الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(11ــ 20){الشاعر عبد القادر الأسود}
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(11ــ 20){الشاعر عبد القادر الأسود}
ــ 11 ــ
وكنًا كندمانيْ جَذيمَةَ حِقبـــــــةً ...... من الدهرِ حتى قيل لن يتصدّعا
هذا البيت لمتمّم بن نُويره من قصيدة قالها يرثي أخاه مالكاً الذي كان يُحبّه إلى درجة العشق ، وقد ارتدّ مالك ، ومنع الزكاة فقُتِل على يدِ سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه .
وهو شاعر فحل ، وصحابيٌّ ، من أشراف قومه، اشتُهر في الجاهلية والإسلام ، وكان قصيراً أعور َ، أشهرُ شعره رثاؤه لأخيه مالك .
سكن متمّم المدينة في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وتزوج بها امرأة لم ترضَ أخلاقَه لشِدّةِ حزنِه على أخيه .
لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه متمّماً بن نُويرة ، واستنشده بعضَ ما رثى به أخاه فأنشده متمّم قصيدتَه التي منها هذا البيت ، فلمّا سمعها عمر قال: هذا والله التأبينُ ، ولَوَدَِدْتُ أنّي أُحْسِنُ الشعرَ فأَرثي أَخي زَيداً بمثل ما رثيتَ أخاك . قال متمّم : لو أنّ أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيتُه ، فسُرَّ عمر ، رضي الله عنه ، لمقالة متمّم وقال : ما عزّاني أحدٌ عن أخي بمثل ما عزّاني به متمّم .
وقد تمثّلت بهذا البيت والذي يليه أمُّ المؤمنين السيدةُ عائشة حين وقفت على قبر أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهما وعن أبيهما الصديق .
كما تمثّل به هارون الرشيد حين توفّيت أمّه الخيزُران ، ومشى في جنازتها ، وقد أخذ بقائمة التابوت حافياً ، يخوض في الطين والوحل من المطر الذي كان في ذلك اليوم ،حتى أتى مقابر قريش ، فغسل رجليه وصلى عليها ، ودخل قبرَها ثم خرج وتمثل بقول متمم " بن نويرة الأبيات المشهورة، التي أولها : ( الطويل)"
وكنا كندماني جَذيمة حقبةً......
ثم تصدّق عنها بمالٍ عظيم ، ولم يغير على جواريها وحواشيها شيئاً مما كان لهم.
وتمثّل بهما ــ أيضاً ــ الخليفةُ الراشد عمرُ بنُ عبد العزيز حين فقد إخوته .
ولجَذيمةَ الأبرشِ ونديميْه ، وهما مالكٌ وعقيلٌ ، اللذيْن ذكرهما متمّم في قصيدته ، قصّةٌ مفيدةٌ يَحسُن أنْ نَرويها بشيء من الاختصار ، بحسب ما يقتضيه الحال .
أمّا جَذيمةُ فهو بن مالك بن فَهْمٍ ، وقد سَلَف ذكرُ أبيه مالكٍ ومصرعِه على يد ابنه سليمة في حديثنا على الشاهد الثالث : (أُعلِّمه الرمايةَ كلَّ يوم ..) وكان جَذيمةُ صاحبَ الحيرة وما والاها ، أمّا زمانه فقد كان بعد سيّدنا عيسى عليه السلام بثلاثين سنة ، وكان ــ مِن تِيهِهِ وعُجْبِه بنفسه ــ لا يُنادم إلاّ الفرقدين (النَجمين) إذا أراد الشراب .
ويُذْكَرُ أَنّ جَذِيمَةَ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ في الجاهلية ، وكان لجذيمة ابنُ أختٍ يُقالُ له عَمرو يحبّه حباًً شديداً ، وحدث أن تاه عمرو في الصحراء ، ثم إن عقيلاً ومالكاً ــ وهما في طريقهما إلى جذيمة قادمين من الشام ــ وجداه في الصحراء على حالٍ رَثّة ، فأصلحا من شأنه ‘ وحملاه إلى خالِه جَذيمةَ ففرح به فرحاً عظيماً، وأراد أن يكافئهما على صنيعِهما بما يريدانه، فاختارا أنْ منادمته الملك جَذيمةَ ما داما على قيد الحياة ، وبقيا على ذلك أربعين عاماً ، ما أعادا خلالَها حديثاً لهما أبدا، ولذلك أشار إليهما الشاعر في قصيدته ،فقد كان لشأنهما شهرة عظيمة بين القبائل العربية.
ولجذيمة مع الزبّاء قصّةٌ أخرى ، فقد قَتل أباها عَمْرَو بنَ ظرب ابن حسّان بن أذينة بن السُميدع العمليق ، ملكَ العرب بأرض الجزيرة ومشارف بلادِ الشام ، فمَلَكت بعدَه ابنتُه الزبّاءُ ، فلما أن استجمع لها أمرها ، واستحكم لها ملكُها ، أرادت غزوَ جَذيمة الأبرش ، طلباً بثأر أبيها ، فأشارت عليها أختُها زَبيبةُ ــ وكانت ذات رأي ودَهاء وإرْبٍ ــ بأن تأتيَ أمرَها من وُجوهِ الخَتْلِ والمكر ، فتُجنّب نفسَها وشعبها الدماء. فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكِها ، وأن يَصلَ بلادَه ببلادِها.
فلما انتهى كتابُ الزبّاء إلى جَذيمة ، استخفّه ما دعته إليه ، ورغِبَ فيما أطمعتْه فيه ، وكان له مستشارٌ داهيةٌ اسمُه قَصيرٌ ، فحذّره ، لكنّه لم يأخذ بمشورته ، ومضى فيما عزم عليه ، حتى دخل على الزبّاء فأخذتْ منه بثأر أبيها ، وصار مُلكُه من بعدِه إلى ابن أخته عَمرو ، فاحتال له قصير على الزبّاء حتى قتلها .
قيل لمتمّم ما بلغ من حزنُك على أخيك ؟ فقال أُصِبتُ بعيني فما قطرت منها قطرةً عشرين سنة ، فلما قتل أخي استهلّت .
وقال المرزُباني كنية متمم أبو نهشل ويقال أبو رهم ويقال أبو إبراهيم ، وكان أعورَ حسَنَ الإسلام ، وأكثر شعره في مراثي أخيه وهو القائل ...
وكل فتى في الناس بعد بن أمِّـــــه .............كساقطة إحدى يديه من الخيل
وفيما يأتي قصيدتُه التي نحن بصدد الحديث عنها :
لعمري وما عَمري بتأبين مـــالكٍ........... ولا جَزَعاً ممَّا أصابَ فأوجَعــــــــــــا
لقد غيَّبَ المِنهالُ تحت ردائـــــــــهِ........... فتًى غيرَ مِبطان العشيَّاتِ أروعـــــا
تَراهُ كمثل السَّيف يندَى بَنــانُهُ........... إذا لم تَجِدْ عند امرِئِ السَّوءِ مَطْمَعا
وكنَّا كنَدْمانَيْ جَذيمةَ حِقبـــــــةً...........من الدَّهر حتَّى قيلَ لن يتصدَّعـــــــا
فلمَّا تفرَّقنا كأنِّي ومالكـــــــــــاً............لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً مَعَــــــــــا
فما وجْدُ أظْآرٍ ثــــــــلاثٍ روائـمٍ ...........رأينَ مَجَرّاً مِن حُوارٍ ومَصرَعَـــــــــــــــا
بأوجَدَ منِّي يومَ فارقتُ مالكـــاً...........ونادَى بهِ الموتُ الحثيثُ فأسمَعَــــــــــا
ــ المِنْهالُ : قَاتَلُ أَخيه مالِك ، ورداؤه : سيفُه ، وكانَ الرَّجُلُ إذا قَتَلَ رَجُلاً مَشْهُوراً وَضَعَ سيفَه عليهِ ليُعْرَفَ قاتلُه ، المبطان : الذي لا هم له سوى بطنه ، والأروع : الجبان.
ــ ندماني : مثنى نَدْمانٍ (نديم) وجمعُه نَدامى .
ــ الظِّئْرُ بالكسر:العاطفةُ على ولَدِ غيرِها المُرْضِعةُ له ، في الإنسِان وغيرِه وتقال للذَّكَرِ والأُنْثى ، جمعها : أظْؤُرٌ وأظْآرٌ وظُؤُورٌ وظُؤُورَةٌ وظُؤَارٌ وظُؤْرَةٌ ــ روائم : حانيات عطفاً ــ الحُوارُ: بالضم وقد يُكْسَرُ : ولدُ الناقةِ ساعَةَ تَضَعُهُ أو إلى أن يُفْصَلَ عن أُمِّهِ جمعه :أحْوِرَةٌ وحِيرانٌ وحُورانٌ .
ــ في البيت الثالث صورة بديعة لندى أخيه وكرمه ، ما أظنّ أحداً سبقه إليها ، حيث يشبه يد أخيه في كثرة عطائها ، بحد السيف الذي تتقاطر منه الدماء.
ــ 12 ــ
وما طَلَبُ المعيشةِ بالتَمَنّي .................. ولكنَ اَلْقِ دَلوَكَ في الدِلاءِ
بيت يستشهد به للحث على وجوب سعي المرء لكسب رزقه ، والاجتهاد في الأمور كلِّها ، وعدم انتظار ما تأتي به الأقدار ، فإنّ الله سبحانه طالبنا بالسعي والعمل، أما النتائج فهي بيده سبحانه ، لا نعرفها ، ولسنا محاسبين عليها بل على العمل وحسب .
وهذا البيت هو لأبي الأسود الدُؤلي ، وقد خاطب به ابنَه أبا حربٍ لمّا قعد عن التكَسُّبِ معتقداً بأنَّ رزقَه سيأتيه ، وبعده :
وما طَلَبُ المعيشــــــــــةِ بالتمَنّي ............... ولــــــــــــكنْ أَلْقِ دَلوَكَ في الـدِلاءِ
تَجِئْكَ بمِلْئها يومـــــاً ويومـــــــاً ............... تَجِئْكََ بحَمْــــــــــــأةٍٍ وقليلِِ مــــاءِ
ولا تقعدْ على كَسَــــــــلِ التمَنّي ............... تُحيلُ على المقــــــادرِ والقضــــاءِ
فإِن مقــــــــــادرَ الرحمنِ تَجري ............... بأرزاقِ الرجالِ من السمــــــــــــاءِ
مقـــــــــــــــــدرةً بقبضٍ أو ببسـطٍ ...............وعجزُ المرءِ أسبـــــــــــابُ البـــــلاءِ
وبعضُ الرزق في دَعَـــــةٍ وخفضٍ............... وبعضُ الرزق يُكسَبُ بالعنـــــــــاءِِ
الحَمْأَةُ : والحَمَأَةُ . الطّينُ الأسْوَدُ المُنْتِنُ
ــ 13 ــ
يا ربّة البيت قومي غير صاغرة........ضمي إليك رحالَ القوم والقُرُبا
هو لمُرَّةِ بنِ مَحْكان ، شاعرٌ أسلاميٌّ مُقِلٌّ يُعَدُّ في الأشراف الأجواد ، عاش في عصر شاعرين عملاقين هما جرير والفرزدق ، فأهمل ذكره ، قتله مصعب بن الزبير .
والقُرُبُ : جمعُ قِرابٍ ، وهو ما اتُّخِذ من جلد ليكون السيف فيه ، أما الغمدُ فهو ما كان من المعادن ، وكان من عادة العرب أن يضمّوا إليهم رَحْلَ الضيف ليقوموا بحاجته من علف وماء ومأوى ، ويَتركوا له سلاحَه مَخافةَ البَيات ((التعرّض لغزوٍ مبيَّتٍ مباغت ، لأنه غالباً ما يكون في الليل)) ليدفع عن نفسه ، لكنّ هؤلاء الضيوف لا يحتاجون إلى سلاحهم عند مرّةّ لأنّهم في أمان لا يخشون على أنفسهم شيئاً، فهو سَيّدٌ كريم لا يجرؤ أحدٌ على غزوه ، لذلك فهو يقول لها ضمي إليك رحالهم وسلاحهم أيضاً ، فلن يحتاجوه عندي ، وقبله:
أقول والضيفُ مخشيٌّ ذمامتــه ...........على الكريم وحقّ الضيف قد وجبـــا
وبعده:
في ليلة من جمادى ذات أنديـــة ...........لا يُبصِرُ الكلبُ من ظَلْمائها الطُنُبـــا
لا ينبح الكلبُ فيها غيرَ واحــدةٍ ...........حتى يَلفَّ على خَيشُومِه الذَنَبــــــــــا
لقد أورد أبو تمام هذه الأبيات في حماسته ، في باب الأضياف والمديح فهي من جيّد الشعر . كما استشهد بها أهل اللغة على جواز جمع ندى على أندية فهو جمع شاذ على خلاف القاعدة .
وفي هذين البيتين صورةٌ من البيئة الصحراويّة . بَرَعَ الشاعر في رسمها ، فالليلةُ حالكةُ الظُلمة كثيفة الضباب ، حتى إنّ الكلب لا يُبصرُ الطُنُبَ ــ بالرغم من حِدَّةِ بَصره ــ والطُّنُبُ بضمَّتَينِ : حَبْلٌ طويلٌ يُشَدُّ به سُرادِقُ البَيْتِ ، ولشدّة بردِها ، فإنّ الكلبَ تجمّع على نفسه اتّقاءَ بردِها ، فإذا ما أحسّ بقادم ، نبح لمرة واحدة منبهاً إلى الخطر ، وعاد فلفّ ذيله على خيشومه ، ليدفّئه ، فالأنف أكثر أعضاء الجسم إحساساً بالبرد ، لأنه عارٍ من الشَعر .
ــ 14 ـ
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ......فكلُّ قَرينٍ بالمقارَن يَقتـــــــدي
قائلُه هو عديُّ بنُ زيد العِبادي ، ونُسب هذا البيت في الحماسة المغربية وخزانة الأدب وغيرهما إلى طرفة بنِ العبد ، لكنّنا نراه إلى نسيج عديٍّ أقرب، والقصيدة حكم كلها وهاهي كاملة كما جاءت في جمهرة أشعار العرب :
أَتَعْرِفُ رَسْــمَ الدّارِ مِنْ أُمّ مَعْبَــــــــدِ؟....... نَعَم ! وَرَمَاكَ الشّوْقُ قَبْـــــــــلَ التّجلُّدِ
ظَلَلْتُ بهــا أسقي الغَرامَ كَأنّمـــــــــــا.......سَقتني النّدامَى شَرْبَـــــــــــةً لم تُصَرَّدِ
فَيــا لكَ مِنْ شَوْقٍ وطَائِفِ عـــــــــبرَةٍ........كَستْ جَيْبَ سِربالي إلى غـيرِ مُسعِدِيّ
وعاذِلَــــــــــــــــــةٍ هَبّتْ بِلَيْلٍ تَلُومُـني........فلَمّا غَلَتْ في اللّومِ قُلتُ لهـا اقْصِدِي
أَعَاذِلُ إنّ الجَهْلَ من لَــــــــــذّةِ الفتى........وإنّ المَنَايَا للرّجَـــــــــــــــــــالِ بِمَرْصَدِ
أَعَاذِلُ ما أَدْنَى الرّشَـــــادَ من الفتى........ وأَبْعَدَهُ مِنْــــــــــــــــــــــــــهُ إذا لم يُسَدَّدِ
أَعَاذِلُ مـــــــــــــــا يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيّــتي........ إلى ساعةٍ في اليَوْمِ أَوْ في ضُحى الغَدِ
ذَرِيني فإنّي إنّمـــــــــــــا ليَ ما مضَى........ أَمَاميَ من مـــــــــــالي إذا خَفّ عُــوّدِي
وحُمّتْ لِميقـــــــــــــــاتي إليّ مَنيّـتي.........وغُودِرَتُ إنْ وُسِّدْتُ أَوْ لَمْ أُوَسَّـــــــــــــدِ
وللوارِثِ الباقي من المالِ فاتْـــرُكي.........عِتـــــــــــابي فإنّي مُصلِحٌ غَيرُ مُفْسِدِ
كَفَى زَاجراً للمَرءِ أَيّامُ دَهْـــــــــــــرِهِ،.........تَــــرُوحُ لَهُ بالوَاعِظَـــــاتِ وَتَغْتَدِي
فَنَفْسَكَ فاحْفَظْها عنِ الغَيّ والرّدى ........ متى تُغوِهــــــا يَغْوَ الذي بِكَ يَقْتَدِي
عَنِ المَرءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِـــهِ ........ فَكلّ قَرِينٍ بالمُقَارِنِ يَقْتَـــــــــــــــــدِي
إذا ما رأيتَ الشرَّ يبعثُ أهلَــــــــــــــــه.........وقام جُنـــــاتُ الشرِّ للشرِّ فاقعـــــدِ
فَلاَ تُقَصّرَنْ عن سَعي مَن قد وَرِثتَــه ........ وَمَا اسْتَطعْتَ من خَيرٍ لنفسكَ فازْدَدِ
وبالعدلِ فانطِقْ إن نطَقتَ،ولا تَلُمْ .........وذا الذّمّ فاذمُمْهُ وذا الحمدِ فاحمَدِ
وفي كثرَةِ الأيدي عـــن الظُّلمِ زاجـرٌ .........إذا حَضَرَتْ أيدي الرّجــالِ بمَشْهَــدِ
سأكْسِبُ مَجْداً أو تَقُومَ ، نَــــــــــوَائِحٌ .........عَلَيّ بِلَيْلٍِ ، نادِباتي وعُــــــــــــــوّدِي
والقصيدة طويلة تفيض بالمواعظ والحكم ، وقد اكتفينا ببعضها خشية الإطالة . لكن حقّها أن تحفظ كلّها ويتمثّل بها ، وسيجد القاري لهذه القصيدة ، وكأنَّ الشاعر قد أتى بحلول لكلّ ما قد يتعرّض له المرء في حياته في علاقاته الاجتماعية من مشكلات .
الصَّرْدُ : الخالِصُ من كُلِّ شيءٍ
السِّرْبالُ :الدِّرْع ، وقيل كُلُّ ما لُبِسَ فهو سِرْبال ، وجيبه : فتحته .
حُمَّ الأَمْرُ بالضم حَمّاً : قُضِيَ
عُوّدٌ : جمعُ عائد، وهو الذي يزور المريض .
ومن الطريف أن قوماً أُخِذوا في قطعِ طريقٍ ، فقُدِّموا لضربِ أعناقِهم ، فقام منهم واحدٌ ، وقال : اللّهَ اللّه فيَّ ، فو اللّه ما كنتُ في شيءٍ مما كانوا فيه، وإنَّما كنتُ أشربُ معهم وأُغنّى لهم ، فقالوا : هاتِ فغنّ لنا ، فأُرْتِجت عليه الأشعارُ إلاَّ قولََ عديٍّ هذا فغنّى:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه .............فكلّ قرينٍ بالمقــــــــــارن يقتدي
فقالوا : صدق . اضربوا عنقه .
وقد جاء هذا الشعر في معنى الحديث الشريف الذي يقول:"((المرء على دين خليله ، فلينظر امرؤ من يخالل )) . لذلك قال الأصمعي: ما رأيت شعراً أشبه بالسُنَّة من قول عديّ بن زيد :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينــــــــه ....فكلّ قرين بالمقـــــــــــــــــــارن يقتـــدي
وصاحب أولى التّقوى تَنَلْ من تُقاهم .... ولا تصحب الأردى فتردى مـــــــع الرّدى
واستشهد بهذا البيت الشيخ بكر أبو زيد صاحب معجم المناهي اللفظيّة في الاعتراض على بعض التسميات المحدثة ، مثل (فقه مُقارن)) وغيرها فقال : { هذا اصطلاحٌ حقوقيٌّ وافدٌ يُراد به : مقارنةُ فقهِ شريعةِ ربِّ الأرضِ والسماءِ بالفقه الوضعيِّ المصنوعِ المختلقِ الموضوعِ من آراءِ البَشَرِ وأفكارِهم .
وهو مع هذا لا يساعد عليه الوضع اللغويُّ للفظ (( قارن)) إذْ المقارنةُ هي المصاحبةُ،فليست على ما يريدُه منها الحقوقيّون من أنها بمعنى ((فاضل)) التي تكون وِازن ، إذْ الموازنة بين الأمرين : الترجيح بينهما ، أو بمعنى ((وازن )) لفظاً ومعنى . أو بمعنى (قايس) إذ المقايسة بين الأمرين : التقدير بينهما . يقول الشاعر : عن المرء لا تسل .......إلخ
وقد اشتقَّ القُدامى من مادة القَرْن ((الاقترانَ)) بمعنى الازدواج ، فقالوا: ((اقترن فلان بفلانة)) أي تزوجها ، وسمّي النِكاحُ (القِرآن) وِزانَ الحِصان . وأصلُ ذلك في لغةِ العرب ، أنّ العربَ كانت تربط بين قَرنيِّ الثورين بمسَدّ تُسمّيه ((قَرَن)) على وزن ((بقر)) فسمّيا ((قرنين)) وسُمّي كلٌّ منهما قرين الآخر . وعليه : فهذا الاصطلاح ((الفقه المقارن)) تنبغي منابذته وضعاً وشرعاً دفعاً للتوليد والمتابعة }.
ونحن نؤيد الشيخ بكر فيما ذهب إليه من عدم صحة هذه التسمية لمخالفتها الجذر اللغوي للمفردة لأن القرآن الكريم أوردها بهذا المعنى بقوله جلَّ وعلا : ((ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيّضْ له شيطاناً فهو له قرين))سورة الزخرف ،الآية :/36/ فقد جاءت بمعنى مصاحب وملازم .
ــ 15 ــ
أريد حياته ويـــــريد قتلي ............... عذيــرَك من خليلك من مراد
قائل هذا البيت هو عمرو بن معد يكرب ، والقصيدة قيلت في قيس بن مكشوح المرادي ، وقد غزا عمرو ذات يوم وغزا معه قيس ، فلم يُعْطِهِ عمرو شيئاً من الغنيمة ، فأرسل يهدّده فقال عَمرو هذه القصيدة .
وفي اللغة (عذيرَك) نصيرَك والعذيرُ أيضاً : العاذرُ ، والحال التي تحاولُها لتُعذَرَ عليها . والعرب يقولون : عذيرَك من فلان ، وينصبونَه بعاملٍ لا يظهر . والمعنى : هَلُمَّ من يعذرك من فلان فيلومُه ولا يلومُك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: في حديث الإفك : " مَن يَعْذِرُنِي من رَجُل قد بَلَغَني عنه كذا وكذا ؟
وأعذِرْ عني بعيرَك ، أي سِمْهُ بغير سِمَةِ بعيري وأَعذَرَ في الشيء بالغ فيه جداً (( كأنّه ضد)) وأعذر من نفسه ، أمكَنَ منها ، وأعذر في ظهره بالسوط ضَرَبَه فأثّر فيه ، ترك به عاذراً أي أثر جراح ، وأعذر من الذنب: محا أثر الموجدة ، وتعذّر أصحابه عليه : فرّوا عنه وخذلوه ، واعتذر من فلان : طلب من الناس العذر ، إن بطش به ، ويقال : من عذيري من فلان
وهو منصوب على تقدير الفعل ((أَطلبُ)) كما يمكن أن يرفع على أنه مبتدأ فيقدر له خبر أو العكس .
وكان سيدنا علي رضي الله عنه ،إذا رأى عبد الرحمن بن ملجم المراديّ يتمثل بهذا البيت ، فقيل له: كأنك عرفتَه وعرفتَ ما يريد أفلا تقتله . قال : كيف أقتل قاتلي؟
كما تمثَّل به الخليفةُ هارونُ الرشيدُ حين دعا بعبدِ الملك بنِ صالحٍ ، وقد بلغه أنّه يدعو بالخلافة لنفسه ، فجيء بعبد الملك يرسف في قيدِه ، فلمّا مثُل بين يديه أنشد الرشيدُ هذا البيت .
والبيت من قصيدة قالها عمر بن معد يكرب يصف صبرَه وجَلَدَه في الحرب:
أَعاذِلَ إِنَّمـــا أَفْنَى شَبـــــــــابِي ..................رُكُوبِي في الصَّرِيخِ إِلى المُنادِي
أَعاذِلَ شِـــكَّتِي سَيْفِي ورُمْــحي...................وكُلُّ مُقَلِّسٍ سَلِسِ القِيــــــــــــــادِ
مع الأبطال حتى سل جســمي ...................وأقرح عاتقي حمل النجـــــاد
وسيف من لدن كنعان عنـدي ...................تخيّرَ نصله من عهد عــــــــــــاد
ومن عجبٍ عجبتُ له حديـــثٌ ................... بـــــديعٌ ليس من بِدع السَـــداد
تمنّى أنْ يــــــــــــــلاقيني أبي ................... وددت وأينمـــــــــــــا مني ودادي
تمنــــاني وسابغتي قميصي ....................كــأن قَتيرَهـــــــــا حَدَقُ الجَراد
ولَوْ لاقَيْتَنِي ومعِي سِــــــلاحِي ................. .تَكشَّفَ شَخْمُ قَلْبِكَ عن سَـــــوادِ
أُرِيدُ حياتَــــــــهُ ويُرِيدُ قَتْلِي .................. عَــــــــذِيرَكَ مِن خَلِيلِكَ مِن مُرادِ
ويَبْقَى بَعْدَ حِلْمِ القَوْمِ حِلْمِي ................... ويَنْفَــــدُ قَبْـــــلَ زادِ القَوْمِ زادِي
فلو لاقيتني للقيت ليثــــــــاً ................... هصوراً ذا ظُباً وشَبــــــــــاً حِدادِ
المُقَلِّسُ: من القَلْسِ:أنْ يَبلغ الطعامُ إلى الحلق ثم يَرجِعَ إلى الجوف . وقيل : هو القيء . وقيل : هو القذف بالطعام وغيره . وقيل : هو ما يخرج إلى الفم من الطعام والشراب والجمع : أقلاس ، وقد قَلَسَ يَقْلِسُ قَلساً ، وقلساناً . وقَلستْ النحلُ العسلَ تقلِسه قَلْساً:
والتقليس : الضرب بالدف . والمُقَلِّسُ : الذي يلعب بين يدي الأمير . والتقليس : وضع اليدين على الصدر خضوعا . وعليه فمن الممكن أن يكون المقصود: البعير الذي يركبه لأنه حيوان مجتر ، وإذا أسرع في جريه أرغى وأزبد ، كما يمكن أن يكون المقصود هو الفرس الذي يضم يديه إلى صدره ويقف على قوائمه الخلفيّة . وهذه المفردة تحتمل كل هذه المعاني .
شَخُمَ الطَّعامُ : فَسَدَ. وشَعَرٌ أشْخَمُ : أبْيَضُ .
الظُبى : السيوف ، وشَبا السيف أو السكين : حَدُّه
ــ 16 ــ
إذا لم تستطع أمراً فدعه ................... وجاوزه إلى ما تستطيــــع
هذا البيت للشاعر المخضرم فارس العرب عمرو بن معد يكرب وهو من أمثاله السائرة . وهو صحابي جليل ، شارك رضي الله عنه ، في الفتوحات الإسلامية فأبلى فيها بلاءً حسناً، وكان يلقب بأبي ثور ، قيل لأنه كان يأكل ثوراً لوحده ، فقد كان ضخم البنية .
قيل في سبب القصيدة التي منها هذا البيت ، أنْ سَبَّت بنو سًليم رَيحانة أختَ عمرو بن مَعْدِ يكرب فارس العَرب ، فقالها فيها ، وقيل أنه كان لعمرو بن معدي كرب أخٌ أكبر منه ، يقال له : عبد الله ، وكانت له التقدمة والرئاسة دون عمرو ، وكان له أختٌ يقال لها : ريحانة ، ولها يعني عمروٌ بقوله في قصيدةٍ له:
أَمِنْ ريحانةَ الداعي السميــعُ ...................يؤرِّقني وأصحــــــــــابي هُجُوعُ
إذا لم تستطع أمراً فدَعْـــــــــه ...................وجاوِزْه إلى ما تستطيــــــــــــع
وصِلْهُ بالزَّمَاعِ فكلُّ أَمْـــــــــــــرٍ....................سَمـــــــا لكَ أو سَمَوْتَ له وَلُوعُ
فقُتل عبد الله ، وبذل قاتلوه الديّة لعمرو ، فجنح إلى ذلك ، فقالت أختُه
تحرِّضه على الطلب بدم أخيه من قصيدة مطلعها :
أرسلَ عبدُ اللهِ إذ حان يومـُــــــهُ...............إلى قومهِ: لا تعقِلوا لهــــــــم دمي
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكـــــمُ................فمُشٌّوا بآذان النعام المصلَّــــــــــــمِ
ولا تشربوا إلاّ فضولَ نسائكمُ................إذا ارتملت أعقابهنَّ من الـــــــــدمِ
ودعْ عنكَ عمراً إن عمراً مسالمٌ ...............وهلْ بطنُ عمرٍو غيرُ شِبرٍ لمطعــــمِ
فحرَّك هذا الشعر عَمْراً ، وطلب بثأرِ أخيه ، وتقدَّم في الحروب والشجاعة ، حتى كان من أمره ما كان . وما وجدنا من قصيدته إلاّ تلك الأبيات الثلاثة السالفة . .
فائدة :
والزِماع : المَضاءُ في الأمر، والعُزومُ عليه ، واخْتَلَفَ أهْلُ النَّظَرِ ، هَلْ دَعْ ، وذَرْ مُتَرادِفَانِ أو مُتَخالِفانِ فذهَبَ قَوْمٌ إلى الأوَّلِ ، وذهَبَ آخَرُونَ إلى الثاني ، فقالَوا : دَعْ ويَدَعُ يُسْتَعْمَلانِ فيما لا يُذَمُّ مُرْتَكِبُه ، لأنَّه منَ * الدَّعَةِ، وهِيَ الرَّاحَةُ، ولذا قيلَ لمُفَارَقَةِ النّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً : *!مُوَادَعَةٌ ، قال تعالى : أتَدْعُونَ بَعْلاً وتَذَرُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ ، ولم يقل تَدَعُونَ ، معَ ما فيهِ من الجِنَاسِ ، وقيلَ : دَعْ : أمْرٌ بالتَّرْكِ قَبْلَ العِلْمِ بالشيء، وذَرْ بَعْدَه .
وقال اللغويون : أُمِيتَ ماضِيهِ واسم فاعله ، فلا يُقال : وَدَعَهُ إِنَّما يُقال تَركَه ولا يقال وادعٌ : ولكن يقال : تَارِكٌ ، أما مضارعه فهو يَدَعُ
ــ 17 ــ
ألا ليت اللّحى كانت حشيشاً .............. فنعلِفَها خيولَ المسلمينــــــــا
قائل هذا البيت هو يزيد بن ربيعة المعروف بابن مفرّغ الحميري ، شاعر إسلامي صحب عباد بن زياد حين عيًنه عمّه معاوية أميراً على خُراسان ، واشتغل الأمير بحربه وخراجه فاستبطأه ابن مفرغ فبسط لسانه فذمه وهجاه، وكان عبّاد عظيم اللّحية ، فسار يزيد بنُ مُفرّغ يوماً مع عبّاد ، فدخلت الريح فنفشتها فضحك ابن مُفرّغ ، وقال لرجل من لَخَم كان إلى جنبه : ألا لَيْتَ اللِّحَى .... إلخ
فسعى به اللّخمي إلى عبّاد ، فغضب من ذلك غضباً شديداً، وكان على ابن المفرِّغ دينٌ ، فأغرى الأميرُ به الدائنين ، ثم حبسه حتى باع فرسه وسلاحه وأثاثه وعبده وجاريته ، وقسم أثمانَها بين غرمائه ، وبقيت عليه بقيّة حَبَسه بها ، ولأنّه أقام على ذمّ الأمير وهجائه وهو في محبَسه ، هرب حتى أتى البصرةَ ، ثم خرج منها إلى الشام ، وجعل ينتقل في مدنها هارباً ، ولجََّّ في هجاء بني زياد حتى تغنّى أهلُ البصرة بأشعاره، فأمر يزيد ــ وقد صارت الخلافة إليه ــ بطلبه , فجعل ينتقل من بلد إلى بلد ، فإذا شاع خبرُه انتقل حتى لفظتْه الشام ، فأتى البصرةَ ونَزَلَ على الأحنفِ بنِ قيسٍ فالتجأ به واستجار ، فقال له الأحنف : إني لا أُجير على ابنِ سُميّةَ فأُعْزَل ، وإنّما يُجيرُ الرجلُ على عشيرتِه ،فأمّا على سلطانه فلا ، ثم أتى خالدَ بنَ عبد الله بن خالد بن أُسيْدٍ ، فاستجارَ به فأبى ،وأتى المنذرَ بنَ الجارود العبْديِّ ــ وكان ذا حظوةٍ عند بني زيادٍ ــ فأجاره ، وطلبه عُبيدُ الله ، وقد بلغه ورودُه البصرة فقيل له أجاره المنذرُ بنُ الجارود ، فبعث عبيدُ الله إلى المنذر ، فأتاه فلما دخل عليه ، بعث عُبيدُ الله بالشُرَطِ ، فكبَسوا دارَه المنذرِ وأتوه بابن مفرغ ، فلم يشعر المنذرُ إلاّ بابنِ مفرّغٍ قد أقيم على رأسِه ، فقام المنذر إلى عُبيدِ اللهِ فكلّمه فيه فقال: عبيد الله: يا منذرُ لقد هجاني وهجا أبي ثم تُجيره عليّ ، لا و الله لا يكون ذلك أبدا ، ولا أغفرُها له ، ثم أَمر بحبسِه ، وكتب إلى يزيد بن معاوية يسأله أن يأذن له في قتلِه ، فكتب إليه إيّاك وقتلَه ، ولكن عاقبْه بما يُنكّله ويشدّ سلطانَك ، ولا تبلغْ نفسَه فإنّ له عشيرةٌ هي جُنْدي وبِطانتي ، ولا ترضى بقتلِه منّي ، ولا تقنعُ إلا بالقِوَدِ منك ، فاحذرْ ذلك ، واعلمْ أنّه الجِدُّ منهم ومني ، وأنّك مرتَهَنٌ بنفسه ، ولك في دون تلفِها مندوحةٌ تشفي من الغيظ، ففعل عبيد الله ، فحبسه ونكّل به وأهانه .
ــ 18 ــ
تمتع من شميم عَرار نجدٍ ................... فما بعد العشية من عَرار
هذ البيت للشاعر الإسلامي الصِمّة بن عبد الله القُشِيريّ ، وهو شاعر غَزِلٌ رقيقُ الحاشية ، وهذا البيتُ من مقطوعةٍ نسبت إلى معقل بن جَناب أيضاً، كما رويت لجَعْدَة بن مُعاوِية العُقَيْلِيّ ، ولقيسٍ بن الملوَّح المعروف بمجنونِ ليلى . وتروى لجَعْدَة بنِ مُعاوِيةَ العُقَيْلِيّ من قصيدة ، يقول فيها :
أقول لصاحبي والعيس تَخْدِي .................... بنا بين المنيفة فالضِمـــــار
تمتع من شميـــــم عَرار نجـــــدٍ .................... فمــا بعد العشيَّـــةِ مِن عَرارِ
ألا يا حبّذا نفحاتُ نَجْـــــــــــــدٍ .................... ورَيّا روضِـه بعدَ القطـــــــار
وأهلك إذ يَحِــــلُّ الحيُّ نَجْـــــداً ....................وأنت عـــلى زمانك غير زاري
شهور ينقضــــــــــين وما شعرنا ....................بأنصــــــــــــافٍ لهنَّ ولا سِرار
ــ ورُويت ( تخدي) تهوي وتحدي
ــ شعر بديع وشاعر ــ كما تراه ــ بعيدٌ عن الصنعة ، سهلُ المأخذ ، قريبُ التناول، وكانت العرب إنّما تُفاضل بين الشعراءِ في الجَودة والحُسن بشَرَفِ المعنى وصحَّتِه، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلِّم السّبْقَ فيه لمَنْ وصف فأصاب ، وشبَّه فقارب، وبَدَهَ فأَغْزَرَ ، ولمن كثُرتْ سَوائرُ أمثالِهِ وشَوارِدُ أبياتِه؛
في اللغة والإعراب:
ــ العِيسُ: بياضٌ في ظُلمةٍ خفيّةٍ. والعربُ تجعلُه في الإبِلِ العِراب خاصَّةً
ــ والمُنيفة: موضعٌ ،أو هضبةٌ مرتفعةٌ. ومنه: أناف على كذا ، أي أشرف ، ويقولون : مئةٌ ونيّفٌ .
ــ والضِمار: مكان ، أو وادٍ منخفضٌ يَضمُرُ فيه السائرُ .
ــ والشَميم: مصدر ، ويُقال: تمتّعتُ بِكَذا ومن كَذا.سِيَّان .
ــ ويقال: (زَرَيْتَ عليه)، إذا عِبتَ عليه؛ وأزريت به، إذا قصَّرتَ بِه.
ــ والعَرار : بقلة صفراءُ ناعمةٌ طيّبةُ الريح ، والواحدةُ عَرارةٌ. ، وقيل هو شجر. وقد شُبِّه بها لونُ المرأةِ .
ــ قوله (من عَرار) من : لاستغراق الجنس ، ومحلُّ (من عَرارٍ) رفعٌ على أنّه اسم ما. أي ما عرارٌ موجوداً بعدَ العشيّة .
ــ والواو من قوله (والعيس تخدى بنا) الواو ، واو الحال ، وموضع (تمتع من شميم) نصبٌ على أنه مفعولٌ به لــ (أقول).
ــ و رواية (بين المنيفة فالضمار) بالفاء ، أجودُ من رواية (بين المنيفة والضمار) بالواو، لأن (بين) تدخل لشيئين يتباين أحدهما عن الآخر ، وعلى هذا قولُ امرىء القيس: بين الدخول فحومل . فالفاء هنا تفيد الترتيب .
ــ ألا: حرفٌ لافتتاح الكلام ، والمنادى في (يا حبّذا) محذوف كأنّه قال: يا قوم أو يا ناس ، حبّذا نفحاتُ نجدٍ.
ــ و نفحاتُ: مرفوعٌ بالابتداء، وخبره حبّذا، كأنه قال: نفحاتُ نجد محبوبةٌ في الأشياء .
ــ وقوله(ريّا روضِه) يُراد بها الرائحة هنا.
ــ و قوله (وأهلك) عطف على (و ريّا) ، وهما معطوفان على (نفحات) وكأنه قال: وحبّذا أزمانُ أهلك حين كانوا نازلين بنجد .
ــ وقوله (وأنت) الواو : واو الحال ، و(شهور) مبتدأ مرفوع ،
ــ وقوله (ينقضين) خبره. ويجوز أن يكون شهور خبراً لمبتدأ محذوف ، و(ما ينقضين) ــ حينئذ ــ يكون صفةً له.
ــ وقولُه (وما شَعَرنا) أي ما علِمنا. ، أمّا إذا قال الرجلُ الشعر فيقال: شَعِرَ .
ــ وسِرارُ الشهر: آخره؛ لأن القمر يستسِرُّ فيه.
وقد ضمنه أبو جعفر الأندلسي فقال:
لقدْ كرَّ العِذَارُ بوجْنتيـــــــــــهِ...................كمــــــــا كَرَّ الظَّلامُ عَلى النَّهارِ
فغابَتْ شمسُ وجْنَتِهِ وجاءَتْ ...................على مَهَلٍ عَشيَّــــــــــــــاتُ العَرَارِ
فقلتُ لناظِري لمَّا رآهَـــــــــــــا...................وقَــــدْ خُلِطَ السَّوادُ بالاحمِــرارِ
تمتَّعْ من شميمِ عَرَارِ نجـــــدٍ ...................فمـــــا بَعْدَ العشيَّــــــــةِ من عَرَارِ
ــ 19 ـــ
كأنْ لم يَكنْ بين الحَجون إلى الصفا.........أنيسٌ ولم يَسْمَرْ بمكَّـةَ سامرُ
نسب هذا البيت لمُضاضَ بن عمرو الجُرْهُميِّ منْ قِطعةٍ قالها يتشوّقُ بها إلى مكَّةَ لمّا أَجْلَتْ خُزاعةُ قومَه (جرهم) عنها ، ويلي هذا البيت قولُه:
بلى نحن كنّــــــــــا أهلها فأبادنا ............صــروف الليالي والجدود العواثر
وأخرجنـا منها المليك بقــــــــدرةٍ ............كــذلك ــ يا لَلناسِ ــ تَجري المقادرُ
وبدلنا بها ربي دار غربــــــــــــــة............بهــــــا الذئب يعوي والعدوُّ المكاشر
فسحّت دموع العين تبكي لبـــلدة ............بها حرمٌ آمن وفيها المعــــــــــــــــاشِرُ
ويضرب بهذا البيت المثل لمن حال حالُه ، فأصبح بعيداً بعد قرب ، وغريباً بعد طول ثواء وعِشرة .
كما استشهد به اللغويون على إهمال (أنْ) إذا خفّفت وفصل بينها وبين الفعل بعدها (لم) أو (قد) لأنها إذا شُدِّدت (أنَّ ) نصبت المبتدأ على أنه اسمها، ورفعت الخبر فكان خبرها ، أمّا هنا فلا عمل لها .
قال نصيرٌ الوصيفُ: غدوتُ إلى يحيى بن خالد البرمكي في آخر أمرهم، أريد
عيادته من علّةٍ كان يشكوها ، فوجدتُ في دهليزٍ بغلاً مُسْرَجاً ، فدخلتُ إليه، وكان يأنسُ بي ويُفضي إلي بسرِّه ، فوجدتُه مفكّراً مهموماً ، ورأيتُه متشاغلاً بحساب النجوم، وهو ينظر فيه. فقلت له: إني لما رأيتُ البغلَ مُسْرَجاً سررتُ لأنّي قدّرتُ انصرافَ العلة عنك ، وأن عزمَك الركوبُ ، ثم غمَّني ما أراه من همِّك. فقال لي: لهذا البغلِ قصَّةٌ: إنّي رأيتُ البارحةَ في النومِ كأنّي راكبُهُ حتّى وافيتُ رأسَ الجسر ، الجانبَ الشرقيَّ ، فوقفتُ فإذا أنا بصائحٍ يصيحُ مِن الجانب الآخَر:
كأنْ لم يكُنْ بين الحَجُونِ إلى الصّفا ...........أنيسٌ ولم يسمُرْ بمكَّةَ ســــــــــامرُ
قال: فضربتُ بيدي على السِرْجِ وقلتُ:
بلى نحنُ كنّا أهلَها فأصابَنـــــــــــــا ...........صروفُ الليالي والجُدودُ العَوَاثرُ
قال: فانتبهتُ فلم أَشُكَّ أنّي أنا المرادُ بالمعنى ، فلجأت إلى أخذِ الطالِعِ، وضربتُ الأمرَ ظهراً لبطنٍ ، ووقفتُ على أنّه لابدَّ من انقضاءِ مُدَّتِنا وزوالِ أمرِنا.
قال: فما كاد يفرغ من كلامِه حتّى دخلَ عليه مسرورٌ ، ومعه جَوْنَةٌ مغطَّاةٌ وفيها رأسُ جعفرَ بنِ يحيى ، وقال له: يقول لكَ أميرُ المؤمنين وكيف رأيتَ نقمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ في الفاجر؟ فقال له يحيى: قل له: يا أمير المؤمنين ، أرى أنَّك أفسدتَ عليه دُنياهُ وأفسدَ عليكَ آخرتَك .
فائدة:
سامر: هي لواحد السمّار ولجماعتهم وللمكان الذي يسمر فيه أيضاً ، و(السَمَرُ) حديث الليل ، كما أنه يقال لسواد الليل سَمَرٌ .
وقد استعان بهذا البيت كثيرٌ من الشعراء ، ومن ذلك قولُ الحارثيِّ:
وقائِلَةٍ والدَّمْعُ سَكْبٌ مُبَـــــــــــــــــــادِرُ ..........وقـــد شَرِقَتْ بالماءِ منْها المَحَاجِرُ
وقد أَبْصَرَتْ نعْمَان من بعدِ أُنْسِهــــا ..........بِنا وهي منَّـــــــــا مُوحِشات دَوَاثِرُ
كأَنْ لمْ يكنْ بين الحَجُونِ إلى الصَّفَا ..........أنيسٌ ولمْ يَسْمُـــرْ بمكَّة سَــــــــــامِرُ
فقلتُ لها والقلب منِّي كأَنَّمـــــــــــــــا ..........يُقَلِّبهُ بينَ الجوانِحِ طائِــــــــــــــــــرُ
بَلَى نحنُ كُنَّــــــــــــ،ـا أَهْلَهَا فأَبادَنا ..........صروفُ اللَّيالي والجدودُ العَواثِــرُ
والاستعانة في الشعر: أن يستعين الشاعر ببيتٍ لغيرِه في شعره، بعد أَن يوطِّئ له توطئةً لائقةً به، بحيث لا يبعد ما بينه وبين أبياته، وخصوصاً أبيات التوطئة، إِلاَّ أن يكون البيت للشاعر نفسه من قصيدة أخرى ، فيسمَّى عند ذلك تشهيراً.
ــ 20 ــ
تدس إلى العطار سِلعةَ أهلهـــــــا ..... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
بيت دأب الناس على رواية عجزه دون صدره ولم يعرف قائله ، يقال أن شيخاً أعرابياً شاهد امرأته تتجمل وكانت عجوزاً فقال :
عجوز ترجّي أن تكون فتيـــــــةً .....وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار سِلعةَ أهلهـــا..... وهــل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟
فقالت امرأته: من الطويل:
ألم ترَ أن النابَ تحلب علبـة ............ ويُترَكُ ثِلْبٌ لا ضرابٌ ولا ظهرُ
الثَلْبُ: ذو الهَمِّ الكبير . لَحِبَ الجَنبان : قَلَّ لحمُهُما
وقيل أن أعرابيّاً تَزَوَّج امرأة ،ذُكِر له أنها شابة طريّة ، ودَسوا إليه عَجوزاً فقال:
عَجوز تُرَجِّى أن تكون فَتِيّــــة........ وقــــد نَحَل الجَنْبَان واحدودب الظَّهْر
تَدُسىّ إلى العطّارِ سِلعة أهلها.........وهل يُصْلِح العطار ما أفْسَدَ الدهر
تَزوّجتها قبل المِحَاق بلَيْلـــةٍ .........فكـــــــــــان مَحاقاً كلُُّه ذلك الشَهر
وما غرَّني إلا خِضَابٌ بكفِّهـا..........وكُحْـلٌ بعَيْنَيْها وأثْوَابُهٌٌٌـــــا الصُفْر
وما دمنا في ذكر العطارة فيجدر بنا أن نعرّج على العطر ، فقد كان سيد الأنام يحب العطر حبّاً جمّاً ويرغِّب به ، فقد جاء في الحديث : ((حبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث ، الطيبُ والنساءُ وجُعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة )) وكان يعرف الشعب الذي يمر فيه عليه الصلاة والسلام من الرائحة الطيبة التي كانت تعبق فيه .
وهذا أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : لو كنت تاجراً لما اخترت على العطر شيئاً، إن فاتني رِبحُه لم يفُتْني ريحُه. وقيل : مَن طاب ريحُه زاد عقلُه. وقد ورد هذا الشطر في قصيدة طويلة لصفي الدين الحلي ، يرثي بها الملك الناصر ، وقد اخترنا بعضها لجمال معانيها ، يقول :
وفَى ليَ فيكَ الدمــــعُ إذ خانني الصبرُ.... وأنجَدَ فيكَ النّظمُ إذ خُذِلَ النّصــــرُ
وساوَى قلوبَ النّــــــــاسِ في الحُزنِ رزؤه ...كأنّ صدورَ الناسِ في حزنِها صــــدرُ
فإن أظلمتْ أرضُ الشآمِ لحزنـــــــــــــــــــــهِ... فلَم يَخــلُ من ذاكَ الصّعيـدُ ولا مصرُ
قضَى الناصرُ السلطانُ من بعدِ ما قضَى...فروضَ العُــلا طُرّاً،وسالمَـــــــهُ الدّهرُ
ولم يُغنِ عنه الجــــأشُ والجيشُ واللُّهَى...وفرطُ النُّهَى والحكمُ والنّهيُ والأمـرُ
ولا الخَيلُ تَجري بينَ آذانِها القَنــــــــــــا... لحربِ العـدى والدُّهمُ من دمهم حمرُ
*****
ألا في سبيلِ المجدِ مهجـــــــة ُماجـــــــــــدٍ.... يُشارِكُنا في حُزنِـــــــهِ المَجدُ والفَخرُ
إلى بابهِ تسعَى الملوكُ ، فإن عَــــــــدتْ.... تعدّى إليها القتلُ والنهبُ والأســــرُ
فتًى كانَ مثلَ الدّهرِ بَطشاً وبَسطـــــــة....يُرَجّى ويُخشَى عنـدَهُ النّفعُ والضّـــرُّ
فتًى يَكرَهُ التّقصِيرَ حتّى تظُنَـــــــــــــــــهُ....يكونُ حــراماً عنــــدهُ الجمعُ والقصرُ
وقد كان بطنُ الأرضِ يغبطُ ظهرَهـــــــا....عليه،فأمسَى البَطنُ يَحسدُهُ الظّهـــرُ
أحاطَ بهِ الآسونَ يبغونَ طبّـــــــــــــــــــــهُ....وقـــــــد حارَتِ الأفهامُ واشتغَلَ السرّ
وراموا بأنواعِ العقاقيرِ بـــــــــــــــــــــرأهُ....وهـــــل يُصلحُ العطّارُ ما أفسدَ الدّهر
وكيفَ يردّ الطّبُّ أمراً مُقَـــــــــــــــــــــدَّراً....إذا كانَ ذاكَ الأمرُ ممّنْ لـــــهُ الأمـــــــرُ
وظاهر أن صفيَّ الدين الحِلّيَّ قد استعان بهذا الشطر وما هو من شعره .
وكنًا كندمانيْ جَذيمَةَ حِقبـــــــةً ...... من الدهرِ حتى قيل لن يتصدّعا
هذا البيت لمتمّم بن نُويره من قصيدة قالها يرثي أخاه مالكاً الذي كان يُحبّه إلى درجة العشق ، وقد ارتدّ مالك ، ومنع الزكاة فقُتِل على يدِ سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه .
وهو شاعر فحل ، وصحابيٌّ ، من أشراف قومه، اشتُهر في الجاهلية والإسلام ، وكان قصيراً أعور َ، أشهرُ شعره رثاؤه لأخيه مالك .
سكن متمّم المدينة في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وتزوج بها امرأة لم ترضَ أخلاقَه لشِدّةِ حزنِه على أخيه .
لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه متمّماً بن نُويرة ، واستنشده بعضَ ما رثى به أخاه فأنشده متمّم قصيدتَه التي منها هذا البيت ، فلمّا سمعها عمر قال: هذا والله التأبينُ ، ولَوَدَِدْتُ أنّي أُحْسِنُ الشعرَ فأَرثي أَخي زَيداً بمثل ما رثيتَ أخاك . قال متمّم : لو أنّ أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيتُه ، فسُرَّ عمر ، رضي الله عنه ، لمقالة متمّم وقال : ما عزّاني أحدٌ عن أخي بمثل ما عزّاني به متمّم .
وقد تمثّلت بهذا البيت والذي يليه أمُّ المؤمنين السيدةُ عائشة حين وقفت على قبر أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهما وعن أبيهما الصديق .
كما تمثّل به هارون الرشيد حين توفّيت أمّه الخيزُران ، ومشى في جنازتها ، وقد أخذ بقائمة التابوت حافياً ، يخوض في الطين والوحل من المطر الذي كان في ذلك اليوم ،حتى أتى مقابر قريش ، فغسل رجليه وصلى عليها ، ودخل قبرَها ثم خرج وتمثل بقول متمم " بن نويرة الأبيات المشهورة، التي أولها : ( الطويل)"
وكنا كندماني جَذيمة حقبةً......
ثم تصدّق عنها بمالٍ عظيم ، ولم يغير على جواريها وحواشيها شيئاً مما كان لهم.
وتمثّل بهما ــ أيضاً ــ الخليفةُ الراشد عمرُ بنُ عبد العزيز حين فقد إخوته .
ولجَذيمةَ الأبرشِ ونديميْه ، وهما مالكٌ وعقيلٌ ، اللذيْن ذكرهما متمّم في قصيدته ، قصّةٌ مفيدةٌ يَحسُن أنْ نَرويها بشيء من الاختصار ، بحسب ما يقتضيه الحال .
أمّا جَذيمةُ فهو بن مالك بن فَهْمٍ ، وقد سَلَف ذكرُ أبيه مالكٍ ومصرعِه على يد ابنه سليمة في حديثنا على الشاهد الثالث : (أُعلِّمه الرمايةَ كلَّ يوم ..) وكان جَذيمةُ صاحبَ الحيرة وما والاها ، أمّا زمانه فقد كان بعد سيّدنا عيسى عليه السلام بثلاثين سنة ، وكان ــ مِن تِيهِهِ وعُجْبِه بنفسه ــ لا يُنادم إلاّ الفرقدين (النَجمين) إذا أراد الشراب .
ويُذْكَرُ أَنّ جَذِيمَةَ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ في الجاهلية ، وكان لجذيمة ابنُ أختٍ يُقالُ له عَمرو يحبّه حباًً شديداً ، وحدث أن تاه عمرو في الصحراء ، ثم إن عقيلاً ومالكاً ــ وهما في طريقهما إلى جذيمة قادمين من الشام ــ وجداه في الصحراء على حالٍ رَثّة ، فأصلحا من شأنه ‘ وحملاه إلى خالِه جَذيمةَ ففرح به فرحاً عظيماً، وأراد أن يكافئهما على صنيعِهما بما يريدانه، فاختارا أنْ منادمته الملك جَذيمةَ ما داما على قيد الحياة ، وبقيا على ذلك أربعين عاماً ، ما أعادا خلالَها حديثاً لهما أبدا، ولذلك أشار إليهما الشاعر في قصيدته ،فقد كان لشأنهما شهرة عظيمة بين القبائل العربية.
ولجذيمة مع الزبّاء قصّةٌ أخرى ، فقد قَتل أباها عَمْرَو بنَ ظرب ابن حسّان بن أذينة بن السُميدع العمليق ، ملكَ العرب بأرض الجزيرة ومشارف بلادِ الشام ، فمَلَكت بعدَه ابنتُه الزبّاءُ ، فلما أن استجمع لها أمرها ، واستحكم لها ملكُها ، أرادت غزوَ جَذيمة الأبرش ، طلباً بثأر أبيها ، فأشارت عليها أختُها زَبيبةُ ــ وكانت ذات رأي ودَهاء وإرْبٍ ــ بأن تأتيَ أمرَها من وُجوهِ الخَتْلِ والمكر ، فتُجنّب نفسَها وشعبها الدماء. فكتبت إلى جذيمة تدعوه إلى نفسها وملكِها ، وأن يَصلَ بلادَه ببلادِها.
فلما انتهى كتابُ الزبّاء إلى جَذيمة ، استخفّه ما دعته إليه ، ورغِبَ فيما أطمعتْه فيه ، وكان له مستشارٌ داهيةٌ اسمُه قَصيرٌ ، فحذّره ، لكنّه لم يأخذ بمشورته ، ومضى فيما عزم عليه ، حتى دخل على الزبّاء فأخذتْ منه بثأر أبيها ، وصار مُلكُه من بعدِه إلى ابن أخته عَمرو ، فاحتال له قصير على الزبّاء حتى قتلها .
قيل لمتمّم ما بلغ من حزنُك على أخيك ؟ فقال أُصِبتُ بعيني فما قطرت منها قطرةً عشرين سنة ، فلما قتل أخي استهلّت .
وقال المرزُباني كنية متمم أبو نهشل ويقال أبو رهم ويقال أبو إبراهيم ، وكان أعورَ حسَنَ الإسلام ، وأكثر شعره في مراثي أخيه وهو القائل ...
وكل فتى في الناس بعد بن أمِّـــــه .............كساقطة إحدى يديه من الخيل
وفيما يأتي قصيدتُه التي نحن بصدد الحديث عنها :
لعمري وما عَمري بتأبين مـــالكٍ........... ولا جَزَعاً ممَّا أصابَ فأوجَعــــــــــــا
لقد غيَّبَ المِنهالُ تحت ردائـــــــــهِ........... فتًى غيرَ مِبطان العشيَّاتِ أروعـــــا
تَراهُ كمثل السَّيف يندَى بَنــانُهُ........... إذا لم تَجِدْ عند امرِئِ السَّوءِ مَطْمَعا
وكنَّا كنَدْمانَيْ جَذيمةَ حِقبـــــــةً...........من الدَّهر حتَّى قيلَ لن يتصدَّعـــــــا
فلمَّا تفرَّقنا كأنِّي ومالكـــــــــــاً............لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً مَعَــــــــــا
فما وجْدُ أظْآرٍ ثــــــــلاثٍ روائـمٍ ...........رأينَ مَجَرّاً مِن حُوارٍ ومَصرَعَـــــــــــــــا
بأوجَدَ منِّي يومَ فارقتُ مالكـــاً...........ونادَى بهِ الموتُ الحثيثُ فأسمَعَــــــــــا
ــ المِنْهالُ : قَاتَلُ أَخيه مالِك ، ورداؤه : سيفُه ، وكانَ الرَّجُلُ إذا قَتَلَ رَجُلاً مَشْهُوراً وَضَعَ سيفَه عليهِ ليُعْرَفَ قاتلُه ، المبطان : الذي لا هم له سوى بطنه ، والأروع : الجبان.
ــ ندماني : مثنى نَدْمانٍ (نديم) وجمعُه نَدامى .
ــ الظِّئْرُ بالكسر:العاطفةُ على ولَدِ غيرِها المُرْضِعةُ له ، في الإنسِان وغيرِه وتقال للذَّكَرِ والأُنْثى ، جمعها : أظْؤُرٌ وأظْآرٌ وظُؤُورٌ وظُؤُورَةٌ وظُؤَارٌ وظُؤْرَةٌ ــ روائم : حانيات عطفاً ــ الحُوارُ: بالضم وقد يُكْسَرُ : ولدُ الناقةِ ساعَةَ تَضَعُهُ أو إلى أن يُفْصَلَ عن أُمِّهِ جمعه :أحْوِرَةٌ وحِيرانٌ وحُورانٌ .
ــ في البيت الثالث صورة بديعة لندى أخيه وكرمه ، ما أظنّ أحداً سبقه إليها ، حيث يشبه يد أخيه في كثرة عطائها ، بحد السيف الذي تتقاطر منه الدماء.
ــ 12 ــ
وما طَلَبُ المعيشةِ بالتَمَنّي .................. ولكنَ اَلْقِ دَلوَكَ في الدِلاءِ
بيت يستشهد به للحث على وجوب سعي المرء لكسب رزقه ، والاجتهاد في الأمور كلِّها ، وعدم انتظار ما تأتي به الأقدار ، فإنّ الله سبحانه طالبنا بالسعي والعمل، أما النتائج فهي بيده سبحانه ، لا نعرفها ، ولسنا محاسبين عليها بل على العمل وحسب .
وهذا البيت هو لأبي الأسود الدُؤلي ، وقد خاطب به ابنَه أبا حربٍ لمّا قعد عن التكَسُّبِ معتقداً بأنَّ رزقَه سيأتيه ، وبعده :
وما طَلَبُ المعيشــــــــــةِ بالتمَنّي ............... ولــــــــــــكنْ أَلْقِ دَلوَكَ في الـدِلاءِ
تَجِئْكَ بمِلْئها يومـــــاً ويومـــــــاً ............... تَجِئْكََ بحَمْــــــــــــأةٍٍ وقليلِِ مــــاءِ
ولا تقعدْ على كَسَــــــــلِ التمَنّي ............... تُحيلُ على المقــــــادرِ والقضــــاءِ
فإِن مقــــــــــادرَ الرحمنِ تَجري ............... بأرزاقِ الرجالِ من السمــــــــــــاءِ
مقـــــــــــــــــدرةً بقبضٍ أو ببسـطٍ ...............وعجزُ المرءِ أسبـــــــــــابُ البـــــلاءِ
وبعضُ الرزق في دَعَـــــةٍ وخفضٍ............... وبعضُ الرزق يُكسَبُ بالعنـــــــــاءِِ
الحَمْأَةُ : والحَمَأَةُ . الطّينُ الأسْوَدُ المُنْتِنُ
ــ 13 ــ
يا ربّة البيت قومي غير صاغرة........ضمي إليك رحالَ القوم والقُرُبا
هو لمُرَّةِ بنِ مَحْكان ، شاعرٌ أسلاميٌّ مُقِلٌّ يُعَدُّ في الأشراف الأجواد ، عاش في عصر شاعرين عملاقين هما جرير والفرزدق ، فأهمل ذكره ، قتله مصعب بن الزبير .
والقُرُبُ : جمعُ قِرابٍ ، وهو ما اتُّخِذ من جلد ليكون السيف فيه ، أما الغمدُ فهو ما كان من المعادن ، وكان من عادة العرب أن يضمّوا إليهم رَحْلَ الضيف ليقوموا بحاجته من علف وماء ومأوى ، ويَتركوا له سلاحَه مَخافةَ البَيات ((التعرّض لغزوٍ مبيَّتٍ مباغت ، لأنه غالباً ما يكون في الليل)) ليدفع عن نفسه ، لكنّ هؤلاء الضيوف لا يحتاجون إلى سلاحهم عند مرّةّ لأنّهم في أمان لا يخشون على أنفسهم شيئاً، فهو سَيّدٌ كريم لا يجرؤ أحدٌ على غزوه ، لذلك فهو يقول لها ضمي إليك رحالهم وسلاحهم أيضاً ، فلن يحتاجوه عندي ، وقبله:
أقول والضيفُ مخشيٌّ ذمامتــه ...........على الكريم وحقّ الضيف قد وجبـــا
وبعده:
في ليلة من جمادى ذات أنديـــة ...........لا يُبصِرُ الكلبُ من ظَلْمائها الطُنُبـــا
لا ينبح الكلبُ فيها غيرَ واحــدةٍ ...........حتى يَلفَّ على خَيشُومِه الذَنَبــــــــــا
لقد أورد أبو تمام هذه الأبيات في حماسته ، في باب الأضياف والمديح فهي من جيّد الشعر . كما استشهد بها أهل اللغة على جواز جمع ندى على أندية فهو جمع شاذ على خلاف القاعدة .
وفي هذين البيتين صورةٌ من البيئة الصحراويّة . بَرَعَ الشاعر في رسمها ، فالليلةُ حالكةُ الظُلمة كثيفة الضباب ، حتى إنّ الكلب لا يُبصرُ الطُنُبَ ــ بالرغم من حِدَّةِ بَصره ــ والطُّنُبُ بضمَّتَينِ : حَبْلٌ طويلٌ يُشَدُّ به سُرادِقُ البَيْتِ ، ولشدّة بردِها ، فإنّ الكلبَ تجمّع على نفسه اتّقاءَ بردِها ، فإذا ما أحسّ بقادم ، نبح لمرة واحدة منبهاً إلى الخطر ، وعاد فلفّ ذيله على خيشومه ، ليدفّئه ، فالأنف أكثر أعضاء الجسم إحساساً بالبرد ، لأنه عارٍ من الشَعر .
ــ 14 ـ
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ......فكلُّ قَرينٍ بالمقارَن يَقتـــــــدي
قائلُه هو عديُّ بنُ زيد العِبادي ، ونُسب هذا البيت في الحماسة المغربية وخزانة الأدب وغيرهما إلى طرفة بنِ العبد ، لكنّنا نراه إلى نسيج عديٍّ أقرب، والقصيدة حكم كلها وهاهي كاملة كما جاءت في جمهرة أشعار العرب :
أَتَعْرِفُ رَسْــمَ الدّارِ مِنْ أُمّ مَعْبَــــــــدِ؟....... نَعَم ! وَرَمَاكَ الشّوْقُ قَبْـــــــــلَ التّجلُّدِ
ظَلَلْتُ بهــا أسقي الغَرامَ كَأنّمـــــــــــا.......سَقتني النّدامَى شَرْبَـــــــــــةً لم تُصَرَّدِ
فَيــا لكَ مِنْ شَوْقٍ وطَائِفِ عـــــــــبرَةٍ........كَستْ جَيْبَ سِربالي إلى غـيرِ مُسعِدِيّ
وعاذِلَــــــــــــــــــةٍ هَبّتْ بِلَيْلٍ تَلُومُـني........فلَمّا غَلَتْ في اللّومِ قُلتُ لهـا اقْصِدِي
أَعَاذِلُ إنّ الجَهْلَ من لَــــــــــذّةِ الفتى........وإنّ المَنَايَا للرّجَـــــــــــــــــــالِ بِمَرْصَدِ
أَعَاذِلُ ما أَدْنَى الرّشَـــــادَ من الفتى........ وأَبْعَدَهُ مِنْــــــــــــــــــــــــــهُ إذا لم يُسَدَّدِ
أَعَاذِلُ مـــــــــــــــا يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيّــتي........ إلى ساعةٍ في اليَوْمِ أَوْ في ضُحى الغَدِ
ذَرِيني فإنّي إنّمـــــــــــــا ليَ ما مضَى........ أَمَاميَ من مـــــــــــالي إذا خَفّ عُــوّدِي
وحُمّتْ لِميقـــــــــــــــاتي إليّ مَنيّـتي.........وغُودِرَتُ إنْ وُسِّدْتُ أَوْ لَمْ أُوَسَّـــــــــــــدِ
وللوارِثِ الباقي من المالِ فاتْـــرُكي.........عِتـــــــــــابي فإنّي مُصلِحٌ غَيرُ مُفْسِدِ
كَفَى زَاجراً للمَرءِ أَيّامُ دَهْـــــــــــــرِهِ،.........تَــــرُوحُ لَهُ بالوَاعِظَـــــاتِ وَتَغْتَدِي
فَنَفْسَكَ فاحْفَظْها عنِ الغَيّ والرّدى ........ متى تُغوِهــــــا يَغْوَ الذي بِكَ يَقْتَدِي
عَنِ المَرءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِـــهِ ........ فَكلّ قَرِينٍ بالمُقَارِنِ يَقْتَـــــــــــــــــدِي
إذا ما رأيتَ الشرَّ يبعثُ أهلَــــــــــــــــه.........وقام جُنـــــاتُ الشرِّ للشرِّ فاقعـــــدِ
فَلاَ تُقَصّرَنْ عن سَعي مَن قد وَرِثتَــه ........ وَمَا اسْتَطعْتَ من خَيرٍ لنفسكَ فازْدَدِ
وبالعدلِ فانطِقْ إن نطَقتَ،ولا تَلُمْ .........وذا الذّمّ فاذمُمْهُ وذا الحمدِ فاحمَدِ
وفي كثرَةِ الأيدي عـــن الظُّلمِ زاجـرٌ .........إذا حَضَرَتْ أيدي الرّجــالِ بمَشْهَــدِ
سأكْسِبُ مَجْداً أو تَقُومَ ، نَــــــــــوَائِحٌ .........عَلَيّ بِلَيْلٍِ ، نادِباتي وعُــــــــــــــوّدِي
والقصيدة طويلة تفيض بالمواعظ والحكم ، وقد اكتفينا ببعضها خشية الإطالة . لكن حقّها أن تحفظ كلّها ويتمثّل بها ، وسيجد القاري لهذه القصيدة ، وكأنَّ الشاعر قد أتى بحلول لكلّ ما قد يتعرّض له المرء في حياته في علاقاته الاجتماعية من مشكلات .
الصَّرْدُ : الخالِصُ من كُلِّ شيءٍ
السِّرْبالُ :الدِّرْع ، وقيل كُلُّ ما لُبِسَ فهو سِرْبال ، وجيبه : فتحته .
حُمَّ الأَمْرُ بالضم حَمّاً : قُضِيَ
عُوّدٌ : جمعُ عائد، وهو الذي يزور المريض .
ومن الطريف أن قوماً أُخِذوا في قطعِ طريقٍ ، فقُدِّموا لضربِ أعناقِهم ، فقام منهم واحدٌ ، وقال : اللّهَ اللّه فيَّ ، فو اللّه ما كنتُ في شيءٍ مما كانوا فيه، وإنَّما كنتُ أشربُ معهم وأُغنّى لهم ، فقالوا : هاتِ فغنّ لنا ، فأُرْتِجت عليه الأشعارُ إلاَّ قولََ عديٍّ هذا فغنّى:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه .............فكلّ قرينٍ بالمقــــــــــارن يقتدي
فقالوا : صدق . اضربوا عنقه .
وقد جاء هذا الشعر في معنى الحديث الشريف الذي يقول:"((المرء على دين خليله ، فلينظر امرؤ من يخالل )) . لذلك قال الأصمعي: ما رأيت شعراً أشبه بالسُنَّة من قول عديّ بن زيد :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينــــــــه ....فكلّ قرين بالمقـــــــــــــــــــارن يقتـــدي
وصاحب أولى التّقوى تَنَلْ من تُقاهم .... ولا تصحب الأردى فتردى مـــــــع الرّدى
واستشهد بهذا البيت الشيخ بكر أبو زيد صاحب معجم المناهي اللفظيّة في الاعتراض على بعض التسميات المحدثة ، مثل (فقه مُقارن)) وغيرها فقال : { هذا اصطلاحٌ حقوقيٌّ وافدٌ يُراد به : مقارنةُ فقهِ شريعةِ ربِّ الأرضِ والسماءِ بالفقه الوضعيِّ المصنوعِ المختلقِ الموضوعِ من آراءِ البَشَرِ وأفكارِهم .
وهو مع هذا لا يساعد عليه الوضع اللغويُّ للفظ (( قارن)) إذْ المقارنةُ هي المصاحبةُ،فليست على ما يريدُه منها الحقوقيّون من أنها بمعنى ((فاضل)) التي تكون وِازن ، إذْ الموازنة بين الأمرين : الترجيح بينهما ، أو بمعنى ((وازن )) لفظاً ومعنى . أو بمعنى (قايس) إذ المقايسة بين الأمرين : التقدير بينهما . يقول الشاعر : عن المرء لا تسل .......إلخ
وقد اشتقَّ القُدامى من مادة القَرْن ((الاقترانَ)) بمعنى الازدواج ، فقالوا: ((اقترن فلان بفلانة)) أي تزوجها ، وسمّي النِكاحُ (القِرآن) وِزانَ الحِصان . وأصلُ ذلك في لغةِ العرب ، أنّ العربَ كانت تربط بين قَرنيِّ الثورين بمسَدّ تُسمّيه ((قَرَن)) على وزن ((بقر)) فسمّيا ((قرنين)) وسُمّي كلٌّ منهما قرين الآخر . وعليه : فهذا الاصطلاح ((الفقه المقارن)) تنبغي منابذته وضعاً وشرعاً دفعاً للتوليد والمتابعة }.
ونحن نؤيد الشيخ بكر فيما ذهب إليه من عدم صحة هذه التسمية لمخالفتها الجذر اللغوي للمفردة لأن القرآن الكريم أوردها بهذا المعنى بقوله جلَّ وعلا : ((ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيّضْ له شيطاناً فهو له قرين))سورة الزخرف ،الآية :/36/ فقد جاءت بمعنى مصاحب وملازم .
ــ 15 ــ
أريد حياته ويـــــريد قتلي ............... عذيــرَك من خليلك من مراد
قائل هذا البيت هو عمرو بن معد يكرب ، والقصيدة قيلت في قيس بن مكشوح المرادي ، وقد غزا عمرو ذات يوم وغزا معه قيس ، فلم يُعْطِهِ عمرو شيئاً من الغنيمة ، فأرسل يهدّده فقال عَمرو هذه القصيدة .
وفي اللغة (عذيرَك) نصيرَك والعذيرُ أيضاً : العاذرُ ، والحال التي تحاولُها لتُعذَرَ عليها . والعرب يقولون : عذيرَك من فلان ، وينصبونَه بعاملٍ لا يظهر . والمعنى : هَلُمَّ من يعذرك من فلان فيلومُه ولا يلومُك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: في حديث الإفك : " مَن يَعْذِرُنِي من رَجُل قد بَلَغَني عنه كذا وكذا ؟
وأعذِرْ عني بعيرَك ، أي سِمْهُ بغير سِمَةِ بعيري وأَعذَرَ في الشيء بالغ فيه جداً (( كأنّه ضد)) وأعذر من نفسه ، أمكَنَ منها ، وأعذر في ظهره بالسوط ضَرَبَه فأثّر فيه ، ترك به عاذراً أي أثر جراح ، وأعذر من الذنب: محا أثر الموجدة ، وتعذّر أصحابه عليه : فرّوا عنه وخذلوه ، واعتذر من فلان : طلب من الناس العذر ، إن بطش به ، ويقال : من عذيري من فلان
وهو منصوب على تقدير الفعل ((أَطلبُ)) كما يمكن أن يرفع على أنه مبتدأ فيقدر له خبر أو العكس .
وكان سيدنا علي رضي الله عنه ،إذا رأى عبد الرحمن بن ملجم المراديّ يتمثل بهذا البيت ، فقيل له: كأنك عرفتَه وعرفتَ ما يريد أفلا تقتله . قال : كيف أقتل قاتلي؟
كما تمثَّل به الخليفةُ هارونُ الرشيدُ حين دعا بعبدِ الملك بنِ صالحٍ ، وقد بلغه أنّه يدعو بالخلافة لنفسه ، فجيء بعبد الملك يرسف في قيدِه ، فلمّا مثُل بين يديه أنشد الرشيدُ هذا البيت .
والبيت من قصيدة قالها عمر بن معد يكرب يصف صبرَه وجَلَدَه في الحرب:
أَعاذِلَ إِنَّمـــا أَفْنَى شَبـــــــــابِي ..................رُكُوبِي في الصَّرِيخِ إِلى المُنادِي
أَعاذِلَ شِـــكَّتِي سَيْفِي ورُمْــحي...................وكُلُّ مُقَلِّسٍ سَلِسِ القِيــــــــــــــادِ
مع الأبطال حتى سل جســمي ...................وأقرح عاتقي حمل النجـــــاد
وسيف من لدن كنعان عنـدي ...................تخيّرَ نصله من عهد عــــــــــــاد
ومن عجبٍ عجبتُ له حديـــثٌ ................... بـــــديعٌ ليس من بِدع السَـــداد
تمنّى أنْ يــــــــــــــلاقيني أبي ................... وددت وأينمـــــــــــــا مني ودادي
تمنــــاني وسابغتي قميصي ....................كــأن قَتيرَهـــــــــا حَدَقُ الجَراد
ولَوْ لاقَيْتَنِي ومعِي سِــــــلاحِي ................. .تَكشَّفَ شَخْمُ قَلْبِكَ عن سَـــــوادِ
أُرِيدُ حياتَــــــــهُ ويُرِيدُ قَتْلِي .................. عَــــــــذِيرَكَ مِن خَلِيلِكَ مِن مُرادِ
ويَبْقَى بَعْدَ حِلْمِ القَوْمِ حِلْمِي ................... ويَنْفَــــدُ قَبْـــــلَ زادِ القَوْمِ زادِي
فلو لاقيتني للقيت ليثــــــــاً ................... هصوراً ذا ظُباً وشَبــــــــــاً حِدادِ
المُقَلِّسُ: من القَلْسِ:أنْ يَبلغ الطعامُ إلى الحلق ثم يَرجِعَ إلى الجوف . وقيل : هو القيء . وقيل : هو القذف بالطعام وغيره . وقيل : هو ما يخرج إلى الفم من الطعام والشراب والجمع : أقلاس ، وقد قَلَسَ يَقْلِسُ قَلساً ، وقلساناً . وقَلستْ النحلُ العسلَ تقلِسه قَلْساً:
والتقليس : الضرب بالدف . والمُقَلِّسُ : الذي يلعب بين يدي الأمير . والتقليس : وضع اليدين على الصدر خضوعا . وعليه فمن الممكن أن يكون المقصود: البعير الذي يركبه لأنه حيوان مجتر ، وإذا أسرع في جريه أرغى وأزبد ، كما يمكن أن يكون المقصود هو الفرس الذي يضم يديه إلى صدره ويقف على قوائمه الخلفيّة . وهذه المفردة تحتمل كل هذه المعاني .
شَخُمَ الطَّعامُ : فَسَدَ. وشَعَرٌ أشْخَمُ : أبْيَضُ .
الظُبى : السيوف ، وشَبا السيف أو السكين : حَدُّه
ــ 16 ــ
إذا لم تستطع أمراً فدعه ................... وجاوزه إلى ما تستطيــــع
هذا البيت للشاعر المخضرم فارس العرب عمرو بن معد يكرب وهو من أمثاله السائرة . وهو صحابي جليل ، شارك رضي الله عنه ، في الفتوحات الإسلامية فأبلى فيها بلاءً حسناً، وكان يلقب بأبي ثور ، قيل لأنه كان يأكل ثوراً لوحده ، فقد كان ضخم البنية .
قيل في سبب القصيدة التي منها هذا البيت ، أنْ سَبَّت بنو سًليم رَيحانة أختَ عمرو بن مَعْدِ يكرب فارس العَرب ، فقالها فيها ، وقيل أنه كان لعمرو بن معدي كرب أخٌ أكبر منه ، يقال له : عبد الله ، وكانت له التقدمة والرئاسة دون عمرو ، وكان له أختٌ يقال لها : ريحانة ، ولها يعني عمروٌ بقوله في قصيدةٍ له:
أَمِنْ ريحانةَ الداعي السميــعُ ...................يؤرِّقني وأصحــــــــــابي هُجُوعُ
إذا لم تستطع أمراً فدَعْـــــــــه ...................وجاوِزْه إلى ما تستطيــــــــــــع
وصِلْهُ بالزَّمَاعِ فكلُّ أَمْـــــــــــــرٍ....................سَمـــــــا لكَ أو سَمَوْتَ له وَلُوعُ
فقُتل عبد الله ، وبذل قاتلوه الديّة لعمرو ، فجنح إلى ذلك ، فقالت أختُه
تحرِّضه على الطلب بدم أخيه من قصيدة مطلعها :
أرسلَ عبدُ اللهِ إذ حان يومـُــــــهُ...............إلى قومهِ: لا تعقِلوا لهــــــــم دمي
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكـــــمُ................فمُشٌّوا بآذان النعام المصلَّــــــــــــمِ
ولا تشربوا إلاّ فضولَ نسائكمُ................إذا ارتملت أعقابهنَّ من الـــــــــدمِ
ودعْ عنكَ عمراً إن عمراً مسالمٌ ...............وهلْ بطنُ عمرٍو غيرُ شِبرٍ لمطعــــمِ
فحرَّك هذا الشعر عَمْراً ، وطلب بثأرِ أخيه ، وتقدَّم في الحروب والشجاعة ، حتى كان من أمره ما كان . وما وجدنا من قصيدته إلاّ تلك الأبيات الثلاثة السالفة . .
فائدة :
والزِماع : المَضاءُ في الأمر، والعُزومُ عليه ، واخْتَلَفَ أهْلُ النَّظَرِ ، هَلْ دَعْ ، وذَرْ مُتَرادِفَانِ أو مُتَخالِفانِ فذهَبَ قَوْمٌ إلى الأوَّلِ ، وذهَبَ آخَرُونَ إلى الثاني ، فقالَوا : دَعْ ويَدَعُ يُسْتَعْمَلانِ فيما لا يُذَمُّ مُرْتَكِبُه ، لأنَّه منَ * الدَّعَةِ، وهِيَ الرَّاحَةُ، ولذا قيلَ لمُفَارَقَةِ النّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً : *!مُوَادَعَةٌ ، قال تعالى : أتَدْعُونَ بَعْلاً وتَذَرُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ ، ولم يقل تَدَعُونَ ، معَ ما فيهِ من الجِنَاسِ ، وقيلَ : دَعْ : أمْرٌ بالتَّرْكِ قَبْلَ العِلْمِ بالشيء، وذَرْ بَعْدَه .
وقال اللغويون : أُمِيتَ ماضِيهِ واسم فاعله ، فلا يُقال : وَدَعَهُ إِنَّما يُقال تَركَه ولا يقال وادعٌ : ولكن يقال : تَارِكٌ ، أما مضارعه فهو يَدَعُ
ــ 17 ــ
ألا ليت اللّحى كانت حشيشاً .............. فنعلِفَها خيولَ المسلمينــــــــا
قائل هذا البيت هو يزيد بن ربيعة المعروف بابن مفرّغ الحميري ، شاعر إسلامي صحب عباد بن زياد حين عيًنه عمّه معاوية أميراً على خُراسان ، واشتغل الأمير بحربه وخراجه فاستبطأه ابن مفرغ فبسط لسانه فذمه وهجاه، وكان عبّاد عظيم اللّحية ، فسار يزيد بنُ مُفرّغ يوماً مع عبّاد ، فدخلت الريح فنفشتها فضحك ابن مُفرّغ ، وقال لرجل من لَخَم كان إلى جنبه : ألا لَيْتَ اللِّحَى .... إلخ
فسعى به اللّخمي إلى عبّاد ، فغضب من ذلك غضباً شديداً، وكان على ابن المفرِّغ دينٌ ، فأغرى الأميرُ به الدائنين ، ثم حبسه حتى باع فرسه وسلاحه وأثاثه وعبده وجاريته ، وقسم أثمانَها بين غرمائه ، وبقيت عليه بقيّة حَبَسه بها ، ولأنّه أقام على ذمّ الأمير وهجائه وهو في محبَسه ، هرب حتى أتى البصرةَ ، ثم خرج منها إلى الشام ، وجعل ينتقل في مدنها هارباً ، ولجََّّ في هجاء بني زياد حتى تغنّى أهلُ البصرة بأشعاره، فأمر يزيد ــ وقد صارت الخلافة إليه ــ بطلبه , فجعل ينتقل من بلد إلى بلد ، فإذا شاع خبرُه انتقل حتى لفظتْه الشام ، فأتى البصرةَ ونَزَلَ على الأحنفِ بنِ قيسٍ فالتجأ به واستجار ، فقال له الأحنف : إني لا أُجير على ابنِ سُميّةَ فأُعْزَل ، وإنّما يُجيرُ الرجلُ على عشيرتِه ،فأمّا على سلطانه فلا ، ثم أتى خالدَ بنَ عبد الله بن خالد بن أُسيْدٍ ، فاستجارَ به فأبى ،وأتى المنذرَ بنَ الجارود العبْديِّ ــ وكان ذا حظوةٍ عند بني زيادٍ ــ فأجاره ، وطلبه عُبيدُ الله ، وقد بلغه ورودُه البصرة فقيل له أجاره المنذرُ بنُ الجارود ، فبعث عبيدُ الله إلى المنذر ، فأتاه فلما دخل عليه ، بعث عُبيدُ الله بالشُرَطِ ، فكبَسوا دارَه المنذرِ وأتوه بابن مفرغ ، فلم يشعر المنذرُ إلاّ بابنِ مفرّغٍ قد أقيم على رأسِه ، فقام المنذر إلى عُبيدِ اللهِ فكلّمه فيه فقال: عبيد الله: يا منذرُ لقد هجاني وهجا أبي ثم تُجيره عليّ ، لا و الله لا يكون ذلك أبدا ، ولا أغفرُها له ، ثم أَمر بحبسِه ، وكتب إلى يزيد بن معاوية يسأله أن يأذن له في قتلِه ، فكتب إليه إيّاك وقتلَه ، ولكن عاقبْه بما يُنكّله ويشدّ سلطانَك ، ولا تبلغْ نفسَه فإنّ له عشيرةٌ هي جُنْدي وبِطانتي ، ولا ترضى بقتلِه منّي ، ولا تقنعُ إلا بالقِوَدِ منك ، فاحذرْ ذلك ، واعلمْ أنّه الجِدُّ منهم ومني ، وأنّك مرتَهَنٌ بنفسه ، ولك في دون تلفِها مندوحةٌ تشفي من الغيظ، ففعل عبيد الله ، فحبسه ونكّل به وأهانه .
ــ 18 ــ
تمتع من شميم عَرار نجدٍ ................... فما بعد العشية من عَرار
هذ البيت للشاعر الإسلامي الصِمّة بن عبد الله القُشِيريّ ، وهو شاعر غَزِلٌ رقيقُ الحاشية ، وهذا البيتُ من مقطوعةٍ نسبت إلى معقل بن جَناب أيضاً، كما رويت لجَعْدَة بن مُعاوِية العُقَيْلِيّ ، ولقيسٍ بن الملوَّح المعروف بمجنونِ ليلى . وتروى لجَعْدَة بنِ مُعاوِيةَ العُقَيْلِيّ من قصيدة ، يقول فيها :
أقول لصاحبي والعيس تَخْدِي .................... بنا بين المنيفة فالضِمـــــار
تمتع من شميـــــم عَرار نجـــــدٍ .................... فمــا بعد العشيَّـــةِ مِن عَرارِ
ألا يا حبّذا نفحاتُ نَجْـــــــــــــدٍ .................... ورَيّا روضِـه بعدَ القطـــــــار
وأهلك إذ يَحِــــلُّ الحيُّ نَجْـــــداً ....................وأنت عـــلى زمانك غير زاري
شهور ينقضــــــــــين وما شعرنا ....................بأنصــــــــــــافٍ لهنَّ ولا سِرار
ــ ورُويت ( تخدي) تهوي وتحدي
ــ شعر بديع وشاعر ــ كما تراه ــ بعيدٌ عن الصنعة ، سهلُ المأخذ ، قريبُ التناول، وكانت العرب إنّما تُفاضل بين الشعراءِ في الجَودة والحُسن بشَرَفِ المعنى وصحَّتِه، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلِّم السّبْقَ فيه لمَنْ وصف فأصاب ، وشبَّه فقارب، وبَدَهَ فأَغْزَرَ ، ولمن كثُرتْ سَوائرُ أمثالِهِ وشَوارِدُ أبياتِه؛
في اللغة والإعراب:
ــ العِيسُ: بياضٌ في ظُلمةٍ خفيّةٍ. والعربُ تجعلُه في الإبِلِ العِراب خاصَّةً
ــ والمُنيفة: موضعٌ ،أو هضبةٌ مرتفعةٌ. ومنه: أناف على كذا ، أي أشرف ، ويقولون : مئةٌ ونيّفٌ .
ــ والضِمار: مكان ، أو وادٍ منخفضٌ يَضمُرُ فيه السائرُ .
ــ والشَميم: مصدر ، ويُقال: تمتّعتُ بِكَذا ومن كَذا.سِيَّان .
ــ ويقال: (زَرَيْتَ عليه)، إذا عِبتَ عليه؛ وأزريت به، إذا قصَّرتَ بِه.
ــ والعَرار : بقلة صفراءُ ناعمةٌ طيّبةُ الريح ، والواحدةُ عَرارةٌ. ، وقيل هو شجر. وقد شُبِّه بها لونُ المرأةِ .
ــ قوله (من عَرار) من : لاستغراق الجنس ، ومحلُّ (من عَرارٍ) رفعٌ على أنّه اسم ما. أي ما عرارٌ موجوداً بعدَ العشيّة .
ــ والواو من قوله (والعيس تخدى بنا) الواو ، واو الحال ، وموضع (تمتع من شميم) نصبٌ على أنه مفعولٌ به لــ (أقول).
ــ و رواية (بين المنيفة فالضمار) بالفاء ، أجودُ من رواية (بين المنيفة والضمار) بالواو، لأن (بين) تدخل لشيئين يتباين أحدهما عن الآخر ، وعلى هذا قولُ امرىء القيس: بين الدخول فحومل . فالفاء هنا تفيد الترتيب .
ــ ألا: حرفٌ لافتتاح الكلام ، والمنادى في (يا حبّذا) محذوف كأنّه قال: يا قوم أو يا ناس ، حبّذا نفحاتُ نجدٍ.
ــ و نفحاتُ: مرفوعٌ بالابتداء، وخبره حبّذا، كأنه قال: نفحاتُ نجد محبوبةٌ في الأشياء .
ــ وقوله(ريّا روضِه) يُراد بها الرائحة هنا.
ــ و قوله (وأهلك) عطف على (و ريّا) ، وهما معطوفان على (نفحات) وكأنه قال: وحبّذا أزمانُ أهلك حين كانوا نازلين بنجد .
ــ وقوله (وأنت) الواو : واو الحال ، و(شهور) مبتدأ مرفوع ،
ــ وقوله (ينقضين) خبره. ويجوز أن يكون شهور خبراً لمبتدأ محذوف ، و(ما ينقضين) ــ حينئذ ــ يكون صفةً له.
ــ وقولُه (وما شَعَرنا) أي ما علِمنا. ، أمّا إذا قال الرجلُ الشعر فيقال: شَعِرَ .
ــ وسِرارُ الشهر: آخره؛ لأن القمر يستسِرُّ فيه.
وقد ضمنه أبو جعفر الأندلسي فقال:
لقدْ كرَّ العِذَارُ بوجْنتيـــــــــــهِ...................كمــــــــا كَرَّ الظَّلامُ عَلى النَّهارِ
فغابَتْ شمسُ وجْنَتِهِ وجاءَتْ ...................على مَهَلٍ عَشيَّــــــــــــــاتُ العَرَارِ
فقلتُ لناظِري لمَّا رآهَـــــــــــــا...................وقَــــدْ خُلِطَ السَّوادُ بالاحمِــرارِ
تمتَّعْ من شميمِ عَرَارِ نجـــــدٍ ...................فمـــــا بَعْدَ العشيَّــــــــةِ من عَرَارِ
ــ 19 ـــ
كأنْ لم يَكنْ بين الحَجون إلى الصفا.........أنيسٌ ولم يَسْمَرْ بمكَّـةَ سامرُ
نسب هذا البيت لمُضاضَ بن عمرو الجُرْهُميِّ منْ قِطعةٍ قالها يتشوّقُ بها إلى مكَّةَ لمّا أَجْلَتْ خُزاعةُ قومَه (جرهم) عنها ، ويلي هذا البيت قولُه:
بلى نحن كنّــــــــــا أهلها فأبادنا ............صــروف الليالي والجدود العواثر
وأخرجنـا منها المليك بقــــــــدرةٍ ............كــذلك ــ يا لَلناسِ ــ تَجري المقادرُ
وبدلنا بها ربي دار غربــــــــــــــة............بهــــــا الذئب يعوي والعدوُّ المكاشر
فسحّت دموع العين تبكي لبـــلدة ............بها حرمٌ آمن وفيها المعــــــــــــــــاشِرُ
ويضرب بهذا البيت المثل لمن حال حالُه ، فأصبح بعيداً بعد قرب ، وغريباً بعد طول ثواء وعِشرة .
كما استشهد به اللغويون على إهمال (أنْ) إذا خفّفت وفصل بينها وبين الفعل بعدها (لم) أو (قد) لأنها إذا شُدِّدت (أنَّ ) نصبت المبتدأ على أنه اسمها، ورفعت الخبر فكان خبرها ، أمّا هنا فلا عمل لها .
قال نصيرٌ الوصيفُ: غدوتُ إلى يحيى بن خالد البرمكي في آخر أمرهم، أريد
عيادته من علّةٍ كان يشكوها ، فوجدتُ في دهليزٍ بغلاً مُسْرَجاً ، فدخلتُ إليه، وكان يأنسُ بي ويُفضي إلي بسرِّه ، فوجدتُه مفكّراً مهموماً ، ورأيتُه متشاغلاً بحساب النجوم، وهو ينظر فيه. فقلت له: إني لما رأيتُ البغلَ مُسْرَجاً سررتُ لأنّي قدّرتُ انصرافَ العلة عنك ، وأن عزمَك الركوبُ ، ثم غمَّني ما أراه من همِّك. فقال لي: لهذا البغلِ قصَّةٌ: إنّي رأيتُ البارحةَ في النومِ كأنّي راكبُهُ حتّى وافيتُ رأسَ الجسر ، الجانبَ الشرقيَّ ، فوقفتُ فإذا أنا بصائحٍ يصيحُ مِن الجانب الآخَر:
كأنْ لم يكُنْ بين الحَجُونِ إلى الصّفا ...........أنيسٌ ولم يسمُرْ بمكَّةَ ســــــــــامرُ
قال: فضربتُ بيدي على السِرْجِ وقلتُ:
بلى نحنُ كنّا أهلَها فأصابَنـــــــــــــا ...........صروفُ الليالي والجُدودُ العَوَاثرُ
قال: فانتبهتُ فلم أَشُكَّ أنّي أنا المرادُ بالمعنى ، فلجأت إلى أخذِ الطالِعِ، وضربتُ الأمرَ ظهراً لبطنٍ ، ووقفتُ على أنّه لابدَّ من انقضاءِ مُدَّتِنا وزوالِ أمرِنا.
قال: فما كاد يفرغ من كلامِه حتّى دخلَ عليه مسرورٌ ، ومعه جَوْنَةٌ مغطَّاةٌ وفيها رأسُ جعفرَ بنِ يحيى ، وقال له: يقول لكَ أميرُ المؤمنين وكيف رأيتَ نقمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ في الفاجر؟ فقال له يحيى: قل له: يا أمير المؤمنين ، أرى أنَّك أفسدتَ عليه دُنياهُ وأفسدَ عليكَ آخرتَك .
فائدة:
سامر: هي لواحد السمّار ولجماعتهم وللمكان الذي يسمر فيه أيضاً ، و(السَمَرُ) حديث الليل ، كما أنه يقال لسواد الليل سَمَرٌ .
وقد استعان بهذا البيت كثيرٌ من الشعراء ، ومن ذلك قولُ الحارثيِّ:
وقائِلَةٍ والدَّمْعُ سَكْبٌ مُبَـــــــــــــــــــادِرُ ..........وقـــد شَرِقَتْ بالماءِ منْها المَحَاجِرُ
وقد أَبْصَرَتْ نعْمَان من بعدِ أُنْسِهــــا ..........بِنا وهي منَّـــــــــا مُوحِشات دَوَاثِرُ
كأَنْ لمْ يكنْ بين الحَجُونِ إلى الصَّفَا ..........أنيسٌ ولمْ يَسْمُـــرْ بمكَّة سَــــــــــامِرُ
فقلتُ لها والقلب منِّي كأَنَّمـــــــــــــــا ..........يُقَلِّبهُ بينَ الجوانِحِ طائِــــــــــــــــــرُ
بَلَى نحنُ كُنَّــــــــــــ،ـا أَهْلَهَا فأَبادَنا ..........صروفُ اللَّيالي والجدودُ العَواثِــرُ
والاستعانة في الشعر: أن يستعين الشاعر ببيتٍ لغيرِه في شعره، بعد أَن يوطِّئ له توطئةً لائقةً به، بحيث لا يبعد ما بينه وبين أبياته، وخصوصاً أبيات التوطئة، إِلاَّ أن يكون البيت للشاعر نفسه من قصيدة أخرى ، فيسمَّى عند ذلك تشهيراً.
ــ 20 ــ
تدس إلى العطار سِلعةَ أهلهـــــــا ..... وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
بيت دأب الناس على رواية عجزه دون صدره ولم يعرف قائله ، يقال أن شيخاً أعرابياً شاهد امرأته تتجمل وكانت عجوزاً فقال :
عجوز ترجّي أن تكون فتيـــــــةً .....وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار سِلعةَ أهلهـــا..... وهــل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟
فقالت امرأته: من الطويل:
ألم ترَ أن النابَ تحلب علبـة ............ ويُترَكُ ثِلْبٌ لا ضرابٌ ولا ظهرُ
الثَلْبُ: ذو الهَمِّ الكبير . لَحِبَ الجَنبان : قَلَّ لحمُهُما
وقيل أن أعرابيّاً تَزَوَّج امرأة ،ذُكِر له أنها شابة طريّة ، ودَسوا إليه عَجوزاً فقال:
عَجوز تُرَجِّى أن تكون فَتِيّــــة........ وقــــد نَحَل الجَنْبَان واحدودب الظَّهْر
تَدُسىّ إلى العطّارِ سِلعة أهلها.........وهل يُصْلِح العطار ما أفْسَدَ الدهر
تَزوّجتها قبل المِحَاق بلَيْلـــةٍ .........فكـــــــــــان مَحاقاً كلُُّه ذلك الشَهر
وما غرَّني إلا خِضَابٌ بكفِّهـا..........وكُحْـلٌ بعَيْنَيْها وأثْوَابُهٌٌٌـــــا الصُفْر
وما دمنا في ذكر العطارة فيجدر بنا أن نعرّج على العطر ، فقد كان سيد الأنام يحب العطر حبّاً جمّاً ويرغِّب به ، فقد جاء في الحديث : ((حبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث ، الطيبُ والنساءُ وجُعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة )) وكان يعرف الشعب الذي يمر فيه عليه الصلاة والسلام من الرائحة الطيبة التي كانت تعبق فيه .
وهذا أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : لو كنت تاجراً لما اخترت على العطر شيئاً، إن فاتني رِبحُه لم يفُتْني ريحُه. وقيل : مَن طاب ريحُه زاد عقلُه. وقد ورد هذا الشطر في قصيدة طويلة لصفي الدين الحلي ، يرثي بها الملك الناصر ، وقد اخترنا بعضها لجمال معانيها ، يقول :
وفَى ليَ فيكَ الدمــــعُ إذ خانني الصبرُ.... وأنجَدَ فيكَ النّظمُ إذ خُذِلَ النّصــــرُ
وساوَى قلوبَ النّــــــــاسِ في الحُزنِ رزؤه ...كأنّ صدورَ الناسِ في حزنِها صــــدرُ
فإن أظلمتْ أرضُ الشآمِ لحزنـــــــــــــــــــــهِ... فلَم يَخــلُ من ذاكَ الصّعيـدُ ولا مصرُ
قضَى الناصرُ السلطانُ من بعدِ ما قضَى...فروضَ العُــلا طُرّاً،وسالمَـــــــهُ الدّهرُ
ولم يُغنِ عنه الجــــأشُ والجيشُ واللُّهَى...وفرطُ النُّهَى والحكمُ والنّهيُ والأمـرُ
ولا الخَيلُ تَجري بينَ آذانِها القَنــــــــــــا... لحربِ العـدى والدُّهمُ من دمهم حمرُ
*****
ألا في سبيلِ المجدِ مهجـــــــة ُماجـــــــــــدٍ.... يُشارِكُنا في حُزنِـــــــهِ المَجدُ والفَخرُ
إلى بابهِ تسعَى الملوكُ ، فإن عَــــــــدتْ.... تعدّى إليها القتلُ والنهبُ والأســــرُ
فتًى كانَ مثلَ الدّهرِ بَطشاً وبَسطـــــــة....يُرَجّى ويُخشَى عنـدَهُ النّفعُ والضّـــرُّ
فتًى يَكرَهُ التّقصِيرَ حتّى تظُنَـــــــــــــــــهُ....يكونُ حــراماً عنــــدهُ الجمعُ والقصرُ
وقد كان بطنُ الأرضِ يغبطُ ظهرَهـــــــا....عليه،فأمسَى البَطنُ يَحسدُهُ الظّهـــرُ
أحاطَ بهِ الآسونَ يبغونَ طبّـــــــــــــــــــــهُ....وقـــــــد حارَتِ الأفهامُ واشتغَلَ السرّ
وراموا بأنواعِ العقاقيرِ بـــــــــــــــــــــرأهُ....وهـــــل يُصلحُ العطّارُ ما أفسدَ الدّهر
وكيفَ يردّ الطّبُّ أمراً مُقَـــــــــــــــــــــدَّراً....إذا كانَ ذاكَ الأمرُ ممّنْ لـــــهُ الأمـــــــرُ
وظاهر أن صفيَّ الدين الحِلّيَّ قد استعان بهذا الشطر وما هو من شعره .
مواضيع مماثلة
» الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(11ــ 30){الشاعر عبد القادر الأسود}
» الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(1ــ 10){الشاعر عبد القادر الأسود}
» الشواهد نسبتها ومناسبتها /40 ـ 50/( الشاعر عبد القادر الأسود)
» الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(31ــ 40){الشاعر عبد القادر الأسود}
» الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(21ــ 30){الشاعر عبد القادر الأسود}
» الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(1ــ 10){الشاعر عبد القادر الأسود}
» الشواهد نسبتها ومناسبتها /40 ـ 50/( الشاعر عبد القادر الأسود)
» الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(31ــ 40){الشاعر عبد القادر الأسود}
» الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(21ــ 30){الشاعر عبد القادر الأسود}
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود