفسُ الإِنزالِ.
وقولُه: {منهم} صفةٌ لـ "كثيرًا" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و"طغيانًا" مفعولٌ ثانٍ لـ "يَزيد".
وقولُه: {إلى يَوْمِ القيامة} متعلِّقٌ بـ "أَلْقينا"، ويَجوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بقولِه: "والبغضاء" أي: إنَّ التباغضَ بينَهم إلى يومِ القيامةِ، ولا يَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بالعَداوةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالأجنبي وهو المعطوفُ، وعلى هذا فلا يَجوزُ أنْ تكونَ المسألةُ مِنَ التَنازُعِ، لأنَّ شرطَه تَسَلُّطُ كلٍ مِنَ العامليْن، والعاملُ الأوَّلُ هُنا لو سُلِّطَ على المُتنازَعِ فيه لم يَجُزْ للمحذورِ المَذكورِ. وقد نَقَلَ بعضُهم أَنَّه يَجوزُ التَنازُعُ في فِعْلَي التَعجُّبِ مَعَ التِزامِ إعْمالِ الثاني؛ لأنَّه لا يُفْصَلِّ بيْنَ فِعْلِ التَعَجُّبِ ومعمولِه، وهذا مثلُهُ، أَيْ: يُلْتَزَمُ إعْمالُ العاملِ الثاني، وهو خارجٌ عنْ قياسِ التَنَازُعِ، وتقدَّمَ نَظيرُه.
قولُه: {كلما أوقدوا نارًا للْحَرْبِ أطفأها الله} متعلِّقٌ بـ "أوقدوا" أي: أَوْقدوها لأَجلِ الحربِ. أو هو صفةٌ لـ "نارًا" فيتعلق بمحذوفٍ. و"أطفأها اللهُ" جوابُ "كلما".
وقولُه: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} فسادًا: قد تقدَّمَ نظيرُه في المائدة : 33، وأنَّه يَجوزُ أنْ يَكونَ مصدرًا من المعنى، وحينئذٍ لك اعتباران، أَحَدُهُما: ردُّ الفعلِ لِمَعنى المَصدر. والثاني: ردُّ المَصدرِ لِمَعنى الفعلِ، وأنْ يَكون حالًا، أي: يَسْعَوْن سَعْيَ فَسادٍ، أو: يُفسِدونَ بِسَعيِهِمْ فَسادًا، أوْ: يَسْعَوْن مُفْسِدين، وأنْ يَكونَ مَفعولًا مِنْ أَجْلِهِ: أي: يَسْعَوْن لأَجْلِ الفَسادِ. والضميرُ في "بينَهُم ..." يَجوزُ أنْ يعودَ على اليهودِ وحدَهم لأنَّهم فِرَقٌ مختلفةٌ وطوائفُ متشعبةٌ، وأَنْ يعودَ على اليهود والنصارى لتقدُّمِ ذِكرِهم في قولِه تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى} المائدة: 51، ولانْدِراجِ الصِنْفيْن في قوله: {قُلْ يا أهلَ الكتاب} المائدة: 59، والألفُ واللَّامُ في "الأرض" يَجوزُ أنْ تَكونَ للجِنْسِ وأَنْ تَكونَ للعَهْدِ.
مواضيع مماثلة
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 101
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 66
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 108
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 67
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 118
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 66
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 108
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 67
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 118
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود