منتدى مدينة أرمناز العام
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(31ــ 40){الشاعر عبد القادر الأسود}

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(31ــ 40){الشاعر عبد القادر الأسود} Empty الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(31ــ 40){الشاعر عبد القادر الأسود}

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود الجمعة سبتمبر 10, 2010 10:56 am

ــ 31 ــ

أشاب الصغيرَ وأفنى الكبير ................. كرُّ الغــــــــــداةِ ومَرُّ العشيّ

هو للصلتان العبْدي ، والصلتان لَقَبٌ غلب عليه ، واسمُه قَثَمٌ بنُ خبية ، أحدُ بني مُحارب بن عمرو بن وديعة بن عبد القيس وإليه ينسب فيقال العبدي ويوجد شاعران آخران باسم الصلتان هما : الصلتان السَعديُّ والصلتانُ الفَهْميُّ ، وهو شاعر إسلامي مشهور ، خبيث اللسان وكان قد ادّعى أنَّ الفرزدقَ وجريراً تحاكما إليه ، فقضى بينهما بأنّ الفرزدقَ أشرفَ من جريرٍ ، وأنَّ بنى مُجاشعٍ أشرفُ من بنى كُليب ، وأنَّ جريراً أشعر من الفرزدق ، والبيت من قصيدة يقول فيها :

أشــــــــاب الصغيرَ وأفنى الكبـــــــ...............ــيرَ كَرُّ الغـــــــــــداةِ ومَرُّ العَشِيِّ
إذا ليلة هرمت يومهــــــــــــــــــــــــــا...............أتى بعد ذلك يــــــــــــــــــومٌ فَتيِّ
نَروحُ ونَغدو لحاجاتنـــــــــــــــــــا...............وحـــاجــة من عاش ما تنقضي
تموت مع المرء حاجاتـــــــــــــــــــه............... وتبقى له حاجــــــــــــةٌ ما بقي
إذا قلت يوماً لمن قــــــــــــــــد ترى............... أروني السَــــرِيَّ ، أرَوْكَ الغنيِّ
ألم تَرَ لقمانَ أوصى بنيــــــــــــــه............... وأوصيتُ عَمْراً فنعــــم الوَصِيِّ
بُنيَّ بدا خَبْءُ نجوى الرجــــــــال............... فكنْ عند سـِــرِّكَ خَبْءَ النَجيِّ
وسرك ما كان عنـــــــــــــــــد امرئٍ............... وسِــــــــــــرُّ الثلاثةِ غيرُ الخَفِيِّ
كمَا الصَّمْتُ أدْنَى لِبَعْض الرَّشادِ ...............فَبعْضُ التَّكلـــــــــــــمَ أدْنَى لَغِيِّ
ــ أشاب ... الخ : نسب ذلك (أشاب) للنهار والليل على طريق المجاز العقلي لأنّهما سبب ظاهر في ذلك .
ــ هَرِمت يومها: أضعفته وأسلمته للزوال ، وللفتى الشاب ، والمعنى إذا أضعفت ليلةٌ يومها وقرّبتْه من الزوال ، أتى بعده يوم جديد .
ــ يقول في البيت الثالث : ما دام الإنسان حيّاً فحاجاته لا تفارقه .
ــ المعنى في البيت الرابع تابع ومتمم لمعنى البيت الثالث وتأكيد عليه ،و ما ظرفية مصدرية والمعنى أن الإنسان ما دام حيا حاجاته ممتدة فإذا مات ماتت حاجاته .
ــ السري :الشريف من قولهم سَرُوَ الرجلُ يَسْرو سَرْواً إذا كان سخيّاً في مروءة، والمعنى أن أخلاق الرجال تغيرت فإذا سألت عن الشريف دلوك على الغني
ــ يقول في البيت السادس أنه أوصى عَمْراً كما أوصى لقمانٌ ابنَه ، و نعم الوصي لقمان .
ــ الخَبْءُ بالفتح ما خُبِّئ، والنجوى مصدر ، وهو مستعمل فيما يتحدث فيه اثنان على طريق السر والكتمان ، والمعنى إذا ناجيتَ صاحباً لك فكنْ خبِأً فيما تُودِعُه من سِرِّكَ ، فإن نجوى الرجال إذا بدا خَبؤها عادت عليه وبالاً .
ــ المعنى لا تفش سرك إلى غير نفسك وإذا أفشيته إلى غيرك فلا يكون إلا إلى واحد إذ لا يخفى سِرُّ الثلاثة .
ــ ما زائدة والمعنى قد يكون الصمتُ واجباً في بعض المواقع طالبا للرشاد ، كما أنّه قد يكون في الكلام مواقع تُفضي إلى الغي وعدم الرشاد .










ــ 32 ــ

ولي كبد مقروحة من يبيعني .............. بها كبداً ليست بذات قروح

هو لابن الدمينة ،واسمه عبد الله بن عبد الله الخثعمي ، والدمينة أمه، شاعر أموي، رقيق الشعر، قتل غيلة بعد سنة 130هـ، وهو عائد من الحج في تبالة قرب بيشة.
ونسب هذا البيت لذي الرمَّة ، ولأبي دهبل ، ولخالد الكاتب ، ولابن معصوم المدني ، ولمجنون ليلى ، وللحسين بن مطير الأسدي أيضاً

ألا يا حمى وادي الميـــــــــــــاه قتلتني....... أباحك لي قبل الممـــــــــــات مبيحي
ولي كبدٌ مقروحـــــــــــــــــةٌ من يبيعني.......بها كبداً ليست بــــــــــــــذات قروح
أبى الناس ويب الناس لا يشترونها.......ومن ذا الذي يشري دوًى بصحيـــــــح
أئن من الشوق الذي في جـــــــــوانحي.......أنين غصيص بالشراب جريــــــــــــــح

الدوى: المريض الشديد المرض والمرض الشديد أيضاً والأحمق ، وكَبِدٌ مؤنث تجمع على أكباد وأكْبُدٍ ، وفي الكثرة كُبود ، ومثلها : فَخِذٌ ، كَرِشٌ ...
وقد ذييلها، السيد أحدهم فقال:

على سالِفٍ لو كان يُشْرَى زمانـــــــهُ.........شَرَيْتُ ولكن لا يُبـــــــــــــاعُ بِروُحِي
تَقضَّى وأبْقَى لاَعِجــــــــــــــاً يسْتفِزُّه.........تــألُّق رْقٍ أو تنسُّمُ رِيـــــــــــــــــــــــــحِ
وقَلْباً إلى الأطْلالِ والضَّالِ لم يزَلْ ........نَزُوعاً وعن أفْيــــــــــــــاهُ غيرَ نَزُوحِ
فليت بذاتِ الضَّـــــــــالِ نُجْبُ أحِبَّتِي ........طِلاحٌ فنِضوُ الشوقِ غـــــــــــيرُ طَلِيحِ
يُجشِّمُــــــــــــــــــــه بالأبْرَقَيْنِ مُنَيْزِلٌ ........وبَرْقٌ سَرى وَهْناً وصـوتُ صَـــــــدُوحِ
وموقفُ بَيْنٍ لو أرى عنــــــــه مَوْلِجاً ........وَلَجْتُ بنفسِي فيـــــــــــــه غيرَ شَحيحِ
صَرَمْتُ بـــــــــه رَبْعِي وواصلتُ أرْبُعِي ........وأرْضيْتُ تَبْريحِي وعِفْــــتُ نَصِيحي
وبايَنْتُ سُلْواني وكـــــــــــــــــــــلَّ مُلَوّحٍ ........ولاءَمْتُ أشْجانِي وكُلَّ مَلِيـــــــــــــــــــحِ
وكلَّفْتُ نفسِي فوق طَوْقِي فلـم أُطِقْ ........لِعَــــدِّ سَجايا مُحْسِنٍ بمديــــــــــــــــــحِ

وهاهي كما وردت في{دواوين الشعر العربي على مر العصور (ج 35 / ص 339) } منسوبة للشاعر ابن معصوم المدني ، وهو من شعراء العصر الأندلسيِّ

ولي كبدٌ مقروحــــــــــــــــة ٌ من يبيعني ......بها كبداً ليست بــــــــــــــــذات قروح
أبى الناسُ وَيْبَ الناس لا يَشترونها ......ومـــن يشتري ذا علــــــــــــــــة ٍ بصحيح
أئنُّ من الشَّوق الذي في جَـــــــــوانحي.......أنينَ غَصيصٍ بالشراب قَـــرِيـــــــــــحِ
وأبكي بعينٍ لا تكف غروبهـــــــــــــــا...وأصْبو بقلبٍ بالغَرام جَريـــــــــــــــــحِ
وألتاعُ وجداً كلَّما هبَّت الصَّبـــــــــــــا.......بنَشر خُزامى أو بنفحة ِ شيـــــــــــــــح
إلى اللَّه قلبــــــــــــــــــاً لا يزالُ معذَّباًً....... بِتأنيبِ لاحٍ أو بهجرِ مَليــــــــــــــــــــحِ
فيا عصرَنا بالرَّقمتين الذي خَـــــلا.......لك الله جدباً بالقرب بعد نـــــزوح
أرقت وقــــــــــد نام الخلي من الأسى .......لــبرقٍ بأعلى الرقمتــــــــــــــــــين لموح
فبت كمــــــــــــــــا بات السليم مسهداً .......بجَفنٍ على تـــــــــــلك السُّفوح سَفوح
يهيج أشجاني ترنم صــــــــــــــــــادحٍ ........ويوقظ أحزاني تنسم ريـــــــــــــــــــح
فللَّه بالجَرعــــــــــــــاء حيٌّ عَهِدتُهم ........يحلون منها في معاهد فيـــــــــــــــــــح
ليالي ليلي من بهيم ذوائـــــــــــــــــبٍ ........ وصبحي من وجــــــــــــــــه أعر صبيح
هُمُ نُجْحُ آمالي ونَيلُ مـــــــــــــــــآربي........ وصحَّة ُ أسقـــــــــــــامي وراحةُ رُوحي
لئن مرَّ دهرٌ بالتَّنائي فقد حــــــــلا.........غَبوقي بهم فيمـــــا مضى وصَبُوحي
ــ 33 ــ

كلُّ امرئ صائر يوماً لشيمته ............. وإن تخلق أخلاقاً ألى حــــــين

هو لذي الأصبع العدواني واسمه حرثان بن محرب من قصيدة طويلة قالها في ابن عمه عمرو يعاتبه ويحذِّرُه ردّاً على ما لاقاه من إساءاته ، وقد اخترنا منها الأبيات الآتية :

يا من لقلبٍ طويـــــلِ البَثِّ مَحزونِ ...........أمسى تَذَكّرَ ريّــــــــــــــــا أُمَّ هارون

نرمي الوشاة فلا تحظى مقاتلهم ............بصادقٍ من صفــــــــاء الودِّ مكنون
ولي ابنُ عمٍّ على ما كان من خلق .............مختلفان فأقليــــــــــــــه ويقليني
أزرى بنا أننا شالت نعامتنـــــــا ..............فخَالَني دونَه وخِلْتُـــــــــــه دوني
لولا أواصرُ قُربى لستَ تحفظُها ..............ورهبــــــةُ الله في مولىً يُعاديني
إذاً بريتك برياً لا انجبار لـــــه ...............إني رأيتك لا تنفك تـــــــبريني
إن الذي يقبض الدنيا ويبسطها ...........إن كان أغناك عني سوف يغنيني
ألله يعلمني والله يعلمكــــــــــــــــــم ............والله يجزيــــــــكم عني ويجزيني
مــاذا عليّ وإن كنتم ذوي رحمـــي ............ألا أحبكم إذ لـــــــــــــــــــم تحبوني
لو تشربون دمي لم يرو شاربكم ............ ولا دمـــــــــــــــاؤكم جمعاً ترويني
ولي ابنُ عمٍّ لَوَ انَّ الناسَ في كَبَدٍ ............لظلّ مُحْتَجِراً بالنَبْـــــــلِ يَرميني
*****
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ..........أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
عني إليك فما أمي براعيــــــــــــة........... ترعى المُخــــاضَ ولا رأيي بمغبون
إني أبيٌّ أبيٌّ ذو محافظـــــــــــــــــة ........... وابــن أبيٍّ أبيٍّ من أَبيِّـــــــــــــــــــــــين
عَفٌّ نَدودٌ إذا مــــــا خفتُ من بلدٍ ............هُوناً فلستُ بوقّـــــــافٍ على الهُونِ
كلُّ امرئ صائرٌ يوماً لِشِيمَتِـــــــهِ ............وإن تخلّق أخلاقــــــــــــــــــاً إلى حين
واللهِ لو كرِهتْ كفّي مُصـــــاحَبَتي ............لقلتُ ــ إذ كرهتْ قُربي ــ لها بيني
إنّي لَعَمْرُك ما بابي بــــــذي غَلَقٍ ............عن الصديق ولا خــــــيري بممنون











ــ 34 ــ

فإن تكن الأيام فينـــــا تبدلت ............... ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل

هذا البيت لإبراهيم بن كنيف النَبهانيِّ من شعراءِ الحماسة ، من قصيدة جيدة، ولهذه القصيدة قصّة مفيدة نختصرها بما هو آت :
يروى أن رجلاً من طلبة العلم وعشاق الأدب قصد البادية طلباً لنديد الشعر وجميله ، فنَزل على رجل من أهل القصيم واسعِ الرحلِ كريمِ الَمحَلِّ وطال ثُواؤهُ دون أن يحصل على مبتغاه ، فاستأذن مضيفَه في العودة إلى أهله ، وأبى الرجل إلاّ أن يحمله ، وبين هُما في الطريق لقيا شيخاً يترنّمُ بشعرٍ ، فألقى له الرجلُ كيساً من دراهم ثم قال: أنشدنا رحمَكَ اللهُ وتَصدَّقْ على هذا الغريب بأبياتٍ يَعيهِنَّ عنك ، ويذكُرُك بهِنَّ ، فأنشد الشيخ : تَعَزَّ فإن الصبر بالحر أجمل ......إلخ
قال طالب العلم : فقمت والله وقد أُنسيت أهلي ، وهان عليَّ طولُ الغربة وشَظَفُ العيش سروراً بما سمعت ، ثم قال لي الشيخُ: يا بُنيَّ مَن لم تكن استفادةُ الأدبِ أحبَّ إليه من الأهل والمال لم يَنْجُبْ .
فانظر رحمك الله كيف كان ينظر سلفُنا الصالحُ إلى العلم والأدب ، وكم تحمّلوا
في سبيل ذلك ، ولذلك فقد بنوا للإنسانية صرح حضارة عظيمة ، وهذا نَصُّ القصيدة
التي منها بيت الشاهد:
تَعَزَّ فإِنَّ الصَّبرَ بِالحُرِّ أجْمَـــــــــــــــــلُ ........وَليْسَ عَلَى رِيَـــــــبِ الزَّمَــــانِ مُعَوَّلُ
فَلوْ كانَ يُغْنِي أنْ يُرَى الْمرْءُ جَازِعًا........ لِحَــــــــادِثــــةٍ أوْ كان يُغْني التَّذَلُّلُ
لكَانَ التَّعَزِّي عِنْدَ كلِّ مُصِيبَــــــــــــــةٍ ........ونَائِبَــــــــــــــــةٍ بِالحُرِّ أوْلَى وَأجْمَلُ
فَكَيْفَ وكلٌّ لَيْسَ يَعْدُ وحِمَامَــــــــــــهُ........ وَمَا لاِمْرئٍ عَمّــــــا قَضَى اللهُ مَزْحَلُ
فإنَّ تَكُنِ الأيَّـــــامُ فِينَــــــــا تَبَدَّلَتْ ........ بِبُؤْسَى وَنُعْمَى وَالْحَــــــــوَادِثُ تَفْعـلُ
فَما ليَّنَتْ مِنَّا قَناةً صَليبَــــــــــــــــــةً ........ وَلا ذَلَّلتْنـــــــــا لِلتي لَيْسَ تَجْمُــــــــلُ
وَلكِنْ رَحَلْناهَا نُفُوساً كَرِيمَــــــــــــةً ........ تُحَمَّلُ مـــــــــالاَ يُستَطاعُ فتَحْمِـــــــلُ
وَقَيْنا بِحُسْنِ الصبرِ مِنّا نُفُوسَنَـــــا.........فَصَحَّتْ لنا الأعرَاضُ والناَّسُ هُزَّلُ

في المعنى

ــ تَعَزَّ : أي تَصَبَّرْ وتَحَمَّلْ ، والرِيَبُ:صروف الدهر ، مُعَوَّلُ : أي تعويل واعتماد يقول تصبر فإن الصبر بالرجل الكريم أحسن ، فإنّ الزمانَ متقلبٌ متغيرٌ لا يبقى على حال .
ــ يُغني : أي ينفع ، والجَزَعُ: نقيضُ الصبر ، والتذلُّلُ : الخضوعُ والخشوعُ .
ــ التعزي : التَصَبُّرُ ، يقولُ: ولو كان في الجَزَعِ منفعةٌ ما كان لِيَحْسُنُ من حرٍّ كريمٍ فكيفَ وليس فيه منفعة .
ــ يعدو : يتجاوز ، والمَزْحَلُ : المَبْعَدُ ، من زَحَلَ عن مكانه إذا تَباعَدَ عنه ، أي لا يتجاوز أحدٌ ما قَدَّرَهُ اللهُ عليه .
ــ البؤسى: اسمٌ للبؤسِ وشِدَّةِ الحاجة ، والتَبَدُّلُ : الاختلافُ ، والنُعمى: ضدُّ البؤسى ، والحوادثُ تفعل : اعتراضٌ .
ــ قناة بني فلان صليبةٌ أو صلبةٌ:أي هم أعزّاءُ أشدّاءُ ، وقناةُ بني فلانٍ لَيِّنةٌ: أي هم ضِعافٌ .
ــ رحلناها: الضميرُ للحوادث ، أي رحلنا إليها بنفوس كريمة ، وحمَّلنا نفوسَنا ما لا تُطيق مِن أثقالِ الدهرِ فحمَلَتْهُ.
ــ وقينا بحسن الصبر....إلخ : معناه أنّنا بصبرِنا صَحّتْ ، لنا أعراضُنا وسلمت فيما أعراضُ الناس مثلومة لقلَّةِ صبرِهم على الشدائد .



ــ 35 ــ

وإنّمــــــــــــــــا أولادُنا بيننا ................. أكبادنا تمشي على الأرض

هذا البيت لحِطّان بنِ المُعلّى ، وهو شاعر إسلامي من شعراء الحماسة ، من قصيدة جاء فيها :

أَنْزَلَنِي الدَّهْرُ على حُكْمِـــهِ ................... مِن شامِــــــــــــخٍ عالٍ إلى خَفْضِ
وغالَنِي الدَّهْرُ بوَفْرِ الغِنَى ................... فَلَيْس لِي مـــــــالٌ سِوَى عِرْضِي
أَبْكانِيَ الدَّهْرُ ويا رُبَّمــــــــا ................... أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ بِمــــا يُرْضِي
لَوْلا بُنَيَّاتٌ كَزُغْبِ القَطــــا .................... رُدِدْنَ مـــــــــــــن بَعْضٍ إلى بَعْضِ
لَكانَ لِي مُضْطَرَبٌ واسِــــــعٌ ..................... مِن لأَرْضِ ذاتُ الطُّولِ والعَرْضِ
وإنّما أوْلاُدنا بَيْنَنـــــــــــــــا ..................... أَكْبـــــادُنا تَمْشِي على الأَرْض
لو هبَّتِ الريحُ على بعضِهم .......................لامتنعت عيني مـــــن الغمض
هذه القصيدة من أعذب ما قيل من شعر في الولد الذي هو ثمرة الفؤاد ــ على حدِّ قول حكيم العرب الأحنف بن قيس ــ فقد روي عنه قولُه للخليفة الأموي الأول معاويةَ بنِ أبي سُفيان رضي الله عنهما وقد غضب من ابنه يزيد ، وهجره ، فاستعطفه له الأحنف ، قائلاً له: يا أميرَ المؤمنين ، أولادُنا ثمارُ قلوبنا ، وعمادُ ظهورِنا ، ونحن لهم سماءٌ ظليلةٌ ، وأرضٌ ذليلةٌ ، فإن غَضِبوا فأرضِهِمْ ، وإن سألوا فأعْطِهم ، فلا تكن عليهم قُفلاً فيمَـلُّوا حياتَك ، ويتمنَّوا موتَك .
وقيل:وَلَدُ الرجلِ من أطيبِ كَسْبِهِ. وابنُك ريحانُك سبْعاً وخادمُك سبْعاً؛ ووزيرُك سبْعاً ، ثم هو صديقٌ أثيرٌ أو عدوٌ كبيرٌ .
وقيل لبعضهم: أيُّ وِلْدِكَ أَحَبُّ إليك ؟ فقال:صغيرُهم حتى يَكبرَ ، وغائبُهم حتى يَقْدُمَ ، ومريضُهم حتى يَبرأَ
وهي سنّةُ الله في خلقه بما أودع من رحمة في قلوب الوالدين ، ليتحمّلا ما يكون من عذاب وشقاء في تربية الأولاد ، وهذه الرحمة المودعة في قلوب الآباء ، وهذا الحبُّ لا حدود له ، بحيث كان الولدُ أحبَّ من النفس ، والأمثلة على ذلك تستعصي على الحصر .
من ذلك ما يروى أنَّ رجلاً ضُرِبَ على مالٍ فلم يسمح به، فأُخِذَ ابنُهُ وضُرِبَ فجَزِعَ وأعطى ، فسئل عن ذلك فقال: ضُرِبَ جلدي فصبرت وضُرِبَ كبِدي فلم أصبرْ.
وهذا سيد الكائنات عليه الصلاة والسلام بينما هو يخطب إذ دخل الحسن رضي الله عنه وكان طفلاً صغيراً فقطع عليه الصلاة والسلام الخطبة ونزل فتناوله .
وهذه ابنته سيدة نساء العالمين رضي الله عنها تُرَقصُ الحسين بن عليٍّ رضي اللهّ عنهما وتقول:

إنّ بُني شِبْه النبي ........................................ ليس شَبيهاً بعَلي

وكان الزُّبير رضي الله عنه يُرَقص عُرْوَة ولدَه من أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ويقول

أَبْيَضُ من آل أبي عَتِيقِ ............................... مُبارَكٌ مِن وَلدِ الصِّدِّيقِ
أَلَذُّهُ كما أَلَذُّ رِيقي

ولم يودع مثلَه في قلوب الأبناء ، إنّما فرض عليهم البرَّ بالوالدين ، وقرن طاعتهما بطاعته فمن فعل فقد فاز برضا الله والسعادة دنياً وأخرى ، وأين عمل المحب من عمل الواجب ، لذلك قال المتنبي:

إنما أنت والدٌ والأبُ القا ...................... طع أحْنى من واصلِ الأولادِ

بل إنّ كثيراً من الأولاد ما يكون سبب شقاء الآباء وتعاستهم ، نَظرَ سيدنا عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى رجل يحمل طِفْلاً على عُنقه، فقال: ما هذا منك ؟ قال: ابني يا أميرَ المؤمنين ، قال: أمَا إنه إن عاش فَتَنَك، وإن مات أحزَنك.
وحقُّ الوالد على الولد كثيرُ فيما فرض الله ورسولُه ، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتبر مالَ الولد مالاً للوالد ، كيف لا والولد ملك أبيه قال عليه الصلاة والسلام : ((أنت ومالك لأبيك)) وقال: أولادُكم كَسْبُكم فكلوا من أموالكم .

في المعنى

أنزلني الدهر على حكمه ........................... من شامخٍ عالٍ إلى خفض

يقول للدهر حكمٌ معروفٌ، وطريقٌ مألوفٌ، في رفع الوضيع ، وحَطِّ الرفيع ، فأجرى حكمه عليَّ ، وأنزلني عن رتبةٍ عاليةٍ إلى منزلةٍ منخفضةٍ، والخفض: ضد الرفع ، و(خفض) مصدرٌ بمعنى مخفوض

وغالني الدهر بِوَفْرِ الغِنى ....................... فليس لي مالٌ سوى عِرضي

ويروى: عالني ومعناه غلبني، ويروى: غالني ومعناه أهلكني بارتجاع عواريه من المال ، واستلاب ما كنت وفّرتُه من العتاد ، فمالي مالٌ سوى نفسي ، وليس النفس من المال في شيءٍ. وموضع سوى نصبٌ على أنه استثناءٌ خارجٌ ، وهذا الاستثناء يتأكد به انتفاء الغنى. ومثله قوله:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم .................... بهن فلولٌ من قراع الكتائب

ويجوز أن يكون المعنى: ليس لي غنىً سوى غنى نفسي ، فحذف المضاف ،
والمعنى: إن نفسي غنيّةٌ فلا تطمع في المكاسب الوضيعة ، ولا تتدنّس بالمآكل الخبيثة. وقوله بوَفْر الغنى أي بسلب وفر الغنى، فحذف المضاف. ويتعلق الباء منه بقوله غالني. والوفر: كثرة المال ، وأضافه إلى الغنى، لأن المراد المال الذي يحصل به الغنى. والعرب يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى مناسبة بينهما ، سواءٌ كان له أو عليه ، أو معه أو فيه، أو من أجله، أو مما يليه. ويجوز أن يكون موضع (بوفر)الغنى) نصباً على الحال للدهر ، كما تقول: فاتني فلانٌ بكذا، والمعنى فاتني مستصحباً له. ومثله: جاء في أطمارٍ ، أي لابساً لها
ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى ، فعدّى غالني تعديةَ فجعني ، لأنّه في معناه فكأنّه قال: فجَعني بوفر الغنى وأصابني.

أبكاني الدهر ويا ربما .......................... أضحكني الدهر بما يرضي

قوله بما يرضي يدل على أنه أضمر مع قوله أبكاني الدهر شيئاً يكون في مقابلته، وحذف لأنّ المرادَ مفهومٌ. والمعنى أبكاني الدهرُ بما يُسخط.
ــ يا ربما : يا : للتنبيه ، وهذا اللفظ يقصد منه التكثير ويا ربّما المنادى فيه محذوف ، كأنّه قال: يا قوم ربما. وهذا النداء على وجه التحسُّر والتوجُّع من معاملة الدهر وسوءِ تنقُّله. وقوله (ربما) هذه دخلت (ما ) كافّة لعمل (رب)

لولا بنياتٌ كزغب القطا ............................ رُدِدْنَ من بعضٍ إلى بعض

بنياتٌ في موضع المبتدأ، وجاز الابتداء به لكونه محدوداً بما اتصل به من الصفات. وجواب لولا لكان لي مضطربٌ واسعٌ وهو أول البيت الذي يليه، واستغنى به عن خبر المبتدأ ، والتقدير: لولا بنياتٌ صفاتهن هذه مانعةٌ لي لفعلت. ومعنى البيت: لولا بنياتٌ لي صغيراتٌ كفراخ القطا التي عليها الزغب .
ــ وهو الشعر اللين لصغرهن ــ اجتمعن لي في مدةٍ يسيرةٍ، فمن ثانيةٍ بعد أولى ، ومن واحدةٍ إلى جنب أخرى فكَثُرْنَ .
وقد جاءت بعض هنا في غاية اللين والجمال برغم كونها غير مستملحة في الشعر ، ويضرب به المثل لمقدرة الشاعر على تذليل الصعب وتيسر العسير، وتهجين المستوحش من الألفاظ والمفردات ، لا حظ الفرق الشاسع بين (بعض) حِطّان ، هذه ، وبين (بعض) البحتري في قوله:

ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها ................ نعم ونسألها عن بعض أهليها
فأين هذه من تلك في حلاوتها وطلاوتها ، رغم علو كعب البحتري .
ويروى: " رَدَدْنَ من بعضي إلى بعضي " ، بفتح الراء من رددن وإضافة البعض، والمعنى: قَوّسْنَني وحَنَيْنَ ظَهري. لكن الرواية الأولى أحلى

لكان لي مضطربٌ واســــــعٌ ..................... في الأرض ذات الطول والعرض

المضطرب يكون الاضطراب ، ويكون موضع الاضطراب. يقول: لولا خوفي من ضياعهن وإبقائي عليهن ، لكان لي مجالٌ واسعٌ ، ومذهبٌ فسيحٌ في الأرض الطويلة العريضة. وإنما لزمت مكاني بسببهن.

وإنما أولادنا بيننـــــــــــــــــــــا...................... أكبادنا تمشي على الأرض

وهنا يبلغ الشاعر ذروة الإبداع إذ ما فتئ هذا البيت مستحسناً بين الناس على اختلاف أذواقهم ومشاربهم يرددونه ويترنّمون به من جيل إلى جيل، ويضمّنه الشعراء قصائدهم ، ومنه يقتبسون
يقول: محل أولادنا من أنفسنا فيما بيننا وإن كانت ماشية على الأرض محل الأكباد من الأجواف (الولد فلذةٌ من الكبدي )" أي قطعةٌ، وقوله تمشي على الأرض" في موضع الحال للأولاد ، وبيننا ظرفٌ لتمشي. والتقدير: أولادنا وهي ماشيةٌ على الأرض بيننا أكبادنا. وقوله (إنّما )" يفيد تحقيق الشيء على وجهٍ مع نفي غيرِه عنه.
لو هبت الريح إلى آخره معناه إنه لا يطمئن إلا إذا كانوا سالمين بأجمعهم



ــ 36 ــ

إذا ما غضبنا غضبة مضريَّــــــةً....هتكنا حجاب الشمس أو أقطرت دما

هو أفخر بيت قالته العرب ، وهو للقحيف ابن خمير بن سليم الندي بن عبد الله بن عوف بن حزن بن خفاجة بن عمرو بن عقيل. شاعر إسلامي كوفي أدرك الدولة العباسية ، وهو شاعر محسن كثير الذَبِّ عن قومه ، وهو القائل:

لقد لقيت أفناءُ بكرَ بنِ وائلٍ..............وهَزّانُ بالبطحاء ضَرباً غَشَمْشَمــــا
إذا ما غضبنا غضبةً مضريةً ..............هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة .............ذرى منــــبرٍ صلى علينا وسلمـــــــــــــــا

وقيل هو لبشار بن برد من قصيدة مثبتة في ديوانه يقول فيها :
أبَى طَلَلٌ بِالجِزْعِ أَنْ يتكلمـــــــــــــــــا........ومـــــــــاذا عليه لو أجاب متيَّمــــــــــا
وبالفرع آثارٌ بقــــــــين وباللـــــــوى ....... مــــــــــلاعبُ لا يُعرفن إلا توهُّمــــــــــا
إذا ما غضبنا غضبةٍ مضريــــــــــــــــةً........هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْسِ أوْ تُمطِر دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلــــــــــــــــةٍ........ذُرَا مِنْبَرٍ صَلَّى علَينا وسَلَّمــــــــــــــــــا
وإنا لقومٌ ما تزالُ جيادنـــــــــــــــــــا ........تساورُ ملكاً أو تناهبُ مغنمــــــــــــــا
خلقنا سماءً فوقنا بنجومهـــــــــــــــا........سيوفا ونقعا يقبض الطرفَ أقتمــا
ومحبس يوم جرَّت الحربُ ضنكــــــهُ........دنا ظلُّه واحمرّ حتى تحمَّمــــــــــــــــا
تفوَّقتُ أخلاقَ الصِّبا وتقـــدَّمــــــــت........هموميَ حتَّى لم أجــــــــــد متقدَّمـــــــا
فهذا أوان استحيت النفسُ وارعـوى....... لِدَاتي وراجعتُ الذي كان أَقْوَمَــــــا
ويومٍ كتنُّور الإماء سَجَرْنَـــــــــــــــــــــه .......وأوقدنَ فيه الجزل حتَّى تضرَّمــــــا
رميت بنفسي في أجيج سَمُومِـــــــــــــه ...... وبالعيس حتى بضَّ منخرُها دمَــــــــا

حِجابُ الشمس: المقصود به هنا ضَوؤُها ،
وأفناء الناس: من لا يعرف من أين جاء ، وهو جمع لا مفرد له

وقيل إنّ البيتين الثالث والرابع من هذه القصيدة منقولان ، فالأول أنشده أبو هلال العسكري للقُحيف:

إذا ما فتكنا فتكةً مضريَّــــــــةً ............ هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

والثاني هو بيت جريرٍ بعينه:

منابرُ مُلكٍ كلُّها مُضَريَّـــــــــــــة .............. يُصلّي علينا من أعرناه منــــــــــبرا

وقد هجا بشار الخليفة المهدي ، فأمر به فقتل تغريقاً في الماء.
وعن خلاّد قال: قلت لبشار: إنك لتجيء بالشيء المهجر المتفاوت ، قال: وما ذاك؟ قلت: له تقول شعراً تُثير به النقع وتخلع به القلوب مثل قولك:

إذا ما غضبنا غضبة مضرية ..............هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة.............. ذرى منبر صلى علينا وسلمــــــــــــــــا

إلى أن تقول :
ربابة ربّـــــةُ البيت ................................. تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات................................. وديــــــك حسن الصوت

فقال: لكل شيء وجهٌ وموضعٌ ، فالقول الأول جِدٌّ ، وهذا قلتُه في جاريتي ربابة
وأنا لا آكل البيض من السوق ، فربابة هذه لها عشر دجاجات وديك ، فهي تجمع البيض وتحفظُه ، فهذا عندها أحسن من قول: ((قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ) عندك .












ــ 37 ــ

إن الثمانين (وبلغتَهــــــــــــــــــا) ......... قد أحوجت سمعي إلى تَرجُمان

لعوف بن ملحم الشيباني ، ونسب إلى جرير وإلى أبي الشيص الخزاعي أيضاً ، وعوف شاعر مجيد كان نديماً لطاهر بن الحسين ثلاثين سنة ثم لابنه من بعده ، وهذا البيت من قصيدة قالها لعبد الله بن طاهر وقد دخل عليه وكلّمه فلم يسمع ، فارتجل القصيدة
وروي في سبب هذه القصيدة أنَّ عوفاً دخل على عبد الله بن طاهر ، فسلم عليه عبد الله فلم يسمع ، فأعلم بذلك ، فزعموا أنه ارتجل هذه القصيدة ارتجالا ، فأنشده:

يا بن الذي دان له المشرقان ............... طُـرّاً وقد دان لـــــــــــــه المغربان
إن الثمانين ــ وبلِّغتَهــــــــــــــــا................ قد أحوجت شمعى إلى ترجمــان
وبدَّلَتْني من زمـــــــــاع الفتى ................وهِمَّتي هَـمَّ الجبـــــــــــان الهدان
وقاربت مني خُطاً لم تـــــكن ................مقــارَباتٍ وثَنَتْ من عنـــــــــــــــان
وأنشأت بيني وبــــــين الورى ................عنـانة من غير نسج العنـــــــــــان
ولم تَدَعْ فيَّ لمستمتــــــــــــــــــعٍ ................ إلاّ لساني وبحسبي لســـــــــــــان
أدعو به اللهُ وأثنى بــــــــــــــه ................ على الأمير المصعبيِّ الهجــــــــان
فقَرِّباني بأبي أنتمـــــــــــــــــا ................ من وطني قبل اصفرارِ البَنـــان
وقبل مَنْعايَ إلى نِســـــــــــــــوةٍ ................أوطانها حَرَّانُ والرَقَّتـــــــــــــان
سقى قصورَ الشَّاذياخِ الحيا ................ بعدَ وَداعي وقصورَ الميــــــــــــــان
فكمْ وكمْ من دَعوةٍ لي بهــــــــا ................. أنْ تَتخطَّاها صُروفُ الزَّمــــــــان

وقيل في سببها أيضاً أنَّ عبدَ الله بنَ طاهرٍ خرج من بغدادَ يريد خراسان ، فصير عوفاً عديله يستمتع بمسامرته ، ويرتاح إلى محادثته إلى أن دنا من الري ، فلمّا شارفها سمعَ صوتَ عندليبٍ يغرِّد بأحسنِ تغريدٍ وأشجى صوت ، فأُعجِبَ عبدُ الله بصوته، والتفتَ إلى عوفٍ بنِ محلمٍ فقال له: يا بن محلم ، هل سمعتَ قطُّ أَشجى من هذا الصوتِ وأطربَ منه؟ فقال: لا والله أيّها الأمير ، وإنّه لَحَسَنُ الصوت ، شَجِيُّ النَغْمَةِ ، مُطرِبُ التغريد ، فقال عبدُ الله: قاتلَ اللهُ أبا كبيرٍ حيث يقول:
ألا يا حمامَ الأيْك إِلْفُكَ حاضرٌ ................ وغُصنُك ميّادٌ ففيم تنـــــوح؟
أفق لا تنح من غير شيء فــإنني ................ بكيت زماناً والفؤاد صحيـــــح
ولوعاً فَشَطَّتْ غربةُ دارِ زيـــنبٍ ............... فها أنا أبكي والفؤادُ قَريـــــح
فقال عوف: أَحْسَنَ واللهِ أبو كبير وأجاد ، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّه كان في الهذليين مئة وثلاثون شاعراً ما فيهم إلاّ مُفلِقٌ، وما كان فيهم مثل أبي كبير ، فإنَّه كان يُبدعُ في شعره ، ويُفهَمُ آخرُ قولِه وأولُه ، وما شيء أبلغُ في الشعر من الإبداع فيه.
قال عبدُ الله: أقسمتُ عليك إلاّ أجزت شعرَ أبي كبيرٍ ؟ قال عوف: أصلح الله الأمير ، قد كبر سِنّي، وفنِيَ ذِهني ، وأنكرت كلَّ ما كنتُ أعرِفُه. قال عبدُ الله: سألتُك بحقِّ طاهرٍ إلاّ فعلتَ؟ وكان لا يُسألُ بحقِّ طاهرٍ شيئاً إلاّ ابتدرَ إليه ، لما كان يُوجِبُه له، فلمّا سَمِع عوفٌ ذلك أنشأ يقول:

