الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة 30)
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة 30)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } : " إذ " ظرفُ زمانٍ ماضٍ ، يُخَلِّص المضارعَ للمضيِّ وبُني لشَبَهِه بالحرفِ في الوَضْع والافتقار ، وتليه الجملُ مطلقاً، فإذا كانتِ الجملةُ فعليةً قَبُحَ تقديمُ الاسمِ وتأخيرُ الفعلِ نحو: إذ زيدٍ قام وقد تُحْذَفُ الجملةُ المضافُ هو إليها للعلمِ ويُعَوَّض منها تنوينٌ كقولِهِ تعالى : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } ، وليس كسرتُه والحالةُ هذه كسرةَ إعرابٍ ولا تنوينُه تنوينَ صرفٍ ، بل الكسرُ لالتقاءِ الساكنين والتنوينُ للعوضِ بدليلِ وجودِ الكسر ولا إضافةَ قال :
نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ ...................... بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُ
و{ قَالَ رَبُّكَ } جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها .
واعلم أنَّ « إذ » فيه تسعةُ أوجه ، أحسنُها أنه منصوبٌ بـ { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا } أي : قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم : إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً ، وهذا أسهلُ الأوجهِ . الثاني: أنه منصوبٌ بـ " اذكُرْ " مقدراً وقد تقدَّم أنه لاَ يَتَصَرَّفُ فلا يقع مفعولاً . الثالث : أنه منصوبٌ بـ "خَلَقَكم" المتقدمِ في قولِه : { اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } والواو زائدةٌ . وهذا ليس بشيء لطولِ الفصلِ . الرابعُ : أنه منصوبٌ بـ " قال " بعده . وهو فاسدٌ لأن المضافَ إليه لا يعمل في المضاف . الخامس : أنه زائدٌ . السادس: أنه بمعنى قد. السابع أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ابتداءُ خَلْقِكم وقتُ قولِ ربِّك . الثامن: أنه منصوبٌ بفعلٍ لائق ، تقديرُه : ابتدأ خلقُكم وقتَ قولِه ذلكَ ، وهذان ضعيفان لأن وقتَ ابتداءِ الخلق ليس وقتَ القول ، وأيضاً فإنه لاَ يَتَصرَّف . التاسع : أنه منصوبٌ بـ " أحياكم " مقدَّراً ، وهذا مردودٌ باختلافِ الوقتين أيضاً .
و" للملائكة " متعلِّقٌ بـ " قال " واللامُ للتبليغ . وملائكةٌ جمع مَلَك . واختُلِف في " مَلَك " على ستة أقوال ، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه ، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا ، فقال بعضهم : مَلَك ووزنه فَعَل من المُلْك، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعِه فقط . وقال بعضهم: بل أصلُهُ مَلأّك ، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً ، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان قَوْلان عند هؤلاء . والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً ، فمنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من " أَلَك " أي : أرسل ففاؤُه همزةٌ وعينه لام ، ويدلُّ عليه قول الشاعر :
أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً ................. غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ
وقال آخر :
وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه .............................. بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ
وقال آخر :
أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا ................ أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري
فأصل مَلَكَ : مَأْلَك ، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء ، والفاءُ إلى موضع العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَعْفَل ، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً ، فيكونُ وزنُ مَلَكَ : مَعَلاً بحَذْفِ الفاء . ومنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من لأَك أي أرسل أيضاً ، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم ، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا الأصلِ قال الشاعر :
فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ........... تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ
ثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلينِ ، فوزن ملائِكَة على هذا القول : مفاعِلَة ، وعلى القولِ الذي قبلَه : معافِلَة بالقلب . وقيل : هو مشتقٌّ من : لاكَه يَلُوكه أي : أداره يُديره، لأنَّ المَلَكُ يُديرُ الرسالةَ في فيه ، فأصل مَلَك : مَلْوَك ، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللامِ الساكنةِ قبلها ، فتحَرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلب ألفاً فصارَ ملاكاً مثل مَقَام ، ثم حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَل بحذفِ العينِ ، وأصلُ ملائكة ملاوِكة فقُلبت الواوُ همزةً ، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مفاعل أن تكونَ زائدةً نحو عجائز ورسائل ، على أنه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا : مصائِب ومنائِر ، قُُرئ شاذاً : " معائِش " بالهمز ، فهذه خمسةُ أقوال . والسادس : قال النضر بن شميل : " لا اشتقاقَ للملك عند العرب " .
والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو : صَلادِمة . وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة ، وليس بشيء ، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً ، قال الشاعر : أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ ...
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } هذه الجملة معمولُ القولِ ، فهي في محلِّ نصبٍ به ، وكُسِرت " إنَّ » هنا لوقوعِها بعد القولِ المجرَّدِ من معنى الظن محكيةً به ، فإن كان بمعنى الظنِ جَرى فيها وجهان : الفتحُ والكسرُ .
و" إنَّ " على ثلاثةِ أقسامٍ : قسمٍ يجب فيه كَسْرُها ، وقسمٍ يجبُ فيه فَتْحُها وقسمٍ يجوز فيه وجهان ، والضابطَ الكلي في ذلك أنَّ كلَّ موضعٍ سَدَّ مَسَدَّها المصدرُ وَجَبَ فيه فتحُها نحو : بلغني أنك قائمٌ ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّها وَجَبَ فيه كَسْرُها كوقوعِها بعد القولِ ومبتدأةً وصلةً وحالاً ، وكلَّ موضعٍ جازَ أن يَسُدَّ مسدَّها جاز الوجهان كوقوعِها بعد فاءِ الجزاء ، وإذا الفجائية .
و" جاعلٌ » فيه قولان ، أحدُهما أنه بمعنى خالق ، فيكونُ " خليفةً "
مفعولاً به و" في الأرض " فيه حينئذ قولان ، أحدُهما وهو الواضح أنه متعلقٌ بجاعلٌ . الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرةِ بعدَه . فيكونُ "خليفةً" " هو المفعولَ الأولَ و" في الأرض " هو الثانيَ قُدِّم عليه ، ويتعلَّقُ بمحذوف على ما تقرَّر . و" خليفة " يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي : يَخْلُفُكم أو يَخْلُف مَنْ كان قبلَه من الجنِّ ، وهذا أصحُّ لدخولِ تاءِ التأنيث عليه وقيل: بمعنى مفعول أي: يَخْلُف كلُّ جيلٍ مَنْ تقدَّمَه، وليس دخولُ التاءِ حينئذٍ قياساً. إلا أن يُقال: إنَّ " خليفةً " جَرى مجرى الجوامدِ كالنطيحة والذبيحة . وإنما وُحِّد " خليفة " وإن كانَ المرادُ الجمعَ لأنه أريدَ به آدمُ وذريتُه ، ولكن استَغْنى بذكره كما يُسْتَغْنى بذكرِ أبي القبيلة نحو: مُضَر ورَبِيعة ، وقيل: المعنى على الجنس . وقرئ: " خليقةً " بالقاف .
و" خليفةً " منصوبٌ بـ " جاعل " كما تقدَّم ، لأنَّه اسمُ فاعل . واسمُ الفاعل يعملُ عَمَل فعلِه مطلقاً إن كان فيه الألفُ واللام ، وبشرطِ الحالِ أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه ، ويجوز إضافتُه لمعمولِه تخفيفاً ما لَم يُفْصل بينهما كهذه الآية .
{ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ } قد تقدَّم أنّ " قالوا " عامل في " إذ قال ربُّك " وأنه المختارُ ، والهمزةُ في " أتجعل " للاستفهامِ ، وقيل للتعجب ، وقيل : للتقرير كقوله :
ألستُمْ خيرَ مَنْ ركب المَطايا .................... وأنْدى العالمينَ بطونَ راحِ
و" فيها " الأولى ، متعلقةٌ بـ " تَجْعَل " إن قيل: إنها بمعنى الخَلْق ، و"مَنْ يُفْسِدُ " مفعولٌ به ، وإنْ قيل إنَّها بمعنى التصيير فيكون " فيها " مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ وهو " مَنْ يفسد " و" مَنْ " تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ للجملةِ بعدها من الإِعراب ، وعلى الثاني محلُّها النصب و" فيها " الثانيةُ مُتَعلقةٌ بـ " يُفْسِدُ " . و" يَسْفِكُ " عطفٌ على " يُفْسِدُ " بالاعتبارين .
والجمهورُ على رَفْعِهِ ، وقُرئ منصوباً على جوابِ الاستفهام بعدَ الواو التي تقتضي الجمع بإضمار " أَنْ " كما في قول الشاعر :
أَتَبيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكَرى ................. وأبيتَ منك بليلةِ المَلْسُوعِ
فقد نصب الفعل أبيت ـ الثاني بأن مضمرة والتقدير: وأن أبيت ، وقيل بل هو منصوبٌ بواو الصَرْف « وهذه عبارةُ الكوفيين ، ومعنى واوِ الصرفِ أن الفعلَ كان يقتضي إعراباً فصَرَفَتْه الواوُ عنه إلى النصب .
والمشهورُ " يَسْفِك " بكسر الفاء ، وقُرئ بضمِّها ، وقرئ أيضاً بضمِّ حرفِ المضارعةِ من أَسْفك وقُرئ أيضاً مشدَّداً للتكثير .
في هذه الآيات الكريمة عطف ـ سبحانه ـ قصة خلق آدم أبي البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا في الاستدلال على أن الله واحد ، وجمعاً بين تعدد الأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها ، حتى يكون التدليل أجمع ، والإِيمان بالله أقوى وأثبت .
والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .
والملائكة ، هم جند من خلق الله ، ركز الله فيهم العقل والفهم ، وفطرهم على الطاعة ، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة ، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة ، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره " ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه ، و( الخليفة ) من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل ،
والتاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم - عليه السلام - لأنه كان خليفة من الله في الأرض ، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله - تعالى - في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وإجراء أحكامه عليهم ، وتنفيذ أوامره فيهم . وقيل : آدم وذريته ، لأنه يخلف بعضهم بعضاً في عمارة الأرض، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل .
وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة ، ليس المقصود منه المشورة ، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة ، وما أجيبوا به من بعد ، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو - سبحانه - بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة . أو الحكمة تعظيم شأن المجهول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة
ثم حكى ـ سبحانه ـ إجابة الملائكة فقال: { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .
الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح . يقال فسد الشيء فساداً وفسوداً وأفسده غيره .
والسفك: الصب والإِهراق ، يقال: سفكت الدم والدمع سفكاً ـ من باب ضرب ـ صببته . والفاعل سافك وسفّاك ، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإِنسان ظلماً وعدواناً .
والتسبيح : مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبّح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء .
والتقديس: التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال . فيكون التسبيح نفى ما لا يليق ، والتقديس إثبات ما يليق ، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية .
والمعنى: أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، تنزيهاً متلبساً بحمدك والثناء عليك ، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيماً لك وتمجيداً .
وقولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا . . . إلخ } إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإِفساد في الأرض وسفك الدماء . وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله ، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل ، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا .
والملائكة لا يعلمون الغيب ، فلابد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه .
قال الإِمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى : قوله ـ تعالى ـ { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون ، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم . ويردعهم عن المحارم والمآثم . . وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه البعض . . وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا؟
وقد رد الله ـ تعالى ـ على الملائكة بقوله : { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له - تعالى - المتعبون رسله ..
فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق ـ عز وجل ـ وتنبيه إلى أنه ـ تعالى ـ عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه ، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء .
وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء ، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً ، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله ، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم ، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم ، وإن وقفت عقولهم دونها ، ففي تسليمهم لقدر الله ، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا الله ، الذي هو الغاية من الإِيمان به والإِقبال على طاعته .
قال بعض العلماء : " وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه
وسلم عن تكذيب بعض الناس له ، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين - وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } : " إذ " ظرفُ زمانٍ ماضٍ ، يُخَلِّص المضارعَ للمضيِّ وبُني لشَبَهِه بالحرفِ في الوَضْع والافتقار ، وتليه الجملُ مطلقاً، فإذا كانتِ الجملةُ فعليةً قَبُحَ تقديمُ الاسمِ وتأخيرُ الفعلِ نحو: إذ زيدٍ قام وقد تُحْذَفُ الجملةُ المضافُ هو إليها للعلمِ ويُعَوَّض منها تنوينٌ كقولِهِ تعالى : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } ، وليس كسرتُه والحالةُ هذه كسرةَ إعرابٍ ولا تنوينُه تنوينَ صرفٍ ، بل الكسرُ لالتقاءِ الساكنين والتنوينُ للعوضِ بدليلِ وجودِ الكسر ولا إضافةَ قال :
نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ ...................... بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُ
و{ قَالَ رَبُّكَ } جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها .
واعلم أنَّ « إذ » فيه تسعةُ أوجه ، أحسنُها أنه منصوبٌ بـ { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا } أي : قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم : إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً ، وهذا أسهلُ الأوجهِ . الثاني: أنه منصوبٌ بـ " اذكُرْ " مقدراً وقد تقدَّم أنه لاَ يَتَصَرَّفُ فلا يقع مفعولاً . الثالث : أنه منصوبٌ بـ "خَلَقَكم" المتقدمِ في قولِه : { اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } والواو زائدةٌ . وهذا ليس بشيء لطولِ الفصلِ . الرابعُ : أنه منصوبٌ بـ " قال " بعده . وهو فاسدٌ لأن المضافَ إليه لا يعمل في المضاف . الخامس : أنه زائدٌ . السادس: أنه بمعنى قد. السابع أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ابتداءُ خَلْقِكم وقتُ قولِ ربِّك . الثامن: أنه منصوبٌ بفعلٍ لائق ، تقديرُه : ابتدأ خلقُكم وقتَ قولِه ذلكَ ، وهذان ضعيفان لأن وقتَ ابتداءِ الخلق ليس وقتَ القول ، وأيضاً فإنه لاَ يَتَصرَّف . التاسع : أنه منصوبٌ بـ " أحياكم " مقدَّراً ، وهذا مردودٌ باختلافِ الوقتين أيضاً .
و" للملائكة " متعلِّقٌ بـ " قال " واللامُ للتبليغ . وملائكةٌ جمع مَلَك . واختُلِف في " مَلَك " على ستة أقوال ، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه ، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا ، فقال بعضهم : مَلَك ووزنه فَعَل من المُلْك، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعِه فقط . وقال بعضهم: بل أصلُهُ مَلأّك ، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً ، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان قَوْلان عند هؤلاء . والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً ، فمنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من " أَلَك " أي : أرسل ففاؤُه همزةٌ وعينه لام ، ويدلُّ عليه قول الشاعر :
أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً ................. غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ
وقال آخر :
وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه .............................. بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ
وقال آخر :
أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا ................ أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري
فأصل مَلَكَ : مَأْلَك ، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء ، والفاءُ إلى موضع العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَعْفَل ، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً ، فيكونُ وزنُ مَلَكَ : مَعَلاً بحَذْفِ الفاء . ومنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من لأَك أي أرسل أيضاً ، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم ، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا الأصلِ قال الشاعر :
فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ........... تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ
ثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلينِ ، فوزن ملائِكَة على هذا القول : مفاعِلَة ، وعلى القولِ الذي قبلَه : معافِلَة بالقلب . وقيل : هو مشتقٌّ من : لاكَه يَلُوكه أي : أداره يُديره، لأنَّ المَلَكُ يُديرُ الرسالةَ في فيه ، فأصل مَلَك : مَلْوَك ، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللامِ الساكنةِ قبلها ، فتحَرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلب ألفاً فصارَ ملاكاً مثل مَقَام ، ثم حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَل بحذفِ العينِ ، وأصلُ ملائكة ملاوِكة فقُلبت الواوُ همزةً ، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مفاعل أن تكونَ زائدةً نحو عجائز ورسائل ، على أنه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا : مصائِب ومنائِر ، قُُرئ شاذاً : " معائِش " بالهمز ، فهذه خمسةُ أقوال . والسادس : قال النضر بن شميل : " لا اشتقاقَ للملك عند العرب " .
والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو : صَلادِمة . وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة ، وليس بشيء ، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً ، قال الشاعر : أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ ...
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } هذه الجملة معمولُ القولِ ، فهي في محلِّ نصبٍ به ، وكُسِرت " إنَّ » هنا لوقوعِها بعد القولِ المجرَّدِ من معنى الظن محكيةً به ، فإن كان بمعنى الظنِ جَرى فيها وجهان : الفتحُ والكسرُ .
و" إنَّ " على ثلاثةِ أقسامٍ : قسمٍ يجب فيه كَسْرُها ، وقسمٍ يجبُ فيه فَتْحُها وقسمٍ يجوز فيه وجهان ، والضابطَ الكلي في ذلك أنَّ كلَّ موضعٍ سَدَّ مَسَدَّها المصدرُ وَجَبَ فيه فتحُها نحو : بلغني أنك قائمٌ ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّها وَجَبَ فيه كَسْرُها كوقوعِها بعد القولِ ومبتدأةً وصلةً وحالاً ، وكلَّ موضعٍ جازَ أن يَسُدَّ مسدَّها جاز الوجهان كوقوعِها بعد فاءِ الجزاء ، وإذا الفجائية .
و" جاعلٌ » فيه قولان ، أحدُهما أنه بمعنى خالق ، فيكونُ " خليفةً "
مفعولاً به و" في الأرض " فيه حينئذ قولان ، أحدُهما وهو الواضح أنه متعلقٌ بجاعلٌ . الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرةِ بعدَه . فيكونُ "خليفةً" " هو المفعولَ الأولَ و" في الأرض " هو الثانيَ قُدِّم عليه ، ويتعلَّقُ بمحذوف على ما تقرَّر . و" خليفة " يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي : يَخْلُفُكم أو يَخْلُف مَنْ كان قبلَه من الجنِّ ، وهذا أصحُّ لدخولِ تاءِ التأنيث عليه وقيل: بمعنى مفعول أي: يَخْلُف كلُّ جيلٍ مَنْ تقدَّمَه، وليس دخولُ التاءِ حينئذٍ قياساً. إلا أن يُقال: إنَّ " خليفةً " جَرى مجرى الجوامدِ كالنطيحة والذبيحة . وإنما وُحِّد " خليفة " وإن كانَ المرادُ الجمعَ لأنه أريدَ به آدمُ وذريتُه ، ولكن استَغْنى بذكره كما يُسْتَغْنى بذكرِ أبي القبيلة نحو: مُضَر ورَبِيعة ، وقيل: المعنى على الجنس . وقرئ: " خليقةً " بالقاف .
و" خليفةً " منصوبٌ بـ " جاعل " كما تقدَّم ، لأنَّه اسمُ فاعل . واسمُ الفاعل يعملُ عَمَل فعلِه مطلقاً إن كان فيه الألفُ واللام ، وبشرطِ الحالِ أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه ، ويجوز إضافتُه لمعمولِه تخفيفاً ما لَم يُفْصل بينهما كهذه الآية .
{ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ } قد تقدَّم أنّ " قالوا " عامل في " إذ قال ربُّك " وأنه المختارُ ، والهمزةُ في " أتجعل " للاستفهامِ ، وقيل للتعجب ، وقيل : للتقرير كقوله :
ألستُمْ خيرَ مَنْ ركب المَطايا .................... وأنْدى العالمينَ بطونَ راحِ
و" فيها " الأولى ، متعلقةٌ بـ " تَجْعَل " إن قيل: إنها بمعنى الخَلْق ، و"مَنْ يُفْسِدُ " مفعولٌ به ، وإنْ قيل إنَّها بمعنى التصيير فيكون " فيها " مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ وهو " مَنْ يفسد " و" مَنْ " تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ للجملةِ بعدها من الإِعراب ، وعلى الثاني محلُّها النصب و" فيها " الثانيةُ مُتَعلقةٌ بـ " يُفْسِدُ " . و" يَسْفِكُ " عطفٌ على " يُفْسِدُ " بالاعتبارين .
والجمهورُ على رَفْعِهِ ، وقُرئ منصوباً على جوابِ الاستفهام بعدَ الواو التي تقتضي الجمع بإضمار " أَنْ " كما في قول الشاعر :
أَتَبيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكَرى ................. وأبيتَ منك بليلةِ المَلْسُوعِ
فقد نصب الفعل أبيت ـ الثاني بأن مضمرة والتقدير: وأن أبيت ، وقيل بل هو منصوبٌ بواو الصَرْف « وهذه عبارةُ الكوفيين ، ومعنى واوِ الصرفِ أن الفعلَ كان يقتضي إعراباً فصَرَفَتْه الواوُ عنه إلى النصب .
والمشهورُ " يَسْفِك " بكسر الفاء ، وقُرئ بضمِّها ، وقرئ أيضاً بضمِّ حرفِ المضارعةِ من أَسْفك وقُرئ أيضاً مشدَّداً للتكثير .
في هذه الآيات الكريمة عطف ـ سبحانه ـ قصة خلق آدم أبي البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا في الاستدلال على أن الله واحد ، وجمعاً بين تعدد الأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها ، حتى يكون التدليل أجمع ، والإِيمان بالله أقوى وأثبت .
والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .
والملائكة ، هم جند من خلق الله ، ركز الله فيهم العقل والفهم ، وفطرهم على الطاعة ، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة ، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة ، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره " ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه ، و( الخليفة ) من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل ،
والتاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم - عليه السلام - لأنه كان خليفة من الله في الأرض ، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله - تعالى - في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وإجراء أحكامه عليهم ، وتنفيذ أوامره فيهم . وقيل : آدم وذريته ، لأنه يخلف بعضهم بعضاً في عمارة الأرض، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل .
وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة ، ليس المقصود منه المشورة ، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة ، وما أجيبوا به من بعد ، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو - سبحانه - بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة . أو الحكمة تعظيم شأن المجهول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة
ثم حكى ـ سبحانه ـ إجابة الملائكة فقال: { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .
الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح . يقال فسد الشيء فساداً وفسوداً وأفسده غيره .
والسفك: الصب والإِهراق ، يقال: سفكت الدم والدمع سفكاً ـ من باب ضرب ـ صببته . والفاعل سافك وسفّاك ، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإِنسان ظلماً وعدواناً .
والتسبيح : مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبّح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء .
والتقديس: التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال . فيكون التسبيح نفى ما لا يليق ، والتقديس إثبات ما يليق ، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية .
والمعنى: أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، تنزيهاً متلبساً بحمدك والثناء عليك ، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيماً لك وتمجيداً .
وقولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا . . . إلخ } إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإِفساد في الأرض وسفك الدماء . وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله ، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل ، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا .
والملائكة لا يعلمون الغيب ، فلابد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه .
قال الإِمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى : قوله ـ تعالى ـ { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون ، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم . ويردعهم عن المحارم والمآثم . . وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه البعض . . وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا؟
وقد رد الله ـ تعالى ـ على الملائكة بقوله : { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له - تعالى - المتعبون رسله ..
فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق ـ عز وجل ـ وتنبيه إلى أنه ـ تعالى ـ عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه ، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء .
وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء ، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً ، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله ، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم ، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم ، وإن وقفت عقولهم دونها ، ففي تسليمهم لقدر الله ، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا الله ، الذي هو الغاية من الإِيمان به والإِقبال على طاعته .
قال بعض العلماء : " وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه
وسلم عن تكذيب بعض الناس له ، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين - وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين .
مواضيع مماثلة
» الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة الآية 28
» الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة الآية 27
» الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة الآية 25
» الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة الآية 26
» الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة الآية 24
» الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة الآية 27
» الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة الآية 25
» الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة الآية 26
» الدر النظيم من معاني الذكر الحكيم (سورة البقرة الآية 24
منتدى مدينة أرمناز العام :: المنتدى الخاص بشاعر أرمناز الكبير الأستاذ عبدالقادر الأسود :: البحوث والدراسات والمقالات النثرية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أكتوبر 01, 2019 11:34 am من طرف bassam1972
» شهادة الشاعر الكبير الأستاذ عبد القادر دياب مدير عام الملتقى الثقافي العربي
الجمعة سبتمبر 13, 2019 7:15 pm من طرف bassam1972
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 12
الجمعة يوليو 12, 2019 10:33 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 10
الخميس يوليو 11, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 9
الأربعاء يوليو 10, 2019 1:29 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 8
الأربعاء يوليو 10, 2019 10:41 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 6
الثلاثاء يوليو 09, 2019 4:24 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 5
الأحد يوليو 07, 2019 10:10 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 3
السبت يوليو 06, 2019 10:14 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 2
الجمعة يوليو 05, 2019 10:54 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكه، الآية: 1
الأربعاء يوليو 03, 2019 3:27 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف: تعريف
الثلاثاء يوليو 02, 2019 7:01 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 111
السبت يونيو 29, 2019 7:26 am من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 110
الخميس يونيو 27, 2019 10:38 pm من طرف عبد القادر الأسود
» الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الإسراء، الآية: 109
الخميس يونيو 27, 2019 6:45 am من طرف عبد القادر الأسود