أفي كلِّ عـــــــــامٍ غُربـــــــــــــــةٌ ونُزوحُ......... أَمَــا للنوى مِنْ وِنْيَـــــــةٍ فتريـــــح؟
لقد طلَحَ البينُ المُشِتُّ ركـــــــــــــــائبي.........فهـل أُرينَّ البينَ وهـــــــــو طَليـــح؟
وأرّقني بالرَيِّ نوحُ حمامــــــــــــــــــــة.........فنُحتُ وذو البَثِّ الغريــــــــبُ يَنوحُ
على أنها ناحت ولم تُذْرِ دمعــــــــــــــةً.........ونُحْتُ وأَســـــــــرابُ الدموعِ سُفوحُ
وناحت وفرخاها بحيث تراهمــــــــا.........ومِن دونِ أفــراخي مَهامِهُ فِيـــــــــحُ
ألا يا حمامَ الأَيكِ إلفُكَ حاضــــــــــرٌ.........وغُصنُك مَيّـــــــــــادٌ ففيمَ تَنـــوح؟
عسى جودُ عبدِ اللهِ أن يَعكس النوى .........فيُلقي عصا التَطواف وهي طريح
إنَّ الغِنى يُدْني الفتى من صديقـــــه.........وعـــــــدمُ الغِنى بالمُقْتِرينَ طَروحُ
قال: فاستعبرَ عبدُ الله ورقَّ له، وجرت دموعُه وقال له: والله إني لضنينٌ بمفارقتِكَ، شحيحٌ على الفائت من محاضرتِكَ، ولكن واللهِ لا أَعْمَلْتَ معي خُفّاً ولا حافراً إلا راجعاً إلى أهلك ، ثمّ أمرَ له بثلاثين ألف درهم. فقال يمدح عبد الله وأباه:

يا بن الذي دان له المشرقان ...إلخ

قوله وبلغتها حشوٌ أحسنُ من البيت وبه يضرب المثل عليه. وهو اعتراض والجملة الاعتراضية: وتقع بين مُتَطالِبَيْن: كالمبتدأ والخبر ــ الفعل وفاعله ــ الفعل ومفعوله ـــ الموصوف وصفته .
واعلم أن الاعتراض هو: أن تذكر في البيت جملة معترضة ، لا تكون زائدة ، بل يكون فيها فائدة ، مثل قوله: إنَّ الثمانينَ ــ وبُلّغْتَها ــ وكقول المتنبي:

وتحتقرُ الدنيا احتقارَ مجربٍ ... ..........تَرى كلَّ ما فيها وحاشاكَ فانيا

احترز بقوله: حاشاك، من دخوله في الفناء.
وقوله ــ بُلغْتَها ، التفاتٌ ، وقد عدّه جماعة من الناس تتميماً ، والالتفاتُ أَشكَلُ وأولى بمعناه ، ومنزلةُ الالتفات في وسط البيت كمنزلة الاستطراد في آخر البيت
هذا وساقه علماء اللغة من شواهد التتميم ولكنّه أبلغُ شواهدِ التكميل فإن معنى البيت تام بدون لفظةِ (وبلغتَها) وإذا لم يكن المعنى ناقصاً فكيف يسمى هذا تتميماً ؟ إنّما هو تكميلٌ حَسَنٌ .
قال ابن أبي الأصبع وما غلطهم إلا أنهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ وتتميم المعاني ، فلو سُمّيَ مثلُ هذا تتميماً للوزن لكان قريباً ، ولما ساقوه على أنّه من تتميم المعاني ، وهذا غلطٌ ، والفرق بين التتميم والتكميل أن التتميمَ يَرِدُ على المعنى الناقِصِ فيُتَمِّمُه ، والتكميلُ يَرِدُ على المعنى التامِّ فيُكمِّلُه ، إذ الكمال أمرٌ زائدٌ على التمام .


ــ 38 ــ

لا يعرف الشوقَ إلاّ من يكابده ........... ولا الصبابةَ إلاّ مَن يعانيهـــــا

هو للأبله البغدادي ، أبو عبد الله محمد بن بختيار بن الوَلَد ، من شعراء الخريدة ، شاعرٌ مُوَلَّدٌ رقيقٌ أحد المشاهير المُجيدين ، جمع شعرُه بين الصناعة والرقّة وله ديوان .
ذكره العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب " الخريدة ، فقال: هو شاب ظريف يتزيا بِزِيِّ الجُنْد ، رقيقُ أُسلوبِ الشِعرِ ، حلوُ الصناعةِ ، رائقُ البراعة عذبُ اللفظ ، أرقُّ من النسيم السِحْريِّ ، وأحسنُ من الوَشْيِ التَسْتُرِيِّ ، وكلّ ما ينظمه ــ ولو أنّه يسيرٌ ــ يَسيرُ ، والمغنون يغنون برائقاتِ أبياتِه عن أصواتِ القدماءِ ، فهم يتهافتون على نظمِه المطربِ تهافتَ الطيرِ الحُوَّمِ على عذب المشرب ، توفّي أواخرَ القرن السادس الهجري ، ولُقِّبَ بالأَبلهِ لقوَّةِ ذَكائه ، وهذا البيت من مقطوعة جيدة ، نَسَبَها بعضُهم لغيره ، وقد جاء فيها:
.
يا مَنْ أنامِلُه كالمُزْنِ هــــــــــاطلــــــــةٌ............وجودُ كفّيْه أجرى من مَجاريهــا
سفينة الفقر في بحر الرجا وقفت ........... فامنن على بريح منك يجريهـا
بحق من خلق الإنســـــــــــــان من علق ......... انظر إلى رقعتي وافهم معانيهــا
إني فقير مسكين بــــــــــــــــــــــــلا سبب ......... سوى حروف من القرآن أتلوهـــــا
لا يعرف الشوق إلا من يكــــــــــــابده ......... ولا الصبابة إلا من يعانيهـــــــــــا
لا أوحش الله منكم من يحبكــــــــــــم ......... وأنس الله دارا أنتم فيهـــــــــــــــــا

وقد كثر تمثل الناس بهذا البيت ، من ذلك قصة طريفة رويت عن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان حيث ذكر الذهبيُّ في السِيَرِ عنه أنّه لمّا حضرته الوفاةُ ، سَمِعَ وهو في سكرات الموت غَسَّالاً في وادٍ بجانب قصرِهِ ، يترنم بهذا البيت . فأخذ عبدُ الملك يلصق وجهه بالتراب ويبكي ويقول: يا ليتني كنت غسالاً ، يا ليتني ما عرفت الحياة ، يا ليتني ما توليتُ الخلافة.






ــ 39 ــ

ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً ....... ويأتيك بالأخبــــارِ من لم تزوّد

هو لطرفة بن العبد من أمثاله السائرة على وجه الدهر ، ومعناه: ستُظهر لك الأيامُ ما لم تكن تعلمه، ويأتيك بالأخبار من لم تسألْه ، وقيل ستُطلعُك الأيامُ على ما تغفل عنه ، وبعده :
ويأتيك بالأخبار من لم تَبِعْ له ......بِتاتاًً،ولم تَضْرِبْ له وقتََ موعد
وتَبِعْ له بتاتاً : أي تشتري له زادا. وقد تأتي باع بمعنى اشترى ، كما هو في البيت ، والبتاتُ: كساء المسافر وأداته ، والجمع أبتّة. ولم تضرب له: أي لم تُبيّنْ له. كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًاً} أي بيّن وأوضح .
وقد كان النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يتمثّل بهذا البيت إلاّ إنه ــ وهو القرشي المضري ــ مع أصالته في الأدب الرفيع ، كان لا يُحسن إنشادَه ، حيث أنشده يوماً فقال:

ستُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً...............ويأتيك من لم تزودْهُ بالأخبارِ
فقال أبو بكر رضي الله عنه : والله إنّك لرسول ُالله ، إذ عَجُزُ البيتِ هكذا:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وهذا مصداقُ قوله تعالى: ((وما علمناه الشعر )) أي وما أوحينا إليه شعراً ، وما علّمناه إياه .
قيل لأمّ المؤمنين ، سيّدتِنا عائشة ، رضي الله عنها : أكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، يتمثّل بشيءٍ من الشعر ؟ فقالت: لم يتمثّل بشيء من الشعر إلا بيتَ طرفة، أخي بني قيس ، وأنشدت البيت .
وروي عن ابن عباس أنَّه قال: " ويأتيك بالأخبار من لم تزود " كلمةُ نبي .
وقد أكثر النقاد والأدباء من الثناء على هذا البيت ، والعناية به وتفضيله على الكثير من أشعار العرب ، إلا أنّ أبا عمرو بن العلاء فضل عليه بيتَ الحُطيْئة:

مَنْ يَفعِل الخيرَ لاَ يعدَمْ جَوَازِيَه ...........لا يَذْهَبُ العُرفُ بينَ اللهِ والنّاسِ

وبيّن ذلك فقال: من يأتيك بها ممن زوّدتَ أكثرُ ، وليس بيتٌ مما قالتْه الشعراء إلاّ وفيه مَطعَنٌ إلا قولَ الحطيئة : من يفعل الخير ... .
وفيما يأتي أبيات مختارة من معلقة طرفة الشهيرة:

لِخَوْلَةَ أطْــــــــــــــــــــلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَــــــدِ.....تلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَـاهِرِ اليَدِ
وُقُوْفاً بِهَــــــــــــا صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُــــــمْ.....يَقُوْلُوْنَ لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَـــــــــــــــــلَّدِ
كَأنَّ حُدُوجَ المَالِكِيَّةِ غُــــــــــــــــــــــــــدْوَةً.....خَلاَيَا سَفِيْنٍ بِالنَّـــــــــــــوَاصِفِ مِنْ دَدِ
يَشُقُّ حَبَابَ المَاءِ حَيْزُومُهَا بِهَــــــــــــــــــا.....كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ المُفَايِـــــــــلَ بِاليَـــدِ
وفِي الحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ المَرْدَ شَــــــــادِنٌ.....مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَـــــــــــــــــدِ
إِذَا القَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتَىً خِلْــــــــتُ أنَّنِي.....عُنِيْتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَــــــــــــــــــــــمْ أَتَبَلَّدِ
فَإن تَبغِني فِي حَلْقَــــــــةِ القَــوْمِ تَلْقِنِي....وَإِنْ تَلْتَمِسْنِي فِي الحَوَانِـيْتِ تَصْطَـــدِ
وَإِنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجَمِيْعُ تُــــــــــــــــلاَقِنِي.....إِلَى ذِرْوَةِ البَيْتِ الشَّرِيْفِ المُصَمَّــــــدِ
وَمَا زَالَ تَشْرَابِي الخُمُورَ وَلَــــــــــــذَّتِي.....وبَيْعِي وإِنْفَــاقِي طَرِيْفِي ومُتْــــــلَدِي
إِلَى أنْ تَحَامَتْنِي العَشِيْرَةُ كُلُّهَــــــــــــــا..... وأُفْـــرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيْرِ المُعَبَّــــــــــــــــدِ
أَلاَ أَيُّها الـــــــــــلائِمي أَشهَدُ الـــــــوَغَى..... وَأَنْ أَنْهَل اللَّذَّاتِ هَـــــــلْ أَنْتَ مُخْلِــدِي
فإنْ كُنْتَ لاَ تَسْطِيْعُ دَفْــــــــــــعَ مَنِيَّتِي......فَدَعْنِي أُبَادِرُهَا بِمَــــــــــــا مَلَكَتْ يَدِي
وَلَوْلاَ ثَلاثٌ هُنَّ مِنْ عَيْشَـــــــــةِ الفَتَى......ــ وَجَدِّكَ ــ لَمْ أَحْفِــــــلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي
فَمِنْهُنَّ سَبْقِي العَاذِلاتِ بِشَرْبَـــــــــــــةٍ......كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالمَاءِ تُــــــــــــــزْبِدِ
وَكَرِّي إِذَا نَادَى المُضَافُ مُجَنَّبـــــــــــــاً......كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَــــــــــــــــــــــــهُ المُتَورِّدِ
وتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ......بِبَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِبَـــــــــــــــــــــــاءِ المُعَمَّدِ
كَرِيْمٌ يُرَوِّي نَفْسَهُ فِي حَيَاتِــــــــــــــهِ......سَتَعْلَمُ إِنْ مُتْنَا غَداً أَيُّنَـــــــــــــا الصَّدِي
أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخِيْلٍ بِمَالِـــــــــــــــــهِ...... كَقَبْرِ غَوِيٍّ فِي البَطَالَةِ مُفْسِـــــــــــــــــدِ
أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطَـفِي.......عَقِيْلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَـــــــــــــــــــــدِّدِ
أَرَى العَيْشَ كَنْزاً نَاقِصاً كُلَّ لَيْلَـــةٍ.......وَمَا تَنْقُص الأيَّــــــــــــــامُ وَالدَّهْرُ يَنْفَدِ
لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوتَ مَـــا أَخْطَأَ الفَـتَى.......لَـــــــــــكَالطِّوَلِ المُرْخَى وثِنْيَـــاهُ بِاليَدِ
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـــةً.......عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّــــــــــــدِ
أَنَا الرَّجُلُ الضَّرْبُ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ......خَشَاشٌ كَرَأْسِ الحَيَّــــــــــةِ المُتَوَقِّـــــــــــدِ
إِذَا ابْتَدَرَ القَوْمُ السِّلاحَ وجَدْتَنِي.......مَنِيْعاً إِذَا بَلَّتْ بِقَائِمَـــــــــــــــــــــــــــهِ يَدِي
فَإِنْ مُتُّ فَانْعِيْنِي بِمَا أَنَا أَهْلُـــــــهُ.............وشُقِّي عَلَيَّ الجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَــدِ
لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بُغُمَّـــــــــــــــةٍ.............نَهَارِي ولا لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَــــــــــدِ
سَتُبْدِي لَكَ الأيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً.............ويَأْتِيْكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
وَيَأْتِيْكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تَبِعْ لَهُ.............بَتَاتاً وَلَمْ تَضْرِبْ لَهُ وَقْتَ مَوْعِدِ
قوله:
وُقُوْفاً بِهَــــــــــــا صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهُمْ........يَقُوْلُوْنَ لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَــــــــــــــــلَّدِ
مأخوذ من قول امرئ القيس: "
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهــــــــــــم ... ....يقولـــــــــــــــون لا تهلِكْ أسًى وتجمَّلِ
إلاَّ أنَّه جعل تجلّدِ مكان تجمَّل
ومن تصفَّح أشعار العرب رأى من هذا عجائب. وهم يسمونه التوارد ، أو وقوع الحافر على الحافر،أو التناص كما في اصطلاح النقاد المعاصرين وهو سرقة صريحة.
وقد أنكر بعض الرواة في قوله:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهـــــــــلاً .........ويـــأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأنباء من لم تبــــــــــــع له ........ بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
قوله: لم تبع يريد لم تشتر، والبتات: الزاد. قال الأصمعي : لم يأت بهما أحد عن طرفة غير جرير بن الخطفى.
والتجمُّل أحسن من التجلّد، لأنّ التجمل إبداءُ تحسُّنٍ عن قوة ، والتجلّد إبداُ تحسُّنٍ عن ضعفٍ.
ــ نصب وقوفًا على الحال، يريد قفا نبك في حال وقف أصحابي مُطِيَّهم عليَّ
وقوله : ما تَنْقُصِ الأيامُ والدهرُ يَنفَدِ ، ما: أداة شرط جازمة تجزم فعلين مضارعين ، وقد جزمت الفعلين (تنقص ، ينفد) وحركا بالكسر الأول لالتقاء ساكنين والثاني لوقوعه في القافية .
وقد ضمن بيت الشاهد عدد من الشعراء ، لكن تضمين ابن عبد ربه هو أجملها ، يقول:

وحاملةٍ راحاً على راحــــــــــةِ اليدِ .......مُـــــــــــــــــــــــــــــــــوَرَّدةٍ تَسْعَى بِلَوْنٍ مُوَرَّدِ
متَى ما تَرَ الإِبْريقَ لِلْكَأْسِ راكِعاً....... تُصَلِّ لَــــــــــــهُ ، مِنْ غيْرِ طُهْرٍ وَتَسْجُدِ
على ياسمينٍ كاللُّجينِ ، ونرجسٍ ........كـــــــــــــــــــأَقْراطِ دُرٍّ في قَضيبٍ زَبَرْجَدِ
بِتلْكَ وهذي فَالْهُ لَيْلكَ كُلَّـــــــــــهُ........وعنها فسلْ ، لا تسألِ النَّاسَ عنْ غدِ
ستُبدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً.......وَيــــــــــــــــــأتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
كما أتى به البلاغيون كشاهد على المُساواةِ ، وهي تأديةُ المعنى المرادِ بعبارةٍ مساويةٍ له، بأن تكونَ الألفاظ ُعلى قدر المعاني ، لا يزيدُ بعضُها على بعضٍ، فهي الأصلُ المقيسُ عليه ، فاللفظ في بيت طرفة على قدرِ المعنى ، لا ينقصُ عنه ، ولا يزيدُ عليهِ .
وضرب به علماء العروض المثل على مقبوض العروض والضرب ، وعدَّه الجاحظ أحكم بيت قالته العرب ، جاء ذلك في كتابه ((حياة الحيوان الكبرى))
وهذا البيت الآتي أيضاً من أمثاله السائرة وعدّه بعضهم أحكم بيت قالته العرب أيضاً:

وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة.............على المرء من وقع الحسام المهنَّدِ
وهو من أساليب اللغة العربية: إفراد الخطاب مع قصد التعميم


ــ 40 ــ
وطول مقام المرء في الحيِّ مخلق .......... لديباجتيْه فاغترب تتجدَّدِ

هو لحبيب بن أوس الطائي العروف بأبي تمّام ، من قرية جاسم بحوران محافظة درعا ، وبيته هذا أحسن ما قيل في الحثِّ على الاغتراب .
وديباجتيه: مثنى ديباجة ، وهي حُسْنُ بشرة الوجه ، وديباجة الكتاب فاتحته، ويقال لكلامه وشعره وكتابته ديباجة حسنة أسلوبٌ حسن والديباجتان الخدان ، تقول هو يصون ديباجتيه أي يصون ماء وجهه . والديباج كل حسنٍ جميل ، ومنه لبس الديباج ، أي الثوب الجميل .
وقد استحسن معظم النقاد على مرِّ الأزمان شعر أبي تمام ، ومنهم من عدّه اشعر الناس ، فقد روي أن عمارة بن عقيلٍ قدم بغداد، فاجتمع الناس إليه، وكتبوا شعره، وسمعوا منه، وعرضوا عليه الأشعار ، فقال له بعضهم: هاهنا شاعر يزعم قومٌ أنّه أشعر الناس طراً، ويزعم غيرهم ضد ذلك، فقال: أنشدوني له، فأنشدوه:

غَدتْ تستجيرُ الدمعَ خوفَ نوىَ غدِ.........وعادَ قتـــــــــــــاداً عندَهَا كلُّ مَرْقَدِ
وأنْقَذَهَا مِنْ غَمْرَةِ الموتِ أَنَّـــــــــــــــهُ.........صُدُودُ فِــــــــــــــــراقٍ لا صُدُودُ تَعَمُّدِ
فأَجْرَى لهـــــا الإِشْفَاقُ دَمْعاً مُورَّداً......... من الدَّمِ يَجْرِي فَوْقَ خَدٍّ مُـــــــــــــوَرَّدِ
هيَ البدْرُ يُغنِيهاَ تَوَدُّدُ وَجْهِهـــــــــاَ..........إلى كُلِّ من لاقَتْ وَإِنْ لم تَـــــــــــــوَدَّدِ

ثم قطع المنشد، فقال عمارة: زدنا من هذا، فوصل وقال:

ولكنني لم أحْوِ وَفْراً مُجَمَّعـــــــــــــاً ......... ففُزْتُ بِـــــــــــــــــــــــه إلاَّ بشَمْلٍ مُبَدَّدِ
ولم تُعطِني الأيَّامُ نوماً مُسَكَّنــــاً .........أَلَذُّ بـــــــــــــــــــــــــــــه ، إلاّ بنَوْمٍ مُشَرَّدِ
فقال عمارة: لله درُّه، لقد تقدّم صاحبُكم في هذا المعنى جميعَ من سبَقَهُ على كثرة القول فيه ، حتى لَحَبَّبَ الاغتراب ، هيه ! فأنشده:

وطولُ مُقــــــامِ المرءِ في الحَيِّ مُخْلِقٌ........ لديباجَتَيْــــــــــــهِ فاغْتَرِبْ تَتَجــــدَّدِ
فإنِّي رَأيتُ الشَّمسَ زيِدَتْ مَحَبَّــــــةً ........إلَى النَّاسِ إذْ لَيْسَتْ عليهم بِسَرْمَـدِ
فقال عمارة: كَمُل والله ، إن كان الشعر بجودة اللفظ ، وحسن المعاني ، واطراد المراد ، واستواء الكلام ، فصاحبكم هذا أشعر الناس ، وإن كان بغيره فلا أدري!.
روي أن علياً بنَ الجهم ذكر دعبلاً فكفّره ولعنه، وطعن على أشياء من شعره ، وقال: كان يكذب على أبي تمام ، ويضع عليه الأخبار ، و والله ما كان إليه ولا مقارباً له ، وأخذ في وصف أبي تمام ، فقال له رجل: والله لو كان أبو تمامٍ أخاك ما زدت على مدحك له ، فقال: إلاّ يكنْ أخاً بالنسب ، فإنّه أخٌ بالأدب والدين والمودة ، أما سمعت ما خاطبني به:

إن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاءِ فإِنَّنَـــــا .............نَغْــدُو وَنَسْرِي في إِخَاءٍ تَالِدِ
أو يَخْتَلِفْ مَاءٌ الوِصَـال فَمَاؤُنا ................. عَذْبٌ تَحدَّرَ مِنْ غَمَــامٍ وَاحِدِ
أو يَفْتَرِقْ نَسَبٌ يٌؤَلِّفْ بيْنَنَــــــــا ..................أَدَبٌ أَقَمْنَــــــاهُ مَقَامَ الوَالِدِ
أما قولُه: (فاغتربْ تتجددِ) فمن قول لَقيطٍ ابنِ زُرارة: (ومَنْ أدْمَنَ المشْواةَ في الحيّ أخلقا) وأمّا قوله: (فإني رأيتُ الشمسَ...) فإنّه من قولِ كُثَيِّرَ: (ولَوْ لم تغبْ شمسُ النهارِ لَمُلَّتِ)
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 76
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(31ــ 40){الشاعر عبد القادر الأسود} Empty رد: الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(31ــ 40){الشاعر عبد القادر الأسود}

مُساهمة من طرف محمد عبدالعزيز حوسو الجمعة سبتمبر 17, 2010 9:05 pm

أشكرك لموضوعك الثرّ المفيد...وقيّد الله لهذه اللّغة الخالدة منْ يُظهر أسرار جمالها ومواطن الإبداع فيها...

محمد عبدالعزيز حوسو
أرمنازي بالقلب
أرمنازي بالقلب

عدد المساهمات : 19
نقاط : 542
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 12/12/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(31ــ 40){الشاعر عبد القادر الأسود} Empty رد: الشواهد ، نسبتها ومناسبتها(31ــ 40){الشاعر عبد القادر الأسود}

مُساهمة من طرف عبد القادر الأسود السبت سبتمبر 18, 2010 7:50 pm

شكراً لك سيد محمد على حضورك الطيب
عبد القادر الأسود
عبد القادر الأسود
أرمنازي - عضو شرف
أرمنازي - عضو شرف

عدد المساهمات : 932
نقاط : 2771
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 08/06/2010
العمر : 76
الموقع : http://abdalkaderaswad.spaces.live.com

http://abdalkaderaswad.wordpress.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى